مقدمة:
في أبريل 2021، بدأت مفاوضات فيينا لاستعادة الامتثال المتبادل للاتفاق النووي الموقع في 14 يوليو 2015، أو ما يعرف بـــ “خطة العمل المشتركة الشاملة”، بين (إيران والدول النووية الخمسة الأعضاء الدائمة في مجلس الأمن، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي)، وهو الاتفاق الذي انسحبت منه الإدارة الأمريكية السابقة في مايو 2018، وقد عقدت جولات ستة حتى يونيو الماضي قبل توقفها؛ بسبب الانتخابات في إيران وتشكيل حكومة جديدة برئاسة إبراهيم رئيسي، واستؤنفت في 29 نوفمبر الماضي؛ حيث عُقدت ثماني جولات حتى فبراير 2022. وقد تفاوضت إيران والولايات المتحدة عبر وسطاء أوروبيين بِناءً على طلب إيران، التي أبدت عدم استعدادها للاجتماع بواشنطن مباشرة بدعوى أنها انسحبت من الاتفاق من جانب واحد. ونقلًا عن تصريحات للوسطاء، طرح الوفد الإيراني سلسلة من المطالب فيما يتعلق ببرنامجه النووي والرفع الكامل للعقوبات؛ اتساقًا مع خطاب الرئيس الجديد المحافظ “إبراهيم رئيسي”، الذي ذكر في حفل تنصيبه في 5 أغسطس 2021: “يجب رفع جميع العقوبات الأمريكية غير القانونية المفروضة على الأمة الإيرانية”. وعكست تصريحات رئيسي حول الاقتصاد مفهوم “اقتصاد المقاومة”، الذي دافع عنه “آية الله خامنئي” المرشد الأعلى، وهو المفهوم الذي يسعى إلى تعزيز القدرات المحلية بدلًا من التركيز على الغرب؛ لتلبية الاحتياجات التكنولوجية والاستثمارية للبلاد.
وقد صدر عن أطراف التفاوض تصريحات متضاربة بشأن ما آلت إليه المفاوضات، وإن كانت أغلب التقديرات قد أشارت إلى قرب التوصل إلى صيغة توافقية قريبة من اتفاق عام 2015.
وبالتزامن مع المفاوضات، صعَّدت إيران من أنشطتها العدوانية في المنطقة مستخدمة وكلاءها المسلحين في بعض الدول ضمن أدواتها للضغط، سواء في المفاوضات أو محادثاتها مع السعودية بوساطة عراقية لتهدئة التوتر بين البلدين. في الوقت ذاته تسعى طهران إلى توثيق العلاقات مع موسكو وبكين، أو هكذا يبدو في سيناريو قد يكون بديلًا لمواجهة العقوبات الأمريكية بغض النظر عن نتائج المفاوضات، وعلى حين استمرت إسرائيل على رفضها المطلق لأي صفقة نووية مع إيران، عبَّرت دول الخليج العربية عن دعمها للمفاوضات على آمل أن تؤدي إلى نتائج تنعكس إيجابًا على السلوك الإيراني في المنطقة وفتح الباب أمام بعض التسويات الإقليمية في مقدمتها ممارسة إيران ضغوطًا على الحوثيين لوقف التصعيد والقبول بحل سياسي، وإمكانية انسحاب ذلك على الوضع الداخلي في العراق، وعلى تسهيل ولادة الحكومة الجديدة، ووقف هجمات فصائل عراقية مدعومة من إيران على المصالح الأمريكية.
أولًا: استراتيجية حكومة رئيسي في مفاوضات فيينا:
ينتمي الرئيس الإيراني “إبراهيم رئيسي” إلى التيار المحافظ بقيادة المرشد الأعلى، والذي يقود ما يسمى بمؤسسات الدولة الموازية التي تجسد نفوذ رجال الدين في إيران. وفي هذا السياق، يؤكد الخبراء أن إحدى أولويات رئيسي هي تشديد سيطرة المرشد الأعلى على الأجهزة الإدارية للحكومة، وإعادة تشكيل السياسة والمجتمع الإيراني بطرق من شأنها توسيع سيطرة “الحرس الثوري” على اقتصاد البلاد، والمزيد من تقليص الحريات السياسية مع إظهار مساحة محدودة من التسامح بشأن القضايا الدينية والاجتماعية، كذلك سيسعى رئيسي إلى استنهاض القومية الإيرانية لتوسيع قاعدته الشعبية محليًّا مع الاعتماد على الأيديولوجية الشيعية وتعميق معاداة الولايات المتحدة مستغلًا مسألة انسحابها من اتفاق 2015 من جانب واحد؛ لإبراز نفوذ إيران الإقليمي.
وقد أفادت تقارير أوروبية عديدة، حيث يقوم الأوروبيون بدور الوسيط بين (واشنطن وطهران)_ أنه بالرغم من تأكيدات الجانب الإيراني اهتمامه بالعودة إلى الاتفاق، إلا أن طهران تركز في مفاوضاتها على ضرورة الإزالة الكاملة للعقوبات، بما في ذلك التي لا ترتبط مباشرة بالقضية النووية، كما تطالب بتقديم ضمانات أمريكية بعدم الانسحاب مطلقًا من أي اتفاق جديد محتمل، وهو أمر يدرك الإيرانيون استحالة الاستجابة إليه بحكم طبيعة النظام السياسي الأمريكي والانقسام الداخلي حول الاتفاق نفسه.
ووفقًا لتقديرات عديدة، تستفيد طهران من الإبقاء على المفاوضات حيَّة، حتى لو لم تحرز تقدمًا حقيقيًّا؛ لأن ذلك يخفف الضغط الدولي والمحلي ويوفر لإيران درعًا ضد الهجمات العسكرية المحتملة من إسرائيل وربما الولايات المتحدة، وقد أكدت القيادة الإيرانية الجديدة أنها ليست قلقة بشأن انهيار المفاوضات، واعتمد رئيسي موازنة العام المالي 2022 / 2023، على افتراض استمرار العقوبات. وبطبيعة الحال، فإن بطء وتيرة التفاوض يمثل معضلة كبيرة للأطراف الغربية؛ لأن البرنامج النووي الإيراني يتقدم بسرعة.
وتبدو حكومة رئيسي، وبدعم مطلق من “الحرس الثوري”_ مصممة على مواجهة ما تعتبره تهديدًا وجوديًّا للنظام من الولايات المتحدة وإسرائيل، وقد تقدم الحكومة على تنازلات في الملف النووي بهدف التخفيف من الأزمات الاقتصادية والبيئية المتصاعدة في الداخل الإيراني، إلا أن فريق السياسة الخارجية للرئيس الإيراني لن يتبع نهج الرؤساء السابقين الذين سعوا إلى التقارب مع الغرب، وبدلًا من ذلك سيسعى إلى إقامة تحالفات إستراتيجية مع الصين وروسيا، وستحظى منطقة الشرق الأوسط بالأولوية في هذه السياسة؛ حيث أكد وزير الخارجية “حسين أمير عبداللهيان” ذو الخبرة الطويلة في الجوار العربي الإيراني أن بلاده تتبع “سياسة خارجية متوازنة تولي أولوية لعلاقات جيدة مع الجيران والدول الآسيوية لأن القرن الحادي والعشرين ينتمي إلى آسيا”.
والخلاصة هنا، هي أن هناك تقديرات عديدة تشير إلى أن إبراهيم رئيسي- على خلاف من سبقه من الرؤساء الذين اعتقدوا أن أفضل طريقة لأمن وازدهار إيران هي جعلها جزءًا من الاقتصاد العالمي- مقتنع بأن إيران القوية التي تتمتع بنفوذ إقليمي بلا منازع، هي التي يمكنها ردع القوى الخارجية وتحقيق الرخاء لشعبها.
ثانيًا: تداعيات النتائج المحتملة للمفاوضات على مستقبل علاقات إيران بالولايات المتحدة:
كما كان الاتفاق النووي الموقع عام 2015 بمثابة نقطة تحول في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه طهران، إذ أدرك أوباما أن الأحادية لا تعمل، وبالتالي تبنَّي مقاربة متعددة الأطراف في تناول الملف. يُنظر إلى مقاربة ترامب لهذا الملف على أنها تمثل تحولًا عكسيًّا في الموقف الأمريكي، كانت له تداعياته الإقليمية والدولية على السياسة الإيرانية، خاصة بعد انتخاب رئيسي؛ ففي الوقت الذي أعلن فيه ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق، كان القادة والشعب الإيراني على قناعة بأن المنافع التي تطلعوا أن تحملها الصفقة النووية لهم لم تتحقق، ناهيك عن العقوبات الإضافية الكثيرة التي فرضت على إيران بعد الانسحاب من الاتفاق.. هذا في الوقت الذي شهدت فيه التقارير الرسمية للوكالة الدولية للطاقة الذرية ومجمع الاستخبارات الأمريكية، أن إيران امتثلت لشروط الاتفاق.
وفي تقدير العديد من المحللين الغربيين، دفعت تصرفات ترامب السياسة الإيرانية في اتجاه أكثر تطرفًا وأدت إلى توافق واسع بين النخب الإيرانية على أن الطريقة الوحيدة لحماية المصالح الوطنية للبلاد هي تأمين النظام وتقديم الحرس الثوري كبطل حامٍ للقومية الإيرانية؛ لذا، من المتوقع أن يعزز “الحرس الثوري” قدراته العسكرية من أجل مواجهة الضغوط الأمريكية، ويعني ذلك تعزيز شبكة الوكلاء لخدمة حماية وبقاء الدولة الموازية في إيران، فقد جعل النظام الديني في طهران من معاداة الأمريكيين عنصرًا أساسيًّا في أيديولوجيته وخطابه العام.
ويعني ذلك أن نجاح مفاوضات فيينا في التوصل إلى صفقة نووية مع إيران، أو فشلها، لن يُخلَّ بتوازن القوى الداخلية بصورة جوهرية، ومن الطبيعي، والحال كذلك، أن يلاحظ المراقب الموقف المتشدد للمفاوض الإيراني في فيينا انطلاقًا من الاقتناع بأن الولايات المتحدة ملتزمة أيديولوجيًّا بتدمير الجمهورية الإسلامية، وبأن واشنطن ستحاول التراجع عن أي اتفاق إما صراحة كما فعل ترامب، أو بمهارة كما فعلت إدارة أوباما من خلال عدم رفع العقوبات المالية المفروضة على إيران بالطريقة الصحيحة. ومن المنظور الأمريكي، تشير بعض التحليلات إلى أنه في حالة استعادة الاتفاق النووي، فسيكون هناك نحو ثلاث سنوات قبل نهاية رئاسة بايدن، يمكن لإيران خلالها المضي قدمًا نحو الاندماج في النظام المالي والاقتصادي العالمي. وتفترض هذه التقديرات أنه حتى لو كان الرئيس القادم معاديًا للصفقة مثل ترامب، فسيواجه الجمود البيروقراطي للمؤسسات الأمريكية، وهو أمر يرجح أن يثني خليفة بايدن عن التخلي عن الصفقة، أما في حال الانهيار التام للمفاوضات، فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى قلب الموازين في اتجاه خطر للجميع، ولكن بالنسبة لطهران بصفةٍ خاصة؛ ذلك أن فشل المفاوضات سيسهل من مهمة الولايات المتحدة لتقديم إيران على أنها دولة منبوذة، وبالتالي يمكنها حشد الأطراف الأخرى في الاتفاق النووي لتطويق إيران اقتصاديًّا ودبلوماسيًّا، من خلال حزمة كبيرة من العقوبات.
من ناحية أخري تشير تحليلات أمريكية إلى أن الملامح العريضة لاستراتيجية الحزبين تجاه إيران واضحة؛ ففي الوقت الذي يعارض فيه الجمهوريون النظام الإيراني والاتفاق النووي، إلا أنهم يدركون أيضًا أن ناخبيهم لا يريدون صراعًا أمريكيًّا آخر في الشرق الأوسط. ومن جانبهم، يدعم الديمقراطيين بصفةٍ عامة التعامل مع طهران والعودة إلى الاتفاق النووي، غير أن استطلاعات الرأي الأخيرة تظهر أن 70% من الناخبين الديمقراطيين لديهم وجهة نظر “غير مواتية” تجاه إيران، وبمعنى آخر هناك أرضية مشتركة كافية بين الحزبين لبناء توافق في الآراء حول فهم رصين لطبيعة النظام الإيراني، وهو فهم لا يبالغ في التهديد الذي تشكله إيران على الولايات المتحدة نفسها، ولكنه لا يقلل أيضًا من هذا التهديد على مصالح واشنطن وشركائها في الشرق الأوسط.
وتخلص تلك التقديرات إلى القول بأن الولايات المتحدة لن تتمكن من التوصل إلى علاقات طبيعية مع نظام إيراني تقوم هويته على معارضة الولايات المتحدة، كما لا توجد حلول سريعة – سواء في شكل انخراط أمريكي أكبر أو المزيد من الضغوط – يمكن أن تغير بسرعة طبيعة العلاقة الأمريكية الإيرانية؛ لذا، يجب على الولايات المتحدة التعامل مع إيران مثل أي خصم( أي التواصل لتجنب الصراع، والتعاون عندما يكون ذلك ممكنًا).
ثالثاً: علاقات إيران بكل من روسيا والصين ومحدداتها:
من المعروف أن المعسكر المحافظ بقيادة المرشد الأعلى هو التيار الداعم لعلاقات متطورة مع كل من (روسيا والصين) سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، في مواجهة الإصلاحيين الذين يفضلون الانفتاح على الغرب، ومع تولي رئيسي، ضاعفت إيران جهودها الدبلوماسية؛ لتعميق هذا التوجه والسعي للاصطفاف مع القوتين الكبرتين في سيناريو قد يكون بديلًا لمواجهة العقوبات الأمريكية بغض النظر عن نتائج مفاوضات فيينا، كما تعد هذه الجهود رسالة إلى الداخل الإيراني بأن حكومة رئيسي لا تضع كل جهود سياستها الخارجية في سلة مفاوضات فيينا والعلاقات مع الغرب، وهو ما اُتهمت به حكومة حسن روحاني مع استمرار العقوبات وانسحاب الإدارة الأمريكية السابقة من الاتفاق.
وكان من أبرز هذه الجهود، التي بدا لبعض المراقبين أن طهران توليها اهتمامًا أكبر بكثير من اهتمامها بمفاوضات فيينا، ما يلي:
- زيارة الرئيس الإيراني لروسيا في 19 يناير 2022، وإبراز اهتمامه بتجديد اتفاق التعاون الشامل بين البلدين لمدة 20 عامًا، والسابق توقيعه عام 2001، وبالنظر إلى توقيت الزيارة- التي لم يعلن عن أي نتائج في ختامها في ذروة التصعيد الأمريكي الروسي حول أوكرانيا وتعثر مفاوضات فيينا- فقد رأى فيها البعض رسالة من البلدين للغرب بامتلاكهما أوراق قوة لمواجهة الضغط الغربي والقدرة على التكيف مع العقوبات المفروضة عليهما، كما جاءت الزيارة متزامنة مع المناورات الروسية الصينية الإيرانية المشتركة في شمال المحيط الهندي تحت شعار “الحزام الأمني البحري 2022″، في إشارة إلى الهواجس الأمنية المشتركة لهذه الدول تجاه الغرب وحلف شمال الأطلنطي، خاصة وأن تلك المناورات تزامنت بدورها مع مناورات بحرية بقيادة الولايات المتحدة، وصفت بأنها الأكبر في التاريخ الحديث، تحت مسمى (cutlass Express 2022) جرت في الفترة من 31 يناير إلى 17 فبراير في (الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب وشمال المحيط الهندي) بمشاركة 60 دولة منها إسرائيل و 13 دولة عربية.
- زيارة وزير الخارجية “حسين أمير عبداللهيان” إلى الصين، وهي الزيارة التي أعلن خلالها عن إطلاق عملية تنفيذ اتفاق التعاون الاستراتيجي الشامل المبرم لخمسة وعشرين عامًا، والذي أعلن عنه في 27 مارس 2021 وسط ضجة إعلامية، رغم سبق التفاوض عليه منذ أكثر من خمس سنوات. ويلاحظ في هذا السياق تحفظ السلطات الإيرانية والصينية على ما أشيع عن الاتفاق في الإعلام من أنه ينص على استثمارات صينية في إيران بقيمة 400 مليار دولار مقابل تخفيضات بنسبة 33% (مقارنة بأسعار السوق) في مبيعات النفط الإيراني إلى الصين، كذلك تحفظت إيران على ما أشيع أيضًا حول وجود 5000 جندي صيني في إيران بهدف بناء قاعدة بحرية صينية مستقبلًا في مضيق هرمز، فقد أكد عدد من كبار السياسيين الإيرانيين أن الجمهورية الإسلامية لن تبيع نفسها أبدًا لقوة أجنبية ولن تتسامح أبدًا مع وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، وهو ما تنص عليه المادة 146 من الدستور الإيراني. ويمكن فهم هذه الضجة في سياق مناخ التنافس الاستراتيجي الأمريكي الصيني من ناحية، والضغوط الأمريكية على إيران ارتباطًا بالمفاوضات حول الاتفاق النووي من ناحية أخري، فقد تم تقييم الاتفاق على أنه انعكاس للمصالح الاقتصادية والدبلوماسية للصين، وأنه من الطبيعي أن يكون لبكين مصلحة في منع النظام الإيراني من الانهيار تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والدبلوماسية الأمريكية، إذا ما أخذنا في الاعتبار وضعية إيران كواحدة من أكبر موردي النفط للصين.
وتجدر الإشارة إلى أن بكين اتخذت مواقف مؤيدة لإيران في المفاوضات النووية، كما أكدت بوضوح أن واشنطن هي من يتحمل المسؤولية الأساسية عن الصعوبات المستمرة التي تواجهها طهران بعد انسحابها من جانب واحد من الاتفاق النووي عام 2018، وأنها “تعارض بشدة العقوبات أحادية الجانب غير القانونية ضد إيران والتلاعب السياسي من خلال مواضيع تشمل حقوق الإنسان والتدخل في الشؤون الداخلية لإيران والدول الأخرى بالمنطقة” (تصريحات لوزير الخارجية الصيني منتصف يناير الماضي بعد اجتماعه مع نظيره الإيراني في مدينة ووشي بإقليم جيانجسو).
- ارتباطًا بما تقدم، قدم نظام الرئيس الإيراني الجديد مسألة الإعلان عن انضمام بلاده إلى منظمة شنغهاي للتعاون في 17 سبتمبر 2021 خلال قمة دوشانبيه / طاجيكستان، في حضور رئيسي_ على أنه انتصار سياسي كبير لحكومته، وأن إيران باتت عضوًا في نفس المنظمة التي يتمتع خصما الولايات المتحدة الأبرز( الصين وروسيا) بعضويتها المؤسسة.
ومع ذلك يقلل كتاب كُثر(روس وصينيون وغربيون) من الآثار الجيواستراتيجية لهذا الانضمام؛ فالمنظمة لا تعدو كونها مجرد منصة لتبادل وجهات النظر فيما بين الدول الأعضاء، وبعضهم أضداد مثل (الهند وباكستان)، كما أنها ليست تحالفًا عسكريًّا أو حتى آلية للتنسيق السياسي؛ حيث يستحيل ذلك مع هذه العضوية المتنوعة. ومن المهم التأكيد على أن الصين أيدت طلب إيران اكتساب العضوية الكاملة في المنظمة بعد أكثر من 15 عامًا من تقدم طهران بطلبها (عام 2005)، ويشير بعض المحللين الصينيين في ذلك إلى أن بكين تجنبت هذه المسألة كل تلك الفترة – رغم حماس موسكو لها-؛ لتجنب إزعاج واشنطن وخلق انطباع بأن منظمة شنغهاي للتعاون تهدف إلى تشكيل جبهة مناوئة للولايات المتحدة، ولكنها قررت المضي قدمًا مع تصعيد إدارة بايدن، ومن قبله ترامب، ضدها.
من ناحيةٍ أخرى، فإن المراقب للسياسة الخارجية الصينية في منطقة الشرق الأوسط عامة والخليج بصفةٍ خاصة لابد وأن يصل إلى نتيجة مفادها أن لدى الصين سياسة خارجية طموحة تجاه الدول الستة الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، وخلال العقدين الماضين، اقتربت بكين من هذه الدول في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، بينما رفضت في الوقت ذاته الانجرار إلى المنافسات الإقليمية أو المناقشات حول القضايا الاستراتيجية في المنطقة. ومن جانبها، وكما هو حال الرؤية الإيرانية، ترى دول مجلس التعاون الخليجي أن دول آسيا عمومًا، وليس الصين فقط، وبخاصة دول مثل: (الهند واليابان وكوريا الجنوبية… وغيرها) تشكل أهمية جوهرية لمستقبلها الاقتصادي، حتى في الوقت الذي تواصل فيه الاعتماد على الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى في قضايا الدفاع والأمن، وتدرك هذه الدول، وهي تسعى إلى تطوير علاقاتها بالصين، أنها تعمل في سياق جيوسياسي يتسم بعدم اليقين، حيث تشعر بأنها معرضة لتوازن متغير للقوى العالمية أصبحت فيه الصين لاعبًا قويًّا تسعى إلى تحقيق مصالحها على الصعيد الدولي، في الوقت الذي أظهرت فيه الولايات المتحدة عدم اكتراث بمواصلة دوروها التقليدي كضامن للأمن في الشرق الأوسط، وتدرك هذه الدول حقيقة أن بكين لن تفرض عليها مطالب سياسية على عكس الولايات المتحدة وبعض حلفائها الأخرين.
رابعاً: رؤية إيران لأمنها القومي ومخاطر ذلك على الأمن الإقليمي:
رغم عدم وجود وثيقة رسمية إيرانية معلنة تحدد عقيدة الأمن القومي الإيراني، إلا أن هناك مؤشرات عديدة في الخطاب الرسمي للرئيس إبراهيم رئيسي، والتي تعكس مفهومه المتشدد للأمن القومي لبلاده وضوابط وتوجهات الممارسة الإيرانية في هذا الشأن، ولعل أول هذه المؤشرات هي نظرة النظام إلي نفسه كنموذج ملهم جاء من أجل “نصرة المستضعفين” وهو ما انعكس بوضوح في خطاب رئيسي، في 11 فبراير 2022 السابق الإشارة إليه.
ويعني ذلك أن النظام الإيراني يرى أن هناك مخاطر تتعرض لها البلاد خارج حدودها يتعين التصدي لها باعتبارها دولة مستهدفة من الغير، خاصة من الدول الكبرى، أي أن مفهوم الأمن القومي الإيراني مفهوم إقليمي يمتد خارج الحدود بقدر ما يراه النظام الحاكم تهديدًا له. وفي هذا السياق يمثل البرنامج النووي الإيراني ركيزة أساسية في رؤية النظام لأمن البلاد واعتباره قضية وجودية دفع الشعب الإيراني ثمنًا باهظًا من أجل الدفاع عنها. ويستخدم النظام القضية النووية بذكاء وحذر؛ إدراكًا منه أن الحصول على أسلحة نووية من شأنه تكريس عزلة إيران، كما يدرك في الوقت ذاته أن اكتساب المعرفة في هذا الشأن ينظر إليه كأداة ردع تمنع من المحاولات الخارجية لإسقاط النظام، وكما سبقت الإشارة، أكد رئيسي أن بلاده ستتجه شرقًا، وهو تحول هام في مفهوم الأمن القومي الإيراني، الذي أعطى جل اهتمامه تاريخيًّا بالغرب في إطار التوازن العالمي بين الأقطاب الدولية.
وقد عبر رئيسي ووزير خارجيته مرارًا عن اهتمامه بتطوير علاقات إيران بجوارها الإقليمي، وبدأ بالفعل خطوات في هذا الاتجاه من خلال التحاور مع السعودية والإمارات، ولكن في سياق اقتناعه بأن التحاور المباشر مع الجيران- بعيدًا عن الدول الكبرى- يضع إيران في موقع تفاوضي أفضل في الحسابات الإيرانية، وفي هذا الإطار رفضت طهران دائمًا طرح دورها الإقليمي على مائدة المفاوضات، سواء ارتباطًا باتفاق عام 2015 أو الآن في مفاوضات فيينا على نحو ما سبقت الإشارة إليه، مصممة على قصر التفاوض على الملف النووي فقط، ويعني ذلك تمسك إيران بالدخول في مواجهات والاستعداد للتصدي لما تعتقد أنها تهديدات لنظامها بعيدًا عن حدودها.
وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية “عبداللهيان” في 24 يناير الماضي، خلال مشاركته في “المؤتمر الوطني لإيران ودول جوارها”، الذي نظمه معهد الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية الإيرانية، مجددًا رفض بلاده إشراك دول المنطقة في مفاوضات فيينا قائلًا: “لا نرحب بفكرة إضافة أعضاء جدد من المنطقة إلى المحادثات، لكننا نبقي جيراننا على اطلاع بالقضايا”، مضيفًا أن “إيران تستعيض عن ذلك بالمواظبة على إطلاع دول المنطقة على مجريات المفاوضات”. ولا شك في أن موقفًا كهذا يعزز الحضور الإقليمي لطهران من خلال استغلال المفاوضات في المزيد من التحركات الدبلوماسية التي قد تستثمرها لاحقًا، خاصة في حال التوصل إلى اتفاق، للحصول على مكاسب سياسية واستراتيجية في المنطقة.
ويستفاد ذلك بوضوح من الآتي:
- العمل على تعزيز النفوذ الإيراني في كل من (العراق وسوريا ولبنان)، من خلال المضي قدمًا في ترسيخ ما يسمى بـــ “الهلال الشيعي”، الذي يحول إيران إلى قوة إقليمية جيوسياسية كبرى في الشرق الأوسط عبر تشكيل حزام من الدول ذات التواصل الجغرافي المباشر وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط وجنوب شبه الجزيرة العربية، وذلك من خلال استخدام علاقاتها بالطوائف الشيعية في هذه البلدان، بغض النظر عن التباينات المذهبية فيما بينها؛ لخدمة مصالحها الاستراتيجية في بناء ذلك الحزام الأمني الاستراتيجي المتصل، إضافة إلي إحكام قبضتها على المضايق الاستراتيجية المتمثلة في مضيق هرمز، الذي يصل بين الخليج العربي وبحر العرب، ومضيق باب المندب الذي يصل بين البحر الأحمر وخليج عدن.
- السعي لإخراج القوات الأمريكية من العراق، وتقليص الحضور العسكري الأمريكي في المنطقة عمومًا، وقد أثبتت التطورات السياسية الداخلية الأخيرة في العراق- بما حملته من تقليص واضح في النفوذ الإيراني هناك على نحو ما كشفت عنه الانتخابات البرلمانية العام الماضي- صعوبة تخلي إيران عن هذا النفوذ مستخدمة وكلاءها في الداخل.
- العمل على منع أي وجود إسرائيلي في البلدان المجاورة لإيران، وبصفةٍ خاصة كلًّا من (دولة الإمارات العربية المتحدة وأذربيجان)، وقد أثار ما سمي بـــ “الاتفاقات الإبراهيمية” بين الإمارات وإسرائيل ردود فعل إيرانية غاضبة، وبينما تجري المفاوضات حول الاتفاق النووي في فيينا، تعرضت دولة الإمارات خلال شهر يناير 2022 لثلاث هجمات بصواريخ باليستية وطائرات مسيرة شنَّها الحوثيون، كذلك تراقب إيران بقلق تقارب إسرائيل مع بعض دول الخليج، بما في ذلك التوقيع على اتفاقية دفاعية مع البحرين خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني جانتس” مؤخرًا، في أول خطوة من نوعها مع دولة خليجية.
وقد سعت إيران، سواء بشكلٍ مباشر أو عبر وسطاء دوليين خاصة كلًّا من (روسيا والصين)_ إلى إقناع دول الخليج العربية بالانضمام إليها في إطار منظومة أمنية شاملة تقوم على عدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، واصطدمت مساعي إيران في هذا الشأن بهوة عدم الثقة من قبل كلٍّ من (المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة) في النظام الإيراني؛ بسبب ليس فقط خطابه السياسي، وإنما سلوكه على أرض الواقع.. هذا بجانب السعي الحثيث لإيران لفصل الولايات المتحدة عن حلفائها والدعوة إلى إخراجها من المنطقة بالكامل.
ويمكن القول بأن القوى الكبرى بما فيهاالولايات المتحدة الأمريكية تبدو مقتنعة بأن من شأن حوارات متعددة الأطراف- فيما بين دول الخليج وإيران مباشرة- المساعدة كثيرًا في خفض التصعيد بين الجانبين. وفي هذا السياق تقدمت روسيا بمبادرة لإقامة منظومة للأمن الإقليمي في منطقة الخليج تضم إيران، كما طرح وزير الخارجية الصيني مبادرة مماثلة العام الماضي تقوم على مبادئ التسوية السلمية للمنازعات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتشير تقديرات أمريكية إلى إمكانية أن يلعب الحلفاء الأوروبيون دورًا مهمًّا في الوساطة في مثل هذه الحوارات على غرار حوارات إقليمية سابقة مثل (الحوار المتوسطي ومبادرة التعاون)، التي أطلقت من إسطنبول في إطار حلف شمال الأطلسي، ومن جانبها اقترحت إيران مبادرة “هرمز للسلام” -لا تضم الولايات المتحدة الأمريكية-. وخلال عمله أمينًا عامًا لجامعة الدول العربية، طرح السفير “عمرو موسى” وزير الخارجية المصري الأسبق فكرة “الجوار العربي”، والتي تقوم على دعوة الدول الإقليمية المجاورة للدول العربية – ومنها إيران – للانضمام إلى الدول الأعضاء في الجامعة العربية؛ لتكوين رابطة فيما بينها تستهدف البحث عن مصالح وقواسم مشتركة بين الدول العربية وهذه الدول وتسوية الخلافات فيما بينها.
وتعترف كل هذه المبادرات بأن الأمن الجماعي لم ينجح تاريخيًّا في الشرق الأوسط، إلا أن ذلك لا ينبغي أن يمنع من بذل الجهود لبلورة نظام متعدد الأطراف في هذا الشأن، يستفيد من تجربة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وذلك من أجل تعزيز الاستقرار الإقليمي ومنع النزاعات والتصدي للتحديات المشتركة.
والمعنى المستخلص من كل هذه الأفكار والمبادرات الداعية إلى إطار جماعي للأمن الإقليمي هو أن القوى الكبرى من خارج المنطقة- بما فيها الولايات المتحدة- لا تملك القدرة على، ولا حتى الرغبة في فرض إرادتها على المنطقة في هذا الشأن أو ضمان أمن دولة أو مجموعة من الدول ضد أخرى-باستثناء إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة- وبالتالي ستكون مهمة ضبط السلوك الإيراني أو تقليص نفوذها هو من شأن دول المنطقة ذاتها، التي سيكون عليها القيام بدور أكثر نشاطًا وفاعلية في هذا الشأن.
وتعتقد هذه الأفكار والتقديرات أن مقاربة المعادلة الصفرية تجاه إيران قد فشلت، وأن دول الخليج العربية بحاجة إلى تطوير نهج يقوم على تحديد مصالحها وأولوياتها مع الاعتراف في الوقت ذاته بأن لإيران مصالح مشروعة في بعض دول المنطقة ما بين أمنية في العراق، واقتصادية في سوريا، ودينية وثقافية في كل من (العراق وسوريا ولبنان). وتضيف التقديرات في هذا الشأن إلى أن لدى الولايات المتحدة مصلحة في إيجاد طريقة للتعامل مع إيران؛ بهدف حماية المصالح الأمريكية وأمن واستقرار المنطقة، تمامًا مثلما سعت مرارًا وتكرارًا إلى القيام بذلك مع الاتحاد السوفيتي خلال فترة الحرب البادرة.
وإذا ما صحَّت الأفكار والتقديرات عاليَهُ، فإنه يمكن تفهم التغيرات الواضحة في السياسات الإقليمية لدولة الإمارات العربية المتحدة، وهو ما تجسد بصفةٍ خاصة في اتصالاتها بجارتها إيران والزيارات عالية المستوى التي جرت بين البلدين في الأشهر القليلة الماضية، بل وبدء مد الجسور مع طهران منذ يونيو 2019، بعد أسابيع من وقوع هجمات على الناقلات البحرية، وقبل الهجمات على البنية التحتية النفطية السعودية في بقيق. كما لوحظ التحول الذي طرأ على الخطاب السياسي الإماراتي الذي شدّد على الحاجة إلى الاستقرار الإقليمي، وإلى “حوار عقلاني” وتخفيف حدة التوتر في الخليج (بيان الخارجية الإماراتية في 8 يناير 2020)، وهو موقف أيدته القيادة السعودية التي أوفدت نائب وزير دفاعها لواشنطن لإثارة ملف القضية مع إدارة ترامب على نحو مباشر. وكان “طحنون بن زايد” مستشار الأمن القومي لحاكم الإمارات قد زار طهران في ديسمبر 2021، بعد خمس سنوات من القطيعة بين الدولتين، وبالمثل يوجد حوار سعودي / إيراني منذ فترة، وتعارض (الإمارات، والسعودية)، اتخاذ خطوات عسكرية ضد إيران ارتباطًا بالملف النووي؛ لأنها يمكن أن تحول الخليج إلى منطقة قتال تضر بالمشاريع الاقتصادية التي تدفع بها الدولتان قدمًا.
ووفقًا لتقديرات إسرائيلية، فإن التحركات الإماراتية الأخيرة تجاه إيران وتركيا تؤشر لتراجعٍ كبير في قدرة إسرائيل على التأثير في واشنطن، التي أرادت إبان الإدارة السابقة خلق جبهة عربية إسرائيلية معادية لإيران. فالإمارات تعمل وفق أجندة خاصة بها تعمل من خلالها على نسج غطاء استراتيجي تسعى إليه في مواجهة انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، وتتعارض تحركات وتصريحات إسرائيل المهددة بضرب إيران مع رؤية دول الخليج وخريطة مصالحها الاستراتيجية التي لا ترى من مصلحتها قيام إسرائيل بشن حرب ضد إيران.
والخلاصة: هي أنه بالرغم من صعوبة فصل الملف النووي الإيراني عن سياسات طهران الإقليمية، حيث يشكلان كلًّا لا يتجزأ من الاستراتيجية الإيرانية الرامية إلى فرض الهيمنة وتعظيم النفوذ واستدامة النظام، إلا أن تراجع الأهمية الاستراتيجية للمنطقة من منظور واشنطن، وسعي الأخيرة للتخفيف من التزاماتها فيها، يترك عبء تقليص نفوذ إيران وضبط سلوكها العدواني على عاتق دول المنطقة ذاتها، التي سيكون عليها إيجاد صيغة للتعايش مع هذه الدولة بما يعيد الاستقرار للمنطقة على قاعدة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة. في الوقت ذاته فإن الدول العربية مطالبة ببذل جهد مضاعف، ليس فقط من أجل دعم الدول التي يحاصرها نفوذ إيران مثل العراق بما يدعم مؤسسات الدولة الوطنية من أجل بلورة نظام فاعل للأمن الجماعي العربي تتوافق فيه الأطراف على ماهية التهديدات والأولويات في هذا الشأن. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه على خلاف وجهة النظر السائدة القائلة بأن من شأن استعادة الاتفاق النووي، وبالتالي رفع العقوبات المفروضة على إيران، سوف يوفر مليارات الدولارات للنظام الإيراني بما يسمح له بمزيد من الأنشطة العدوانية والتمدد الإقليمي، تشير تقديرات أمريكية إلى التأكيد على أن هناك عوامل داخلية تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وأخرى خارجية ترتبط بالأمن والوضع الجيوسياسي، سوف تضعف من قوة إيران من الناحية الجيوسياسية، حيث سيصعب عليها نتيجة لكل هذه العوامل أن تستمر في تحدي خصومها وأعدائها الإقليميين، وذلك رغم القوة العسكرية المتنامية للبلاد.