شهد الوضع الفلسطيني أحداثًا مهمة في الفترة الماضية، يمكن التمييز بين ثلاثة منها: الأول يتعلق بالانتخابات الإسرائيلية، والثاني يتعلق بمسألة انتخاب المجلس التشريعي، والثالث يتعلق بهبة القدس، التي أتت كردة فعل على السياسات الإسرائيلية، وكلّها أحداث تمس العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين في الأراضي المحتلة، كما تمس مكانة السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع.
أولًا، الانتخابات الإسرائيلية:
لم تحظَ الانتخابات الإسرائيلية لـ الكنيست 24 مارس/آذار، 2021، وهي الرابعة من نوعها خلال العامين السابقين_ باهتمام دولي أو إقليمي ،على نحو ما كان يجري سابقًا، إضافة إلى أنها لم تكن ذات دلالات بالنسبة للسياسة الخارجية، بالنظر لهيمنة اليمين (القومي والديني) على التوجهات الداخلية والخارجية في إسرائيل، بحكم انحسار مكانة اليسار أو يسار الوسط في المجتمع الإسرائيلي منذ عقدين، إذ تمحورت موضوعاتها حول سلوك نتنياهو، المتهم بالفساد، مع موضوعات داخلية أخرى مثل (الصراع بين العلمانيين والمتدينين، والقضايا الاقتصادية والمعيشية).
وكان مسلسل الانتخابات الأربعة بدأ مع حلّ حكومة نتنياهو ديسمبر/كانون الأول 2018؛ بسبب الخلاف داخل الائتلاف الحكومي، وكان بطل تلك اللحظة “أفيغدور ليبرمان” (زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” لليهود الروس)، إلا أن نتائج الانتخابات الثلاثة التالية، التي جرت على التوالي في إبريل/نيسان 2019 ثم في سبتمبر/أيلول 2019 وبعدها في مارس/آذار 2020_ لم تُمكّن نتنياهو من تأمين أغلبية مريحة لائتلاف يميني بقيادته يمنحه استقرارًا حكوميًّا، يمكّنه من إنهاء ولايته (أربعة أعوام)، ويسهّل له استصدار قانون يجنّبه أو يحصّنه من محاكمة بتهم الفساد الموجه له. وعلى الأغلب فإن ذلك سيتكرر للمرة الرابعة، بعد فشل نتنياهو بتشكيل ائتلاف حكومي، ونقل التكليف إلى زعيم الحزب التالي في الكنيست بزعامة “يائير ليبيد” -زعيم حزب يوجد مستقبل، الأمر الذي يفيد بأن إسرائيل ستذهب على الأرجح نحو انتخابات مبكرة خامسة أو انتخاب رئيس الحكومة من الكنيست مباشرة.
يجدر التذكير هنا أن نتنياهو بات بمكانة رئيس الحكومة الأطول في هذا المنصب، حتى إزاء “بن غوريون”، الزعيم الإسرائيلي المؤسس والأشهر وأول رئيس لحكومات إسرائيل، إذ تسلَّم المنصب في حقبتين: الأولى في منتصف التسعينيات (1996-1999)، والثانية منذ عام 2009، بمجموع قدره 15 عامًا، مقابل 13 عامًا لــ”ابن غوريون”، شكّل الحكومة خلالها سبع مرات حتى الآن، وفقًا لنتائج انتخابات الكنيست الـ 14 ثم من( 18 / 23).
ما يعزّز احتمال التوجه نحو انتخابات جديدة قريبًا_أن نتائج الانتخابات لم تختلف كثيرًا عن سابقاتها، سواءً لجهة انزياح المجتمع الإسرائيلي لصالح قوى اليمين القومي والديني، أو لجهة حصول حزب ليكود بزعامة نتنياهو على ربع عدد مقاعد الكنيست، كما لجهة بروز منافسيين يمينيين:( ليبرمان- زعيم حزب “إسرائيل بيتنا”- ونفتالي بينيت -زعيم حزب “يميناه”، وجدعون ساعر- زعيم حزب “أمل جديد”)، مع وجود منافس آخر هو “يائير لبيد” زعيم الحزب المحسوب على تيار الوسط 17 مقعدًا. ففي تلك الانتخابات لم تستطع كتلة اليمين القومي والديني المتمحورة حول نتنياهو الوصول إلى حد الـ 61 مقعدًا، كما تراجعت حصة ليكود من مقاعد الكنيست من 36 مقعدًا في الكنيست السابق إلى 30 مقعدًا في الكنيست الحالية، وتضم أحزاب الكتلة اليمينية (القومية والدينية) كل من: (“ليكود شاس” لليهود الشرقيين،و”يهوديت هاتوراه” لليهود الغربيين،و” يميناه” -قومي ديني-،و” إسرائيل بيتنا” لليهود الروس، و”الصهيونية المتطرفة”، و”أمل جديد” -منشق عن ليكود-).
وقد حازت كلها على 72 مقعدًا، في حين تضم أحزاب الوسط ويسار الوسط كل من: (“يوجد مستقبل” و” أزرق أبيض”، و”العمل ميريتس” 38 مقعدًا، وثمَّة 10 مقاعد للقائمتين العربيتين).
وقد تعرض التصويت العربي في تلك الانتخابات إلى انتكاسة كبيرة من جانبين :أولهما- فشل الجهود التي بذلت لتشكيل قائمة عربية مشتركة، كما حصل منذ 2015 باستثناء الدورة 21 لعام 2019، لدى انفكاك القائمة المشتركة. وثانيهما- خسارة خمسة أصوات، إذ حصلت القائمتان العربيتان (المشتركة والموحدة) على 10 مقاعد، أي ذات عدد المقاعد التي حصلت عليها القائمة المشتركة لدى انفكاكها في الدورة 21، في حين كانت في الانتخابات السابقة للكنيست الـ 23 لعام 2020 حصلت على 15 مقعدًا.
يستنتج من ذلك أن المجتمع الإسرائيلي مازال يميل إلى اليمين (القومي والديني)، مع تراجع تيارات اليسار، مع ثقل لليمين الديني، والأحزاب اليمينية الإثنية -اليهود الروس من القادمين الجدد، والمستوطنين المتطرفين في الضفة الذين باتوا يشكلوا طائفة خاصة-، هذا أولًا.
ثانيًا، إن هذا التوجه يعني أن إسرائيل غير مستعدة لتنفيذ الاستحقاقات المتعلقة منها في عملية التسوية، إذ القوى الموجودة تعطي أولوية لقانون يهودية الدولة، وإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي -بحسب ما تم سنه في الكنيست عام 2018 – وذلك يعني إخراج الفلسطينيين من مواطني إسرائيل من دائرة المواطنة، والنظر إلى كل الأراضي الفلسطينية، بما فيها المحتلة عام 1967 كأرض إسرائيل الكاملة.
ثالثًا، يعني ذلك إبقاء السلطة عند مكانة الحكم الذاتي، ما يعني تجميد عملية التسوية بين الفلسطينيين وإسرائيل، كما يعني ذلك انتهاج سياسات تفاقم من أزمة السلطة الفلسطينية، وتتحدى الفلسطينيين في مختلف المجالات؛ ولعل ذلك يفسر أحداث القدس بخصوص “باب العمود” وحي “الشيخ جراح “وممانعة إسرائيل إجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس، وكلها سنأتي عليها لاحقًا.
انتخابات انتهت قبل أن تبدأ!
وكان الرئيس الفلسطيني “محمود عباس”، وهو رئيس( المنظمة والسلطة وحركة فتح) أصدر في شهر كانون الثاني/يناير2021 مرسومًا أعلن فيه الشروع في تنظيم عملية انتخابية متكاملة، بحيث تبدأ بالانتخابات التشريعية، على أن تتم في 22 مايو/ 2021، ثم الانتخابات الرئاسية وكان يفترض أن تتم في 31 يوليو/ 2021، وصولًا إلى المجلس الوطني، الذي تقرر أن يتم في 31 أغسطس من نفس العام ومعلوم أن التوافق على هذا الترتيب جاء كثمرة للحوارات التي جرت بين الفصائل الفلسطينية، ولا سيما بين الفصيلين الأكبرين والمهيمنين، أي “فتح” وهي السلطة في الضفة، و”حماس” وهي السلطة في غزة، على امتداد العام الماضي 2020 .
بِيد أن تلك العملية التي تأخّرت أصلًا عشرة أعوام، لم يُكتب لها الاستمرار_إذ أصدر الرئيس الفلسطيني مرسومًا آخر بتأجيل انتخابات المجلس التشريعي أواخر نيسان/أبريل الماضي، معللًا ذلك برفض إسرائيل تمكين الفلسطينيين إجرائها في القدس.
اللافت هنا أن مجرد الشروع بتلك العملية حركّ المشهد السياسي الفلسطيني، أكثر من كثير من الأحداث والقضايا، وبيّن الحيوية السياسية المختزنة عند الفلسطينيين، ولو مع نوع من الفوضى، وكشف توقهم إلى إحداث تغيير أو فارق في تعبيراتهم وعلاقاتهم وكياناتهم السياسية، رغم كل الإحباطات وحال الجمود، والفجوة بينهم وبين فصائلهم. ويمكن ملاحظة كل ذلك من خلال: أولًا- إقبال فلسطيني الضفة وغزة على التسجيل للانتخابات، حيث بلغ عدد المسجلين 2,546,449 شخصًا، أي حوالي 93 بالمئة من أصحاب حق الاقتراع.
وثانيها- وصول عدد القوائم إلى 36 قائمة، علمًا بأن الانتخابات تجري وفق نظام الطريقة النسبية على الصعيد الوطني، إذ بلغ عدد المرشحين في تلك القوائم 1389 مرشحًا، بينهم 405 نساء، بنسبة 29 بالمئة، في حين تقدم إلى الانتخابات السابقة (2006) 11 قائمة، تمكّن ست منها فقط من اجتياز نسبة الحسم، ودخول المجلس التشريعي.
وثالثها- أن كل التعهدات أو المعايير، التي وضعها الرئيس الفلسطيني “محمود عباس”، وهو رئيس (المنظمة، والسلطة، وفتح)،لا سيما في شأن عدم ترشح أي شخص في الهيئتين القياديتين للحركة (اللجنة المركزية والمجلس الثوري) لم يتم الالتزام بها، إذ تم ترشيح خمسة أعضاء من اللجنة المركزية في قائمة فتح الرسمية، مثلًا.
رابعًا- تعرضت حركة “فتح”، وهي السلطة في الضفة، إلى هزة قوية، نجمت عن التصارع بين مراكز القوى فيها، في معركة بدا أن عنوانها الأكبر يتمحور حول كسر هيمنة الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، والتخلص من تفرده في تقرير الخيارات والسياسات، وطريقته في الإدارة، مع ما في ذلك من أثر على مجمل الكيانات الفلسطينية، بخاصة الكيانَين الجمعيَين (المنظمة والسلطة)، ولما لحركة “فتح” من مكانة في أوساط الفلسطينيين؛ تبعًا لمكانتها التاريخية في قيادة العمل الفلسطيني، وكونها الأكثر شعبية في الداخل والخارج.
هكذا، برز في حركة (فتح) “مروان البرغوثي”، عضو لجنتها المركزية، والأسير في السجون الإسرائيلية منذ عقدين، بمثابة العنوان الأبرز في تحدي هيمنة أبو مازن، وهو الذي أضحى بمثابة الشخصية الأكثر شعبية في أوساط الفلسطينيين، وهو الذي رتب لترشيح نفسه للرئاسة، كما برز ناصر القدوة، عضو اللجنة المركزية لتلك الحركة أيضًا، بعد تشكيله ما سمي “الملتقى الوطني الديمقراطي” تحضيرًا لتشكيل قائمة انتخابية منافسة. وقد وصل الأمر نتيجة هذين التطورين تشكيل قائمة موحدة (الحرية) للمنافسة على مقاعد المجلس التشريعي (132)، تضم أنصار البرغوتي والقدوة. إضافة إلى ذلك ثمة مشكلتان إضافيتان: أولاهما- وجود قائمة أخرى محسوبة على قاعدة فتح الانتخابية وهي قائمة “المستقبل”، التي تضم ما يسمى تيار “الإصلاح” (دحلان)، التي تحظى على نفوذ أوسع في غزة، والتي لا يخفى أن ثمة دعم إقليمي لها. وثانيهما- حالة التخبط التي اكتنفت تشكيل قائمة فتح الرسمية كالعادة؛ بسبب غياب المعايير التي يتم عليها التنسيب للقائمة.
أما من جهة “حماس”، وهي الحركة السياسية الثانية في الإطار الفلسطيني، والسلطة في قطاع غزة، فيحتسب لها تنظيمها لأمورها بطريقة أفضل بكثير من غريمتها، بل إنها ترى نفسها في وضع أفضل بالنظر للتخبطات والاختلافات التي تشهدها “فتح”.
على أية حال، فقد تم قطع تلك العملية بقرار من الرئيس، باعتبار أن إسرائيل لم تسمح بإجرائها في القدس. وربما يجدر التذكير هنا بأنه في الانتخابات التشريعية السابقة 2006 خسرت فتح الانتخابات؛ بسبب انقسام الكتلة الناخبة لفتح، ما أدى إلى فوز حماس بعدد أكبر من المقاعد، ثم إن فتح خسرت قطاع غزة 2007 لصالح حماس؛ بسبب عدم تسليم فتح بفوزها بإدارة السلطة، الأمر الذي أدى إلى الانقسام الفلسطيني وصعود مكانة حماس في القيادة على حساب مكانة فتح.
ولعله من المفيد هنا الـتأكيد على أن هذا التجاذب أو التصدع في فتح ما كان ليحصل لولا عوامل عديدة، أهمها:
أولًا: انسداد الأفق السياسي لفتح بعد إخفاق خيارها المتمثل بإقامة دولة في الضفة والقطاع، وفشل خيارها التفاوضي.
ثانيًا: تحول حركة فتح من حركة تحرّر وطني إلى حزب للسلطة، والمشكلة أنها سلطة تحت الاحتلال، بل إنها باتت فوق ذلك بمثابة حزب الرئيس.
ثالثًا: هيمنة الرئيس محمود عباس(أبو مازن) على السياسة الفلسطينية، بما في ذلك رئاسة المنظمة والسلطة وفتح، والسلطات الثلاثة (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية).
رابعًا: ضعف الحركات السياسية في فتح، فهي خلال 30 عامًا عقدت مؤتمرين فقط بعد مؤتمرها الخامس الذي عقد في العام 1988 في تونس، إذ عُقد المؤتمر السادس في بيت لحم بعد 21 عامًا في العام 2009، في حين عقد المؤتمر السابع في رام الله 2018.
خامسًا: فقدان فتح روحها كحركة وطنية متنوعة ومتعددة، وكأكثر حركة سياسية فلسطينية تشبه شعبها، إذ غابت عنها المنابر أو التيارات السياسية والفكرية التي كانت تميزها وتثري حياتها السياسية، وغدت الصراعات فيها على مراكز القوى والمكانة.
وعمومًا، فحتى في نقاش ذريعة القدس لوقف الانتخابات، فثمة مسؤولية تتحملها القيادة السياسية:
أولًا: لأن كل الفلسطينيين يعرفون تمامًا أن إسرائيل ستعارض إجراء الانتخابات في القدس، ولكن لم تبذل أية جهود لتهيئة أوضاعهم، وتهيئة شعبهم لمواجهة هذا التحدي. ثانيًا: لأن توقيع اتفاق أوسلو 1993 سمح بوضع القدس الشرقية موضع مساومة مع إسرائيل، فيما يسمّى مفاوضات المرحلة النهائية، إلى جانب قضايا مصيرية أخرى (اللاجئين، والمستوطنات، والحدود) بثمن موافقة إسرائيل على إقامة كيان السلطة وقتها. ثالثًا: الرضوخ للإملاءات الإسرائيلية بخصوص ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، والتي من ضمنها انتخاب فلسطينيي القدس في صناديق بريد إسرائيلية.
رابعًا: إن ذلك القرار يعني الرضوخ لاتفاق أوسلو وللترتيبات السياسية والاقتصادية والأمنية المترتبة عليه، على الرغم من أن قرارات المجلس المركزي منذ العام 2015، وقرارات المجلس الوطني (د 23، 2018) أصدرت قرارات تفيد بوقف التنسيق الأمني، وإعادة النظر في الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل بسبب تملّصها من الاستحقاقات المطلوبة منها في الاتفاق.
خامسًا: أن هناك انطباع بالاستمرار في إتباع سياسة تُرهَن فيها عملية الانتخابات كلها على موافقة إسرائيل، في تأكيد أنها هي صاحبة الكلمة العليا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإلا فما هو المعنى الآخر لانتظار السماح الإسرائيلي بإجراء انتخابات في القدس.
ثالثًا، هَبّة القدس
لا أحد يستطيع التكهّن بتطورات الوضع في مدينة القدس، والأراضي الفلسطينية المحتلة، نتيجة المواجهات التي أتت ردًّا على محاولة إسرائيل تكريس سلطتها على المدينة المقدسة، وتغيير طابعها الديمغرافي، لاسيما انتهاكها حرمة المجلس الأقصى، ومحاولتها وضع بوابات عند باب العمود، ومحاولتها اقتلاع الفلسطينيين من مساكنهم في حي الشيخ جراح.
ومعلوم أن مدينة القدس ظلت بمثابة بؤرة، أو مفجرة لعديد من الانتفاضات والهَبَّات، يأتي ضمن ذلك اندلاع هبة النفق 1996، نتيجة قيام إسرائيل ، في أول عهد لبنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة، بحفر نفق تحت المسجد الأقصى، وقد نجم عن هذه المواجهات مصرع 65 فلسطينيًّا مقابل 17 إسرائيليًّا، وهي هبة شاركت فيها قوات الأمن الفلسطينية، وكانت أول مواجهة فلسطينية – إسرائيلية بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة 1993، وفي العام 2000 تسبب انتهاك “أريئيل شارونط حرمة المسجد الأقصى، بحماية قوات الاحتلال، في اندلاع الانتفاضة الثانية (2000 – 2004)، التي نجم عنها مصرع حوالي 5000 من الفلسطينيين مقابل 1040 من الإسرائيليين. وفي العام 2015 حصلت مواجهات دامية بسبب قيام مستوطنين بحرق منزل عائلة الدوابشة، وحرق الطفل محمد أبو خضير.
وفي الأعوام التالية (2017 و2018) شهدت القدس هَبَّة فلسطينية جديدة ضد شروع سلطات الاحتلال بنصب بوابات إلكترونية وكاميرات مراقبة عند مداخل المسجد الأقصى، وأفضت تلك الهبة إلى إجبار سلطات الاحتلال إلى وقف هذا المشروع.
وفي التاريخ الفلسطيني كان حصل مثل ذلك في العام 1929- فيما عرف بثورة البراق- إذ شهدت القدس وباقي المدن الفلسطينية مواجهات دامية بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود المتطرفين، الذين اعتبروا أن “حائط البراق” -الجزء الجنوبي من الجدار الغربي للقدس- الذي يسمونه “حائط المبكى” ملكهم وأنه جزء من “هيكل سليمان”، وقد نجم عن تلك المواجهات مصرع 116 من الفلسطينيين مقابل 133 يهوديًّا، إذ تدخلت سلطات الانتداب البريطاني لصالح المستوطنين وقتها، وكانت حصلت مجزرة في باحات المسجد الأقصى لدى محاولة مجموعة من المستوطنين اقتحام المسجد الأقصى (أكتوبر من عام 1990؛ لوضع حجر الأساس لبناء الهيكل الثالث بحماية قوات الجيش الإسرائيلي، حيث تصدى لهم الفلسطينيون، ما أدى إلى مصرع 21 منهم.
في هذا الإطار فإن التعاطي الفلسطيني مع مدينة القدس يشتمل على ثلاث مسائل: الأولى: تتعلق باعتبار القدس كمدينة مقدسة يقع فيها المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وكمدينة مقدسة لكل الأديان السماوية.
والثانية: تتعلق بالبعد الوطني – السياسي، إذ يتكثف الصراع في هذه المدينة، التي تعتبرها إسرائيل عاصمة لها، لا سيما مع محاولاتها تغيير طابعها الديمغرافي، وتغيير معالمها، وتعزيز استيطان اليهود فيها.
والثالثة: في الجانب الحقوقي المتعلّق بكشف سياسات إسرائيل ومقاومتها، بخصوص مساعيها الدؤوبة للتضييق على فلسطينيي القدس، لتهجيرهم منها والسيطرة على بيوتهم وأراضيهم، وتبنيها سياسة هدم المنازل. وكانت أعلى تجليات الكفاح الفلسطيني من أجل القدس تجلّت في الانتفاضة الأولى (1987-1993)، إذ أضحت بمثابة عاصمة فعلية للفلسطينيين ومركزًا قياديًّا لانتفاضتهم ،لا سيما مع وجود القيادة الرسمية في الخارج (وقتها)، ومع بروز شخصيات مقدسة ذات مصداقية، كان على رأسها المرحوم فيصل الحسيني.
قصارى القول: إن الفلسطينيين في مختلف المجالات يواجهون تحديات صعبة في ظروف صعبة. وهذا يحصل إزاء التحديات التي تفرضها السياسات الإسرائيلية الرامية إلى تطويعهم، والحفاظ على الوضع القائم مع تعزيز الاستيطان ونظام التمييز العنصري ضدهم، كما يحصل ذلك إزاء واقع السلطة الفلسطينية المقيدة بحكم القيود الإسرائيلية، و حؤولها دون إحداث تغيير سياسي حقيقي يسهم بالتحرر من اتفاقات أوسلو، وباستنهاض الشعب الفلسطيني، لا سيما عبر إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية، ككيان سياسي يعبر عن وحدة شعب وقضية فلسطين وروايته التاريخية.