يُعد النص الأدبي لغة مركبَّة تعتمد على الخيال والتعبير الفني، وتبتعد عن المباشرة، وهو عالم من المعرفة؛ إذ إن اللغة ليست مقصودة بذاتها بقدر ما هي تقدم تصورًا خاصًا عن الحياة، والنص جزء من كلٍّ؛ ولذا فإن عزله عن سياقه وتاريخه الثقافي يجعله مبتورًا، أو صعب الفهم، ومن هنا فإن تأويله لا يجب أن يقف عند حدود الشرح السطحي، بل من الضروري أن يغوص إلى أعماقه الداخلية، ويطوف بكل ما يؤثر فيه من الخارج.([1])
وقد اهتمت أغلب الدراسات الأدبية التقليدية في تحليلها للنصوص بدراسة الجو العام للنص، وتقسيمه إلى أفكار رئيسة، وشرحه لُغويًّا، والتنقيب عن جوانبه الجمالية، المرتبطة بالبلاغة والجرس الموسيقي ..إلخ.([2]) ويتعامل “اللسانيُّون” مع النص على أنه مقولة لغوية، مرتبطة بالمعجم والتركيب الصوتي والدلالي ومستويات البنية، في حين يعتبره السيموطيقيون مجموعة من العناصر المكونة التي تتآلف وتتسق طبقًا لقوانين محددة. وتحاول الهرمنوطيقا أن تناقش علاقة النص بالقارئ، أما البَنيويُّون فيرَون أنه يشبه نسيج العنكبوت؛ حيث تذوب داخله الذوات، وتنتظم الأجزاء تنظيمًا نسقيًّا، بحيث لا يُفهم الجزء إلا داخل علاقاته المنتظمة بالكل؛ ولذا فهو يخضع لقوانين ذاتية تنظمه وتنسِّق أجزاءه.([3]) ويهتم علماء النفس بدراسة الجوانب النفسية لشخصيات النصوص الروائية والقصصية،([4]) في حين يتعامل الماركسيون مع النص على أنه تعبير اجتماعي مرتبط بالأيديولوجيا.
وقد سعت بعض هذه المدارس النقدية إلى إثبات رؤيتها للنص الأدبي بطريقة كيفية، وبعضها سلَك طريق الكم، على اعتبار أن الأرقام من الممكن أن تجعلنا أكثر قربًا من فَهْم ما تنطوي عليه النصوص من معانٍ وأسرار، فحولت البنيوية النص إلى معادلات رياضية ورسوم بيانية، بينما أعملَ السوسيولوجيون أدواتهم البحثية في الأدب، وفي مقدمتها تحليل مضمون النصوص كميًّا، من خلال الوحدات التقليدية التي تتبعها هذه الأداة،(الكلمة، الموضوع، الشخصية، المفردة، وحدة مقاييس المساحة)، ثم فئات التحليل، وهي فئات ماذا قيل؟ وتشمل ( فئة موضوع الاتصال، فئة اتجاه مضمون الاتصال، فئة المعايير التي تطبق على مضمون الاتصال، فئة طرق تحقيق الغايات، فئة المصادر أو المراجع، فئة المكان، فئة المخاطبين)، وفئات كيف قيل؟ وتشمل ( فئة شكل أو نوع الاتصال، فئة شدة التعبير، فئة الوسيلة).([5]) لكن الأفضل لأي دراسة تتصدى لنص أدبي أن تسلك طريق “الكيف” نظرًا لعدة اعتبارات يمكن ذكرها على النحو التالي:
- تعد الرواية في حد ذاتها نوعًا من البحث الاجتماعي الكيفي، فالأخير يعتمد في جزء منه على “التحقيق القصصي” الذي تكون فيه الحياة الفردية للأشخاص في قلب الحدث، كما يستند إلى السير الذاتية التي يسردها الباحثون عن أنفسهم.([6]) وقد استعمل الأنثروبولوجيون هذه الطريقة في سردهم لحكايات الشعوب البدائية التي تصدوا لدراستها.([7])
وتوفر الرواية هاتين الطريقتين تمامًا، فبعض النقاد يعتبرون الرواية العربية، على وجه الخصوص، سيرة ذاتية مقنعة،([8]) وقد توصل جورج طرابيشي إلى هذه النتيجة بعد قيامه بتحليل عدة روايات عربية تحليلًا نفسيًّا.([9]) وكما هو الحال بالنسبة للمخاوف التي تكتنف طريقة تحليل السير الذاتية حيال شرطيِّ المصداقية والثبات- على وجه الخصوص- باعتبارهما من أهم شروط البحث العلمي، فإن السيرة الذاتية الروائية، لا يمكن التعامل معها على أنها الحقيقة، وهنا يقول الناقد والروائي د. علي شلش، في حديثه عن تجربته الإبداعية الشخصية في هذا المضمار: ” جميع الكتاب رقباء على أنفسهم، ولا يوجد شيء اسمه الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة في عالم الأدب ومهما اقتربت الكتابة من السيرة الذاتية أو اعتمدت على المذكرات والمفكرات الشخصية، فالمؤلف يختار ما ينقله للقراء”([10]).
كما أن الروائي يُعد باحثًا يمارس أداة بحثية كيفية أقرب إلى الملاحظة بالمشاركة، ويستخدم منهجًا متكاملًا في التحليل من خلال النظر إلى موضوع الرواية وشخصياتها من زوايا متعددة (نفسية، واجتماعية، وتاريخية، وفلسفية). ([11]) ويقدم د. حليم بركات- وهو روائي وأستاذ علم الاجتماع في إحدى الجامعات الأمريكية- شهادة مهمة في هذا المضمار، حين يقول: “ليست الرواية مجرد هواية بالنسبة لي لأبتعد عن علم الاجتماع، بل على العكس أنا اخترت هذا العلم للدراسة والتدريس لأنه يوفر لي أن أكتب رواية جيدة، الرواية ليست منفصلة عندي عن علم الاجتماع، فكل رواية كتبتها سبقها نوع من البحث شبه الميداني في بعض المجالات، والرواية ساعدتني على فهم علم الاجتماع؛ لأنها تسمح للمخيلة أن تنطلق وتبحث دون قيد أو خوف”.([12])
- استعمل عدد من نقاد الأدب وعلماء الاجتماع بعض الطرق الإحصائية (الكمية) في دراسة النص الأدبي، لكن هذا الاتجاه لاقى انتقادات شديدة من قبل العديد من الباحثين، الذين رفضوا الاتجاهات الإمبريقية التي تنزع عن الأدب ثوب جماله، الذي يميزه عن حقول المعرفة الإنسانية الأخرى، وتثقل كاهله بالمصطلحات التقنية المدرسية، تحت دعوى الجدية والصرامة العلمية مما يفقده صلته الحميمة بالحياة.([13]) وفي هذا الصدد يقول تشارلز رايت ميلز: “من الأصناف الأكثر انتشارًا بين العلماء صنف الإحصائيين المختصين، الذين يفتتِّون الحقيقة إلى أجزاء دقيقة ويُفقدونها قيمتها إلى حد يصعب علينا التمييز بين أجزائها، فهم في مقابل الحفاظ على دقة مناهجهم وصرامتها ينجحون في جعل المجتمع والإنسان تافهين، وهم خلال عملهم ذاك يفعلون الشيء نفسه بعقولهم”.([14])
ويؤيد” أ. س. بوشمين” هذا الرأي، حين يؤكد أن علم الأدب “يتأبَّى على الحلول الدقيقة ذات الدلالة الواحدة، ويرفض البرهنة الرياضية الصارمة، ولذا تظل الطرائق الكمية المستخدمة في “علم الأدب” مجرد وسائل ثانوية محدودة، لا يمكن تطبيقها بدورها إلا على مسائل خاصة .. وهذا الاتجاه يعني في حقيقة الأمر تصفية علم الأدب بوصفه علمًا إنسانيًّا، وهؤلاء الذين يقولون إننا سنطهر قاموس الأدب من الثرثرة واللغو ونبعده عن ضباب الجمل والأوصاف الذاتية عن طريق العلامات والمبادئ الرياضية، لم يقدموا -حتى الآن- نتائج باهرة ومشجعة، وأطروحاتهم لا تعدو كونها استبدال لافتات بأخرى وإلباس القديم ثوبا من المصطلحات الجديدة، ولا تدل إلا على الاستسلام لطرائق العلوم الطبيعية”.([15])
ويشرح د. عز الدين إسماعيل هذه المسألة، بقوله: “إننا حين نقرأ العملية الحسابية 2 + 2 = 4، لا نستطيع أن نفهم منها إلا فَهمًا واحدًا، ولن نخرج منها إلا بحقيقة واحدة، وهي حقيقة خالدة باقية، لكنها حقيقة جامدة لا مرونة فيها، بل فيها إصرار نحن نذعن له. وهذه الحقيقة الثابتة لا نتفاعل معها، ولا تتأثر بها شخصياتنا، ولا تترك فيها أثرًا، إنها شخصية ذات جانب واحد، إذا أمكن التعبير، ولكن العمل الأدبي شخصية متعددة الجوانب، وهذا هو السر في أنها لا تستطيع أن تجتذب أكبر عدد ممكن من الأصدقاء، هذا يتفاعل مع جانب، وذلك مع جانب آخر. اشعاعات كثيرة تلك التي تصدر عن الطاقة الهائلة الكامنة في العمل الأدبي، وكل منا يتلقَّى من هذه الاشعاعات بمقدار استعداده للتفاعل وتبادل الفهم والتفاهم، فمن أراد من العمل الأدبي صورة جامدة من الألفاظ فإنه واجد ذلك، ومن أراد شخصية نابضة فإنه واجدها”.([16])
ويمكن في هذا المضمار ضرب مثال بالدراسة التي قام بها د. محمود الشنيطي لتحليل مضمون كمِّي بعض القصص القصيرة، التي تم نشرها في بعض المجلات المصرية ذائعة الانتشار في الفترة من فبراير 1957 حتى أكتوبر 1958، والتي وصفها بأنها “محاولة محدودة”؛ فالباحث قام بتحويل هذه القصص إلى أرقام صماء، بدءًا بإحصاء عددها، وحتى طبيعة موضوعاتها ونوعية أبطالها ومستوياتهم الطبقية، مرورًا بزمان القصة ومكانها، دون أن يعرج على المضمون الكيفي لهذه القصص، فما كان منه إلا أن باعد بين النص الأدبي والقارئ.([17])
وفي المقابل هناك دراسة مهمة للباحثة إلهام غالي حصلت بها على درجة الدكتوراة من السوربون حول موضوعي الحرب والحب في أدب غادة السمان، زاوجت فيها بين الإحصائيات الرقمية الجافة وبين التطبيق الحيوي المرن لقواعد “سوسيولوجيا الخيال”، لكنها قصرت الجوانب الإحصائية على مسائل معينة، بعيدة عن النص الروائي لهذه الأديبة، مثل إحصاء عدد الروايات العربية التي دارت حول الحرب في عشرين عامًا امتدت من 1956 حتى 1976، وحصر مختلف المقابلات الصحفية التي جرت مع غادة السمان والأعمال النقدية التي تناولت نصوصها الروائية والقصصية، وعدد الطبعات التي صدرت لأعمالها، ودلالة ذلك في ضوء مكانة الأدب بشكلٍ عام لدى القارئ العربي، وأنهت الباحثة هذا الجزء الإجرائي بتصميم استمارة استبيان تشتمل على عشرين سؤالًا، طبقتها على عينة مكونة من مئة شخص ينتمون إلى خمسة أقطار عربية.([18])
واقتصار الإحصاء هنا على الجوانب الإجرائية للبحث يبدو أمرًا مقبولًا، وأحيانًا يكون مطلوبًا، لكن امتداد لغة الأرقام إلى النص الأدبي ذاته تحجب جماله ومضمونه الحقيقي في آنٍ واحد، وتحوله إلى إحصائيات جافة، تصيب الأدباء أنفسهم قبل القراء بالاشمئزاز، والشعور التام بضياع النص الأدبي خلف ظلال الأرقام.
ومما يبرهن على صحة هذا الرأي أننا لو أردنا استخدام تحليل المضمون الكمي في البحث عن عدد تكرار كلمة “حرية” في نص أدبي ما لإعطاء دلالة عن تبني كاتبه لقيمة الحرية، فإن هذه المحاولة تبدو غير ذات جدوى؛ إذ أن الأديب قد لا يذكر هذه الكلمة صراحة، في الوقت الذي قد يسهب في طرح ما يدل عليها بشكلٍ غير مباشر، فمن الممكن أن يستخدم الروائي كائنات طبيعية معينة ليرمز بها للحرية، مثل الطيور، وقد يعبر عن هذه الكلمة في مواقف معينة على ألسنة أبطال روايته، دون أن يلفظ أي واحد منهم بهذه الكلمة، وقد يستخدم الأديب العواطف الرومانسية ليدلل بها على المساواة الطبيعية بين البشر، حيث أن المشاعر الإنسانية، تكسر أحيانًا، حاجز الطبقة والمستوى التعليمي .. إلخ.
- رغم المحاولات التي بذلها بعض النقاد والباحثين من أجل أن يكون النقد الأدبي علمًا، فإن كثيرًا من الدراسات أظهرت أن الأدب مبدئيًّا ليس علمًا إنما هو “ممارسات خاصة متفردة ينصرف عملها إلى اللغة والخيال ولا تحقق وحدتها إلا على بعض المستويات من النشاطات الوظيفية من خلال اندماجها داخل الأبنية الاجتماعية”. لكن هذا لا يمنع من أن الأدب يُعد طريقًا من طرق المعرفة العلمية، فإذا كانت نقطة البداية في تكوين المعرفة هي ملاحظة الظواهر التي تحيط بنا سواء كانت اجتماعية أم طبيعية، وإذا كانت طرق تفسير الظواهر وعلاقاتها ببعضها البعض متباينة، وإذا كان الإلهام أحد تلك الطرق، يكون الأدب طريقًا من طرق المعرفة.([19])
وقد حاول النقد الأدبي أن يصطبغ بالصبغة العلمية، وأن يتجرد من كثير من المفاهيم الزائفة كاعتبار الأدب تعبير عن شخصية الكاتب أو التعامل مع المضمون بمعزل عن الشكل،([20]) وأن يعتمد إطارًا منهجيًّا، يجمع بين العديد من المنظورات الشكلية والاجتماعية والتاريخية، من أجل أن تكون الدراسة الأدبية دراسة علمية، تلتزم بالمبادئ المنطقية، وتعقلن الظاهرة الأدبية بشكلٍ تام.([21])
لكن هذا الاتجاه لا يزال يحبو على طريق طويل، نظرًا لأن النص الأدبي صعب المراس أمام أدوات الباحثين الذين يرغبون في التعامل معه، كما يتعاملون مع الظواهر الطبيعية، أو حتى الظواهر الاجتماعية والسياسية. فالأدب يبقى نصًا شديد الخصوصية، ولذا فإن أي محاولة لدراسته، سواء عبر مداخل النقد الأدبي الصرف أو عبر مداخل العلوم الإنسانية الأخرى، يجب ألا تنال من هذه الخصوصية، ومن الضروري أن تتجرد من أي أوهام حول إمكانية أن نفهم الأدب من خلال تصفيف الأرقام وتخطيط الرسوم البيانية وبناء المعادلات الرياضية.
- ليست الأداة البحثية أو المنهج العملي غاية في حد ذاتهما، لكنهما وسيلتان للإحاطة بالظواهر الإنسانية والطبيعية؛ ولذا فإن المطلوب فقط من أي منهما أن يوفر شرط “الكفاية” في التعامل مع هذه الظواهر، وتختلف هذه الكفاية من مجتمع لآخر ومن ظاهرة لأخرى، كما أنها ترتبط بالهدف الذي يصبو إليه الباحث من محاولته الإجابة على تساؤلات عملية ما، فهناك من يرى أنه في بعض المجتمعات تستطيع المناهج الكيفية النفاذ إلى أعماق الظواهر التي تموج بها، وتحقق درجة عالية من فهم تلك المجتمعات بشكلٍ علمي.([22]) كما أن الباحث يكتفي بتحليل البيانات التي بحوزته تحليلًا كيفيِّا، حين يعلم أنها تمثل عينة غير عشوائية، أو ربما عينة ممثلة لكمية أكبر من المعلومات التي لم يتمكن من الإلمام بها من كافة نواحيها؛ أو لأنه يبحث عن عناصر ثابتة، أو عن أنماط العناصر الثابتة؛ أو لأن العلاقات التي يتصدى لدراستها أعقد من أن يتم اختزالها في صورة رقمية؛ أو لأنه يرى أن الشواهد التي تحت يده كافية ومقنعة في حد ذاتها.([23]) بالإضافة إلى ذلك فإن هدف الدراسة يتحكم، إلى حدٍ كبير، في تحديد الوسيلة المنهجية أو البحثية التي يجب استخدامها في تناول الظاهرة أو المسألة محل البحث.
فعلى سبيل المثال: إذا أردنا أن نُحاط علمًا بكيفية تصويت الجماهير في الانتخابات، فإن استخدام الطرق الكمية مثل المسح الاجتماعي، يبدو هو الوسيلة الأمثل، في هذه الحالة، أما إذا أردنا أن نتعرف على إدراك مجموعة من الناس لمسألة ما، أو رصد سلوكهم اليومي في مختلف المواقف، فإنه من المفضل، في هذه المقام، استخدام الطرق الكيفية.([24])
كما أن نوع المادة، أو الوثائق المراد تحليلها تحدد نوع الطريقة البحثية التي من الضروري اتباعها معها، فبعض الوثائق مهيأة للتحليل الكمي؛ لأنها تقدم معلومات تتصف بالانتظام وتميل إلى لغة الأرقام،([25]) وبعضها أكثر تقبلًا للتحليل الكيفي، بل يبدو هو الأنجع في الإلمام بالمعلومات التي تنطوي عليها، والإحاطة بالمفاهيم والاتجاهات التي تتضمنها؛ لأنه يتمكن من تقديم نتائج لا يمكن الحصول عليها بالطرق الإحصائية أو أي وسيلة كمية أخرى.([26])
- لم يعد البحث الكيفي تقليدًا جديدًا في الدراسات الإنسانية، إنما هو يمتلك تاريخًا طويلًا، يسبق بكثير فترة توهجه في ستينيات القرن العشرين، بحيث أصبح له نفوذ قوي داخل العلوم الاجتماعية، خاصة مع تبدد غيوم الوهم التي كانت تلبد أفكار البعض حيال الاقترابات البحثية الكمية،([27]) بشكلٍ خاص، والنماذج العلمية، بشكلٍ عام.
لقد طرح مارتن هاميرسلي سؤالًا مهمًا في كتابه “سياسات البحث الاجتماعي” حول ما إذا كان هذه النوع من البحث له أبعاد أو أهداف سياسية، أم أنه من المفترض أن يتوخى الحياد العلمي؟ .. ورأى أنه في السنوات الأخيرة تعرضت مسألة الحياد العلمي لتحديات كبيرة، حين أثبتت الاتجاهات النقدية والنسائية والدراسات التي أعدت لمكافحة التمييز العنصري وتحليلات ما بعد الحداثة أن البحث الاجتماعي “مسيس” بدرجة أو بأخرى،([28]) في حين شكك توماس كون في كتابه المهم “بنية الثورات العلمية” في قيمة النماذج أو الإرشادات، التي حفرها علم المنهج ليتحكم في دراسة الظواهر المختلفة بشكلٍ علمي.([29])
وحتى طرق تحليل المضمون الكمي، التي اعتقد البعض أن اعتمادها على الأرقام يجعلها أقرب إلى الصدق، هي في نظر بعض الباحثين لا تمتلك وقاية من التحيز النظري والأيديولوجي والوعي العلمي للباحث، وكذلك أسلوب تنشئته الاجتماعية والفكرية، حيث أن اختياره لفئات التحليل يتم بشكلٍ متحيز غالبًا.)[30]( ولذا فإن الباحث الذي يعتمد الطريقة الكمية في دراسته، يجد نفسه مضطرًا في النهاية إلى تحليل الأرقام التي صفها تحليلًا كيفيِّا، إذ أن الوقوف عند حدود الأرقام والمعادلات لا يعني شيئًا في حد ذاته بالنسبة للعلوم الإنسانية، ما لم تتم ترجمة “الكم” إلى “كيف”.
- يحقق تحليل المضمون الكيفي للنص الأدبي التكامل الذي يصبو إليه كثير من النقاد في أن يتم تأويل هذا النص من خلال المزاوجة بين رصد انعكاس السياق الخارجي عليه وفك شفرات بنيته الداخلية،)[31]( الأمر الذي يجعل هذا النوع من التحليل هو الأمثل في فهم كل أبعاد النص الأدبي ومضمونه.
- يغلب الطابع الكيفي على مناهج تحليل النص الأدبي ذاتها، فالمنهج التقليدي المقتبس من أصول النقد العربي القديم، والذي يعتمد على الدراسات البلاغية واللغوية للنص، والمنهج السيكولوجي الذي يدرس النص انطلاقًا من الحالة النفسية للأديب، والمنهج البنيوي الذي يتعامل مع النص على أنه كل عضوي، يخضع لقوانين ذاتية تنظم أجزاءه،)[32]( تعتمد جميعها على الأسلوب الكيفي في تحليل النص، ويبقى المنهج السوسيولوجي، وهو إن كان يأخذ المؤشرات الكمية في الاعتبار، فإنه لا يزال يعتمد- غالبًا- على “الكيف” في دراسة الجوانب الاجتماعية لمختلف النصوص الأدبية.
([1]) أبو عوض أحمد والفارابي عبد اللطيف، “الحركات الفكرية والأدبية في العالم العربي الحديث”، (الدار البيضاء: دار الثقافة)، ص: 8/9.
([2]) محمد عبد الغني المصري، “دراسات أدبية ونحوية”، (عمان: دار الفرقان)، الطبعة الرابعة، 1987، ص: 5/10.
([3]) حاتم الصكر، “التطور النظري للتحليل النصي: نظرية النص”، المجلة العربية للثقافة، العدد (32)، مارس 1997، ص: 214.
([4]) لمزيد من التفاصيل في هذا الشأن، أنظر: د. سامي الدروبي، “علم النفس والأدب”، (القاهرة: دار المعارف)، الطبعة الثالثة، 1981.
([5]) حول تحيل المضمون، أنظر: د. مختار التهامي، “تحليل مضمون الدعاية في النظرية والتطبيق”، (القاهرة: دار المعارف) الطبعة الثانية، 1985، ص: 39/ 47.
([6]) Catherine Marshall & Gretchen B. Rossman, Designing Qualitative Research, 2nd Edition, London, New Delhi, Sage Publication INC. 1995, p: 87.
([7]) حول سمات التحليل الكيفي أنظر:
– Alan Bryman, Quantity and Quality in Social Research, London, New York, Routledge, 4th Edition. 1995,pp: 45/ 71.
([8]) د. يمنى العيد، “السيرة الذاتية الروائية والوظيفة المزدوجة: دراسة في ثلاثية حنا مينة”، فصول، المجلد (15)، العدد (4)، شتاء 1997، ص: 21.
([9]) لمزيد من التفاصيل أنظر: جورج طرابيشي، “المثقفون العرب والتراث: التحليل النفسي لعصاب جماعي”، (لندن: رياض الريس للكتب والنشر)، الطبعة الأولى، 1991.
([10]) د. مارينا ستاع، “حدود حرية التعبير: تجربة كتاب القصة والرواية في مصر في عهدي عبد الناصر والسادات”، ترجمة: طلعت الشايب، (القاهرة: دار شرقيات للنشر والتوزيع)، الطبعة العربية الأولى، 1995، ص: 250.
([11]) د. عزيزة مريدن، “القصة والرواية”، (دمشق: دار الفكر)، 1980، ص: 74.
([12]) حوار مع د. حليم بركات، صحيفة “القدس العربي”، 16/9/1998.
([13]) د. محمد مصطفى بدوي، “الثوابت في الأدب العربي”، في د. حمدي السكوت وآخرون (مشرفين)، “دراسات عربية وإسلامية”، (القاهرة: قسم النشر الجامعة الأمريكية)، الطبعة الأولى، 1997، ص: 52.
([14]) د. محمد أصبور، “المعرفة والسلطة في المجتمع العربي: الأكاديميون العرب والسلطة”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، سلسلة (أطروحات الدكتوراه)، رقم (18)، الطبعة الأولى، 1992، ص: 23.
([15]) أ. س. بوشمين، “الأدب في علاقته بالعلوم الأخرى”، في فريق من الباحثين السوفيت، “الأدب والعلوم الإنسانية”، مرجع سابق، ص: 26/ 42.
([16]) د. عز الدين إسماعيل، “الأدب وفنونه: دراسة نقدية”، (القاهرة: دار الفكر العربي)، الطبعة الثالثة، 1965، ص: 17.
([17]) د. محمود الشنيطي، “القصة القصيرة في المجلات المصرية: دراسة في تحليل المضمون”، في: د. لويس كامل مليكة (محرر)، “قراءات في علم النفس الاجتماعي في البلاد العربية”، الجزء الأول، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، الطبعة الثانية، 1986، ص: 509/ 521.
([18]) د. إلهام غالي، “غادة السمان الحب والحرب: دراسة في علم الاجتماع الأدبي”، (بيروت: دار الطليعة)، الطبعة الأولى، 1986.
([19]) مجموعة باحثين، “دور الأدب في الوعي القومي العربي”، بحوث ومناقشات الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الثانية، 1982، ص: 29.
([20]) رشاد رشدي، “النقد والنقد الأدبي”، (بيروت: دار العودة)، 1971، ص: 73/74.
([21]) د. سمير سعيد حجازي، “المناهج المعاصرة لدراسة الأدب”، (الكويت: دار الكتاب الجامعي للنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، 1996، ص: 123.
([22]) تيودور كابلو، “البحث الاجتماعي: الأسس النظرية والخبرات الميدانية”، ترجمة :د.محمد الجوهري، (الإسكندرية: دار المعرفة الجامعية)، الطبعة العربية الأولى، 1993، ص: 191.
([24]) Anselm Strauss & Juliet Corbin, Basics of Qualitative Research: Grounded Theory Procedures and Techniques, London , New Delhi, California , Sage Publication, Inc, 1990, P: 19.
([25]) Catherine Hakim, Research Design : Strategies and Choices in The Design of Social Research, London, Routledge, 2nd Edition, 1994, p: 44.
([26]) Gary D. Bouma & G. B. J. Atkinson, A Hand Book of Social Science Research: A Comprehensive and Practical Guide for Students, Oxford, Oxford University Press 2nd Edition, 1995, p: 206.
([27]) Alan Bryman, Ibid, p: 45.
([28]) لمزيد من المعلومات أنظر:
– Martyn Hammersley, The Politics of Social Research, London, New Delhi, Sage Publication Inc. 1st Edition, 1995.
([29])[29] أنظر: توماس كون، “بنية الثورات العلمية” ترجمة: شوقي جلال، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة (عالم المعرفة)، العدد رقم (168)، ديسمبر 1992.
([30]) د. عبد الباسط عبد المعطي، “البحث الاجتماعي: محاولة نحو رؤية نقدية لمنهجه وأبعاده”، مرجع سابق، ص:
([31]) Peter K. Manning, Betsy Cullum Swan, Narrative, Content and Semiotic Analysis, in, Norman K. Denzin, Yvonna S. Lincoln, Editors, Hand Book of Qualitative Research, London, New Delhi, Sage Publication INC.
([32]) أبا العوض أحمد و الفارابي عبد اللطيف، مرجع سابق، ص: 9/10.