2023العدد 193ملف إعلامي

الإعلام العربي حائر بين قسوة الحاضر وحساسية مناخ الممارسة

ظن العرب أن الإعلام الجديد يعني إما مواجهته، أي الوقوف له بالمرصاد، أو مواكبته، أي بتشييد مواقع إلكترونية للصحف، وبث البرامج التلفزيونية على المنصات العنكبوتية.

واعتقد البعض أن الإعلام الجديد موجة وستمضي إلى حال سبيلها دون أضرار تذكر على الصحف الورقية شكلًا وموضوعًا، حتى حين أعلنت الثورة الرقمية إنها أتت لتبقى، وحين أشهرت شركات التكنولوجيا الكبرى، والدول الكبرى، والتقنيات الكبرى، ومراكز الأبحاث الكبرى، ومؤسسات صنع القرار الكبرى بطاقة “التمكين الرقمي”، التي تمكن الشعوب من رقبة الإعلام إنتاجًا واستهلاكًا_ ظن البعض أنه في الإمكان الإبقاء على ما كان.

عوامل التعرية:

حتى “ما كان” لم يبقَ كما كان، بل أثرت فيه عوامل التعرية المعرفية والتجريف الثقافي، وإهمال بناء الوعي، والتركيز على استهلاك البضائع والسلع المستوردة بما فيها التقنيات الرقمية والمنصات الافتراضية. والنتيجة؟ وجه إعلامي عربي يتأرجح بين إبهار الشكل والتقنية وتساؤلات لا تخلو من شكوك حول ماهية المحتوى ومصير الصناعة.

صناعة الإعلام العربي في مأزق حقيقي، صحيح أن ملامح المأزق تتخذ شكلًا أكثر حداثة هنا حيث طغيان لإمكانات الاتصال الرقمي والتواصل الافتراضي، أو تتلون بدرجات الأبيض بقدمه والأسود بكلاسيكيته وكلاهما أبعد ما يكونا عن جذب انتباه أو اهتمام أو متابعة كل من لم يطأ بعد عامه الستين.

ستينيات القرن الماضي مازالت تلقي بظلالها – بعضها وارف والبعض الآخر ثقيل- على المشهد الإعلامي العربي، أغلب هذه الظلال ورقية، فقد كان العصر ورقيًّا بامتياز، صحف الكلمة فيها بألف معنى، والمعنى فيها بألف أثر، والأثر سياسي واقتصادي واجتماعي وشعبي. ومع الكلمة كان الأثير، المسموع حيث الإذاعات العربية، لا سيما المصرية، ثم المرئي وبداية عصر الشاشة الفضية.

الإعلام العربي بصحفه وأثيره المسموع والمرئي، كان كغيره على مدار عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية، وسيلة إعلام وتأثير وليس إخبار فقط. صحيح أن الخطوط الفاصلة بين الخبر والرأي، والمعلومة والتوجه، وصناعة الرأي العام وتوجيهه ظلت ضبابية، أو على وجه الدقة ملتبسة ولا تحظى بالكثير من النقد والمطالبة بالتفرقة بين المعلومة والمعلومة الملغومة بالأيديولوجيا_ إلا أن صناعة الإعلام العربي كان لديها من الأسباب والبراهين ما يجعلها تفاخر بذاتها وتتباهى بأثرها وتتأمل تاريخها بكثير من الزهو بالماضي والتعجب من الحاضر.

حاضر الإعلام وماضيه:

حاضر الإعلام العربي ليس كماضيه، الماضي – حلوه ومره- يقف في مكان بعيد عن الحاضر بواقعه والمستقبل بآفاقه، الماضي الحديث للإعلام العربي متخم بقواعد مهنية للصحافة تقف على طرف نقيض من القواعد المعمول بها حاليًّا، تبدو القواعد للقادمين الجدد على الساحة وكأنها لا تعني الكثير.

في عالم تطغى عليه مبادئ “شاهد قبل الحذف” و”الأكثر مشاهدة” و”الأعلى قراءة”، ويهيمن على أضوائه المؤثرون وأصحاب السطوة الفايسبوكية والإبداع الهاشتاقي على “تويتر” والصور الرهيبة على “إنستاغرام” _يتوارى المؤثرون على الورق والفاعلون على أثير المواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، وشتان بين مؤثري اليوم ومؤثري الأمس، وما بينهما من عقود تقف شاهد عيان على اضمحلال التأثير وتلاشي النفوذ.

يقولون أن تضاؤل أثر الإعلام العربي التقليدي، والإعلاميين من صحافيين ومذيعين وطواقم إعلامية في العقد الثالث من الألفية الثالثة، مرده الثورة الرقمية والتقنيات الحديثة، لا سيما الـ”سوشيال ميديا”. يقولون إنها سحبت البساط من تحت أقدام المهنية والتميز، لكن لماذا تم سحب البساط كليًّا هنا، وبقي على حاله أو أقرب ما يكون على حاله أو تم تحديثه ليجمع بين الحسنيين هناك؟

مآخذ كثيرة:

هناك العديد من المآخذ على الإعلام العربي الحائر بين ندب حظه العاثر حينًا، والواقع تحت سطوة المواكبة من باب حداثة الشكل لحد الإبهار حينًا آخر. الورقة المنشورة تحت عنوان “التحولات الإعلامية والنقاشات الثقافية في المجتمعات العربية” للمؤلفتين (تيريزا بيبي، وباربارة وينكلر) في “دورية الشرق الأوسط للثقافة والإعلام” 2022_ تشير إلى أن الإنترنت هو التقنية الأحدث المستخدمة في الإعلام، واستخدامها في المنطقة العربية جلب معه تغيرات عديدة في المنطقة برمتها. الأدوات الرقمية لعبت دورًا نشطًا في الحراك السياسي والشارعي الذي جرى في عام 2011 في كل من (تونس، ومصر، وليبيا)، وهو الحراك الذي انعكس كذلك بطرق غير مباشرة في دول أخرى في المنطقة وجدت نفسها تجري تغييرات مدفوعة بما يجري في دول مجاورة.

المكتوب والمعروف كثير عن أثر المدونات وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي وما يعرف بـ”صحافة المواطن” في تغيير المقصود بالإعلام ومعناه في العالم العربي. لكن كثرة المكتوب وسطوة المعروف يواريان واقعًا مهمًّا؛ حيث الإنترنت والـ”سوشيال ميديا” يُستخدمان في جميع أنحاء العالم استخدامات مختلفة خارج إطار “شاهد قبل الحذف” واقرأ قبل الحجب”، الذي ألحق الكثير من الضرر بالإعلام العربي.

انشغال بالسياسة وهوس بالحداثة:

وترى الورقة البحثية إن الانشغال المبالغ فيه بـ”السياسة” في العالم العربي واكبه هوس بكل ما هو بالغ الحداثة من تقنيات، وكأن التقنيات الرقمية والإنترنت المرة الأولى التي يتم فيها استخدام وسيلة جديدة في الإعلام، ولأن الجديد يطرح نفسه وكأنه فريد من نوعه ولم ولن يتكرر، فإن التذكرة بالتغيرات الكثيرة والتحديثات العديدة التي طرأت في الإعلام، والإعلام العربي جزء منه، أمر واجب؛ فمن الإعلام المنقول شفهيًّا إلى المحفور، ومن الوثائق المكتوبة بأعداد لا تجاوز أصابع اليد إلى الصحف المطبوعة بأعداد كبيرة نسبيًّا، ومن الصحف المطبوعة إلى الإعلام المسموع ثم المرئي، ومن الإعلام الذي يسيطر عليه صناع الإعلام إلى ذلك الذي يسيطر عليه كل من يملك شاشة متصلة بالشبكة العنكبوتية، يطرح الإعلام نفسه كيانًا في حالة حراك مستمر.

المنطقي أن يتطلب هذا الحراك المستمر في الوسائل والأدوات حراكًا مستمرًا أيضًا، ولكن في القدرات والمعارف وكذلك في الأجواء التي يعمل فيها، لكن من قال أن المنطق بالضرورة معمول به أو حتى معترف به؟

الاعتراف بأن الإعلام العربي في أزمة ضرورة للتعامل مع الأزمة، لا سيما أن في داخل الأزمة أزمات. المنطقة التي تتباهى بـ(وحدة اللغة، وغالبية الدين، وتلاصق الجغرافيا، وتطابق التاريخ) تجمعها أيضًا الصراعات السياسية، والاحترابات الداخلية، والحروب الإقليمية، والمنظومات الحقوقية المأزومة، والثقافية المشتتة، والتعليمية المتدهورة ناهيك عن ضوائق اقتصادية، واحتقانات اجتماعية، والقائمة ممتدة. هذه القائمة كان ينبغي أن يكون الإعلام في القلب منها باعتباره أحد أبرز محركات الوعي ومكونات الثقافة ومقاييس تقدم الأمم، شرط أن يكون هناك مخطط إعلامي واضح: ما المراد تحقيقه؟ وكيف يمكن تحقيقه؟ وكيف يمكن الربط بين الإعلام وبقية ملفات الدول من مشكلات واحتياجات وأولويات؟

مشكلات مزمنة:

يشير تقرير “تطوير الإعلام في الدول العربية: الاحتياجات والأولويات”، الصادر عن منظمة “يونسكو”، إلى قصور واضح وصريح في منظومة السياسات الإعلامية العربية. وعلى الرغم من أن التقرير يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، ورغم أن ذلك يعني أنه لم يتطرق إلى الصراع المحموم بين الإعلام التقليدي ومنصات التواصل الاجتماعي، التي يفضل كثيرون تحميلها مسؤولية تدهور أوضاع الإعلام المهني، إلا أنه ركز على العديد من النقاط التي تمثل حجر الزاوية في أزمة الإعلام العربي الوجودية.

سوء توزيع الموارد ليس فقط الاقتصادية ولكن الإعلامية، والفقر المستشري والمستمر والمورث، وقائمة طويلة من الأسباب والعوامل جعلت سكان المنطقة العربية محرومين من نيل نصيبهم العادل من المطبوعات ووسائل الإعلام. وتطرق التقرير الثمانينياتي إلى حاجة الكثير من الدول العربية للحفاظ على وحدتها الوطنية في أعقاب سنوات من الفتن والاستعمار والتدخلات الخارجية، وهو ما يمكن فهم المركزية الشديدة للإعلام والرغبة الحكومية العارمة في السيطرة عليه.

الأقدار العربية:

وتشاء الأقدار العربية أن تمر عقود الفتن والاستعمار، وتحل عصور السماوات المفتوحة من فضائيات وغيرها، ثم يهل على الجميع العصر الرقمي في الإعلام والذي مكن كل من يحمل شاشة متصلة بشبكة الإنترنت من أن يصنع أو يشارك في صنع وجبته الإعلامية. هذا العصر الرقمي الذي أتى بإمكانات وموارد وأدوات إعلامية غير مسبوقة أتى بها للجميع، للقائمين على صناعة الإعلامي وكذلك للمتلقي العادي، ورغم ذلك، فإن القائمين على أمر الإعلام وحدهم هم من يتضررون ويشتكون مما فعله الإعلام بصناعتهم، لكن قلما يفكرون فيم قدموه هم من أجل صيانة وبقاء واستدامة صناعتهم.

استدامة صناعة الإعلام العربي ممكنة، لا سيما وأن دولًا عربية عدة – لا سيما من ذوات الدخول المرتفعة- تمكنت من اللحاق، وربما تصدر المشهد التقني بالغ التطور والحداثة، والعلامات والأمارات لا تخطئها عين، شاشات عملاقة وأخرى متناهية الصغر، اتصالات فائقة السرعة بالإنترنت، برامج وتطبيقات وخوارزميات هي بحق State of the art، وتمثل أفضل وأحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة.

لكن معضلات الإعلام العربي – بعيدًا عن التكنولوجيا- تبقى معضلات العالم العربي، بمعنى آخر، سيبقى الإعلام العربي غير راض عن أدائه وغير مُرضٍ للمتلقين طالما معضلات العالم العربي وأمراضه المزمنة حاكمة.

نموذج ديناصوري منقرض:

يصعب الحكم على وسائل الإعلام العربي باعتبارها حزمة واحدة وكيانًا واحدًا، لكن حقيقة الأمر أن ما يجمع هذه الحزمة بكل فروقاتها وخلافاتها واختلافاتها شديد الشبه إلى حد التطابق. ما زال نمط الملكية في الإعلام رسميًا – مباشرة أو غير مباشرة- بامتياز، وهو ما يجعل أجواء الممارسة شديدة الحساسية، وسواء كان إعلامًا مملوكًا للدولة أو رسميًّا أو حكوميًا، أو حتى مملوكًا لأفراد أو شركات وثيقة الصلة بالأنظمة الحاكمة، يظل هذا النمط “رسميًّا” رغم اختلاف المسميات، ويظل السائد في أغلب الدول، وإن بفروق بسيطة بين دولة وأخرى.

الإعلام الرسمي بدرجاته يعني أنه مهما سُمِح له بهامش من الحرية وأجيز له العمل بحسب ما يتراءى لهيئة التحرير، يظل إطار عمله قائمًا على فعلي السماح والإجازة. وعلى الرغم من النجاح الكبير الذي حققه هذا النموذج من الإعلام المملوك للدولة أو لأفراد في الدولة على مدار عقود، حيث تحرر من التقيد بمقاييس الربح والخسارة واتباع أهواء “الجمهور عايز كده”، والاستماع للتقييم الشعبي منه والتقني_ إلا أن النموذج لم يعد قابلًا للاستمرار، ورغم استمراره في أغلب الدول العربية، ورغم اتباع بعضه أرقى وأحدث وأغلى ما وصلت إليه التقنيات الرقمية الحديثة، لكنه يظل نموذجًا ديناصوريًّا انقرض.

وتنقرض الكائنات لسببين رئيسين: فقدان الموائل أو الأماكن المناسبة لمعيشته واستمراريته، وفقدان عوامل التنوع الجيني. وكلا السببين متوفر، فبين تضخم فاق الحد، وفساد مستشر منذ عقود في الإدارة والتعيين، وخسائر وديون، ناهيك عن عدم مواكبة لرغبات واحتياجات وتطلعات الجمهور، تقف هذه الوسائل الإعلامية في حال يرثى لها. فلا هي قابلة للتحديث بحكم هوية الملكية، ولا هي قادرة على تغيير العقيدة بحكم الموروث والمعمول به منذ عقود، كما لا تجد من هو قادر على اتخاذ القرار الجريء بإنهائها أو بتعديل مسارها وكيانها جذريًّا لتكون مثل هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” حيث الملك الذي يملك ولا يحكم.

من يملك يدير:

العوامل (السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية) تلقي بظلال كثيرة وثقيلة على الإعلام العربي في العقد الثالث من الألفية الثالثة. سياسيًّا: من يملك، يملك ويدير ويتحكم ويقرر ويوجِّه. وثقافيًّا واجتماعيًّا: الشعوب العربية واقعة في حيص بيص، وهو الوقوع الذي تجلى بشكلٍ فج مع تفجر أحداث 2011 المسماة ب”الربيع العربي” بغض النظر عم آل إليه الربيع من شتاء قاسٍ ومرٍ وطويل.  

تشير دراسة عنوانها “واقع الإعلام العربي المعاصر ومشكلاته والحلول” 2022، والمنشورة على موقع “استباقات في الصحافة والاتصال” للباحثَين (محمد فراس، وسمير بن ياسين)_ إلى ثالوث القهر السياسي، وانعدام العدالة الاجتماعية، والأوضاع الاقتصادية المتأزمة باعتبارها هم الإعلام العربي الأول، أو هكذا يفترض أن تكون. لكن ما يجري عادة هو استخدام هذا الثالوث بطرق متعددة لتحقيق أهدف بعينها ليس من ضمنها علاج الأوضاع.

 وتشير الورقة إلى أن البعض من وسائل الإعلام يقوم بهذا الدور بحسب التوجيهات المعطاة له، وفي أوقات بعينها، وأحيانًا يتم تهويل الواقع أو التهوين منه بحسب التوجيهات ولخدمة الأهداف السياسية. 

وتحذر الورقة من مثل هذه الاستخدامات الشائعة للإعلام؛ حيث يتحول من منصة وأداة لكشف الحقائق وخدمة المجتمع إلى منصة لإثارة الفتنة والفوضى وتحويل الخيال أو الكذب أو أنصاف الحقائق إلى حقائق ومعلومات وذلك عبر التكرار، التكرار الذي يؤدي إلى خلق حالة من الاقتناع التام لدى جماهير المتلقين، أثبتت عبر التاريخ نجاحًا منقطع النظير في صناعة وتوجيه الرأي العام في الاتجاه المطلوب، لكن هذا التوجيه لا يدوم مهما طال لسنوات أو حتى عقود، وحين ينتهي النجاح، يكشر الفشل الذريع والفوضى العارمة عن أنيابهما.

أنياب الـ”سوشيال ميديا”:

أنياب الـ”سوشيال ميديا” كثيرة، وهذا ما اكتشفه العاملون والمهتمون والمتابعون والمستخدمون والمراقبون للإعلام العربي في السنوات القليلة (وربما الكثيرة) الماضية. الأنياب تعددت والمخاطر توغلت، لكن جهود الدفاع وخطوات المقاومة وإجراءات المداهمة العربية تظل قاصرة ومقصرة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فعلى الرغم من أن القائمين على صناعة الإعلام العربية يدركون بشكلٍ أو بآخر الحاجة الماسة لخوض العالم الرقمي من أجل البقاء على قيد الأرباح، إلا أن الخطوات المتخذة في هذا الصدد بطيئة ومترددة، لا سيما أن المعلنين هذه الآونة يفضلون خوض سوق الإعلان الرقمي بأنفسهم دون وسيط إعلامي. لذلك، فإن البعض من المواقع الإعلامية التقليدية الإلكترونية على الإنترنت تحاول اقتناص جزء من الكعكة، لا بتطوير المحتوى مع الحفاظ على المهنية والقواعد، ولكن باقتفاء أثر المؤثرين: “إنفلونسرز”، والـ”ـبلوغرز”،… وغيرهم من ملوك السوشيال ميديا، والذين يشكو الصحافيون مر الشكوى من أثرهم في نشر الأخبار الكاذبة والمحتويات التافهة، والدق على أوتار الترند دون النظر إلى أخطاره القاتلة؛ لذلك تبدو بعض المواقع “الخبرية” العربية على الإنترنت وكأنها في منافسة شرسة لتسطيح الفكر ونشر التفاهات والدجل والشعوذة رافعة راية “الغاية تبرر الوسيلة”.

“سوف” نتطور:

وسيلة أخرى اتبعها الإعلام العربي بشكلٍ عام – سواء ممثلًا في الأغلبية الرسمية أو الأقلية شبه الرسمية أو الحزبية أو الخاصة- للتعامل مع التغيرات الحادة التي ضربت إعلام الكوكب هي التسويف والتأجيل “سوف” نواكب التطورات التقنية، وسوف نطلع على التطورات التكنولوجية، وسوف نطور من أداءاتنا الإعلامية، وسوف ندرب كوادرنا الشبابية، وسوف نمكن أصحاب القدرات لا أصحاب الحظوة أو السطوة، وسوف نطور المناهج الجامعية في كليات الإعلام لتجمع بين النظرية والقواعد من جهة والتطبيق والتقنيات والمستقبل من جهة أخرى، بدلًا من الجمود والعزلة وغض الطرف عن انصراف الجماهير الغفيرة إلى الـ”سوشيال ميديا”.

واعتقد البعض أنه بمواكبة التقنيات الرقمية ومنافسة وسائل الإعلام الغربية في الإمكانات والقدرات التقنية وبتقديم “إطارات” من الإعلام الحديث على المنصات المعاصرة، يكون قد أنجز ما ينبغي إنجازه في ملف الإعلام. تجديد الإطار وتحديثه يختلف عن تجديد المحتوى وتحديث فكره ومراجعة رسالته، وهذا الأخير لا يمكن أن يحدث في معزل عن تحديث أوسع للفكر(السياسي، والاقتصادي، والديموقراطي، والتنموي) السائد في بلد ما.

هذا التحديث هو أقرب ما يكون إلى إعادة ترتيب العلاقة بين (خيوط السياسة، والاقتصاد، والتنمية، والإعلام) في الدولة، وهي علاقة متشابكة لا يمكن فصل أحدها عن الآخر أو تنحيته جانبًا إلى حين. فكرة “الحين” في حد ذاتها عفا عليها الزمان ولم تعد رفاهية قابلة للتحقق.

تعايش الخيوط:

المطلوب عربيًّا هو “تعايش” خيوط وأفكار وملفات (السياسة، والاقتصاد، والإعلام) تعايشًا مستمرًا بعيدًا عن هيمنة الدولة، كل المطلوب من الدولة هو توفير أجواء حرية التعبير، وإمكانية الوصول للمعلومات. وفي المقابل، فإن المطلوب من الإعلام العربي في هذه المرحلة الدقيقة محليًّا وعالميًّا: العمل على تنقية أجوائه المهنية، ومراجعة مناهجه الفكرية، وإعادة ترتيب أوراقه، وتجهيز نموذج عمل متكامل من حيث المهنية والربح والأولويات والعلاقة التكاملية لا التنافرية  بـالـ”سوشيال ميديا”، والتعامل مع الحاضر من منظور الواقع في العقد الثالث من الألفية الثالثة، مع تذكر أن الإعلام بمفهومة الواسع والشامل لجناحيه (التقليدي، والجديد)، كان وسيظل العامل والمحفز الرئيس في موجات التغيير الأخيرة التي هبت على المنطقة العربية دون استثناء.    

موجات التغيير لا تتوقف لكن يمكن توجيهها أو صياغتها أو اتقاء شرورها أو استغلال طاقتها ضمن قائمة طويلة تحوي الأضداد، والإعلام العربي في القلب من هذه الجهود، أو هكذا ينبغي أن يكون وحبذا مع إعادة مكون “صناعة الرأي العام”، وإضافة مستحدث المواكبة والمعاصرة في الشكل مع الإبقاء على المحتوى المهني والقواعد المعروفة.

الواقع يخبرنا أن أسلوب وأدوات “استهلاك” الأخبار في المنطقة العربية تغيرت تمامًا، الغالبية باتت تلجأ إلى منصات الـ”سوشيال ميديا” بحثًا عن الأخبار والترفيه. ويخبرنا الواقع أيضًا أن التحديث التقني صار فائق السرعة، وأن التغيير في أنماط واتجاهات الاستهلاك الإعلامي لا تنتظر نتائج الاجتماعات وتوصيات المؤتمرات، وأن المتلقي العربي يسير بسرعة الصاروخ في عالم الـ”واي فاي” متنقلًا بين الأخبار وأشباهها مكونًا “رأياً عامًا عربيًّا” في غفلة من الإعلام العربي المهني.

فإما أن يلحق الإعلام العربي بالمتلقي العربي، أو يبقى على حاله غير آسف على ما مضى ولا على ما “سوف” يمضي!

اظهر المزيد

أمينة خيري

كاتبة صحفية في جريدة الحياة الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى