منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى السلطة فتحت المواجهة مجدداً على مصراعيها بين الولايات المتحدة وإيران، بعدما كانت قد اتجهت في عهد الرئيس أوباما الى التفاهم والى عقد التسويات خاصة ما تعلق بالبرنامج النووي الإيراني.وربما يفترض القول بشكل أدق ان الرئيس الأميركي، هو الذي فتح هذه المواجهة بعدما بادر الى الإنسحاب من الإتفاق الذي عقدته الدول الكبرى مع إيران ووافقت عليه الأمم المتحدة.
أما إيران من جهتها، وخاصة بالنسبة الى الرئيس روحاني، فكان الرهان على تنفيذ هذا الإتفاق كبيراً لجهة تداعياته الإقتصادية التي ستجذب كبرى الشركات العالمية للإستثمار في السوق الإيراني، وتبعد العقوبات التي أضرت كثيراً بخطط الرئيس الإيراني، الذي كان يطمح الى خفض مستوى البطالة والتضخم، والعودة الى التواصل مع الأسواق المالية العالمية. لذا كان الرئيس الأميركي هو الطرف المباشر في عودة التصعيد الى العلاقات بين البلدين، مفتتحاً عهد المواجهة والعقوبات ضدإيران.
كان من الطبيعي أن يشهد هذا الإنسحاب الأميركي، وعودة العقوبات والتوتر مع إيران تداعيات وردود أفعال مختلفة، داخلية في كلا البلدين، وإقليمية ودولية، لم تكن بمعظمها مؤيدة لخطوة الرئيس الأميركي. لكن هذا التوتر أثار قلقاً عالمياً من انزلاقه نحو مواجهة عسكرية غير متوقعة، في ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من توترات، وما يعيشه العالم من تبدل في مراكز القوة ،ومن غياب للإستقرار وللتفاهمات الدولية. وقد فاقم التوجه الأميركي لمزيد من حصار إيران ومحاولات خنق اقتصادها، ومنعها من تصدير نفطها، تلك المخاوف من اندلاع مواجهة عسكرية بين الطرفين الأميركي والإيراني.
لماذا انسحبت واشنطن من الإتفاق وماذا تريد من إيران؟
يرد وزير الخارجية مايك بومبيو في مقابلة مع شبكةCNN في 24/6/ 2018 بالقول:”أن الإدارة الأميركية تهدف إلى دفع إيران لتتصرَّف كبلدٍ “طبيعي”. وأن أهداف الإدارة الامتناع عن الممارسات الإرهابية، وإطلاق الصواريخ على المطارات الدولية، وأن تكف عن كونها أكبر دولة في العالم راعية للإرهاب، إلى جانب التصرف وفقاً لمتطلباتها النووية”. وأضاف: “ليست هذه الأمور صعبةَ التنفيذ أو تختَص بإيران على وجه التحديد، ولكننا نطلب منهم الالتزام ببعض الأمور التي تضطلع بها بالفعل الدول التي تشكل جزءاً من المجتمع الدولي؛ حتى يتسنى لها إجراء المعاملات التجارية العادية وإقامة علاقات دبلوماسية طبيعية، وكل الأمور التي كانوا يتطلَّعون إلى تحقيقها”.
يتضح من هذه الشروط أن مشكلة الولايات المتحدة مع طهران لا تتعلق أساساً ببرنامجها النووي. فكل تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وكذلك تصريحات قادة الدول الأوروبية، تؤكد التزام ايران التام بالإتفاقية الموقعة. لكن ما يريده الرئيس الأميركي كما جاء في كلام وزير خارجيته، هو التوقف عن دعم حركات المقاومة (دعم الإرهاب) وحركة أنصار الله في اليمن التي أطلقت بعض الصورايخ على مطارات في الرياض والإمارات. أما ما يقصده وزير الخارجية ب”المتطلبات النووية” فهو وقف تخصيب اليورانيوم تماماً كما سبق وأوضح ذلك الوزير بومبيو في الشروط ال12 التي تحدث عنها لعودة التفاوض مع إيران. علماً بأن هذا يخالف في الواقع حق الدول الموقعة على معاهدة عدم انتشار السلاح النووي في امتلاك التقنية النووية للأغراض السلمية. ولكن إذا علمنا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سبق أن طالب المجموعة الدولية بمنع إيران من التخصيب كلياً، وعدم السماح لها حتى بنسبة تخصيب 5 % فسوف نستنتج أن هذا الشرط، هو تحقيق للرغبة الإسرائيلية في وقف إيران التخصيب كلياً.
أما تغيير سياسات إيران الإقليمية، فلا تعني سوى الإنسحاب من سوريا، والتوقف عن دعم أنصار الله في اليمن. وقد بات واضحاً الربط الذي تقوم به اشنطن بين وجود قواتها العسكرية في سوريا وبين وجود القوات الإيرانية هناك، والذي يتماهى مع الإلحاح الإسرائيلي على عدم وجود قوات إيرانية في سوريا.
الخلاصة الواضحة والبسيطة وغير المعقدة، أن الرئيس الأميركي يريد من إيران أن تتخلى طوعاً عن كل ما تمتلكه من أوراق قوة سواءعلى المستوى الدفاعي(الصوارخ الباليستية) أوعلى مستوى دعم حلفائها في المنطقة (في سوريا واليمن والعراق ولبنان)، أو حتى على مستوى تصدير النفط الى الخارج..ثم تأتي بعد ذلك الى التفاوض بدون أي ورقة من أوراق القوة. وإذا لم تفعل إيران ذلك، فإن العقوبات ستستمر ،والضغوط الإقتصادية ستتواصل، والتحريض الداخلي على النظام اقتصادياً واجتماعياً لن يتوقف.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، خاصة لجهة رفع مستوى إنتاج النفط الذي يفترض أن يقوم به الحلفاء (المملكة السعودية) أبدى وزير الطاقة الأميركي، ريك بيري، حماسة لزيادة إنتاج النفط من جانب السعودية وروسيا أكثر مما أقرّه اتفاق «أوبك» الجديد، متحدثاً عن «ثقته» بأن «السعودية ستكون قادرة على زيادة إنتاجها إلى11 مليون برميل يومياً في المستقبل، وأن روسيا ستستطيع زيادة إنتاجها لتنعم سوق الخام العالمية ببعض الاستقرار»، وكذلك لسد «الفجوة» الناجمة عن العقوبات الأميركية على إيران.(الوكالات 29/6/2018)
لم تكن معظم دول العالم متحمسة لهذه الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي، لا بل أعلنت بعض الدول علانية أنها لا تنوي الإلتزام بتلك القرارات، وأنها ستستمر في استيراد النفط وشرائه من إيران. وهذا ما ستعول عليه طهران كثيراً في حملة المواجهة التي ستلجأ اليها للحد من أضرار العقوبات الأميركية، ولمنع الإستفراد بها على الساحة الدولية سياسياً، واقتصادياً وحتى عسكرياً.
العقوبات الأمريكية المفروضة ستطال أمورا عدة، من بينها شراء الأوراق النقدية بالدولار الأمريكي من قبل الحكومة الإيرانية، بالإضافة إلى تجارة الذهب أو المعادن الثمينة، فضلا عن البيع المباشر أو غير المباشر أو العرض أو النقل من وإلى طهران للجرافيت والمعادن الخام أو نصف المصنعة مثل الألمنيوم والفولاذ والفحم. كما ستشمل العقوبات المعاملات الهامة المتعلقة بشراء أو بيع العملة الإيرانية، بالإضافة إلى قطاع السيارات.(CNN بالعربية 6/8/2018)
أما الحزمة الثانية من العقوبات فستكون في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر (2018)، وتستهدف قطاع الطاقة وكل الأنشطة المتعلقة بالنفط وعمليات البنك المركزي الإيراني.(الجزيرة.الوكالات 3/7/2018)
فكيف تعاملت ايران مع هذا الإصرار الأميركي على وقف صادراتها النفطية، وخنق اقتصادها؟
على المستوى النفطي، توجه الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى منطقة بندر عباس، جنوب البلاد، حيث أعلن عن تدشين المرحلة الثانية من مصفاة «نجمة الخليج الفارسي»، الذي يتوقع أن يزيد إنتاج البنزين محلياً من 12 مليون ليتر إلى 24 مليون ليتر يومياً، وكذلك إنتاج السولار من أربعة ملايين ليتر إلى ثمانية ملايين ليتر يومياً. ويُعدّ هذا المشروع من أكبر مصافي المكثفات الغازية في العالم، ويوفر للبلاد منتجات البنزين وغاز النفتا والغاز المسال، وتقول الحكومة الإيرانية إنه يوفر عليها 15 مليون دولار يومياً كانت تذهب إلى الخارج.(رويترز، أف ب 30/6/2018)
أما على مستوى الداخل الإيراني فقد واجه الرئيس روحاني في بداية الأمر انتقادات عدة من التيارالمحافظ الذي اعتبر أن انسحاب ترامب هو انتصار لوجهة نظره التي كانت تقول منذ البداية بعدم جدوى التفاوض مع الولايات المتحدة. لكن هذا الموقف تغير تدريجاً بعدما وقف الأوروبيون ضد قرار ترامب وأعلنوا استعداهم للمضي مع إيران في هذا الإتفاق. لذا لم يستكمل التيار المحافظ ضغوطه على الرئيس الإيراني، بل تحول الموقف الى مطالبة الأوروبيين بتقديم الضمانات والإلتزامات الفعلية باستمرار عمل شركاتهم في إيران، وبضمان استمرار العقود التي وقعوها مع الجانب الإيراني. لذا تراجع التصعيد الداخلي في إيران، ولم تسارع القيادة الإيرانية الى الإنسحاب بدورها من الإتفاق كما سبق وهددت، بل تحول الأمر الى موقف موحد، ضد الرئيس الأميركي من جهة، ومترقب للموقف الأوروبي من جهة ثانية.كما ساهم موقف مرشد الثورة في دعم هذا التوجه، بعدما أكد على طلب الضمانات من الأوروبيين وعلى عدم ترك الأبواب مفتوحة الى ما لا نهاية. أي أن الموقف الداخلي الإيراني انتقل بسرعة من المواجهة الداخلية،الى الوحدة في مواجهة سياسات ترامب وعقوباته، خاصة مع التراجع الكبير الذي أصاب العملة الإيرانية وكان ذلك مثابة إنذار قوي بخطورة ما فعله الرئيس الأميركي.
وفي 6آب/أغسطس 2018 دخلت كما كان متوقعاً، أول دفعة من العقوبات الأميركية حيّز التنفيذ، استبقتها الحكومة الإيرانية بإعلان خطة جديدة لقواعد الصرف المالي الأجنبي. وبموجب الخطة، يلغى الحظر على مكاتب الصرافة لبيع العملة الصعبة بالأسعار الحرة لأغراض مثل السفر. كذلك تسمح الخطة للمصدرين ببيع العملة الصعبة إلى المستوردين، مع عدم وضع سقف لتدفقات العملة أو الذهب الداخلة إلى إيران. في الأثناء، أعلن القضاء الإيراني اعتقال مساعد البنك المركزي لشؤون العملات، إلى جانب أحد الصرافين وأربعة من السماسرة.(الأخبار 6/8/2018)
على المستوى الإقتصادي، لجأت حكومة الرئيس روحاني بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي والتهديد بفرض عقوبات جديدة، الى سياسة الاحتفاظ بما تملكه من العملة الصعبة (أكثر من 132 مليار دولار، حسب تقرير شبكة الاستخبارات الأميركية) للأيام الصعبة وخفض مصاريفها في الميزانية عبر رفع سعر العملة الصعبة التي تشكل مدخولها الأصلي، وتخفيف نسبة استيراد البضائع بسبب ارتفاع سعر البضائع الأجنبية داخليًّا؛ الأمر الذي قد يؤثر على عودة عجلة الصناعة الداخلية للدوران.
وبحسب بعض الخبراء الاقتصاديين، كان يجب على الحكومة في الوقت نفسه، أن تقوم بمنع تصدير البضائع المنتجة داخليًّا لإيجاد نوع من التوازن في الأسواق، وأن تأخرها في اتخاذ مثل هذا القرار؛ أدى إلى ارتفاع كبير في أسعار البضائع المنتجة داخليًّا أيضًا وإضعاف القدرة الشرائية للمواطن الإيراني، والذي أدى بدوره إلى حصول غضب ونقمة كبيرة في داخل البلاد من قرارات الحكومة.
وشددت الحكومة الإيرانية، على لسان المتحدث باسمها محمد باقر نوبخت، على ضرورة ضمان استمرار بيع النفط، إلى جانب قضايا النظام المصرفي وقطاع التأمين والبتروكيماويات والملاحة. واستبعد نوبخت نجاح الولايات المتحدة في تصفير الصادرات النفطية الإيرانية، وفق تقديرات للحكومة الإيرانية كررها، نائب الرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، الذي وصف مخطط واشنطن لتصفير التوريد بـ”الوهم” ، مؤكداً إمكان استحداث «أساليب لبيع نفطنا». وشدد نوبخت، على ضرورة أن تشمل الضمانات الأوروبية تسهيل عملية بيع النفط الإيراني ومنح إيران ضمانات في هذا الشأن. ورأى أن ترامب، وضمن مساعيه في حث الدول على مسايرة نهجه ضد إيران، واجه عدم اكتراث من قِبَل هذه الدول. مشيراً إلى أن بلاده حصلت على تأكيد روسي في شأن الاستثمار في البنى التحتية الإيرانية ذات الصلة بالمشاريع السككية والحقول النفطية وزيادة منسوب الحوافز للإبقاء على الاتفاق النووي. وأوضح نوبخت أن مشاريع القوانين المعروضة على البرلمان الإيراني، المتصلة بمكافحة عمليات غسيل الأموال، تمنع في حال إقرارها ذرائع استهداف النظام المصرفي الإيراني، وتسد الطريق أمام أي استغلال اقتصادي. ( مركز الجزيرة للدراسات 01 تموز/ يوليو, 2018)
لم تقف إيران لوحدها في مواجهة سياسات ترامب العدائية والتصعيدية، من الإنسحاب من الإتفاق النووي الى فرض العقوبات النفطية والمالية والتجارية. فقد كان لدول كبيرة ومهمة، وحتى حليفة لواشنطن، مواقف مماثلة ضد هذه القرارات، ساهمت في دعم الموقف الإيراني من جهة ، وفي عزلة مواقف الرئيس الأميركي من جهة ثانية.
فقد رفضت كل من تركيا وروسيا والصين والهند، قرارات ترامب، وشجعت إيران على عدم الإنسحاب من الإتفاق، لأن مثل هذا الإنسحاب لو حصل سينزع تلك الورقة من يد الأوروبيين،الذين يدافعون عنها ويتمسكون بها، كما سيجعل مواقف الدول المؤيدة للإتفاق ضعيفة في الرد على قرار ترامب.
وإلى جانب رفض فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا القرار الأميركي ، حظيت طهران بتضامن الجار التركي الذي رأى أن “قرار ترامب سيزعزع الاستقرار ويخلق صراعات جديدة”، فيما اعتبرت موسكو أن القرار “لا علاقة له بالنووي الإيراني، بل بتصفية حسابات سياسية مع طهران”، مؤكدة أنها “ستواصل تطوير علاقاتها مع إيران”.
وفي موقف لافت، قال وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي،في 27 /6/ 2018 ، إن بلاده تركيا لا تعتبر نفسها ملزمة بالامتثال لمساعي الولايات المتحدة لوقف صادرات النفط الإيرانية بدءاً من تشرين الثاني 2018، وإنها ستعمل على ضمان عدم تضرر “البلد الشقيق” من هذه الخطوة الأميركية، حسبما نقلت عنه وكالة رويترز. وأضاف: “القرارات التي تتخذها الولايات المتحدة ليست ملزمة لنا. سنلتزم )فقط( بأي قرارات تتخذها الأمم المتحدة”. وتابع:”سنحاول الاهتمام بالأمر بحيث لا تتعرض إيران، وهي بلد صديق وشقيق، لأي ظلم أو أذى في هذا الشأن”.
لم تكتف إيران
باتخاذ اجراءات داخلية اقتصادية ومالية ونفطية للحد من تأثير العقوبات التي تجددت. بل عمدت في الوقت نفسه الى العمل على المستوى الخارجي
ديبلوماسياً واقتصادياً لتوسيع جبهة الحلفاء الذين سيقفون الى جانبها مع استمرار المواجهة مع الولايات
المتحدة، ومع احتمال انتقال هذه المواجهة الى التصعيد العسكري. وقد زار في هذا
الإطار مرشد الثورة علي أكبر ولايتي، روسيا، والتقى الرئيس بوتين. وقد اعتبر
ولايتي أن هذه الزيارة تأتي:”في إطار الرد الإستراتيجي من خلال تشكيل جبهة
دولية إقليمية لمواجهة تهديديات ترامب الإقتصادية والعسكرية(الوكالات
13/7/2018)
وقال
ولايتي عقب اللقاء إن «العلاقات بين إيران وروسيا قد ترسخت،
وستشهد المزيد من التطور مستقبلاً أيضاً». وقد استعرض بوتين أمام الضيف الإيراني إحصائيات
تقول إن التعاون في مجال النفط يمكن رفعه «إلى
50 مليار دولار» على
شكل استثمارات روسية جديدة، وهو رقم اعتبر المسؤول الإيراني أن بإمكانه «تعويض
نشاط الشركات التي غادرت البلاد (هرباً من
العقوبات الأميركية).
كما نقل الموفد
الإيراني عن مرشد الثورة، إشادته بالعلاقات مع روسيا، وتحسنها «باعتبارها
شريكاً استراتيجياً»، وتطلعه إلى استمرار هذا المسار.
استمرت
إيران في عملية حشد الأصدقاء والحلفاء الإقليميين والدوليين. بدورها واشنطن عدمت
الى مثل هذا التحشيد، بعدما جدد وزير
الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، دعوته حلفاء الولايات المتحدة إلى الانضمام إلى
حملة الضغوط الاقتصادية على إيران. وفق
منظور الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فإن المسار المتبع يؤتي ثماره، و«إيران
تتعامل مع الولايات المتحدة بقدر أكبر بكثير من الاحترام مما كانت عليه الحال في
السابق». ترامب رأى، على هامش مشاركته في قمة «الناتو» في
بروكسيل، أن استمرار هذه الضغوط سيجبر طهران «على
السعي لاتفاق أمني مع واشنطن». وبدا
الرئيس الأميركي في غاية التفاؤل بنجاح خطته حين قال للصحافيين: «أعلم
أن لديهم الكثير من المشاكل، وأن اقتصادهم ينهار. لكن
سأقول لكم هذا: في مرحلة ما سيتصلون بي وسيقولون: فلنبرم
اتفاقاً. إنهم يشعرون بألم كبير الآن!”.
هل ستستجيب طهران لهذه التوقعات الأميركية وتعود الى التفاوض مجدداً، بسبب حرصها على أوضاعها الإقتصادية، وعدم انزلاق الأمور الى المواجهة العسكرية كما يتوقع ترامب؟
رفضت إيران بشكل واضح التفاوض الذي ألمحت اليه الولايات المتحدة، بعدما عرضت شروطها للعودة الى الإتفاق مع إيران حول برنامجها النووي، وقال المرشد “أننا لا نثق بالولايات المتحدة التي نقضت إتفاقاً دولياً. وحسم المرشد الأمر بالقول:”أنا أمنع التفاوض مع الولايات المتحدة”.
كما عمدت إيران الى إطلاق التهديدات بأنها ستمنع أي طرف من تصدير نفطه إذامنعت هي من ذلك. وهذا ما قاله الرئيس روحاني نفسه, وكذلك قادة الحرس الثوري. ما زاد من المخاوف من اندلاع مواجهة عسكرية بسبب هذه المواقف الإيرانية وتهديداتها بإقفال مضيق هرمز بوابة عبور النفط الى العالم.
كان العالم كله يريد أن يمنع مثل هذه المواجهة التي قد تشعل حريقاً يتجاوز منطقة الشرق الأوسط ، ويصعب السيطرة عليه. وحدها اسرائيل كانت تشجع ترامب على المضي في عقوباته، وعلى تأييد انسحابه من الإتفاق النووي مع إيران، أملاً في في إسقاط النظام في إيران.. فقد “ثمن عالياً” رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. في حين اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي، “إعلان ترامب شجاع وقيادته ستسقط النظام الإيراني”.
كانت اسرائيل تريد أن تتدحرج المواجهة الإقتصادية والسياسية الى الإنقلاب على النظام في الداخل الإيراني، أو الى الصدام العسكري الأميركي ــ الإيراني. (الجزيرة 6/8/2018)
الى أين ستؤدي هذه المواجهة.؟
تخشى بعض التحليلات من تبعات “حرب باردة” بين الولايات المتحدة وإيران، قد تتحول الى حرب ساخنةو مشتعلة، مع توجه الرئيس الأميركي لفرض حظر كامل على صادرات النفط الإيرانية. خاصة وأن مضيق هرمز يمكن أن يصبح نقطة مواجهة، بعدما أجرت طهران مناورات عسكرية في المنطقة في شهر آب/أغسطس 2018، وتعرضت منشآت أمريكية في العراق إلى هجمات بالصواريخ في البصرة وبغداد. وتؤكد هذه التحليلات أن هجمات إيران بالصواريخ على مواقع تنظيم “داعش” لم تكن مجرد عملية لمكافحة “الإرهاب”، وإنما كانت تنبيهاً لإسرائيل وأمريكا بأن طهران مستعدة للهجوم من الجو.
هل ستشتعل الحرب بين طهران وواشنطن مع التهديدات الإيرانية بإغلاق مضيق
هرمز وقصف القواعد الأميركية في الخليج؟ أم سيعود الطرفان الى التفاوض مجدداً
وتكون الملفات الإقليمية والتفاهمات حولها على
جدول أعمال المفاوضات؟ أم سيبقى التوتر قائماً وستستمر المواجهات بالوكالة
في أكثر من نقطة من النقاط المشتعلة في الإقليم؟
لا يمكن أن نفصل المواجهة الأميركية
الإيرانية عن المستويين الإقليمي والدولي. فعلى المستوى الإقليمي حققت
إيران تقدماً ملحوظاً مع حلفائها في سوريا والعراق ولبنان واليمن. وهذه
هي”الجبهات” التي حاولت فيها الولايات المتحدة إسقاط حلفاء إيران،
وتوريطها واستنزافها.لكن نتيجة ذلك كله لم يكن في مصلحة واشنطن التي يتهمها الكثير من الباحثين الأميركيين
بالإرتباك وعدم الوضوح في سياستها الإقليمية، وبالعجز والضعف أمام روسيا. لذا لا
يمكن لطهران أن تتراجع سياسياً ،أو أن تقبل بشروط جديدة للتفاوض وهي التي حققت
تقدماً ميدانياً على واشنطن لا يمكن إنكاره. وبما أن الشرق الأوسط يعيش مرحلة انتقالية من التحولات التي باتت موازين القوى فيها تميل لمصلحة
ايران وروسيا وحلفائهما، كما باتت تركيا نفسها أكثر توتراً في علاقتها مع
“حليفتها” واشنطن، فإن من المرجح أن تكون سياسة إيران هي التشدد وعدم
التراجع أمام شروط واشنطن.
أما على الصعيد الدولي فإن سياسة ترامب أربكت جميع حلفائه. ونشهد اليوم المزيد من تمتين التعاون الدولي بين خصوم الولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً وتجارياً. ولذا لن يجد ترامب من يقف الى جانبه في أي قرار بشن الحرب على إيران. في الوقت الذي وقفت فيه دول العالم الكبرى ضده بعد انسحابه من الإتفاق النووي .
ما يمكن استخلاصة أن إيران لن تعود الى التفاوض، وستبقى تهديداتها دفاعية. وأن ترامب لن يقدم على شن حرب قد تشعل الشرق الأوسط برمته، في الوقت الذي تزداد فيه صعوباته الداخلية، وتتبدل فيه رياح التفاهمات الدولية، فتقترب الصين من اليابان، وتتفاهم الكوريتان، وتبتعد أوروبا عن سياسات ترامب، بحيث سيكون الرئيس الأميركي وحيداً ومن دون حلفاء إذا قرر شن حرب ضد إيران.
أما الرهان على التغيير من داخل إيران فلا حظوظ واقعية له، خاصة بعد الوحدة التي حصلت بين التيارات السياسية في ايران في مواجهة العقوبات.. لذا إن أقصى ما يمكن أن يذهب اليه الرئيس الأميركي، هو أن يستمر في ممارسة الضغوط الإقتصادية والسياسية على إيران وحلفائها، لكنه لن يحقق بذلك أي تغيير في سلوك إيران وفي سياستها الخارجية. وما يمكن أن تجنيه تلك العقوبات، فهو المزيد من الصعوبات الداخلية للشعب الإيراني، والمزيد من التوتر والقلق بين بلدان المنطقة، ومن تأخير الحلول السياسية في المناطق المشتعلة، في اليمن وسوريا والعراق وحتى في فلسطين، وبحيث تستمر في المرحلة المقبلة حالة القلق وعدم الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط.