تقديم
لا يمكن تجاهل العلاقات الظاهرة والخفية بين الإعلام الجديد كواسطة أو وسيلة وبين التصورات الفكرية التي تحكم تصرفات البشر في كل القضايا، وتهندس رؤيتهم حيال جميع الظواهر الإنسانية، وتجلي مواقفهم وتوجهاتهم إزاء ما يجري من وقائع وأحداث وحوادث، بصرف النظر عن أهميتها وحيويتها وضرورتها ودرجة الانشغال بها، ومستوى تأثيرها على مصالح الناس.
في البداية اقتصرت الرؤية لدور الإعلام على أنه مجرد ناقل للمعرفة وليس منتجا لها، فهو الوعاء الذي نملؤه بما نريد من رسائل عبر كلمات وصور ورسوم ورموز، ونحن فقط الذين نتحكم في طبيعة هذه الرسائل من حيث حمولاتها ومعانيها وقيمها ورؤاها ومقاصدها وأهدافها، ونحدد المستهدفين منها، وليس على الإعلام سوى أن يمتثل طائعا خاضعا تماما لما نريد، لا حول له ولا طول. لكن هذا التصور لم يعد قابلا للصمود في زمن الإعلام الجديد، الذي يتجاوز دوره كأداة طيعة، ويساهم في تشكيل الرسالة، متكئا على النظرية التي يبرهن أصحابها على أن الشكل لا ينفصل عن المضمون.
فحتى لو اعتبرنا الإعلام آلة، نحن الذين نضع لها خطة التشغيل، ونُعيّن ما ندفعه إليها، ونعرف كيف تدور تروسها، وما سيخرج منها كسلعة أو منتج قابلا للاستهلاك، فإننا لا يمكن أن ننكر أن هذه الآلة تعمل، بمرور الوقت، على تشكيل أذهاننا، وطريقة نظرتنا إلى الحياة وللظواهر والمعارف، وقد تمدنا بجزء من تصورنا عن ذواتنا، وبعض القيم التي تحكمنا، وهي مسألة أقر بها الإنسان بعد طول تعامل مع مختلف الآلات.
وإذا كان الإعلام التقليدي، الذي تقل فيه درجات التأثير المتبادل والتغذية المرتدة، لم يفلح في إقناع كثيرين بأنه ليس مجرد وعاء أو إناء، فإن الإعلام الجديد تمكن من فعل عكس هذا، بقدرته على جذب أعداد هائلة من البشر ليمارسوا دور “المواطن الصحفي” سواء أدركوا هذا أم لم يدركوه، وقد نجح كثيرون منهم في رفع وبث مادة ذات بال على مواقع التواصل الاجتماعي، لفتت انتباه الإعلام التقليدي، فنقلتها البرامج المتلفزة، وكُتبت حولها المقالات والتحقيقات الصحفية.
وقد كان واضحا منذ البداية أن التغير سيأتي هائلا، مع ظهور الإعلام الجديد، وستحدث قفزة عملاقة في تاريخ البشرية، مثل تلك التي وقعت حين عرف الإنسان كيف يزرع الأرض، ويخزن الطعام، وحين اخترعت الكتابة، وظهرت أول مطبعة، واخترع الصينيون البارود، واكتُشفت الكهرباء. فالإنترنت أحدث ويحدث وسيحدث تغييرات عميقة في الاقتصاد والمجتمع،([1])وما يمور فيه من أفكار وحركات.
ويمكن القول، باطمئنان، في هذا الصدد أنه “تكاد لا توجد تطورات في العقود الأخيرة أحدثت تحولا أكثر عمقا في السياسة والمجتمع المدني مما أحدثه ظهور تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الرقمية, وكانت الإنترنت هي الأبرز من بين تلك التطورات، ومجتمع المدونات الذي أنتجته، والتشكيلة المنتشرة من وسائل الإعلام الاجتماعي، والنمو المطرد في سبل الوصول إلى تلك الوسائط الإعلامية الرقمية عن طريق الهواتف المحمولة التي قدمت وسائل جديدة، ودينامية على نحو مذهل، ولا مركزية كليا، كي يتواصل الناس والمؤسسات ويتعاونوا فيما بينهم لغايات سياسية، وأخرى تتعلق بالحقوق المدنية”([2]). ويزيد هذا مع اتساع حركة التعليم، وتمكين الشباب، وتناسل شبكات المجتمع المدني عبر الدول.
وإلى جانب تأثيره في المسائل الخاصة بالتقارب بين الناس، وانسياب الأفكار وطرائق العيش، وسيادة الدول، والحروب الذكية، يمارس الإعلام الجديد ثلاثة أمور أساسية أثرت في القيم والتصورات والاتجاهات، الأول يتعلق بتعزيز التفكير الشبكي، وهي طريقة تعترف بالتجاور والتعدد والتشابك والتناظر، بدلا من التفكير الخطي، الذي ينطلق بين نقطتين، علوية وسفلية، أو جنوبية وشمالية، أي رأسية وأفقية، وهي التي تآلف معها التفكير البشري زمنا طويلا. والثاني يرتبط بفتح باب المشاركة وتسهيل الفواصل بين النخب والجمهور، فقديما كان من الصعب على قارئ أن يتواصل مع كاتب بارز، أما الآن فبوسعه أن يعلق على ما يكتبه على مواقع التواصل الاجتماعي ويراسله على بريده الخاص. والثالث يتمثل في تحرير الأذهان، فمن قبل كان المتلقي يستقبل الرسالة وقد يستحسنها لأنه لم يفكر في نقائصها، ولا يعرف بديلا لها، أما الآن فإنه يجد، وفي سرعة شديدة، آخرين يرممون له ما يعانيه من نقص حيال فهم الرسالة واستيعابها، وقد تؤدي تعليقاتهم عليها إلى أفول سحرها، وانطفاء بريقها، والأهم هو تقليل قدسيتها وإطلاقيتها ووثوقيتها في ذهن المتلقي بسيط المعرفة.
عند هذا الحد يكون الإعلام الجديد هو ابنا شرعيا لليبرالية، لاسيما في قيمها الأساسية التي ترتكز على المواطنة، والمراكز القانونية المتساوية، والمشاركة الواسعة، واحترام حرية التفكير والتعبير والتدبير، والانفتاح على الآخر، والتعددية، واللامركزية، والمساءلة، والشفافية، والسوق المفتوحة، والحكومات المفتوحة أيضا .. إلخ. ومع هذا لا يزال من المبكر جدا معرفة ما إذا كانت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية سينظر إليها بدرجة أكبر باعتبارها أدوات للتحرر أو أدوات للسيطرة الاجتماعية والسياسية،([3]) بعد أن التفتت النظم المستبدة إلى أهميتها واستعملتها في الحرب على الحرية.
ولمناقشة هذا التصور، لا بد أولا أن نعرج على ما أحدثه الإعلام الجديد من تغيرات في الحياة، ارتفعت إلى أن تكون ثورة ناعمة، ثم نناقش علاقة السياسة بالإعلام الحر، وبذا نكون قد اقتربنا أكثر من الإجابة على التساؤلات الأساسية التي يطرحها عنوان هذه الورقة، وهي تتعلق بأثر الإعلام الجديد على قيم الديمقراطية والليبرالية، وما إذا كان يغذيها بعد أن نبت من رحمها أم يلتف عليها بفعل فاعلين، يتربصون بالحرية، ويضجرون من القدرة الهائلة التي تمتلكها الشعوب لمعرفة الكثير مما يجري، بعد قرون طويلة ظل فيها الناس محرومين من الإلمام بما يقع في بلاط الحكم، وعاجزين عن الإدلاء برأي فوري ومباشر وواضح فيه.
أولا: الإعلام الجديد كثورة ناعمة
ألغت شبكة “الإنترنت” المسافات، واخترقت السدود والحدود، مازجة بين الكلمة والصوت والصورة في صيغة رقمية، بعد أن دمجت الحوسبة بالاتصال، وأزالت الفواصل بين العمل والترفيه، وفتحت نافذة واسعة للجماهير الغفيرة كي تشارك في ثورة اتصال تغير كل يوم أنماط الحياة والتفكير في مختلف دول العالم، بدرجات متفاوتة، وتنتج مشاهد ومعالم وأحوالا لا تُصم عنها أذن سميعة، ولا تغمض عنها عيون بصيرة.
وما جرى في الإعلام خلال السنوات الأخيرة هو تطور هائل وفارق بكل المقاييس، يمكن أن نصفها بأنها “ثورة إعلامية” أو اتصالية، تضاف إلى الثورات الناعمة التي يشهدها العالم، والتي تغيرنا من دون إراقة أي قطرة من دم، لاسيما بعد أن صارت الثورات السياسية نفسها تنساب في سلاسة وسلامة عبر التطور الديمقراطي، كما يقول جون فوران وزملاؤه في كتابهم الأثير “مستقبل الثورات”([4]). والثورة الاتصالية تلك تكسر النماذج الإرشادية التقليدية، متسقة في هذا مع الطفرات المعرفية التي شهدها العالم في العقول الأخيرة، ومن ثم لا يمكن فهمها أو الإحاطة بها اعتمادا على طرق التفسير التقليدية لأداء الإعلام، ونظرياته البسيطة المعهودة، بل تحتاج إلى اقترابات ومداخل مبتكرة وجديدة تواكب التطور الرهيب الذي يشهده عالم الاتصال.
ولهذه الثورة سمات عدة، سأشرحها في هذا المقام، كنوع من العصف الذهني، أو مجرد طرح أولي ينتظر التعديل بالحذف أو الإضافة، وذلك عبر النقاط التالية:
- توسيع المشاركة الشعبية في صناعة الإعلام، بما جعلنا نشهد ما يمكن أن يسمى بــ “المواطن الصحافي”، إذ بوسع أي شخص أن يكتب ما يشاء ويبثه على الإنترنت في موقع خاص أو مدونة أو حتى في تعقيب على مقالات الكتاب، وأخبار وتقارير وتحليلات وتحقيقات الصحافيين. وهذا الاتساع حقق كل ما حلم به من كتبوا منذ عقود عن “مسرح المقهورين” متخيلين ومطالبين بأن يشارك المتفرجون في صناعة النص المسرحي وتمثيله.
- تعزيز الفردية، التي تتغول دوما بفعل التقدم التقني وتغير بعض أنماط وطرائق المعيشة، فمثلا أدى اختراع الطباعة وتقدمها إلى إنهاء التجمعات البشرية التي كانت تتحلق حول شخص يقرأ لهم مخطوطا، وبات بوسع كل شخص أن يقرأ كتابه مختليا بنفسه، كما أدى اختراع الساندويتش إلى انصراف أفراد الأسرة عن التجمع لتناول الوجبات اليومية المعتادة، وعلى المنوال نفسه فإن الإنترنت ستزيد من عزلة الفرد عن المحيطين به مباشرة من أفراد الأسرة والأصدقاء والرفاق، وتعيد دمجه في “مجتمع افتراضي”، ليصبح له أصدقاء من شتى أرجاء المعمورة قد لا يرى وجوههم أبدا، لكنه يتواصل معهم ويقضي بصحبتهم ساعات طويلة عبر مختلف مواقع التواصل الاجتماعي. ومثل هذا الوضع قد يعيد في المستقبل تشكيل الهويات والانتماءات.
- إعطاء دفعة قوية لاقتصادات المعرفة، فإذا كان النفط قد لعب دورا حيويا في الثورة الصناعية، فإن عالم الرقميات ستكون له اليد الطولى في الطفرات الاقتصادية الحديثة، التي تسعى جاهدة إلى الاعتماد على بدائل جديدة للطاقة، وإلى إنتاج سلع جديدة، لم يعرفها العالم من قبل.
- ظهور تحدٍ للسلطة السياسية، عبر منازعتها في امتلاك وسائل الإعلام، والرد عليها حين تستخدم هذه الوسائل في التعبئة والحشد وتبرير السياسات القائمة، وتزييف الوعي في شقه المناهض للاستبداد والفساد. وهنا يكسر الإعلام الجديد تسلطية وأحادية ورسمية وقدسية أهداف الإعلام القديم، ويضغط على السلطة من أجل تحسين الأوضاع القائمة، وتغييرها بما يؤدي إلى مزيد من الحرية والكفاية. وقد بلغ الإعلام في هذا حدا عاليا، إلى درجة أنه بات يمثل الرقيب الحقيقي على أداء الحكومات، في ظل نظم تتراوح بين الشمولية والطغيانية، حولت البرلمانات إلى مقهى عام، وسلبتها وظيفة المراقبة، ووظفت دورها في تشريع القوانين لخدمة من هم في سدة الحكم وتابعيهم.
ويؤدي الإعلام الجديد، الذي تتآكل قدرة السلطة المستبدة عن حصاره وتقويضه وإسكات صوته، بالتتابع إلى تعزيز الحريات الثلاث حول التفكير والتعبير والتدبير، إذ أنه يساعد الناس على الاطلاع على ما يجري في مختلف أرجاء المعمورة من طقوس وطرق تفكير وتصرف، وتفتح أمامهم بابا واسعا ليعبروا عن آرائهم، ثم يمنحهم وسيلة مهمة لممارسة النضال المدني، حيث يعينهم على التواصل والتعبئة والتحريض على معارضة النظم المستبدة. لكن الإنترنت تظل هنا مجرد وسيلة وليست غاية، فالدعوة إلى العصيان المدني والإضرابات والاعتصامات من خلال الإنترنت، إن لم تتبعها استجابة في الواقع فإنها تفقد معناها.
- الإفراط في استخدام الإعلام كركيزة أساسية في السجال العقائدي الذي يدور في العالم أجمع، لاسيما بعد أن صار الدين يشكل عاملا بارزا من عوامل الصراع الدولي الراهن، بفعل إذكاء الولايات المتحدة لمسار “الإسلاموفوبيا” في سياق بحثها عن عدو عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، من جهة، وطرحها فكرة “الفوضى الخلاقة” التي تقوم على إشعال النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية، من جهة ثانية، وتعزز قدرة التنظيمات والجماعات المتطرفة والإرهابية على استخدام الشبكة العنكبوتية في التجنيد والتعبئة والدعاية والتحريض وتوجيه أتباعها نحو أهدافهم، من جهة ثالثة.
ومع تغول العولمة وعودة الاستعمار التقليدي، بعد أن ظنت الأغلبية من علماء السياسة أنه قد ذهب إلى غير رجعة، يتصاعد دور الإعلام في المقاومة، وتتناسل أيضا مواقع على شبكة الإنترنت لبعض الجماعات والتنظيمات والحركات المناوئة للولايات المتحدة، عبر العالم، سواء كانت دينية أم يسارية.
- لأي ثورة ضحايا، وقوى مضادة لها، ما يعني في هذا المقام التطرق إلى مصير الإعلام القديم أو التقليدي،([5]) الذي أصبح في تحد واضح. والنظر بإمعان إلى الصراع بين الجديد والقديم في مجال الإعلام يشي بأن الوسائط الجديدة ليس بوسعها أن تهيل التراب على القديمة تماما. فنظريات التحديث على اختلافها تنبئنا بأن القديم لا يموت كله، وتؤكد في الوقت ذاته أن القديم لا ينطوي دوما على شرور أو نقائص يجب التخلص منها، بل إن بعضه أجدى للناس من أشياء.([6]) وقد ظن بيل غيتس أن الصحف الورقية ستختفي تماما عام 2018 لكن الأمر الواقع جعله يعيد النظر في رأيه، ويعترف أنه لا يمكن أن يقطع بشيء خاص بمستقبل لا يراه، ولا يلم بقوانينه وظروفه كافة. ومن ظنوا أن القراءة على الإنترنت ستؤدي إلى اختفاء الكتاب المطبوع عادوا لينتجوا كتابا إلكترونيا على شاكلة الكتاب الورقي، يمكن أن يصطحبه القارئ إلى مخدعه، ويستمتع بقراءته تحت ضوء حميم. وعلى التوازي زاد توزيع الكتاب المطبوع، ليصل إلى أرقام غير مسبوقة، نرى مثالا لها في رواية “هاري بوتر” التي وزعت حتى الآن نحو تسعين مليون نسخة بلغات عدة، ورواية “الخيميائي” للأديب البرازيلي باولو كويليو التي وزعت نحو ثلاثين مليون نسخة.
إن البعض انساق وراء الثورة الجارفة للإعلام الجديد، وظن أن المطبعة ستدفن مع مخترعها الألماني يوحنا غوتنبرغ حين تحل ذكرى مرور أربعة قرون على وفاته عام 2048، أو توضع في المتحف برفقة الفأس البرونزية، لكن الأمور تسير عكس هذا الخط البياني المتوهم، وتثبت أنه من الخطأ الجسيم أن نخلط خلطا ظاهرا بين “الآلة” و”السلعة”، فالآلة المتطورة تنسخ أختها المتخلفة أو تلغيها كلية، لكن السلع الجديدة لا تلغي القديمة، إذ لا يزال الناس يستهلكون سلعا كانت البشرية تستهلكها منذ آلاف السنين. والجريدة وكذلك الكتاب هما من صنف السلع، وليسا من طرز الآلات، ومن ثم فهما باقيان معنا سنين طويلة، لكن عليهما التكيف مع معطيات ومتطلبات مجتمع المعرفة، لاسيما في مجال القابلية للحمل، والمحتوى، والعائد الدائم.
ثانيا: السياسة والإعلام الحر
ليس بوسع السياسة والإعلام إلا أن يتبادلا المنافع، في النظم الديمقراطية، وتوجه الأولى الثانية في النظم المستبدة والشمولية.([7]) وقد يؤدي ذلك إلى نشوب صراع بينهما في بعض الأحيان، لكن مثل هذا الصراع لا يأتي أبدا على هيئة معادلة صفرية، ولا يستمر دوما ، أو يكون عميقا، إنما هو نسبي ومؤقت وسطحي، ويكون سببه الرئيسي هو رغبة طرفي المعادلة في إحداث توازن بينهما، كي يستمرا في تبادل المصالح، وتقاسم الوظائف. فالسياسي يعطي الإعلامي مضمونا يقدمه، وقد يوجهه ويموله وينقده ويجذبه نحوه بكل قوة مستطاعة. والإعلامي يصل السياسي بالناس، ويساعده في رسم صورة جيدة له، ومن دونه يصرخ أهل السياسة في البرية، ولا يسمعون صدى صرخاتهم.
ومنذ نشأتها كان لوسائل الإعلام دور سياسي، واستخدمها رجال الدولة في الترويج لسياساتهم، خصوصا خلال أوقات الصراعات والحروب، وأحيانا كانت تُستخدَم في التضليل ونشر الإشاعات. ولم يستطع أي حاكم، مهما علا شأنه واحتد ذكاؤه، أن يستغني عن وسائل الإعلام.
لكن علاقة الإعلام بالسياسة أعمق من الوقوف عند حد توظيف السلطة لوسائط الاتصال في خدمة مصالحها، إذ يكون لها دور في تنمية الثقافة السياسية، عبر ثلاثة مستويات([8]) المعرفي، المرتبط بما يؤدي إليه التعرض للمحتوى الذي يقدمه الإعلام من زيادة الوعي، والعاطفي، المتعلق بدور الإعلام في تحديد مواقف واتجاهات الأفراد حيال القضايا السياسية، والسلوكي، الذي يترجم كل ما اكتسبه الفرد من معلومات ومعارف وقيم إلى تصرفات في الواقع المعيش.
كما يحدد العلاقة بين الطرفين السياق الذي يعملان فيه. ففي النظم المستبدة، يكون الإعلامي مجرد خادم للسياسي، وعلى النقيض من ذلك يكون الحال في الدول الديمقراطية، كما يحددها مدى إيمان الإعلامي بضرورة استقلاله، الذي قد يعني رفضه لتسييس رسالته الإعلامية، أو أدلجتها إلى حد يجعلها مجرد وسيلة للتضليل والتلاعب بعقول الجماهير والتعبير عن فكرة واحدة واتجاه واحد. فاستقلال الإعلام يحفظ له مصداقيته في أذهان الجماهير، ما يعمق ويوسع تأثيره، وهو أمر تحتاجه أي سلطة رشيدة.
لكن ليس من المحبذ وجود ذلك النوع من الاستقلال الذي يجعل الإعلام وسيلة جافة محايدة باردة بلا عواطف مشبوبة، يصنعها أحيانا الشعور بوجود رسالة حيال المصالح الوطنية العامة، والانتصار لقيم الحق والخير والعدل والجمال. عند هذا الحد تتلاقى وسائل الإعلام مع السياسة في جانبها النازع إلى العمل من أجل الناس، وهي مسألة يطرحها ساسة وقادة وأحزاب بلا توقف، يقومون على الأقل بإنتاج “قوة الدفع” التي تخلق توازنا سياسيا واجتماعيا مفيدا للناس، نظرا لأن انفراد شخص أو حزب أو قوة بالسلطة بلا رقيب أو حسيب أو بديل يجعلها تتوحش، ويحرفها عن أسباب قيامها.
ومن بين ألوان عدة من الإعلام يبدو الليبرالي منه، أو لنقل الحر، هو الأكثر قدرة ومنعة. حيث تجد وسائل الإعلام الحديثة أرضا خصبة للتأثير في الرأي العام بالدول الديمقراطية ، بل خارج هذه الدول، حين يكون الأمر متعلقا بمجتمعات بعيدة مكانيا، أو متخلفة زمانيا عن الحرية الإعلامية، لاسيما إن كانت مجتمعات مضطربة بسبب الحروب أو الصراعات العرقية والطائفية والطبقية والجهوية، التي تجعل من أحداثها مادة طيعة لوسائل الإعلام الأجنبية، التي يكون بمكنتها النفاذ إلى قلب الأحداث، وتناولها بشكل يقبل عليه الجمهور ويصدقه.
وعلينا في هذا المقام أن نفحص مصطلحات ثلاثة على النحو التالي:([9])
- الديمقراطية الإعلامية: وهي فكرة وممارسة تدعو إلى إصلاح الإعلام بحيث لا يصبح مجرد بوق في فم سلطة، أو مجموعة محتكرة، إنما معبر عن الناس، في هيئة “صحافة الشارع” ، التي تقوم بإخبار جميع الأفراد بما يجري، وتمكينهم من المشاركة في صناعته، عبر وسائط الصحافة العامة والإعلام البديل. وهو ما يتطلب ابتداء أن تكون بنية الإعلام ديمقراطية في ملكيتها وتنظيمها وطريقة اتخاذ القرار فيها، بما يمنع أو على الأقل يخفف من غلواء ما تسببه المصالح الخاصة من تحكم في وسائل الإعلام.
وتسعى الديمقراطية الإعلامية إلى وضع نظام إعلامي جديد، لا يرمي إلى الربح، ويحل محل النموذج التحرري الربحي الحالي، وتقوية خدمة البث العامة بحيث تصل إلى كل الناس، وزيادة المؤسسات الصحفية والإعلامية، وفتح باب لمشاركة الجمهور، وتوظيف الوسائط الإعلامية في تعزيز قيم الديمقراطية.
وقد وجد أصحاب هذا الاتجاه في الشبكة العنكبوتية العالمية “ويب” وسيلة لتحقيق ما يصبون إليه، حيث صارت منبر من لا منبر له، وفتحت أبوابا واسعة لمشاركة الناس على اختلاف توجهاتهم، لاسيما مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي الرقمية، التي أصبحت صوت المحجوبين في وسائل الإعلام الرسمية في الدول غير الديمقراطية.
- وسائل الإعلام الديمقراطية: وهي وسائط إعلامية تراعي الديمقراطية أفكارا وقيما وممارسة وسياقا في المحتوى الذي تقدمه، وطريقة تنظيم العمل داخل المؤسسات التي تنطلق منها، في ظل الحرص على عدم الاستسلام لقواعد التجارة، ومقتضيات الأيديولوجيا، التي تصبغ الإعلام الآخر، إنما الاستجابة لمبادئ الشفافية والمصداقية والتوازن، والاستقلالية والانفتاح، والإخلاص للمصلحة العامة، وحق الجمهور في المعرفة وتحصيل المعلومات، على اعتبار أن الإعلام يمثل ركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي.
- الصحافة الديمقراطية: وتعنى بتصنيف القصص الخبرية وفق تصويت القراء عليها، وتعزز هذا الاتجاه بظهور مواقع التواصل الاجتماعي، حيث بات يؤخذ في الاعتبار آراء الجمهور فيما يتم ترويجه من قصص. وبذا صارت هذه الصحافة، أكثر ملاءمة لسياق ديمقراطي، يراعي حق التعبير والتدبير، وإعلاء القانون، والتمسك بالقيم والمسارات المدنية، وإذكاء الشعور بالمصلحة العامة.
ثالثا: الإعلام الجديد كابن شرعي لليبرالية
هل كان من الممكن أن تولد وسائل الإعلام الجديدة في ظل بيئة اجتماعية وسياسية مستبدة أو شمولية؟ .. الإجابة بالطبع لا، فنظم الحكم غير الديمقراطية لا يمكنها التفكير في أداة أو وسيلة تمكن الناس من تداول المعلومات، والإدلاء بآرائهم في السياسات الجارية، وتعبئة قطاعات عريضة من الجمهور للاعتراض أو الاحتجاج على القرارات التي تراها ضارة بمصالحها.
كما أن المجتمعات المحافظة والجامدة والمغلقة لن تفكر في وسيلة تفتح بين الناس نوافذ وأبوابا للتواصل والنقاش في أدق الأشياء حرجا، وفي كل ما يعتقد المتشددون الدينيون أنه من قبيل المحرمات، أو تتصور السلطات المستبدة والشمولية أنه سيجعل الناس يشعرون، عبر المناقشة الافتراضية المستفيضة، بتضامنهم، ويطمئنون إلى قوة عددهم، وقد يدفعهم هذا إلى تحرك في عالم الواقع للاعتراض على السياسات والقرارات.
وقد أثر أيضا وجه آخر لليبرالية، يتمثل في شقها الاقتصادي المتعلق بالرأسمالية، على ميلاد الإعلام الجديد. فروح التعدد والانفتاح والتحرر والتنافس المتفاوتة درجاته، والإيمان بقاعدة “دعه يعمل، دعه يمر”، تبدو هي الإطار نفسه تقريبا الذي يحكم الإعلام الجديد. فشبكة الإنترنت أصبحت “توفر بيئة عامة ومجهولة للنقد، ونظاما لتعبئة الاستياء الاجتماعي، وربما يكون هذا أمرا جيدا لأن كثيرا من وسائل الإعلام الحالية تسيطر عليها الحكومات أو أصحاب الأملاك أو مجالس الإدارات”([10])، وبالتالي لم تعد حرية المرور مقصورة على من يملك الإعلام التقليدي، إنما صارت متاحة أمام كل الناس.
كما أن التطور الرأسمالي ساهم في توسيع الاعتماد على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، التي سهلت العمل الحكومي، وأثرت على متخذي القرار، وفي الوقت نفسه خلقت منافسين وشركاء له في التأثير على صنع السياسة، في مقدمتهم شركات التكنولوجيا التي تملك تقنيات هذا النوع من الذكاء، الذي سيمس، من دون شك، مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والأمنية.([11])وبالطبع فإن يده قد امتدت إلى الإعلام.
لكن نقطة التشابك الأهم هي بين القيم التي ترتكز عليها الليبرالية وبين قدرة الإعلام الجديدة على الاستفادة منها وخدمتها في الوقت نفسه، أو حتى مناقضتها أحيانا. ويمكن تصور هذا الأمر في النقاط الآتية:
- المواطنة: فهذه الفكرة التي تعني المراكز القانونية المتساوية لكل المواطنين، وتقر بحقوقهم وواجباتهم دون تمييز بينهم بسبب الدين أو العرق أو الجهة أو اللغة، ساهمت في صناعة ما يسمون بمواطني الإنترنت Netizens.
- حرمة الحياة الخاصة: وأثرت هذه في وجود حيز للتراسل السري الشخصي بين المتداولين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تمكين أي متداول من تحديد أصدقائه ومتابعيه، وطرده لأي شخص لا يود أن يكون من بينهم.
- المشاركة أو الانخراط السياسي: وهي قيمة أساسية في الليبرالية، اقتضى تعزيزها وجود الإعلام الجديد، وهو بدوره ساهم في ترسيخها، من خلال إتاحة فرصة كبيرة للناس كي يدلوا بدلوهم في السياسات العامة، بل وفي علاقات الدول، وسط جو من الشفافية النسبية، وإيمان كثيرين بحقهم في مساءلة الحكومة ومحاسبتها.
- الحريات العامة: فالإيمان بحرية التفكير والتعبير كان أحد الشروط الجوهرية لانطلاق مواقع التواصل الاجتماعي، التي فتحت بابا واسعا لأخذ ما كان يتحدث به الناس أمما إلى أفراد قلائل، وإلقائه في مجرى واسع جدا.
- التعددية: وهي قيمة ساهمت في خلق “التفكير الشبكي”، الذي يتيح للمُتعَدد والمتجاور والمتداخل مزيدا من التفاعل، وهو أمر يليق بشبكات التواصل الاجتماعي واسعة الترابط.
- اللامركزية، وهي إن لم تكن بالضرورة طريقة إدارة لازمة لنظام ليبرالي إلا أنها في جانبها المتعلق بالتفويض، وتعدد المراكز، وتمثيل الأطراف، تصنع بيئة مهيئِة لما يجري في مواقع التواصل الاجتماعي، التي تتسم بالخصائص نفسها تقريبا.
- السوق المفتوحة([12]) وهذا الانفتاح لا يخص مجال السلع فحسب، إنما يمتد إلى الأفكار، بل ويصل حد وجود “الحكومة المفتوحة” التي تقوم بواجبها حيال حق الناس في الاطلاع على القرارات وحيثياتها والخطط، عبر نشر المعلومات بطريقة شفافة تسعى إلى الاكتمال، وحقهم كذلك في المشاركة في صنع القرارات ورسم السياسات، عبر أخذ مقترحاتهم في الحسبان.([13])
رابعا: الإعلام الجديد .. أداة للتحرر أم الإكراه؟
ألغى الإعلام الجديد الحاجز أو الفاصل بين الخبر والرأي، والمعلومة والإجراء، وأدى إلى تلاشي الوسيط بين المرسل والمتلقي، وجعلهما يحتكان صوتا لصوت، مختزلا زمن التفاعل بينهما، وفاتحا بابا للتفاعل اللحظي، حيث يمكن لكليهما أن يعمقا النقاش، ويمارسا تغذية ارتجاعية لا حدود لها، لاسيما حيال القضايا الجديدة والمهمة والأحداث الساخنة، التي تتدفق بلا هوادة.
ومثل هذا الوضع يثير تساؤلا مهما: هل مثل هذا النوع من الإعلام يعزز التحرر؟ أم يشدد القيود؟
ابتداء فإن الإعلام الجديد يتمتع بفائض من الحرية لا تعرفه الليبرالية في تطبيقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي ربما تمثل المسافة نفسها التي تفصل بين “القول” و”الفعل” أو بين “التفكير” و”الحركة” في أي مجتمع، بما في ذلك المجتمعات الديمقراطية. فقد يتاح لفرد أن يقول ما يشاء على مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه لن يكون ممكنا من تطبيق أقواله في الواقع المعيش، لأنها ستتصادم مع إرادات آخرين، على رأسهم من يجلسون في كراسي السلطة السياسية.
لقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي أساسية بالنسبة إلى الحملات الانتخابية في الأنظمة الديمقراطية المتقدمة والناشئة على حد سواء. وصنع الهاتف المحمول تحولا في السياسة من خلال تمكين كثيرين من رصد ومتابعة الانتخابات بمزيد من الكفاءة والشمول، وتعزيز الشفافية، وتقوية الرقابة والمساءلة المتعلقة بالميزانية العامة للدولة، وإحاطة المواطنين بجهود مكافحة الفساد، وانتهاكات حقوق الإنسان، ورسم خريطة لتلك الانتهاكات.([14])
وحتى في الأنظمة المستبدة والشمولية والمنغلقة سياسيا أعطى تمكن مواقع التواصل الاجتماعي المواطنين قدرة على الالتفاف والتحايل على السلطة، ففي الصين مثلا يتجنب مواطنو الإنترنت الرقابة الصارمة التي تفرضها الدولة، ويخترقون جدران السرية أحيانا، ليصلوا إلى معلومات حساسة عن المسؤولين وما يقف خلف القرارات المهمة، ويتلاعبون بالحروف والرموز، ويوظفون أشكالا من اللغة المضمرة والمستترة والاستعارات وألوان أخرى من البلاغة، وتسعفهم أحيانا بعض الصور والمضامين المستمدة من الموروث الشعبي، لاسيما النكات ذات الطابع السياسي والأغاني، في السخرية من الحزب الحاكم ورجاله ونقدهم وتعريتهم إذا لزم الأمر.([15])
لا يعني هذا أن الإعلام الجديد بوسعه أن يمارس فائض الحرية في كل مكان وزمان، فالسلطات المستبدة والشمولية، وحتى في بعض الدول الديمقراطية، تتدخل لتقليص هذا الفائض، وضغطه ليتوجه من مد إلى جزر، ثم يغيض ليصبح في بعض المجتمعات أقل من رغبة الناس المتداولين على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بفعل قوانين تُفرض، وإجراءات قاسية للرقابة والتحكم يتم وضعها.
كما أن أداء الإعلام قد يضر بالديمقراطية حين يخفق في القيام بمهمة التنوير، لعجزه عن تقديم الحقيقة بموضوعية، نظرا لأنها تتطلب دقة وتمحيصا وقدرة على الفهم والتفسير لتجاوز اتصافها بالذاتية، بينما يجد الإعلامي نفسه في سباق مع الزمن، ليقدم إلى الجمهور خدمة الإبلاغ في أسرع وقت، وإلا انصرف عنه، ولذا لن يكون بمُكنته أن يحصل على صورة كاملة لأي حدث أو واقعة، وقد يجد نفسه مضطرا إلى إتمام الناقص منه بالتخمين والكذب والتحايل، عبر سلسلة من الومضات والدفقات واللمحات. ومثل هذا الوضع يضر الديمقراطية التي تستوجب سوقا حرة للأفكار، تتواجه فيها الآراء، وتتقارع، ويجد الجمهور الفرصة الكاملة للحكم على الصالح منها والطالح.
وما يعمق هذه النظرة أنه قد لا يوجد ما يسمى بـ “الرأي العام” وفق التصور الذي يقدمه لنا باعتباره شيئا متماسكا له قوام، وبوسعنا تصوره ودراسته على نحو دقيق. فالرأي العام، المختلف على تعريفه أصلا،([16]) هو نتاج تصارع المصالح السياسية والاقتصادية التي تعكسها وسائل الإعلام، وبذا تجعله مجرد مخرجات مشوهة ووهما كبيرا وحشدا من مستهلكي الثقافة، وليس شيئا مستقلا.
فالأنظمة التسلطية تمتلك تقنيات المراقبة والتحكم في الإنترنت، التي ترصد وتشكل بصورة متزايدة نشاط المستخدمين على الشبكة العنكبوتية، كما أنها تلجأ إلى الهجمات الإلكترونية، والتحكم في الأجهزة والشبكات لتعقب نشاط الإنترنت وإعاقته عند نقاط محددة موقعيا، والتحكم في أسماء النطاقات لإزالة المواقع الشبكية غير المصرح بها، والمواقع مجهولة الهوية بصفة خاصة، والفصل والتقييد المحلي للإنترنت في أثناء لحظات الاحتجاج، والمراقبة المشددة لمستخدميه لاسيما عبر الأجهزة المحمولة، وكذلك الجهد الذي يبذل مسبقا لإدارة الحوارات في العالم الافتراضي، واستباق أي نشاط رقمي ترى الأنظمة التسلطية أنه يهددها، ثم تطهيره أو تدميره ومعاقبته.([17])
وتتعدد أدوات النظم التسلطية في توظيف الإنترنت بغية تقييد الحريات ومنها: سن قوانين وتشريعات للتحكم في الإنترنت، وشراء المعلومات، وإطلاق الميليشيات الإلكترونية “الذباب” التي تساند هذه النظم، واستعمال وسائل ماكرة في تطوير فنون مظلمة للاختراق الاجتماعي للشبكات الإلكترونية بواسطة المخربين من أجل إيجاد انشقاقات مصطنعة تصيب التماسك الاجتماعي، والاستفادة من الجهد التخريبي لصعاليك الإنترنت “الهاكرز” للاستيلاء على حسابات بعض المعارضين، وإطلاق برمجيات خبيثة أو شريرة للتحكم في حواسيب مستخدمين غير منتبهين لأغراض الجريمة أو المراقبة أو التخريب.
فشبكة الإنترنت تعتمد على خطوط الهاتف، لتبدو “أشبه بالنظام العصبي الحسي للجسم البشري، إذ يمكنك أن تحقنه بالسم بحيث تدمر الجزء الأساسي من النظام، مثل الدماغ، وبالطريقة نفسها تماما، من المحتمل أن تطلق جهات عديمة الضمير ومجردة من المبادئ فيروسات للقيام بذلك من خلال الإنترنت”([18]).
ويتيح الإعلام الجديد تحقيق السيادة المعلوماتية التي تخدم وجهة نظر المستبدين الذين بوسعهم استغلال ما لديهم من ملاءة وقدرة مالية وتقنية كبيرة، مقارنة بالمعارضة. ويتم استعمال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات استباقيا لتقفي أثر قادة الاحتجاجات واعتقالهم، بما يحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى أفخاخ لاصطيادهم. وهناك كذلك نشر الشائعات كجزء من حرب نفسية، وغسيل أدمغة، تشنها هذه الأنظمة لتشويه المعارضين، وتخويف الشعب، وإفقاده الثقة في نفسه، وقد يصل الأمر إلى حد القرصنة بزعم الحفاظ على الأمن القومي. ويمكن أيضا للأنظمة المستبدة أن تتعاون في تعزيز خبرة الرقابة والتحكم، من خلال ما يسمى “الاستبداد المترابط شبكيا”.
وإلى جانب فتحه بابا أوسع للاستقطاب السياسي، والسجال العقائدي، الذي يمارس فيه السب والقذف بإفراط، فإن الإعلام الجديد، يخدع كثيرين بتحقيق الرضا الزائف عن المشاركة السياسية، حيث يكتفي أغلب المتداولين على مواقع التواصل الاجتماعي بالتعبير عن مواقفهم كتابة أو بالرسوم التعبيرية والمشاهد المستعارة من الدراما والكوميكس، معتقدين أن هذا يعوض عن النزول إلى الشارع إذا كان هناك ما يستحق فعلا الاحتجاج المباشر. فالأدوات الرقمية يمكنها صرف انتباه المواطنين عن العمل السياسي عبر الترويج للترفيه الشخصي، وإضعاف المقاومة الديمقراطية من خلال منح الناس وهما يبدو آمنا، ولكنه سطحي، بأنهم يمارسون العمل السياسي، وربما لا يكونون في حاجة ماسة إلى حيازة عضوية الأحزاب السياسية كي يحققوا هذا الهدف.
في الوقت نفسه، وفي اتجاه آخر مساند، بوسع السلطات المستبدة توظيف ميليشياتها الإلكترونية في صناعة وسوم (هاشتاج) قد تتحول إلى اتجاه دافق دافع قوي (تريند) يبين، زورا وبهتانا، أن الأغلبية تساندها في قراراتها وإجراءاتها.
وما يزيد الطين بلة أن جهود الدول الديمقراطية القانونية لمراقبة الجريمة والقرصنة والحرب على الإنترنت قد تصنع بيئة مواتية للحكومات التسلطية الحريصة على تمرير تدابير شبيهة ترمي إلى التضييق على الحريات السياسية.([19]) وحتى في الأنظمة الديمقراطية الليبرالية، يوجد قلق من المواطنين حيال فقدهم لخصوصيتهم باستمرار لصالح الأطراف الفاعلة الحكومية والتجارية على السواء. كما أن الحكومات المنتخبة تقوض قواعد الليبرالية للنظام الدستوري وحقوق الإنسان في انجراف متهور من أجل التفوق التكنولوجي في الحرب على الإرهاب، والحرب على الجريمة الإلكترونية،([20]) فضلا عن نشر الأفكار غير الليبرالية، التي يطلقها المتشددون الدينيون وأتباع اليمين المتطرف في الدول الغربية وغيرها. ومثل هذا الوضع يجعل بوسعنا أن نقول أنه لا توجد علاقة مباشرة مقطوع بها بين وسائل الإعلام والديمقراطية في كل الظروف والأحوال.([21])
وصار الإعلام أحد ركائز القوة لخدمة المشروعات الإمبريالية، سواء من خلال دعمه الجارف للحروب العدوانية والتوسعية أو تبشيره بالتصورات التي يريد المستعمرون الجدد أن يطلقوها في المجال العام، للتمهيد لحركة السلع والجنود على الأرض.([22]) وفي مثل هذه الحالة يصبح الإعلام، جديدا كان أو قديما، مضرا بقيم الديمقراطية والليبرالية، حتى لو تشدق بها.
فضلا عن هذا، وبعيدا عن السياسة بقيمها وأفكارها وإجراءاتها، فإن ثورة
الاتصالات بقدر ما أفادت فقد حملت ضررا في ركابها، يمتثل بالأساس في الحرب
الإلكترونية بما فيها سباق التسلح في الفضاء السيبيري، والجريمة الإلكترونية، التي
تمتد إلى اختراق السجلات الطبية والمصرفية والضريبية والتجارية وغيرها، ونشر
الإباحية، وتقوية النزعات الاستهلاكية، التي قد تودي بالناس إلى التشيؤ، والوقوع
في شكل من العبودية الطوعية.
([1]) رمادوك هسي، “مستقبل وسائل الإعلام”، في: مجموعة باحثين، “هكذا يُصنع المستقبل”، ترجمة: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، (أبوظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2001) الطبعة الأولى، ص: 189 ـ 190.
([2]) لاري دايموند، مارك بلانتر، “تكنولوجيا التحرر: وسائل الإعلام الاجتماعي والكفاح في سبيل الديمقراطية”، ترجمة: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، (أبوظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2013) الطبعة الأولى، ص: 11.
([3]) المرجع السابق، ص: 38.
([4]) لمزيد من المعلومات انظر: جون فوران، “مستقبل الثورات”، ترجمة: تانيا بشارة، (بيروت ـ الجزائر، دار الفارابي، 2007) الطبعة الأولى.
([5]) مرمادوك هسي، مرجع سابق، ص: 190 ـ 191.
([6]) لمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة، انظر:
- Boris Kagarlitsky, The Mirage of Modernization, Translated by: Renfrey Clarke, New York, Review Press, 1995.
([7]) لمزيد من المعلومات، انظر:Brian McNair, An introduction to political communication, London, Routeledge, 1st Edition, 2003.
ـ د. أحمد قزان الزهراني، “السلطة السياسية والإعلام في الوطن العربي”، (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2015) الطبعة الأولى.
([8]) د. سليم بوسقيمة، “الثقافة السياسية ودور الإعلام في تنميتها”، مجلة “الباحث الاجتماعي”، العدد ( 11) مارس 2015، ص: 124 ـ 127.
([9]) لمزيد من التفاصيل حول علاقة الإعلام بالديمقراطية، انظر:
ـ د. حسين علي إبراهيم الفلاحي، “الديمقراطية والإعلام والاتصال: دراسة في العلاقة بين الديمقراطية والإعلام وطبيعية الإعلام الديمقراطي ووظائفه”، (بغداد، دار غيداء للنشر والتوزيع، 2014)، ص: 109 ـ 144.
([10]) مرمادوك هسي، مرجع سابق، ص: 203.
([11]) د. جمال سند السويدي، “الذكاء الاصطناعي والسياسة .. جوانب التأثير”، صحيفة “الاتحاد” الإماراتية، في 5 نوفمبر 2018.
([12]) لمزيد من التفاصيل حول خصائص السوق المفتوحة انظر: روجي غيسنوري، “اقتصاد السوق”، ترجمة: د. فريد الزاهي، (أبوظبي، هيئة أبوظبي للثقافة والسياحة ـ بأبوظبي مشروع كلمة، 2016) الطبعة الأولى.
([13]) د. جمال السويدي، المرجع السابق.
([14]) لاري دايموند، مارك بلاتنر، مرجع سابق، ص: 16.
([15]) لمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة، انظر:
- Yongnian Zheng, Technological Empowerment: The Internet State and Society in China, Stanford University Press, 1st Edition, 2008,
([16]) د. محمد عبد القادر حاتم، “الرأي العام وتأثره بالإعلام والدعاية”، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ مكتبة الأسرة، 2006)، ص: 11.
([17]) لاري دايموند ، مارك بلاتنر، مرجع سابق، ص: 27.
([18]) مرمادوك هسي، مرجع سابق، ص: 205.
([19]) لاري دايموند، مارك بلاتنر، مرجع سابق، ص: 23.
([20]) المرجع السابق، ص: 38.
([21]) د. عيسى عبد الباقي، “الصحافة الاستقصائية وصناعة القرار السياسي: دراسة في المدخل الرقابي لوسائل الإعلام”، (القاهرة، دار العلوم للنشر والتوزيع، 2014)، ص: 39.
([22]) أنتوني غدنز، “علم الاجتماع”، ترجمة: د. فايز الصباغ، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة ـ مؤسسة ترجمان، 2005) الطبعة الأولى، ص: 530 ـ 532.