2019العدد 178دراسات

تداعيات مواقف إدارة ترامب على مسار الأزمة السورية

على الرغم من الطابع المؤسسي للنظام الأمريكي والذي يفترض أنه يحد نسبيا من تأثيرات التغيير القيادي على التوجهات الخارجية للدولة، فإن رئاسة ترامب وما صاحبها من قرارات غير مألوفة أثرت على علاقات الولايات المتحدة بمختلف مناطق العالم([1])، ونالت المنطقة العربية أكبر قدر من هذه القرارات. فمنذ توليه سلطاته أصدر ترامب عدة قرارات مست أوضاعا سياسية وقانونية ودولية فيها بشكل جوهري، كقراراته بشأن القدس والجولان وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران فضلاً عن استمرار بقاء سوريا بصفة خاصة في دائرة الاستهداف الأمريكية لعدة أسباب يأتي في مقدمتها:

  • قدرة سوريا على التأثير في السياسات الإقليمية إيجابا أو سلبا، فقد مارست في الإطار الفلسطيني دورا معطلاً لمسار التسوية السياسية للمشكلة الفلسطينية وفقا للمنظور الإسرائيلي.([2])
  • كما توجد عدة دوافع للثأر الأمريكي من سورية يعود بعضها لمواقفها من الحرب الأمريكية على العراق، وفشل الجهود الأمريكية في ردع سورية/ بشار الأسد عن عدم استخدام أراضيها كأحد قواعد إسناد لعمليات المقاومة العراقية ضد الوجود العسكري الأمريكي.
  • شعور إسرائيل بالخشية من سوريا، فقد كانت تمتلك جيشا عقائديا يمتلك خبرة ميدانية وخاصة حرب أكتوبر 1973 بجانب مصر، وبعد تحييد الجيش العراقي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وحان دور القضاء على الجيش السوري من وجهة النظر الإسرائيلية.
  • فضلا عن السعي الأمريكي المبكر لفصل العلاقة الاستراتيجية بين إيران والنظام السوري وتغيير نظامي البلدين إن أمكن.

أولاً: اعتراف إدارة ترامب بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان المحتلة

أصدر ترامب قرارا بوعده في 14/5/2018 بنقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس زاعما أن القدس هي “عاصمة الشعب اليهودي الأبدية”. كما اعتبر الرئيس ترامب في تغريدة لاحقة له بتاريخ 21/3/2019 أن على واشنطن الاعتراف بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان السورية المحتلة منذ 1967، في خطوة خطيرة لم يعترف بها المجتمع الدولي، وبرر ذلك بأن هذه المرتفعات ذات أهمية استراتيجية وأمنية بالغة لدولة إسرائيل واستقرار المنطقة. وردا على ذلك غرد نيتانياهو بدوره قائلاً : ” في وقت تسعى فيه إيران لاستخدام سوريا منصة لتدمير إسرائيل، يعترف ترامب بشجاعة بسيادة إسرائيل على مرتفعات الجولان”. وزعم نيتانياهو أنه ” لولا الوجود الإسرائيلي في هضبة الجولان لكانت إيران اليوم في طبرية وكرر المزاعم الإسرائيلية بأن حزب الله ينشط من أجل التمركز في الجولان السوري، وأنه يشكل خلية للعمل ضد أهداف إسرائيلية([3]).

والجديد في هذا الموضوع أن بنيامين نتيانياهو ادعى أن لإسرائيل حقوقا تاريخية ودينية في هضبة الجولان حيث صرح قائلاً: “إن هذه الأراضي تعود لنا، ولدينا جذور تاريخية في هضبة الجولان، وعندما حفرنا هناك بالمعول عثرنا على كنيس يهودي نرممه الآن: عدنا إلى الجولان، وهي لنا بحق تاريخي وبموجب حقنا في الدفاع عن النفس، والرئيس ترامب اعترف بذلك” ويلاحظ هنا أنه لم يسبق لليهود المتدينين الادعاء بوجود رابطة تاريخية ودينية لليهود بالجولان.

ويجد قرار ترامب بشأن القدس وبعده الجولان تفسيره في مطالعة الأفكار المسبقة التي يعتنقها، من ذلك قوله ” إنه كان على بلاده أن تستولي على نفط العراق منذ عام 2003، كمكافأة شرعية بعد إسقاط النظام الحاكم في العراق … فالغنائم تعود للمنتصر”([4]). وترامب يتبنى على هذا النحو مقولات قادة إسرائيل الذين يعتبرون الاستيلاء على الجولان “غنيمة حرب”.

ويلاحظ أنه طوال مفاوضات السلام التي دارت بين سوريا وإسرائيل برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون واستغرقت أكثر من عام، لم يردد المفاوضون الإسرائيليون هذه الأسطورة / الأكذوبة، لأنهم كانوا يعلمون أن الجانب السوري سيدحضها بقوة ويُظهر زيفها. وخلال هذه المفاوضات قدم الجانب السوري عروضا واقعية تلبي معظم المطالب الإسرائيلية في الأمن والمياه، لا يستطيع أي طرف جاد ولديه رغبة حقيقية في صنع السلام القائم على العدل أن يرفضها، ولكن الجانب الإسرائيلي كشف عن حقيقة مخططاته مبكرا برفضه لهذه العروض، لأنه كان يخطط للاستيلاء عليها كغنيمة حرب.

وقد استشعر حافظ الأسد بصفة خاصة ومبكرا حقيقة النوايا الإسرائيلية وأطماعها التوسعية في الأراضي العربية المحتلة في المفاوضات بين الفلسطينيين وإسرائيل والتي أسفرت عن اتفاق أوسلو 1994، والذي سارع إسحاق رابين فور توقيعه إلى القول: “لا نقاش حول القدس والمستوطنات ولا دولة للفلسطينيين في محادثات أوسلو” ولم تحترم إسرائيل الأجندة الزمنية لتفريغ أوسلو من مضمونها وهو ما يتحقق الآن.

إن توقيت صدور قرار اعتراف ترامب بسيادة إسرائيل على الجولان كان لهدفين: الأول دعم مركز ترامب نفسه داخليا، وأن هذا القرار تم اتخاذه في إطار حشد القوى السياسية وبصفة خاصة اللوبي الإسرائيلي، لدعم فرص ترشحه لولاية ثانية في 2022، والثاني: دعم مركز “نتيانياهو” الداخلي والذي كان يتعرض بدوره لاتهامات بالفساد قد تعرضه للمحاكمة، فضلاَ عن مساندته في حملته الانتخابية الأخيرة، والتي تلت صدور قرار ترامب.

وجاءت هذه التطورات قبل إعلان ترامب ما عُرف بـ “صفقة القرن”، التي لم تتبلور بعد وتستحق وفق ما تسرب منها، وصفها بـ”صفعة القرن”.

وقد ادعى المتحدثون الإعلاميون باسم البيت الأبيض ووزارة الخارجية أن قرار ترامب جاء ردا على ما تقوم به سوريا وإيران ، وأن وجودهما لا يبعث على الاطمئنان… وتأكيدا لهذا التصور غير الحقيقي، قامت إسرائيل بعد يومين فقط من قرار الرئيس الأمريكي بقصف المناطق السورية شمال شرق حلب بغارات جوية إسرائيلية التي استهدفت إحداها مركز قيادة عمليات الحرس الإيراني في منطقة الشيخ نجار، كما طالت منطقة النفارين الصناعية ومستودعات الذخيرة شمال مطار حلب الدولي، وأكدت إسرائيل أنها سوف تواصل عملياتها ضد محاولات إيران الرامية لترسيخ وجودها العسكري في سوريا، بالتوازي مع ادعاءات الولايات المتحدة بأن وجود إيران في هضبة الجولان يشكل أحد الأسباب الرئيسية لضم الهضبة.([5])

وإذا كان البعض يرى – وعن حق – أن قرار ترامب بشأن الجولان على هذا النحو معدوم بلغة القانون، فالانعدام يلحق أساسه القانوني كما يلاحق الأثر المترتب عليه([6])، إلا أننا أصبحنا نعيش – بسبب المواقف الأمريكية الرعناء- في ظل قانون الغاب المستند لغطرسة القوة. ولعل ما شجع ترامب على هذا النحو أن الأوضاع التي يعيشها العالم العربي سهلت اتخاذ مثل هذا القرار الذي تحاشاه الرؤساء الأمريكيون السابقون.

ولعلنا نتذكر أن الضغط الذي مارسته إسرائيل واللوبي الإسرائيلي لم يكن العامل الوحيد خلف قرار الولايات المتحدة مثلاً في الهجوم على العراق في مارس 2003، ولكنه كان عنصرا هاما فيه. ويعتقد بعض الأمريكيين أن هذا الهجوم لتصفية الجيش العراقي وإزالة خطر ما كان يُعرف بالجبهة الشرقية كان بمثابة حرب من أجل البترول، ولكن لا يوجد دليل مباشر يؤيد هذا الادعاء. وبدلاً من ذلك، فإن دافع الحرب يرجع، في جزء كبير منه، إلى الرغبة في جعل إسرائيل أكثر أمنا وأن “التهديد الحقيقي” من العراق لم يكن تهديدا للولايات المتحدة. إن “التهديد غير المعلن” هو “التهديد لإسرائيل”([7]).

ولنطالع آراء بعض الأمريكيين المطلعين على جوهر النزاع العربي الإسرائيلي، فوليام بيرنز، النائب الأسبق لوزير الخارجية الأمريكي صرح عندما وجه إليه سؤال حول قرار الرئيس ترامب الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري، بقوله: “إن إسرائيل تسيطر على الجولان منذ أكثر من نصف قرن، ولم يُمارس أي ضغط على إسرائيل للخروج منه. وفي سوريا حرب أهلية دامية، لكن أن تعترف بسيادة إسرائيل حاليا، فإنك لا تضيف شيئا لأمن إسرائيل لكنك تخلق مشكلتين: الأولى، خدمة للأسد وإيران وروسيا، فبدلا من الحديث عن إراقة الدماء في سوريا، يجري الحديث عن مقاومة الاحتلال، الثانية تتعلق بعدم جواز كسب أراضي الغير بالقوة وهذا مبدأ دولي”.([8])

وبدوره نجد دينيس روس المعروف بمشاركته في مفاوضات السلام العربي الإسرائيلي، وانحيازه لإسرائيل يقول، في كتاب مشترك، عن “أن ضم الجولان لإسرائيل، هو بمثابة “دعوة لإسرائيل” لضم الضفة الغربية، وأن ذلك سيقود المنطقة إلى كارثة.”([9])

ولاشك أن هذا القرار سيؤثر سلبا على مسار الأزمة السورية ويخلق لدى أطراف أخرى أطماعا مماثلة. وهدف إسرائيل والولايات المتحدة من اتباع أسلوب إطالة أمد الأزمة السورية هدفها كسر الإرادة السورية لعرقلة مطالبة سوريا باستعادة الجولان مستقبلاً. وأكتفي في هذا المجال بأن أعيد إلى الذاكرة تحذيرا مسبقا لفاروق الشرع – وزير الخارجية الأسبق-عندما قال “إن المستوطنين الإسرائيليين الذين سرقوا أرض السوريين لن يشعروا بالأمان أبدا…”([10]) وكأنه كان يتنبأ بما حدث.

ثانياً: انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران وتداعياته على الأزمة السورية:

إبان حملته الانتخابية أعلن ترامب رفضه لهذا الاتفاق مشيرا إلى أنه الأسوأ على الإطلاق، كما وصفه صراحة بأنه “خطير جدا”، ومؤكدا بأنه “خطأ تاريخي” سيوقفه بأي وسيلة ليتسنى له تصحيح هذا الخطأ، ووضعه كأولوية في سياسته الخارجية، وبأنه سيسعى لزيادة العقوبات على إيران حتى أكثر مما كانت عليه قبل الاتفاق وأن إيران لا تحترم روح الاتفاق الموقع عام 2015 مع القوى العظمى. وفي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 19 أيلول/سبتمبر 2017 وصف “إيران بالدولة المارقة وممهدا الطريق لإلغاء الاتفاق بقوله: “لا يمكننا السماح لنظام قاتل بالاستمرار في هذه الأنشطة المزعزعة للاستقرار مع استمراره في بناء صواريخ خطرة، ولا يمكننا الالتزام باتفاق إذا كان يقدم الغطاء لإقامة برنامج نووي محتمل”.

ثم اتخذ ترامب قراره بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، والعودة إلى العقوبات التي فرضت على إيران في الثامن من أيار/مايو 2018، مؤكدا أن الاتفاق لم ينجح في وقف المساعي الإيرانية للحصول على السلاح النووي، أو ردعها عن مواصلة تطوير برنامجها للصواريخ البالستية([11]).

وترامب يرى أن إيران هي أساس مشكلات المنطقة، وهي الخطر الأول الذي يجب مواجهته بقوة، ويتبنى في هذا الشأن منظور اليمين الإسرائيلي.([12]) والهدف الأساسي المستتر هو العمل على انسحاب إيران وميلشياتها من سورية والسعي لتغيير سياسة إيران تجاه إسرائيل. ولكن المشكلة أن هناك صعوبة كبيرة في انصياع إيران لهذه المطالب بعد أن استثمرت في سوريا أكثر من 30 مليار دولار بالإضافة لعشرات القتلى من العسكريين الإسرائيليين، وهي عازمة على جني المكاسب الاستراتيجية التي تتوقعها في المدى الطويل حتى لو كانت على حساب المزيد من الخسائر البشرية والثروات في المدى القصير.([13])

ولتبرير انضمام الولايات المتحدة للاتفاق النووي أوضح أوباما أنه يأتي في مقدمتها توقعه أن تتحول إيران إلى شريك اقتصادي هام وعلى أمل أنه سيجري احتواؤها ضمن خطوط إنتاج غربية وبأدوات ناعمة، وأنه كانت هناك حاجة أمريكية لدور إيراني في أفغانستان وباكستان وأواسط آسيا، وأن هذا الموقف كان نابعا من جعل إيران “البلد الخطر” “أقل خطورة”، فلا أحد يتوقع أن تتحول إيران إلى فاعل خير. وليس أصرح من تعبير أوباما عما حصل بين إيران والدول الكبرى في لوزان في قوله “جربنا كل شيء (مع طهران) وأصبحنا أمام خيارين: الحرب أو الاتفاق فاخترنا الاتفاق”.([14]) وفي الواقع إن هذا الاتفاق هو ثمرة تقاطع عدد من العوامل ويعد “بمثابة رهان على نيات إيران الحسنة ومدى استعدادها للالتزام ببنوده”([15]) ويُلاحظ أنه لم يرد بهذا الاتفاق أي إشارة إلى الدور الإقليمي لإيران.

ويتناسى ترامب في مواقفه المعارضة للاتفاق مع إيران حيازة إسرائيل لأسلحة نووية منذ فترة طويلة، وأنها لم توقع على الاتفاقية الدولية لحظر الانتشار حتى الآن، وأن أسلحة إسرائيل النووية مكنت إسرائيل من انتهاج استراتيجية “الإكراه”، وهي استراتيجية هدفها حرمان العرب من بلوغ التكافؤ العسكري معها، ودفعهم إلى قبول ضم إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان. ومن الأهداف الأساسية في الاستراتيجية الإسرائيلية تنظيم تكتل دولي لحرمان العرب من الحصول على التكنولوجيا اللازمة للوصول إلى التكافؤ العسكري مع إسرائيل.

وبالمقابل فإن إيران ترى أن سوريا تمثل خط الدفاع الأول عنها، حيث أصبحت العقيدة العسكرية للنظام الإيراني هي عقيدة الدفاع المتقدم أو الأمامي عن إيران خارج الأراضي الإيرانية([16]) وانتقلت العلاقة بين البلدين فيما بعد إلى مرحلة التلاحم أو “المصير المشترك”. والتحالف الاستراتيجي بين سوريا وإيران أشبه بالزواج الكاثوليكي لا يحتمل الطلاق ولا يسمح بالمشاركة، وهذا التحالف وإن جمع بين أسباب التنافر والتوافق في آن واحد، إلا أنه أثبت وجوده سابقا في المواجهة المشتركة الطويلة لنظام صدام وغيره من المواجهات الإقليمية. فالدولتان تفرقهما الأيديولوجية (التوجه العلماني لسوريا ” ومعارضة الإسلام السياسي المتمثل في التيار الإسلامي الإخواني” والتوجه الثيوقراطي الإسلامي بامتياز لإيران)، ومع ذلك صمدت هذه العلاقات وتعايشت مع المتناقضات، لأنها تحقق مصالح حيوية هامة للجانبين. وقد سبق لـ”شمخاني” – وزير الدفاع الإيراني في (27/2/2004) أن وصف العلاقة مع سوريا بأنها تمثل عمقا استراتيجيا لبلاده وأنها جزء من الأمن القومي للجمهورية الإيرانية الإسلامية في المنطقة.

والتدخل العسكري الإيراني في الأزمة السورية الراهنة جاء عبر استدعاء سوري رسمي، وهو الأمر الذي تدافع به كل من إيران وروسيا عن الوجود الإيراني في مواجهة المطالب الإسرائيلية والأمريكية بخروج إيران من سوريا ” فالوجود العسكري الإيراني في سوريا تم بناء على طلب من الحكومة السورية وهو لذلك وجود شرعي” على العكس من الوجود الأمريكي نفسه الذي تطالب سوريا بضرورة خروجه”([17])، وقد تم التوقيع على “اتفاق استراتيجي طويل الأمد” بين إسرائيل وسوريا. وهذا التحول فرضته تداعيات الأزمة السورية التي كادت تُسقط النظام السوري نفسه.

وإذا تعمقنا في دوافع ترامب الأساسية في تصعيد الموقف مع إيران، نجد أن وراءه رغبة إسرائيل في إنهاء الوجود الإيراني بسوريا، ومن هنا جاء سعي ترامب لإبقاء إيران في وضع الخصم المعزول بشكل دائم، والسعي لإزاحتها من سوريا. وإيران هي إحدى القوتين الداعمتين للنظام السوري، وإيران تعتبر سوريا خط الدفاع الأول عنها، وكل من إيران وروسيا تنسب لنفسها أنها حالت دون سقوطه. وبطبيعة الحال فإن تحقق انسحاب إيران فإن ذلك سيؤثر بالضرورة على بنية علاقات القوى في الساحة السورية.

وإيران ليست ضحية بريئة، فمنذ 1979 والسياسة الداخلية في طهران، هي التي تشكل سياسة إيران الخارجية، وهيمنت الأجنحة المتطرفة على محتواها وتحكمت في توجهاتها سواء بالتدخل في الشئون الداخلية لدول الجوار وزعزعة الاستقرار بها أو اتباع سياسة التحريض الطائفي وغير ذلك وبالمقابل نجد أن اليمين المتطرف في إسرائيل وراء الدفع بالملف الإيراني إلى حافة الهاوية. والسعي لإحداث تقارب إيراني خليجي يراعي مبادئ حسن الجوار مهما تحدثنا عن أهميته وضروراته فإن احتمال تحقيقه، سيظل للأسف – ولأمد غير قصير- محكوما بسقف أمريكي طاغٍ، ومطامع إسرائيلية جامحة.

نخلص مما تقدم أن المستهدف الأول في سوريا، في إطار الأزمة الإيرانية الأمريكية الراهنة هو الوجود الإيراني المتجذر في الكيان السوري. وتوازن القوى السائد حاليا في سوريا توازن حرج وهش ويتأثر بأقل تغير في مكوناته، وإذا انسحبت إيران فإن النظام السوري سيصبح مكشوفا عسكريا وماليا، ما لم يتمكن هذا النظام من تعويض الفراغ – الناجم عن ذلك من مصادر أخرى، وهو أمر يبدو صعبا، لاسيما في المدى المتوسط. وفي حالة انسحاب إيران من سوريا، في إطار سياسي أو اضطراري نتيجة مواجهة أمريكية إيرانية، فإن ذلك سيكون بمثابة دعوة مفتوحة لإسرائيل لمزيد من التغلغل في الجغرافية السورية، بل في الجغرافية العربية المجاورة وتنفيذ باقي مخططاتها، لا سيما وأن الموقف الروسي لا يتوقع أنه سيواجه الموقف الإسرائيلي بشكل حازم، وأن سوريا ستدفع في النهاية ثمن تبادل المصالح والتوافق بين واشنطن وموسكو التي تلتقي في النهاية حول تعزيز أمن إسرائيل.

ثالثاً: ما وراء إعلان الرئيس ترامب عن نيته سحب القوات الأمريكية من سوريا ثم تراجعه عن ذلك

أثار إعلان ترامب عن نيته سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سورية في مارس 2018، وجاءت ردود الفعل في أغلبها محذرة من مغبة ذلك، وأنه قد يؤدي إلى انهيار الوضع الأمني في سوريا ويعزز وضع إيران إذا ما تم دون الأخذ في الاعتبار ما ينجم عن ذلك من صراع بين القوى المتنافسة لملء الفراغ الناشئ عنه ، لا سيما بين وحدات حماية الشعب الكردية التي تطالب بمنحها قدرا أكبر من الحكم الذاتي واحتمال مواجهة موقف تركيا التي كانت تستعد للتدخل ضد مواقع وحدات حماية الشعب الكردية التي تدعي أنه يمثل خطرا على أمنها القومي!!؟

وبطبيعة الحال فإن لإسرائيل وإيران وروسيا لكل منها تقييم مختلف عن تداعيات مثل هذا الانسحاب على مصالحها ومشاريعها الإقليمية في سورية.

وكان قرار ترامب في هذا الشأن مفاجئا حتى لبعض أعضاء إدارته وحلفائه والذي علل اتخاذه بأنه حان وقت عودة الجنود الأمريكيين إلى أرض الوطن، وقوله ” إن الدول العظمى لا تحارب الحروب إلى ما لا نهاية لها”، الأمر الذي دفع وزير الدفاع الأمريكي “جيمس ماتيس” وآخرين إلى الاستقالة احتجاجا على هذا القرار “المرتجل” وملابسات اتخاذه، واتهمه أعضاء من حزبه بأنه سيسبب أضرارا بالأمن القومي الأمريكي، وسيتيح الفرصة لإيران وتركيا المزيد من الهيمنة”.

وقد أثار قرار الانسحاب من سورية – على هذا النحو – تساؤلات حول حجم الوجود الأمريكي فيها، وتبين أنه أكبر حجما وأكثر انتشارا مما كان يعتقده البعض. فهذا الوجود يتمثل في قرابة (2000) جندي منتشرين في عدد من القواعد أهمها:

  • مطار الرميلان الواقع في محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا، قرب الحدود مع العراق، ويوجد فيها العديد من آبار النفط، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (ق.س.د).
  • ‌ب-   منطقة عين العرب (كوباني) على الحدود العراقية المشتركة مع تركيا وسوريا.
  • ‌ج-    قاعدة الشدادي الواقعة بين محافظتي الرقة ودير الزور، وتضم قاعدة للطيران المروحي، ومنشآت تدريب عسكرية.
  • ‌د-      قاعدة تل البيدر والمبروكة في الحسكة، القريبة من القامشلي. هـ- قاعدة في حقل عمر النفطي في دير الزور.

و- قاعدة الزكف في التنف السورية، وهي قريبة من قاعدة التنف على المثلث العراقي – السوري – الأردني المشترك.

ز- قاعدة في تل أبيض في محافظة الرقة.

ح- كما توجد قاعدة للقوات الأمريكية تسمى (صنديد) تقع في منطقة عشائر شمر في الجانب السوري، حيث يزيد عدد الجنود الأمريكيين الموجودين فيها على (500) جندي.

ط- وتوجد القوات الأمريكية والتنظيمات المتحالفة معها في مناطق شرق الفرات، والتي تشكل ثلث مساحة سوريا، وتضم (80%) من صادرات النفط والغاز السوريين، ولها حدود مشتركة مع العراق تصل إلى مسافة (350) كيلو مترا تقريبا، وتمتد من منطقة القائم غرب العراق، إلى الحدود العراقية – التركية – السورية وهذا يوضح أهمية هذه المناطق اقتصاديا وعسكريا وأمنيا.([18])

وبالنسبة لروسيا، لاشك أن الانسحاب الأمريكي – لو تحقق- سيصب في مصلحتها، وسيزيد من القدرة الروسية على السيطرة على المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة الأمريكية أو سيطرة حلفاء واشنطن وخاصة قوات سوريا الديموقراطية. كما سيفيد حلفاء النظام السوري، وفي مقدمتهم إيران فالانسحاب الأمريكي سيزيل عقبة هامة أمام المخططات الإيرانية لاسيما في المناطق الاستراتيجية التي ستنسحب منها الولايات المتحدة.

ومن هنا فإن الانسحاب الأمريكي لو تحقق، ستقوم قوة أو أكثر بملء هذا الفراغ إن صراعا أو اتفاقا. ويمكن حصر هذه القوى في تركيا وروسيا وإيران والدولة السورية([19])، يضاف إليهم إسرائيل التي لن تقف مكتوفة الأيدي.

فالبنسبة لتركيا فهي قدرت مبدئيا أن هذا الموقف سيطلق يدها لمقاتلة الأكراد في هذه المنطقة، لا سيما وأن ترامب داعب أحلام رجب طيب أردوغان تليفونيا بقوله” إن سوريا لك” غير أن الأمور لم تسر في الواقع وفقا لذلك، بل تلقى تحذيرات من الرئيس الأمريكي من مغبة القيام بأي عمل من شأنه تهديد أمن المنطقة الكردية، فقوات سوريا الديموقراطية هي التي واجهت بقايا داعش في مناطقها وقضت عليها، بفضل تمويل الولايات المتحدة هذه القوات بالمال والسلاح والتدريب، وهي تمثل الحليف الرئيسي للولايات المتحدة في مناطقها، فإذا انسحبت واشنطن منها، ستجد هذه القوات نفسها في مواجهة تركيا وستبقى تحت رحمتها.

وبالنسبة لإسرائيل أثار هذا القرار قلقها البالغ وادعاءها أن غياب القوات الأمريكية سيؤدي إلى تعرضها لمخاطر على أمنها وأنه سيضعف جهودها لوقف التمدد الإيراني في سوريا، قرب الحدود الإسرائيلية. فالتواجد الإيراني تعتبره خطرا رئيسا يهدد وجودها وأمنها.

وبالنسبة لسوريا فإن نظامها انتابه شعور مزدوج من الحذر والارتياح، لأنه سيتأثر سلبا عليها في حالة استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران ، وسيقلل من حجم دعمها للنظام السوري في وقت مازالت العقوبات مطبقة على سوريا.

وفي الواقع فنحن نعتقد في صحة فرضية أنه كلما قل عدد الداخلين والفاعلين في نزاع إقليمي بحجم النزاع الدائر على الأرض السورية، كلما تزايدت فرص احتمالات التوصل إلى حلول للخروج من المأزق الحالي. فالنزاع الدائر في سوريا حاليا أصبح دوليا وإقليميا، يضاف إليه أن سوريا أصبحت ساحة مفتوحة أمام العديد من التنظيمات التكفيرية، كما يُصعب من احتمالية التوصل لصيغة توافقية بين كل هذه الأطراف ذات الأهداف المتعارضة. ولذا نظن أنه كلما تناقص عدد المنغمسين في هذا الصراع كلما ساعد ذلك على إيجاد مخرج له، لاسيما لو أن الأطراف المنسحبة كانت بحجم الولايات المتحدة، والتي أعتقد أنها لم تصل بعد إلى قرار حقيقي بالانسحاب. وهنا نتساءل لماذا أثار ترامب زوبعة الانسحاب؟

لقد تباينت الآراء حول هذا القرار. فبعض الخبراء الأمريكيين اعتبره تخبطا في عملية صنع قرارات الأمن القومي وضعف التنسيق بين المعنين به، فضلاً عن أنه يكشف عن عدم اكتراث الرئيس الأمريكي بالحقائق والمعلومات التي ترد إليه من أجهزة الأمن والمخابرات، ويتخذ قراراته بشكل مرتجل وهو على هذا النحو يقوض الأمن القومي بقدر أكبر من أي خصم أجنبي.([20]) ونجد فريقا آخر، يذهب في نفس الاتجاه وإن أضاف أسبابا ومخاوف أخرى إلى حد القول أن هذا القرار لو تم تنفيذه سيمنح روسيا منافس الولايات المتحدة على قيادة النظام الدولي المزيد من التأثير في اتفاقيات التسوية السياسية للأزمة السورية، فضلاً عن تعزيز انتصار النظام السوري وحلفائه وفي مقدمتهم إيران وميلشياتها.([21])

إلا أن فريقا ثالثا من الخبراء يرون في الأساس أن الانخراط الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، يعد أسوأ أخطاء السياسة الخارجية في التاريخ الأمريكي، وأن الرئيس ترامب محق في سحب القوات الأمريكية من سوريا، إلا أن ذلك ليس كارثة، فالأمر لم يكن مكسبا أو خسارة للولايات المتحدة([22]) وأنه حينما تكون الأزمة السورية عبئا على روسيا وإيران بصفة خاصة فإن ذلك أفضل للولايات المتحدة التي تتطلب ظروفها التقليل من التزاماتها الضخمة في منطقة الشرق الأوسط بالأخذ في الاعتبار بالدروس المستفادة من التجربة الأمريكية في العراق، لا سيما وأنه ليس للولايات المتحدة مصالح حيوية في سوريا، فضلاً عن الرأي العام الأمريكي لم يعد يؤيد حربا طويلة ومكلفة في الخارج.

نخلص مما تقدم أنه حتى الآن لم تتضح الرؤية فإعلان ترامب عن عزمه الانسحاب من سورية مازال في حيز النوايا، وعلينا أن نتذكر أن واشنطن ترى أن سياسات سوريا وإيران تمثلان تحديا للسياسة الأمريكية الإسرائيلية، مما يعني أن واشنطن وتل أبيب تعملان على عزلهما عن تفاعلات هذه المنطقة. وتدخلت الولايات على خط الصراع في سوريا ليس بهدف تهدئته وإيجاد الحل المناسب له، وإنما دخلته من أجل تفجيره وإطالة أمده، والعمل على تأمين إسرائيل عن طريق تركيع سوريا وجعل نظامها عاجزا، لأجل غير منظور، عن القيام بدور يهدد أمن إسرائيل أو توسعاتها. ومن هنا نعتقد أن الهدف المرجح لإعلان ترامب عن نيته فتح باب المساومات بجس نبض السوق السياسية لمعرفة ردود أفعال مختلف الأطراف المعنية، والبحث عن أطراف إقليمية مستعدة لتحمل تكاليف تواجد القوات الأمريكية في سوريا، فضلاً عن إطلاق مزيد من الصراع بين القوى الإقليمية والدولية المنغمسة فيه وبالتالي إطالة أمد الصراع، وجعل انفراجه أكثر صعوبة.

رابعاً: حكاية الكيماوي والتواطؤ مع عناصر داعش في سوريا

اتُهم النظام السوري باستخدام غاز السارين ضد الشعب السوري في مدينة “خان شيخون”، ورغم مطالبة الحكومة السورية إيفاد لجنة تحقيق متخصصة لتبحث في هذه الواقعة ومصدرها ومرتكبيها، إلا أن إدارة ترامب لم تنتظر وسارعت بالقيام بغارة صاروخية استهدفت مطار الشعيرات يوم 7/4/2017 ودمرت بعض أركانه.

وفي تقدير البعض فإن هذه العملية كان الهدف منها إظهار حزم إدارة ترامب، وأنها بدأت تغير من سياستها في سوريا بالانخراط المتزايد في الشأن السوري، بالمقارنة بسلوك إدارة أوباما “المتساهلة”، وبالتالي إظهار حزم إدارة ترامب – على حد قولها – التي افتقدت في عهد الإدارة السابقة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أوباما في مقابلة مع “الاتلانتيك” أوضح ما يمكن اعتباره ردا مسبقا على ما قاله ترامب أنه “ليس كافيا أبدا اللجوء إلى العمل العسكري بكل ما يترتب عليه من نتائج قاسية بمجرد إثبات أننا إذا قلنا فعلنا”([23]).

وقد جاءت عملية استهداف مطار الشعيرات بعد معركة الرقة مقابل معركة حلب الروسية بالدرجة الأولى، لإشعار روسيا بأنها ليست اللاعب الوحيد في الساحة السورية كما كانت في جانب منها محاولة لطمس الالتباس الذي كان دائرا وقتها حول قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والاتصالات السرية التي قيل إنها تمت بين بعض رجال ترامب ومسؤولين روس، ووضعها خارج حلقة الشكوك.

إضافة إلى ما تقدم فإن ضرب مطار الشعيرات كان هدفه أيضا إرضاء إسرائيل المطالبة بتصفية المخزون الكيماوي السوري!!، كما اعتبرها أنصار ترامب – على هذا النحو – أنها إيذانا بنهاية المرحلة السياسية الأمريكية المتكفئة والمترددة التي اتبعتها إدارة أوباما. وفي النهاية فإن ضرب مطار الشعيرات كان رسالة تحذير لكل من إيران وسوريا، بأن تكرار استخدام الكيماوي لن يمر دون عقاب. ويلاحظ أن عملية ضرب مطار الشعيرات شاركت فيها كل من بريطانيا وفرنسا، بهدف إضفاء طابع أطلنطي عليها وبالتالي توسيع نطاق الاتهام الدولي للنظام السوري.([24])

كما اتسمت عملية قصف قاعدة الشعيرات باستعراض قدرات الولايات المتحدة العسكرية، للحصول على “صفقات أفضل” في السوق الدولي للسلاح، بزيادة الطلب على الأدوار الحمائية الأمريكية من خلال تأجيج التهديدات الإقليمية وإبراز كفاءة الوسائل الأمريكية العسكرية لمواجهتها.([25])

واتهام النظام السوري باستخدام الكيماوي يعيد للذاكرة دور عناصر ما كان يطلق عليهم “الخوذ البيضاء”، والتي اعتبرتهم الحكومة السورية المروج الأساسي لكل الاتهامات باستخدامها أسلحة كيماوية وجزءا أصيلا من الجماعات الإرهابية، وهي الاتهامات التي استخدمتها أمريكا وفرنسا وبريطانيا في توجيه ضربات جوية ضد قواعد ومطارات النظام السوري ولتأليب الرأي العام الدولي عليه، وهو ما يفسر مبادرة إسرائيل بتهريب جماعة “الخوذ البيضاء” بعد افتضاح أمرها ومبادرة إسرائيل، بنقلهم جوا إلى الأردن.([26])

وفي مقابل مقولة حزم إدارة ترامب – على النحو السابق – في مواجهة الاستخدام المزعوم للكيماوي ، نجد التواطؤ الأمريكي الفاضح في تهريب الآلاف من عناصر داعش الذين ارتكبوا جرائم حرب ضد الشعب السوري، فلعلنا نتذكر المشهد غير المألوف لقوافل سيارات تويوتا لاند كروز المسلحة رافعة لأعلام “داعش” السوداء والتي دخلت إلى الأراضي السورية والعراقية بسهولة نسبية. وقد كشفت ما وراء هذه الواقعة صحفية بلغارية تدعى “ديليانا جيتانزيفا” تعمل في صحيفة “ترود” في صوفيا، بنشرها تقريرا منفصلاً عن قيام خطوط الطيران سيلكواي “طريق الحرير” المملوكة لدولة أذربيجان بتنفيذ أكثر من 350 طلعة طيران بغطاء دبلوماسي وبإشراف المخابرات المركزية الأمريكية، ونقلت من خلالها عشرات الأطنان من الأسلحة والذخائر للإرهابيين في سوريا والعراق. وهذا التقرير نشر مدعما بالوثائق الرسمية التي تحدد بالضبط أنواع وكميات المقذوفات والأسلحة ومناطق الشحن أيضا.. مناطق التفريغ والأهم.. أسماء الشركات المتعاقدة مع الحكومة الأمريكية للإسهام في تسليح وتدريب الجماعات الإسلامية المسلحة في سوريا، وأبرزها شركة “بربل شوفل” التي كانت تمد الإرهابيين بالقذائف المضادة للدبابات التي تم شراؤها من شركات سلاح بلغارية، عبر وزارة الدفاع الأذربيجانية وتوصيلها إلى قاعدة “إنجرليك” الجوية في تركيا، التي تعد واحدة من أهم مراكز قيادة قوات الناتو والقوات الأمريكية للعمليات السرية في سوريا “الأهرام العربي 28/1/2017”

وهناك عدة مؤشرات تشير لعملية التواطؤ مع تنظيم “داعش” وآخرها المتمثل في مشهد تحرك عشرات الشاحنات يوم 13/11/2017 وهي تنقل – عبر صفقة سياسية – مئات المقاتلين المتطرفين بأسلحتهم ومعداتهم وعائلاتهم من مدينة الرقة، تحت حماية جوية لا تقدر عليها فنيا إلا قوة كبرى!! والسماح لهم بالعبور إلى شمال سوريا، تحت أعين “قوات سوريا الديموقراطية” المتحالفة مع الولايات المتحدة. وقد أشار مصدر روسي إلى أن آليات أمريكية عرقلت الاستهداف الجوي لعناصر التنظيم المتطرف في البوكمال. فقد أصدرت قيادة القوات الروسية في سورية بيانا بتاريخ 14/11/2017، ذكرت فيه “أن الأمريكيين رفضوا في شكل قاطع قصف قوافل “داعش” بدعوى أنهم بصدد تسليم أنفسهم، وبالتالي تنطبق عليهم أحكام “معاهدة جنيف بشأن أسرى الحرب” وخلص البيان إلى أن “هذه الوقائع تثبت بما لا يقبل الجدال أن الولايات المتحدة تتظاهر أمام المجتمع الدولي بخوض حرب حاسمة ضد الإرهاب، لكنها في الحقيقة، تؤمن حماية لفصائل “داعش” المسلحة من أجل إعادة قدرتها على القتال وإعادة تشكيلها واستخدامها لتحقيق مصالح أمريكية في مناطق أخرى في الشرق الأوسط” (الحياة 15/11/2017).([27])

وقد بررت واشنطن – بكل وقاحة – هذا التعامل غير العادي – مع مقاتلي “داعش” الإرهابيين، أنه كان “بهدف تجنب الانتهاكات “التجاوزات” التي شهدتها السنوات الأولى بعد حرب العراق (مارس 2003) وتقليل انتقادات منظمات حقوق الإنسان” (مركز المستقبل للأبحاث – أبوظبي – 19/9/2017م).

ولكن بأي حق يتم السماح للإرهابيين بالفرار ودون عقاب بهذا العدد (قرابة أربعة آلاف)، بعد كل جرائم الحرب التي ارتكبوها ضد الشعب السوري، ألا يعتبر ذلك إخلالا بمبدأ الجريمة والعقاب، ويعطي رسالة خاطئة ومشجعة للتنظيمات الإرهابية، ألا يدل ذلك على أن “داعش” وأخواتها صناعة أطراف إقليمية ودولية متواطئة.

بعض الملاحظات الختامية

  1. رغم انتقادات ترامب المتواصلة لمواقف إدارة أوباما تجاه هذه الأزمة السورية، إلا أنه ظل مع ذلك ملتزما بخطها الرئيسي بالابتعاد عن الانغماس المباشر فيها، فظل التواجد الأمريكي العسكري داخل سوريا محدود العدد واعتمد ترامب أساسا فيه على فئات محلية (الأكراد).
  2. لقد استحقت سياسة ترامب في سوريا وغيرها وصف كتاب في مجلة “فورن بوليسي” لها بعبارة (Passive – aggressive) فهي عدوانية تزيد من اشتعال الصراعات الدائمة التدخل المباشر الذي يتسم بتغيير الاستهدافات والخصوم، لكنها في الوقت نفسه لا تتخذ أي سياسات لمعالجة هذه الصراعات([28])، الأمر الذي دعا البعض إلى وصف مجمل سياسات ترامب بأنها فوضى “غير خلاقة”، إذا ما استعرنا بشكل معكوس ما عُرف باسم سياسات “الفوضى الخلاقة” التي انتهجتها واشنطن في الشرق الأوسط سابقا([29]). وهي سياسة – أيا كان وصفها – تطيل الأزمة السورية وتطيل معها مأساة شعبها ومعاناته.
  3. لقد كانت مختلف الإدارات الأمريكية تمارس الابتزاز الدولي بشكل مستتر، إلا أن إدارة ترامب مارست ذلك علنا وبشكل فج، مما أفقد الولايات المتحدة لمزيد من هيبتها ومصداقيتها دوليا، لا سيما في المنطقة العربية، وبرز خضوعها الكامل للوبي الإسرائيلي، ودفعها لعدم احترام القرارات الدولية والقانون الدولي في موضوعي القدس والجولان، فقدت الولايات المتحدة دورها كوسيط نزيه. الأمر الذي دفع بأستاذين أمريكيين مرموقين امتلكا من الشجاعة الأدبية بقولهما صراحة: “إن الآثار السلبية لنفوذ اللوبي الإسرائيلي أصبح من الصعب إخفاؤها بشكل متزايد…. وأن ما هو مطلوب هو مناقشة صريحة لنفوذ اللوبي ومناقشة مفتوحة عن المصالح الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية، وأن تتحرك الولايات المتحدة إلى موقف أكثر تمشيا مع مصلحتها القومية، وبما يتمشى أيضا مع مصالح دول المنطقة، والمصالح طويلة الأمد لإسرائيل أيضا”.([30]) كما طالب الكاتب الأمريكي “بيتر بينارت” أن تتم مراجعة المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل، والتمييز بين المساعدات التي تقدمها للحفاظ على أمن إسرائيل والمساعدات التي تستخدم للتضييق على الفلسطينيين وسلبهم حقوقهم والعمل على وقف هذه المساعدات فورا([31]).

([1]) د. علي جلال معوض، “التحالفات غير المستقرة: تعقيدات إدارة العلاقات بين الحلفاء على المستويين الإقليمي والدولي “اتجاهات الأحداث، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة أبوظبي، العدد 22 يوليو – أغسطس 2017، ص 11

([2]) بلال عبد الله، “مستقبل الدور الإقليمي السوري، لملف الأهرام الاستراتيجي – العدد182 – فبراير 2010، ص 18”

([3]) يلاحظ أنه طوال عهد حافظ الأسد وبعده بشار حرص النظام السوري على أمن مناطق الحدود الفاصلة بين إسرائيل وسوريا في منطقة الجولان ولم تقع أي حادثة تسلل أمنية خلال هذه الفترة إلى ما قبل الأزمة السورية .

([4]) ورد ذلك في دراسة علي موسى الددا، “إدارة ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط”، المستقبل العربي – مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت، العدد 477 – نوفمبر 2018

([5]) مكرم محمد أحمد “شبعا والضفة بعد الجولان” الأهرام، القاهرة، 31/3/2019

([6]) د. سليمان عبد المنعم، “الأخطر في محاولة شرعنة احتلال الجولان العربية” الأهرام، 30/3/2019

([7]) راجع تفاصيل ذلك في مقال أستاذين أمريكيين مرموقين هما:Professor John Mearsheimer and Stephen Walt on the Israeli Lobby Stirred up a hornet`s nest in Washington and Elswhere: www.irb.co.uk/v28/no6/mea01_html Also, see www.nytimes/2006/04/19/opinion/19judt.html

([8]) من مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط، 6/4/2019ص6

([9]) Dennis Ross and David Makovskys “Golan Policy May Invite Israel`s Right to Annex West Bank Territory: that would spell disaster” Washington Institute for near East Policy 29 March 2019.

([10]) من كتابه “الرواية المفقودة” 2015 ص- 9

([11]) علي موسى الددا، إدارة ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط” المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية العدد 477، نوفمبر 2018

([12]) د. محمد أنيس “ترامب وحساب الصفقات في الشرق الأوسط”، مجلة السياسة الدولية العدد 215 – يناير 2019ص 135 ولعلنا نتذكر قول شمعون بيريز في مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد في مارس 1996 “لقد أصبح للإرهاب عنوانا وهو طهران”

([13]) Barzou Daragahi, fineign policy, june2018 ونشر ترجمة عربية لها في مجلة شئون إيرانية ، العدد رقم 206 – يوليو 2018ص ، ص 12 – 14

([14]) انظر المقالة المطولة التي نشرتها مجلة “ذي اتلانتيك” الأمريكية الصادرة بتاريخ 10/3/2016و المعنونة بـ”عقيدة أوباما”

([15]) انظر تعليق نوران شفيق على ندوة “الاتفاق النووي الإيراني وتداعياته الإقليمية والدولية” كلية الاقتصاد والعلوم السياسية 17/1/2016، والمنشور في مجلة المستقبل العربي العدد رقم 447 مايو 2016 ص 171

([16]) رضا شحاتة، “الرؤية الأمريكية الجديدة للشرق الأوسط وشروطها الغائبة” شئون عربية، العدد رقم   ص 20

([17]) “التغلغل الإيراني في سوريا…واقع ومحاولات هادفة أم محاولات لجر دمشق نحو الصراع الطائفي” مجلة المجلة العدد 1473- 4/10/2008وورد ذلك في محمد السعيد إدريس المرجع السابق بعد الإشارة إليه ص 46 – 47.

([18]) عمرو عبد العاطي “الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط بين مؤيد ومعارض” مجلة السياسة الدولية، العدد 216 – إبريل 2019، ص 282 وما بعدها.

([19]) عصام عاشور: “الرابحون والخاسرون من الانسحاب الأمريكي من سوريا” مجلة شئون عربية العدد رقم 177 ربيع 2019 ص 106

([20]) هذا رأي سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي الأمريكي السابقة في إدارة باراك أوباما، وعبرت عنه في مقال لها بعنوان “التهديد القائم في البيت الأبيض”Susan E.Rice, “The Threat in the White House”, New York Times, 23 December, 2018, http://nyti.ms/2Cyn0AV, (Accessed 18 March, 2019).نقلاً عن مقال: عمرو عبد العاطي، “الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط بين مؤيد ومعارض، مجلة السياسة الدولية العدد 216- إبريل 2019، ص 282 وما بعدها.

([21])Paul Salem ”America`s Mideast retreat” The World Today, February & March 2019 http://bit.ly/2JmeelH4(Accessed 18March, 2019) نقلا عن مقال عمرو عبد العاطي مرجع سبقت الإشارة إليه .

([22])  Aaron Miller and Richard Sokolsky, “5 reasons why Trump Is right about getting America out of Syria”, Los Angeles Times, 3 January 2019, http://lat.ms/2BWDEID(Accessed 18 March, 2019).

([23]) “ذي اتلانتيك، عقب أوباما ص 3، وللمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع انظر مقالتنا: “عقيدة أوباما” ونزع القناع عن توجهات السياسة الأمريكية” شئون عربية – العدد رقم 166 صيف 2016 ص 18- 19

([24]) تعود مشاركة بريطانيا في هذه الضربة إلى أنها كانت تخوض معركة كيماوية وقتها مع روسيا بعد اتهامها بتسميم الجاسوس الروسي سكريبال في أراضيها، كما أن فرنسا كانت تردد عدة مرات بالرد على دمشق في الوقت الذي تختاره.

([25]) د. علي جلال معوض، “التحالفات غير المستقرة … ” مرجع سبقت الإشارة إليه ص 12

([26]) ولعل هذه الواقعة تذكرنا أيضا بادعاء إدارة جورج بوش الابن بحيازة نظام صدام حسين لأسلحة نووية لتبرير حربها على العراق، وتثبت عدم صدقيتها، وكيف أدى هذا الاحتلال والقرارات التي اتخذها إلى خلق حالة من الفوضى، وفراغا في السلطة، جعلت هذا البلد ملاذا آمنا للتنظيمات الإرهابية.

([27]) وانظر أيضا د. عمرو عبد السميع، “الأمريكي الرذيل”، الأهرام 19/12/2017

([28])Brian Katulis and Daniel Benaim, “Trump`s Passive – Aggressive Syria Policy Risks Creating (13) More Mayhem in the Middle East”, Foreign Policy (16 April 2018), http:foreignpolicy.com/2018/04/16/trumps-passive-aggressive-syria-policy-risks-creating-more-mayhem-in-the-middle-east/نقلا عن : حسن أيوب، العدوان الثلاثي على سوريا: من الحرب الباردة إلى حرب ساخنة، المستقبل العربي العدد رقم 476- أكتوبر 2018

([29]) حسن أيوب، المرجع السابق ص 15.

[30] Professor John Mearsheimer and Stephen Walt. مرجع سبقت الإشارة إليه.

([31])Forwordنقلاًعن موقع (https//:bit.Ly2v0panN نقلاً عن صحيفة الشروق بتاريخ 28/5/2019 ص 7. 

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى