2018العدد 173ملف إعلامي

التوجهات المنفلتة للقوى العظمى تربك المجال الإعلامي

لطالما كان الإعلام موضوعًا للسياسة؛ ليس فقط لأن تصريحات القادة والقوى السياسية الفاعلة تُنقل عبره، ولا لأنه يمتلك قدرة فائقة على التأثير في مجريات الأحداث والتفاعلات السياسية، عبر مساهمته الحاسمة في تشكيل الرأي العام المحلي والدولي، ولكن أيضًا لأن الساسة هم من يشكلون المجال الإعلامي، ويرسون قواعد عمله، ويرسمون الخطوط المؤطرة لأدائه، ويصوغون السياق الأشمل الذي يعمل فيه، فيتعزز ويزدهر، أو يتخبط ويرتبك ويتراجع.

ثمة اعتقاد ينتشر على نطاق واسع بين بعض المتخصصين وأغلب قطاعات الجمهور، وهو اعتقاد مفاده أن الإعلام وحده قادر على تشكيل الحالة السياسية وتأطير تفاعلاتها، بما يمتلكه من نفوذ طاغ وإمكانيات تأثير… إن هذا الاعتقاد خاطئ بكل تأكيد، لأن الإعلام ليس سوى “نظام تابع”، وهو يتبع نظامًا رئيسًا؛ هو النظام السياسي، الذي يمتلك الصلاحيات الدستورية والقانونية وقوة الجبر من جانب، ويحظى بالقدرة على صياغة حالة النقاش في المجال العام، عبر ما يرسيه من قواعد وتقاليد وما يبثه من أفكار ورؤى، من جانب آخر.

تعطينا الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً واضحًا على نجاعة تلك الحجة في الآونة الراهنة؛ إذ يمكن القول إن عهدًا جديدًا غير مسبوق طرأ على الحالة الإعلامية في هذا البلد منذ وصل الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة في العام 2016، ولأن الولايات المتحدة “دولة عظمى” بكل ما يحمله هذا الوصف من استحقاقات، ولأن نفوذها حاضر وحاسم في كثير من الملفات الدولية والإقليمية والمحلية في بقاع العالم المختلفة، فإن تأثير وصول ترامب إلى البيت الأبيض اتسع وامتد ليشمل الحالة الإعلامية الدولية والإقليمية.

يمكن القول إن تداعيات وصول ترامب إلى منصب رئيس الولايات المتحدة على الساحة الإعلامية الأمريكية والعالمية تنحصر في أربعة محاور رئيسة؛ أولها أنه كرس تغييرًا عالميًا في آليات التواصل الحكومي، وهو تغيير له أبعاد سلبية خطيرة، وثانيها أن مواقفه وسياساته تجاه الإعلام والإعلاميين خلقت حالة من العداء والاستقطاب الشديدين، اللذين لا يخدمان المجالين السياسي والإعلامي، وثالثها أن مقاربته للمجال الإعلامي تثير الكثير من الشكوك إزاء قدرته على الوفاء بمتطلبات منصبه، أما رابعها فيتصل باتهامات جدية باستفادته من تدخلات إعلامية “غير قانونية”، للوصول إلى سدة الرئاسة.

آليات التواصل الحكومي تغيرت

في شهر أكتوبر من العام 2017، غرد الرئيس ترامب قائلاً: “ربما لم أكن لأصل إلى البيت الأبيض لولا (تويتر)”، قبل أن يصف مواقع التواصل الاجتماعي بأنها “منصة هائلة”؛ وهو الأمر الذي عكسته دراسات أجرتها مراكز بحوث معتبرة، حين أعلنت أن أكثر من ثلثي قادة العالم، ونحو 87.3% من قادة الدول المستقرة، يستخدمون “تويتر”، في بث رؤى، ومعلومات، وقرارات ذات طابع سيادي.

قبل ذلك بثلاثة شهور، قال ترامب لـ “فوكس نيوز”: “لا أحب (السوشيال ميديا)، لكنني استخدمها للدفاع عن نفسي، وربما أتوقف عن استخدامها لو عاملتني وسائل الإعلام التقليدية باحترام، وأصبحت أكثر صدقًا مما هي عليه الآن”.

خلال عامين في ولايته، لم يتوقف ترامب عن استخدام “تويتر” يومًا واحدًا، وربما يكون “التتويت” (التغريد عبر “تويتر”) هو أول ما يفعله عند استيقاظه في صباح كل يوم، حتى إن الجمهور الأمريكي والعالمي بات يعرف أن أفضل طريقة لمتابعة أخبار الرئيس المثير للجدل ومواقفه ورؤاه ليست سوى استعراض حسابه على الموقع الشهير.

منذ انتخابه في شهر نوفمبر 2016، رصد باحثون تغريدات لترامب وجهت إساءات مباشرة لمئات من الشخصيات السياسية والعامة، حتى إن هؤلاء الباحثين اعتبروا أن تغريدات الرئيس ليست سوى “مدفعيته الثقيلة”، التي يخوض بها حروبه الدائمة، إلى الحد الذي دعا القائمين على مواقع التواصل الاجتماعي إلى إعلان استيائهم من المحتوى الذي يبثه، باعتبار أن بعضه “ينتهك حقوق الإنسان ومعايير الاستخدام المعلنة” لتلك المنصات.

“تويبلوماسي” Twiplomacy هو المصطلح الذي أطلقته شركة “بيرسون مارسيتلر” الأمريكية للعلاقات العامة على أنشطة السياسيين والدبلوماسيين على موقع التغريدات الشهير “تويتر”، بعدما رصدت تغريدات 264 من الرؤساء والدبلوماسيين والقادة في 125 دولة، من بينها 21 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ووجدت أن ثلثي هؤلاء القادة يعتمدون على “تويتر” بشكل أساسي في التواصل مع العالم والجمهور.

تفيد دراسة نشرتها مؤسسة “ديجتال بوليسي كاونسل” أن 123 رئيس دولة أو حكومة باتوا يستخدمون موقعي “تويتر” و”فيسبوك” بانتظام، وأن معظم هؤلاء يبثون رسائل سياسية وأخبارًا عبر حساباتهم، من بينها قرارات التشكيلات الحكومية، أو حتى إعلانات الاستقالة.

لكن ما يفعله ترامب في هذا الصدد فاق كل هذه التغيرات؛ إذ إنه ببساطة اعتمد “تويتر” وسيلة وحيدة تقريبًا لتواصله مع العالم.

مع الارتفاع المطرد في عدد مستخدمي “الإنترنت” في العالم، والزيادة المتسارعة في مستخدمي وسائط التواصل الاجتماعي الشهيرة، تتكرس الوظيفة الإخبارية لتلك الوسائط، وتصبح مصدرًا رئيسًا لاعتماد الجمهور ووسيلة لمتابعة الأحداث والمشاركة في صياغتها والتعليق عليها.

ليس هناك دليل على تصاعد تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في السياسة والمجتمع أكثر من أن “تويتر” أصبح وسيلة يختارها قادة وحُكام لإعلان قراراتهم السيادية، وأن “فيسبوك” بات ميدانًا لتوجيه الرسائل الحيوية وبث الصور والفيديوهات المهمة من قبل وزراء ومسؤولين ومثقفين ورجال أعمال.

لقد أعطت مواقع التواصل الاجتماعي بعدًا جديدًا لممارسة السياسة، وبسبب سماتها التفاعلية وفوريتها ونفاذها وتأثيرها الكبير، بات المسؤولون حريصين على التواصل من خلالها مع الجمهور، من أجل تعزيز صورتهم الذهنية، وتوطيد مكانتهم السياسية.

ترى مراكز بحوث معتبرة حول العالم أن هذا الاتجاه يتصاعد، وأنه ربما تكون التغريدات عبر “تويتر” وسيلة جيدة، إذا ما أُحسن استخدامها، لأي حكومة أو قائد سياسي للحديث إلى الجمهور عوضًا عن الوسائل التقليدية.

تقول شركة “اكسنتشر” المتخصصة في مجالات التواصل العمومية، في بحث بعنوان “نبض المواطن الرقمي” Digital Citizen Pulse، إن وسائل التواصل الاجتماعي “أعادت تشكيل آليات التواصل الحكومي”، وأن 51% من المستطلعة آراؤهم في استطلاع عالمي أجرته في هذا الصدد، وجدوا أن “حضور القادة والحكومات على الساحة الرقمية يشجعهم على التفاعل والتواصل معهم”.

يمثل ذلك صعودًا لافتًا لدور مواقع التواصل الاجتماعي، واختراقًا بالغ الأثر لأساليب التواصل الحكومية والسياسية ستكون له آثار كبيرة على الوسائط التقليدية من جانب، وعلى أشكال التواصل السياسي من جانب آخر.

ثمة مئات الأدلة على زيادة درجة الاعتماد على تلك الوسائط في بث الرسائل السياسية، وربما لم يعد هناك شك في أهميتها ونفاذها وضرورة الاهتمام بها والتفاعل معها.

يدرك قادة المعارضة ونشطاؤها ذلك أيضًا، ويخصصون أوقاتًا طويلة للتفاعل عبر وسائط التواصل الاجتماعي، ويحرص كل معارض أو ناشط منهم على قياس شعبيته ومعاينة تأثيره من خلال عدد المتابعين له أو عدد علامات الإعجاب التي يحصل عليها أحد تصريحاته أو “فيديوهاته” أو تغريداته.

لدينا إذن تطور تقني واتصالي جديد، يتميز بميزات نادرة وأخاذة، ويعطي أثرًا فوريًا واسعًا، ويزيد من رقعة المشاركة السياسية، ويضمن التفاعلية وتبادل الآراء، ويتيح ساحة للنقاش العام، بشكل يعزز أهداف الديمقراطية ويتسم بالشفافية والانفتاح.

لدينا أيضًا وسيلة سريعة للغاية يمكن من خلالها لأي مسؤول أو سياسي أو معارض أو ناشط أو متابع أو مهتم أن يعلق فورًا على الأحداث، أو يطرح مبادرات جديدة، أو يرد على مقولة، أو يقيّم موقفًا، أو ينتقد سياسة، أو يعارض مسؤولاً.

فما المشكلة إذن؟

ليت المشكلة تتلخص في بعض السخافات التي تُبث عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أشخاص غير ناضجين أو مؤدلجين متعصبين أو مسخرين للنيل من قوى ورموز سياسية لمصلحة قوى أخرى، وليتها تنحصر في كون تلك المواقع لا تتيح المشاركة في ساحاتها سوى لأولئك الذين يستخدمونها، والذين يجب بالضرورة أن يكونوا متعلمين، ويمتلكون صلة مدفوعة إلى “الإنترنت”.

المشكلة أكبر من ذلك للأسف؛ فيبدو أن قواعد استخدام “تويتر” مثلاً، والتي تجعل مساحة “التويتة” (أي التغريدة) لا تزيد عن عدد محدد من الحروف، والأدوات الثانوية التي ينطوي عليها مثل إمكانية “الهشتقة”، باتت تؤثر في الطريقة التي يمارس بها السياسيون أدوارهم، ويبدو أن هذا التأثير له جوانب سلبية للغاية.

 من بين الجوانب السلبية لزيادة درجة الاعتماد على “التتويت” في التواصل الحكومي والسياسي أن ذلك الاعتماد يغذي الميل إلى الحدة، والاجتزاء، والنزع من السياق، والبحث عن التأثير الفوري، والميل إلى الهجوم والاستهداف.

بسبب تلك الآثار الجانبية السلبية، بات الرئيس ترامب يعاني، ويواجه المشكلات يومًا بعد يوم؛ ولأنه رئيس أهم دولة في العالم، كما يعتقد كثيرون، فإن تلك المعاناة امتدت لتشمل المجال السياسي والإعلامي الدولي.

إن قصر اعتماد الرئيس الأمريكي على “تويتر” كآلية للتواصل مع مواطنيه ومع العالم، والطريقة التي يستخدمه بها، ورغم ما تحمله من جوانب إيجابية أحيانًا، إلا أنها تفاقم التداعيات السلبية التي تمت الإشارة إليها سابقًا، بشكل يخصم من رصيد الرئيس، ودولته، ويعزز عوامل الانفلات والفوضى في البيئة الدولية.

عداء واستقطاب

يتفق كثير من الساسة والباحثين الأمريكيين على أن توجهات الرئيس ترامب التي تتسم بالحدة والانفلات في كثير من الأحيان تكرس حالة من الاستقطاب، وتفاقم العدوانية في الخطاب السياسي والإعلامي.

في شهر ديسمبر من العام 2017، جدد الرئيس الأمريكي، هجومه على صحيفة “نيويورك تايمز”، عقب تقرير نشرته الصحيفة عن يومياته في البيت الأبيض، أكدت خلاله أنه يشاهد التلفزيون يوميا من 4 إلى 8 ساعات.

وعلى الفور رد الرئيس الأمريكي في تغريدة عبر حسابه على موقع “تويتر”، قائلاً: “تقرير خاطئ آخر، هذه المرة في (نيويورك تايمز) الفاشلة، بأنني أشاهد التلفزيون من 4 إلى 8 ساعات يوميًا”.

وأضاف “غير صحيح فنادرا ما أشاهد (سي إن إن) أو (إم إس إن بي سي)، هذا إن فعلت أبدا، كما لا أشاهد إطلاقًا برنامج (سي إن إن) الذي يقدمه دون ليمون أغبى رجل على التلفزيون”.

لم يتوقف ترامب عند وصف القناتين بأنهما ينشران “الأخبار الكاذبة”، لكنه راح أيضًا يشير إلى اسم إعلامي بعينه، ويتهمه ببساطة بأنه “أغبى رجل على التليفزيون”.

يهاجم البيت الأبيض وإدارة الرئيس ترامب الإعلام الأمريكي بكل شراسة، ويرى فيه عدم الحياد والموضوعية، وعدم المسؤولية تجاه الوطن، ويرى البيت الأبيض أن “تغطية الإعلام للرئيس ترامب تفتقر إلى الاحترام والإقرار برفعة منصب الرئيس”.

لكن هناك في الإعلام الأمريكي، وخاصة في الصحف الرئيسة من يقول، إن ترامب هو الذي تسبب بهذه الحالة، ويظهر هذا الأمر من خلال عينات من كلامه وأفعاله منذ توليه الرئاسة حتى الآن.

يعدد روبرت رايش، وهو وزير عمل أمريكي سابق، وأستاذ للسياسة العامة في جامعة كاليفورنيا، في بيركلي، بعض مواقف ترامب العدائية وتصريحاته المنفلتة، فيقول إنه في بداية مسيرته الرئاسية، وبعد إعلامه أن أحد أعضاء مجلس الشيوخ عن ولاية تكساس يريد سن تشريعات تقتضي الإدانة قبل أن تتمكن الولاية من مصادرة ممتلكات المشتبه بهم بجرائم، سأل ترامب عن اسم هذا العضو، وقال “سوف ندمر حياته المهنية”، ويتساءل رايش: “هل هذا منطق يتعامل به الرئيس مع أعضاء مجلس الشيوخ ؟”.

ويضيف: “ردًا على الانتقادات، التي وجهها عضو مجلس الشيوخ جون ماكين ضد سياسات الرئيس تجاه إحدى الدول والتي وصفها بأنها غير ناجحة، قال ترامب: إن ماكين يعزز قوة العدو ليس إلا! وكان يخسر لفترة طويلة إلى درجة أنه لم يعد يعلم كيف يفوز الآن”.

يشير رايش إلى واقعة أخرى تتعلق باتهام مفترض للرئيس بالخلط بين صلاحيات منصبه ومصالحه الشخصية، فيذكر أن ترامب علّق على مشكلة بين ابنته إيفانكا وإحدى الشركات التجارية، معتبرًا أنها “عوملت بطريقة غير عادلة من جانب شركة (نوردستورم)، بعد أن تخلت الشركة المتخصصة في صناعة الأزياء عن إصدار أي علامة تجارية من الملابس والأحذية، تحمل اسم إيفانكا، بسبب تراجع المبيعات”.

ويقول أيضًا إن ترامب طلب من الحضور في إحدى الفعاليات الوطنية “الصلاة على روح حاكم ولاية كاليفورنيا السابق أرنولد شوارزنيجر” (الذي حل مكانه كمضيف في برنامج “المتدرب” على محطة “إن بي سي”)، لأن “تقييمات البرنامج لم تصل إلى المستوى الذي وصلت إليه مع ترامب كونه نجم البرنامج”.

ليس هذا فقط، لكن ترامب أيضًا ذهب في عدائه لوسائل الإعلام الرئيسة في بلاده إلى اتهامها بالإضرار بالمصلحة الوطنية، حين تحدث إلى بعض المسؤولين العسكريين قائلاً: “الصحافة غير النزيهة للغاية في أمريكا لا تريد أن تنقل في تقاريرها الأعمال الإرهابية”.

شكوك ومخاوف

تتصاعد الشكوك والمخاوف إزاء قدرة الرئيس ترامب على الوفاء بمتطلبات منصبه، إثر ما يظهر من مواقف وتصريحات “حادة ومنفلتة”، يبثها عبر المجال الإعلامي.

فإضافة إلى الجدل الذي سببه قراره بحظر دخول المسلمين من بعض الدول، أوقف ترامب مؤقتًا قاضيًا فيدراليًا حظر قرار منع الدخول إلى الولايات المتحدة من 7 دول ذات أغلبية مسلمة، معفيًا المسيحيين، ولم يكتف بهذا، بل إنه هاجم القاضي قائلاً: “إذا حدث شيء ما، القوا باللوم عليه وعلى نظام المحاكم”.

يعتبر ساسة وباحثون متخصصون أن هذه الطريقة يمكن أن تجلب الكثير من المتاعب، ويذهب بعض النقاد إلى أنها مقاربة ذات طبيعة “فاشية”، تُذكر بما جرى عند إقرار “باتريوت أكت”، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، حين راح أعضاء في إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش (الابن) يهددون الساسة الذين دعوا إلى التريث في فرض قوانين استثنائية قد تتعارض مع دستور البلاد.

وثمة ما اعتبره النقاد أيضًا تدخلاً سافرًا في عمل القضاء ضمن مواقف ترامب المثيرة للجدل، فعندما أكدت محكمة الاستئناف الأمريكية رفضها دعوى تطبيق حظر السفر، وصف الرئيس قرارها بأنه “مخز”.

لم يتوقف الرئيس الأمريكي عند هذا الحد من إثارة الاستقطاب وتفجير الأزمات عبر تصريحاته الحادة؛ إذ قال في اجتماع لأعضاء مجلس الشيوخ إنه كان سيفوز بنتائج التصويت الرئاسي في ولاية “نيوهامبشير” لولا أن “آلاف الأشخاص، تم استقدامهم بالحافلات، من ولاية (ماساشوستس) المجاورة للتصويت بشكل غير قانوني في (نيوهامبشير)”، وهو أمر لا يوجد أي دليل عليه.

وعلى صعيد إرباك العلاقات الثنائية مع دول أخرى، حذر ترامب الرئيس المكسيكي بينا نييتو بأنه “على استعداد لإرسال جنود أمريكيين إلى المكسيك لوقف الرجال المكسيكيين السيئين هناك، إذا تعذر على الجيش المكسيكي السيطرة عليهم”.

لقد أدت تصريحات ترامب ومواقفه التي تحفل بها وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية إلى جلب المزيد من الانتقادات والمساءلات السياسية التي تفاقم حالة الارتباك وعدم الاستقرار.

ومن ذلك ما قاله السيناتور الجمهوري الأمريكي البارز، جيف فليك، النائب عن ولاية أريزونا، على صعيد مقارنته بين هجمات الرئيس دونالد ترامب على وسائل الإعلام وبين خطاب الزعيم السوفييتي الراحل، جوزيف ستالين، الذي يعتبره قطاع عريض من الساسة والجمهور الأمريكي المثل الأوضح على “الديكتاتورية”.

ووفقًا لمقتطف من خطاب فليك، فإن انتقاده للرئيس ينطلق من وصف هذا الأخير لوسائل الإعلام بـ “عدو الشعب”، وهو الأمر الذي اعتبره هجوما “لم يسبق له مثيل ولا مبرر له”.

يخاطب فليك الرئيس قائلاً: “سيدي الرئيس. استخدامك لكلمات قالها جوزيف ستالين بصوت عال لوصف أعدائه يدل على الحالة التي وصلت إليها ديمقراطيتنا اليوم… ليس هناك أسوأ من استخدام عبارة عدو الشعب، حتى إن (الرئيس السوفيتي الراحل) نيكيتا خروتشوف نهى عن استخدام العبارة، وأخبر الحزب الشيوعي السوفييتي أن ما قاله ستالين في هذا الصدد كان يهدف إلى التحريض على إبادة أولئك الذين لا يتفقون مع القائد الأعلى”.

وعلى الصعيد الدولي، جاء قرار الرئيس بالموافقة على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ليثير الكثير من العواصف على المستوى الدولي، وهو القرار الذي اُعتبر على نطاق واسع “مقوضًا لعملية السلام”، ومشككًا في قدرة الولايات المتحدة على لعب دور الوسيط في النزاع العربي- الإسرائيلي.

بسبب هذا القرار، تفاقمت حالة العداء والانتقاد للسياسات الأمريكية، وظهرت أنماط تفاعل إعلامية بالغة الحدة في تعاطيها معه ومع تداعياته، خصوصًا أن عددًا من الرؤساء الأمريكيين أحجموا طويلاً عن تفعيل هذا القرار، بسبب تداعياته غير المحسوبة على حالة السلم والاستقرار وعلى التسوية المرجوة للنزاع الأهم في منطقة الشرق الأوسط.

العامل الروسي

ثمة اتهامات جدية يمكن أن تؤثر في السلامة القانونية لنتائج الانتخابات التي جرت في العام 2016، والتي وصل بمقتضاها ترامب إلى سدة السلطة في بلاده، وهي اتهامات تتعلق بدور روسي مفترض في تعزيز فرص الرئيس أمام منافسته وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون.

وتتعلق تلك الاتهامات بالمجال الإعلامي بصورة مباشرة، وخصوصًا الميدان الذي ازدهرت فيه مساهمات ترامب وتفاعلاته؛ أي وسائل التواصل الاجتماعي.

ففي شهر فبراير من العام 2018 الجاري، أكد المحقق الخاص الأمريكي روبرت مولر، في لائحة اتهام رسمية، أن “وكالة روسية و13 مواطنًا روسيًا تدخلوا في حملة الانتخابات الأمريكية في الفترة من 2014 إلى 2016، في إطار سياسة متعددة الأركان استهدفت دعم ترامب وتشويه صورة منافسته هيلاري كلينتون”.

تتحدث لائحة الاتهام التي قدمها مولر، والتي جاءت في 37 صفحة، عن “مؤامرة للإخلال بالانتخابات الأمريكية على يد أشخاص استخدموا حسابات إلكترونية زائفة لبث رسائل مثيرة للانقسام، وسافروا إلى الولايات المتحدة لجمع معلومات، ونظموا مسيرات سياسية متظاهرين بأنهم أمريكيون”.

وتفيد اللائحة، التي اتسقت مع تحقيقات رسمية سابقة، وتقارير صحفية نُشرت في وسائل إعلام معتبرة، أن “وكالة أبحاث الإنترنت الروسية كان لديها هدف استراتيجي لزرع الانقسام في النظام السياسي الأمريكي، وخصوصًا في أجواء الانتخابات الرئاسية التي جرت في العام 2016”.

وتعكس لائحة الاتهام إلى حد بعيد نتائج تقييم الاستخبارات الأمريكية (سي أي إيه)، في يناير 2017، والتي توصلت إلى أن “روسيا تدخلت في الانتخابات وأن هدفها تضمن في نهاية الأمر مساعدة ترامب”.

لا تستطيع الولايات المتحدة صيانة مركزها الدولي المرموق والمؤثر، لمجرد أنها تمتلك أكبر قوة عسكرية في العالم، وتحظى بإمكانيات اقتصادية فائقة، ولكن ذلك يصبح متاحًا عندما تبرهن للعالم على امتلاكها قدرًا ملائمًا من الوجاهة القيمية والأخلاقية، وسياسات تنطوي على قدر مناسب من الانضباط والرشد، وهو أمر يبدو صعب التحقق في ظل بروز التوجهات المنفلتة التي تنال من المفاهيم الإعلامية والسياسية المستقرة.

اظهر المزيد

ياسر عبدالعزيز

باحث في الشأن الإعلامي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى