لم تكن(الديمقراطية التمثيلية) حُلمًا سهل المَنال، فقد عاش الناس جُلَّ عصور التاريخ، مجرد رعايا لحاكم من أي طراز: (أمير، إمبراطور، والي، خليفة)، أو أسرى لوعي أيديولوجي زائف يبثه: (ساحر، كاهن، رجل دين من أي نوع أو درجة)، وفي الحالتين عانوا كثيرًا من التسلط والقهر، وعلى الرغم من ذلك، تطورت (الديمقراطية الليبرالية) ،عبر (النمط التمثيلي) حتى صارت النموذج المعياري (للحداثة السياسية)، خصوصًا في (القرن العشرين)، فمن يُمارسها وصل إلى الطريق السياسي الحديث وسار عليه، والعكس صحيح أيضًا، فمن لم يبلغْ هذا الطريق ظَلَّ متخلفًا سياسيًّا، أمَّا الذين يتطلعون إليه ويتحركون نحوه، فهم في طور النمو السياسي والارتقاء الحضاري، ورغم أنَّ ثمة نماذج تنموية خصوصًا في (آسيا)، ونجحت في بلوغ التقدَّم الاقتصادي والتكنولوجي دون مرور على هذا الطريق، عبر الفصل بين (الديمقراطية السياسية، واقتصاد السوق )، فالحق أنَّ (الديمقراطية) تستحق مكانتها معيارًا (للحداثة السياسية)؛ لسبب رئيسِ هو أنَّها ليست مجرد وسيلة؛ لتحقيق التقدم الاقتصادي والتكنولوجي، فإنْ تحقق الهدف دونها، فلا معنى للسعي إليها، بل هي غاية في ذاتها، تستحق السعي إليها والإصرار عليها؛ تجسيدًا للتقدم الحضاري والإنساني، وتحقيقًا لهدف معنوي أسماه (هيجل ) بـ(الحاجة إلى نيل التقدير والاعتراف)؛ لكونها أكثر النظم السياسية، التي تكفل المساواة القانونية بين الناس، وترعى حقهم المعنوي في التعامل باحتراٍم كامل لمجرد أنَّهم بشر، بغض النظر عمَّا إذا كانوا يتمتعون بالثروة أو السلطة أم يفتقدون إليهما.
لا يعني هذا الفهم أنَّ (الديمقراطية الليبرالية)،صارت النموذج السائد للحكم في عالم اليوم، أو أنَّه لا تواجه أزمات كبرى، فالتحديات التي تواجهها لم تتوقف أبدًا، كان أولها (أيديولوجيًّا) جسَّدته (الشموليات العقائدية)، وخصوصًا في نموذجها(السوفيتي )، وكان بعضها بنيويًّا، نبع من داخل مجتمعاتِها الأكثر تقدمًا وحداثةً، وبالذات من قلب تلك الثغرة الكامنة بين قيمها العليا وإجراءاتها الواقعية، الأمر الذي أسس لأكثر النزعات تطرفًا وعنصرية، مثلما كان الأمر في (النازية والفاشية)، أمَّا بعضها الثالث الراهن، فيتمثل في (التحدي السسيولوجي) الناجم عن التقدُّم التكنولوجي المتسارع، وما يفرزه من تأثيرات على كافة أشكال التنظيم والتفاعل البشريين، خصوصًا وسائط التواصل الاجتماعي، التي باتت آلة تدمير لمجمل الشبكات الوسيطة: (الحزب، المؤسسة، النقابة.. إلخ )، ولمُجل التفاعلات البينية المباشرة: (المؤتمرات، الندوات، الاجتماعات العامة السياسية)، وفي المقابل أصبحت منصة تمجيد للنزعة الفردية والحرية الشخصية، وترويج لكل الآراء حتى الغريبة منها أو العنصرية أو الرجعية، الأمر الذي أطلق أطيافًا مختلفة الحدة من (النزاعات الشعبوية )، وسرعان ما أفرزت تحديات جديدة لـ(لديمقراطية الليبرالية ) في شكلها التمثيلي، فباتت تضغط بقوة على المصير البشري.
الشمولية كتحدي أيديولوجي :
ارتبطت (الديمقراطية التمثيلية) بـ(الليبرالية الاقتصادية)، ارتكازًا على افتراض أساسي، وهو أنَّ الحرية لا تتجزأ، فتنظيم النشاط الاقتصادي على أساس( المبادرة الفردية) لابد وأن يتوازى مع تنظيم المجال السياسي على أساس( المواطنة الشخصية)، ومن الحرية على الصعيدين السياسي تشكل مفهوم الدولة الحارسة، أحد أبرز مطلقات (الفكر السياسي الليبرالي)، تلك الدولة التي مدحها(وليم سميث) بشدة، قبل أكثر من (قرنين) انطلاقًا من مبدأ (دعه يعمل دعه يمر) (مانيفستو الليبرالية)، قبل أن يهجوها(ماينرد كينز) بقسوةٍ أعقاب أزمة(الكساد الكبير) قبل نحو (القرن)، بينما حاولت أن تستعيدها السياستان (التاتشرية والريجانية) قبل (أربعة عقودٍ) قبل أن يدفعها اليمين الأمريكي المحافظ، مطلع (القرن الحالي) إلى ذروةٍ جديدةٍ جسَّدتها (مدرسة شيكاغو الاقتصادية)،التي دخلت في أزمة كساد جديد عام (2008 م)
عبر هذا التاريخ الطويل نسبيًّا، واجهت الدولة الحارسة تحديات شتى، جاء أبرزها من (النموذج الشيوعي) كتحدي (أيديولوجي) كامل على الصعيدين(السياسي والاقتصادي)، انطلق من مبدأ أساسي هو: (أولوية المساواة الإنسانية على الحرية الفردية، والتنظيم المخطط على المبادرة الفردية)، ألهمت(الأيديولوجية الشيوعية) ثورة 1917 م( البلشفية) في (روسيا القيصرية)، وتشكل على أساسها( الاتحاد السوفيتي)، كدولة عقائدية استمرت لنحو(ثلاثة أرباع القرن العشرين)، ولا يزال النموذج الشيوعي يتجسد في دول مثل (كوريا الشمالية وكوبا) تعتنقه كـ(أيديولوجية) رسمية، تعتمد على تنظيم حزبي واحد، واقتصاد مخطط مركزيًّا، وبناء اجتماعي مصمت، يندمج ظاهريًّا في طبقة واحدة، وإن تمايز جوهريًّا بدافع (الساد البيروقراطي والحزبي)، في ظل أجواء مغلقة تساعد على الإثراء غير المشروع أو المبرر.
واقعيًا تراجعت (الأيديولوجية الشيوعية) بفعل تطرفها في اتجاهين أساسيين: الاتجاه الأول يتمثل في :(ادعاء المساواة المطلقة بين البشر على نحو أفضى إلى كبح روح التفرد لدى الإنسان ) عندما نظرت إليه، باعتباره مجرد عضو يتحرك في سياق كتلة لا ملامح لها، مطالب تشبه الآخرين دائمًا، ومن ثم انحصر ذكاء الإنسان أو طموحه في دائرة تحقيق المطالب الطبيعية للنوع البشري بطريقة عقلانية، أي باعتباره حيوانًا عاقلًا لم يتطور مخه بعد، من مستوى الذهن القادر على إدراك الأفعال الشرطية، إلى مستوى العقل القادر على التفكير السببي، ومن ثم يذوي عالمه الداخلي وينفي عنه مفهوم (الشخصية) جوهريًا .والاتجاه الثاني يتمثل في: التنظيم المخطط والصارم للعمل ،على النحو الذي صاغ نموذجًا للإنسان أقرب واقعيًا إلى (الروبوت)، مجرد ترسفي آلة جماعية، يلعب دوره في بنيةٍ كليةٍ تتجاوزه، أو (سيكولوجية) قائمة علي وظيفتها في عملية الإنتاج المخططة شموليًّا، كائن وظيفي يلعب دورًا في (المؤسسة) وليس كائنًا إنسانيًا يعيش حياة حقيقية، هكذا تم دمج أفراد (الشعب الروسي) ضمن (الشعوب السوفيتية)،عبر (التهجير القسري)، وصبَّها في كتل، تعمل بانتظام وظيفي رهيب، يبدأ في المزارع الجماعية والمصانع الكبيرة، وإلا فهي (المنافي والسجون السيبيرية)، مرورًا بما يشبه الورش الأدبية التي تدافع عن (الواقعية الاشتراكية)، و(فرق البالية ومعاهد الفنون، أو حتى الألعاب الرياضية)، التي خضعت جميعها لقوة ضبط ونظام عملٍ صارمٍ رتيبٍ تحقيقًا؛ لرفعة الدولة ومجد الأمة، وليس بوازع من رغبات البشر، ولا تحقيقًا لذواتهم واستثمارًا لنبوغهم، وكأن(الخيال الأدبي والإبداع الفني والموهبة الرياضية)، يمكن توزيعها بحسب بطاقات الرقم القومي، غير أنَّ الإمبراطورية التي بناها (ستالين الرهيب)، لم تدمْ بعد رحيله سوى (ثلاثة عقود ونصف) قبل أنْ تتهاوى، فلا الناس فيها كانوا سعداء حقًا، ولا (الأمة السوفيتية) كانت موحدةً فعلًا، حيث أُرهق البشر في النهاية، واخفتت دوافعهم، وهَرِم الحزب الذي أشرف على تنظيمهم، وإن ظلَّ واقفًا مستندًا إلى منشأه، مثل: (سليمان الحكيم )، قبل أن تسقط العصا وتتفكك الدولة، وينطلق الناس في كل حدب وصوب، وهكذا انتصرت (الديمقراطية الليبرالية)على التحدي(الأيديولوجي) الكبير الذي واجهها، وازدادت اتساعها، فمع نهاية الحرب الباردة وانهيار حائط (برلين) (1989م) ثم انهيار (الاتحاد السوفيتي) نفسه( 1991 م) دون حرب، مالت الدول الأخرى التي استمرت اشتراكية إلى( الاعتدال العقائدي) مع تطعيم (أيديولوجيتها الأساسية)، بحزمة من السياسات الاقتصادية، التي تبعد بها كثيرًا أو قليلًا عن التخطيط الصارم، كما فعلت (الصين) التي باتت (ثاني)أكبر اقتصاد في العالم ،كما خرجت من فلك هذا النموذج تمامًا ،(الدول الاشتراكية)في شرق (أوروبا)، التي تمكَّنت من إعادة صوْغ تكوينها السياسي، وتبني أطيافًا مختلفةً لـ(لديمقراطية التمثيلية)، الأمر الذي صنع أوسع موجاتها انتشارًا وأكثرها عمقًا، إلى درجة رافقتها (مقولات تبشيرية) تؤكد انتصارها النهائي، بلغت ذروتها في مقولة نهاية التاريخ لـ(فرانسيس فوكوياما)، ولو كانت مقولة غائية متسرعة على نحو ما أسلفنا.
النازية كتحدي بنيوي :
كان فلاسفة كُثر، قد أبدوا تشاؤمهم إزاء الطبيعة الإنسانية غير العاقلة، الأنانية والشريرة، ومن ثم حذروا من الثقة في جموع البشر، أو بالأحرى في الإنسان، بل إن بعضهم قد تورط بحسن أو سوء نيةٍ في تكبيل الإنسان العادي، بمقولات تبرر عجزه سواء على صعيد (الفلسفة النظرية)، أو على صعيد (الفلسفة السياسية)، على صعيد (الفلسفة النظرية)، ذهبوا إلى عجزه عن إعمال العقل، حيث إن العقل لديهم لا يعمل في أمان إلا لدى الخواص من الناس ،كما ذهبت (الفلسفة الهرمسية القديمة والغنوصية التقليدية)، أي المعرفة القائمة على الاستبطان الروحي لا التدليل العقلي، والتي تشبه (المعرفة الصوفية)في مجال الإيمان الديني، مرورًا بما يشبه ذلك في أشكال (الفكر التراثي اليهودي والمسيحي)، ووصولًا إلى(فلاسفة الإسلام) خصوصًا (الفارابي وابن رشد)، حيث أجرى التأكيد على (علم الخواص)، الذين يمكنهم تداول (القضايا الفلسفية)، ومقارنة بالحقائق المعرفية برهانًا، في مقابل (علم العوام)، العاجزين عن ذلك، ومن ثم يتوجب إبعادهم عن تلك القضايا، حتى لا يقعون في مواقع الزلل مع الاكتفاء بوعظهم وتوجيههم خطابيًّا إلى الحقائق التي يكتشفها الخواص.
أمَّا على صعيد (الفلسفة السياسية – العملية)، فقد ذهبوا إلى أن الإنسان العادي قاصر عن فهم مصلحته الحقيقية، قابل للتورط في أفعال فوضوية، حتى باتت إرادة الجماهير هاجسًا لـ(لديمقراطية) التي تحدَّث عنها (أفلاطون) في كتابه التأسيسي (الجمهورية)، ولكن من زاوية التشكيك في جدواها، فالجماهير لديه تفتقر إلى الحكمة، أو القدرة على تحكيم العقل، بحيث يسهل وقوعها في خطر الغواية والخداع، ولذا وضع (أفلاطون) (الحكم الديمقراطي) في المرتبة الدنيا، بعد حكم الفرد المستنير (الملكي) وحكم القلة (الأرستقراطي)، وإن خفف قليلًا من سطوة هذا الرأي في كتاب (القوانين)، معتبرًا أنَّ (الحكم الديمقراطي) يمكن أنْ يكون جيدًا ولكن بشروط أهمها: (التوعية التي تكسب الجماهير الحد الأدنى اللازم من ملكة الحكم على الأشياء)، وهذا كان ممكنًا في دولة (المدينة اليونانية)، فجمع الرجال الأحرار فقط، دون العبيد والنساء والأطفال، باعتبارهم المواطنين في ميدان عام للتشاور واتخاذ القرارات الكبرى، تلك الهواجس، هي التي أبقت (بريطانيا)، مهد( الديمقراطية)، مترددةً في منح الحق نفسه لفئات معينة كالمرأة، حتى بداية (الربع الثاني من القرن العشرين)، كما ربطت بين حق التصويت في البداية بدفع الضرائب، كونه مالكًا لشيء ما أو حائزًا لقيمة، يفترض أنه سيصوت بحس مسؤول خشية تهديدها، قياسًا إلى من لا يملك، والذي قد تتسم إرادته بـ (الفوضوية)، وكذلك (الولايات المتحدة) التي حرمت العبيد من التصويت إلى ما بعد (الحرب الأهلية)، التي تلت قرار تحريرهم رسميًّا بين عامي(1863م ) و(1865م) ولعل هذا الهاجس نفسه، هو منبت جَلَّ التيارات المحافظة في الفكر السياسي كله، والتي وصلت لدى مفكرين كبار، كالفرنسي (ألكسيس دى توكفيل) إلى درجة مخيفة، حينما زار (الولايات المتحدة) في نهاية (خمسينات القرن التاسع عشر)، ورأى فيها حرية منفلتة.
ورغم ذلك كانت (الديمقراطية) تتقدَّم، فبعد (الديمقراطية البريطانية الأم) التي لم تستقر إلا في نهاية (القرن السابع عشر)، وقعت الثورتان الديمقراطيتان الأمريكية على الاستعمار البريطاني، ومنها وُلد(الاتحاد الأمريكي عام 1776م ) ثم (الفرنسية ضد الإقطاع والملكية معًا)، بعد أقل من العقد ونصف العقد عام(1789م)، ومنها وُلدت الجمهورية العلمانية قدمت الثورتان دعمًا قويًا لـلديمقراطية الليبرالية، فمن ناحية لم تعد الديمقراطية البريطانية عصفورًا وحيدًا يغرد منعزلًا بل أصبح الحديث ممكنًا عن غرب ديمقراطي ومن ناحية أخرى أسست الثورتان معًا لـلنظام الجمهوري الرئاسي، الذي مثل تقليدًا جديدًا أُضيف للتقليد الملكي البريطاني – البرلماني، غير أن الديمقراطية الليبرالية عادت لتواجه تحديًا ثانيًا بنيويًّا، نبع من تلك الفجوة القائمة بين قيمها وإجراءاتها، ومن قدرة الخطابات الديماغوجية والأفكار الشعبوية، على إغواء الفرد واتخاذه مطية لأكثر النزعات غريزية، ولو باسم (القومية)، كما كان الأمر في إيطاليا الفاشية، تحت قيادة (بنيتو موسوليني) أو في( ألمانيا) تحت قيادة (أدولف هتلر).
لم تكن نازية الفوهرر في (ألمانيا)، مهد (الفلسفة المثالية والنزعة النقدية)، ولا (فاشية الدوتشي) في (إيطاليا)، ومهد (النهضة الأوروبية والنزعة الإنسانية)، استثناء في التاريخ الإنساني المكتوب بحروف الاستبداد والتسلط والقهر، ولكن الشعور بوطأتهما، نبع من كونهما نبتتا من قلب الحدث وبزغتا في القرن العشرين، الذي لم يكن متصورًا أن يُعاد فيه سُحق الإنسان على نحوٍ أفقد (أوروبا) جلَّ حكمتها، وكل ثقتها بنفسها، ومعظم أحلامها في التقدَّم، إلى درجة شاعت معها الكتابات، التي تتحدث عن السقوط والانهيار، لقد جسَّد الرجلان في حقبة ما بين الحربين(1922م – 1954م)، ذروة العبث في الاستبداد الحديث، المولود من رحم ديمقراطية إجرائية تحترم النمط التمثيلي شكليًّا، بينما تستند جوهريًّا على أكثر القيم رجعيةً كـ(التفوق العرقي، والسمو الجنسي، وغيرها) من مقولات الخطاب الثقافي للمركزية الأوروبية، والتي لم تعد مجرد مقولات إشكالية، مثلما كانت في القرن التاسع عشر، بل صارت أسلحة فتاكة في أيدٍ عابثة، تجمع بين السلطة السياسية والتطرف القومي والجنون الشخصي، أي مواصفات (القنبلة التاريخية)، التي تُجسد في حقل السياسة وصراعات السلطة، ما تمثله(القنبلة النووية) في المجال العسكري وصراعاته المسلحة.
سارت( النازية) على طريق إهدار قيمة الفرد، ولو عبر طريق التفاني، يمر بتضخيم ذاته حتى ينفجر من داخله، وذلك بالنفخ في مفهوم (الأمة الألمانية)، التي تنطوي على أرواح أفرادها، وتذيب ذواتهم في ذاتها الكلية، فكما أن تلك الأمة عظيمة منذ البداية، خُلقت لرسالةٍ كبيرةٍ تعتلي بها قمة الأعراق، وتسعى من خلالها إلى ريادة الحضارات، فإن (الفرد الألماني)، هو أعظم الذوات الإنسانية بشرط وحيدٍ، هو أن يكون لبنة أولى طيعة في عظمة الوطن الآري، ومن ثم يتوجب عليه التضحية باستقراره وأمانه وهناء عيشه، والدخول في حروب مع الأمم التي تنفي عظمته أو تقلل منها، وكذلك اضطهاد الأعراق الأخرى، التي تسكن الوطن الآري، لكنها لا تحمل دماءه الصافية، ولا تنتسب إلى عرقه النقي، حتى كان ما كان من (شوفينية واستبداد ومعارك دامية لأسباب واهية)، أتت على تلك( المدنية الكبرى) التي أنتجت سلفًا، بعضه من أعمق (الأفكار التنويرية)، واحتضنت يومًا (الفلسفة النقدية )، أحد أبرز التيارات الفكرية الأساسية( لـلحداثة الثقافية والتنوير العقلي)، بل أنها قامت باضطهاد ورثة (النزعة النقدية) من رواد مدرسة (فرانكفورت) ،الذين سجنوا أو اضطروا للهجرة خصوصًا إلى (الولايات المتحدة)، هروبًا من (الجنون النازي) الذي دمَّر كل شيء، قبل أن يُدمَّر ما بقى من عقولهم.
لم يكن (النازي والدوتشي) وحدهما تجسيدًا للشر السياسي في (القرن العشرين)، فثمة (ديكتاتورية ستالين) البشعة وآلام المزارع الجماعية خلف الستار الحديدي، وأيضًا (فاشية فرانكو) في( إسبانيا) التي جرحت الضمير الأوروبي في ذروته الحداثية، ناهيك عن مستبدين كثيرين كبار وصغار، خارج (أوروبا) وداخلها – ولكنهما فقط كانا بمثابة النموذج الأبرز،؛ لقصور (الديمقراطية التمثيلية) بـنيويًا، وللقدرة على توظيف الصناديق الصماء؛ للتحكم في أرواح الأحياء، بل محاولة تغيير الطبيعة الإنسانية، بوضع الجميع قبل الفرد والوطن وفوق الشخص، ثم اختزال الوطن كله في شخص، راودته خيلاء كاذبة، بأنه لديه من الحكمة ما يزيد على حاجة الوطن، ومن القوة ما يكفي بنفي جموع المواطنين؛ ليصبح هو نفسه الوطن، أما الخبر العظيم الذي زفَّه إلينا التاريخ، فهو أن كل المستبدين الذين توهموا قدرتهم على التحكم بالطبيعة الإنسانية، أو على إعادة صياغتها الكلية، قد فشلوا جميعًا في إنجاز مهمتهم النهائية، حتى لو تحققت لهم بعض النجاحات في لحظة البدايات، فـ(المستشار الألماني) الذي لم يستشرْ أحدًا، و(الدوتشي ) الذي لم يرحم أحدًا، داهمتهما حكمة التاريخ، التي لا تتستر على الحقيقة أبدًا، ولا تستثني من حكمها فردًا، فلقد هُزما شر هزيمة، وتم نفيهما بشراسة وقسوة، تتوازى مع قسوتهما في نفي الآخرين.
الشعبوية كتحدي سسيولوجي:
اليوم، في مطلع العقد( الثالث للقرن الحادي والعشرين) وبعد أكثر من (سبعة عقود)، على هزيمة القومية العضوية، و(ثلاثة عقود) على هزيمة (التحدي الأيديولوجي)، تواجه (الديمقراطية الليبرالية)، تحديًا جديدًا يتمثل في (الموجة الشعبوية) الزاحفة عليها، داخل جغرافيتها التقليدية (أمريكا وغرب أوروبا). والبادي لنا أنَّ هذه الموجة وليدة تحول (سوسيولوجي) في بناء المجتمع ما بعد الصناعي، حيث أفضت( الثورة التكنولوجية) منذ نهاية (السبعينات القرن الماضي) إلى تراجع تدريجي، في نمط تكوين وتثقيف القيادات السياسية، مع دخولنا في عصر الصورة، بديلًا عن عصر الفكرة، إذ لم تعد الأفكار الكبرى مهمة للقائد السياسي، فالمهم هو حُسن عرض وترويج المتاح منها، لم تعد الأفكار تُقاس بعمقها بل بمساحتها، أي حاصل ضرب طولها في عرضها، وعندئذٍ صار العالم أقرب إلى مسطح كبير، يزداد اتساعًا، دون عمق فلسفي أو تكافل إنساني، نقصد هنا عالم السياسة القائم على طلب السلطة، والتنافس عليها عبر خطابات متصارعة، تتوسل القدرة على الإبهام والمراوغة والتحايل، فلتدع عن – أيها الزعيم السياسي – المهمة الشاقة في صوْغ حقائق مركَّبة، أو تحليل الواقع الصعب؛ ولتكتفي فقط بأن توميء بوعودٍ براقةٍ، والأفضل أنْ تبقى مُبهمة.
وقد غذت نهاية الحرب الباردة، وغياب الصراع الأيديولوجي والنظام العالمي، هذا الاتجاه الهابط في نمط القيادة السياسية، حيث توارت الحسابات الكبيرة ،وما تستثيره من جسارة ومثالية وخيال؛ لتترك المجال واسعًا، والفضاء رحبًا أمام الصراعات الصغيرة، حول الحسابات المادية والمشاكل التقنية، من قبل كيفية إشباع الرغبات المحمومة للمستهلكين، إذ لم تعد (التيارات المناهضة للرأسمالية) في العالم تمتلك خيالًا متدفقًا، وبدائل مختلفة للمستقبل بعد هزيمة(الشيوعية)، وتحوُّل (اليسار الأوروبي) عن أحلامه الكبيرة، في تغيير المجتمع جذريًّا، وتواضع مطالباته على نحو يجعله نافعًا وعمليًا، يمارس السياسة فقط باسم (الواقعية)، وأخيرًا ذبول (اليسار الثقافي) أو انطوائه على نفسه، وبالذات مع تواري مدرسة (فرانكفورت) برحيل المؤسسين الكبار، خصوصًا (أدورنو ،وهوركهايمر، وماركوز )، حتى بدا( يورجن هابرماس) من الجيل الثاني لها، عصفورًا وحيدًا لا يصنع ربيعًا حقيقيًا، ومن ثم بدا العالم فقيرًا حقًا، حيث انتهى عصر الأفكار الكبيرة، وفتح الباب أمام صعود (الأصول الدينية) ومع انكفاء الجيش الأحمر والتحدي السوفيتي في سياق الصراع الكبير، وُلِد (تنظيم القاعدة) من رحم الصراعات الصغرى، وبدلًا من عصر (الحروب النظامية)، سادت تكتيكات حرب العصابات بدءًا من (أفغانستان) وصولًا إلى (داعش) في (العراق وسوريا) وفي موازاة العولمة الرأسمالية لتعوْلم الظاهرة الإرهابية ،وبديلًا عن (ستالين) المرعب كان هناك (بن لادن العبثي).
أتى عصر الصورة بقادة مراوغين، طالما كانت وعودهم أكبر منهم، وأحيانًا كان للرجال المحيطين بهم سطوةٌ عليهم أكثر من سطوتهم هم على الجماهير، فقد أصبح (الكوافير) صانع الصورة الحلوة، والمصور البارع، صاحب اللقطة الأخَّاذة، والمخرج (التليفزيوني) البارع في الإيحاء والتلوين فاعلين سياسيين كونهم صناع الطلَّة الأخيرة، التي يتجلى بها الزعيم، وبها يكسب القلوب ويدير العقول، فتصوِّت النساء للزعيم الوسيم، ويتحمس الشباب للزعيم المقدام، ويبدي الكبار احترامهم للزعيم الحكيم، رغم أنه قد لا يكون وسيمًا ولا مقدامًا ولا حكيمًا من الأصل.
في مطلع (القرن الحالي) بروز دور وسائط التواصل الاجتماعي، التي استحالت قالبًا يمتص الجدل الثقافي والسياسي في أقنية العالم الافتراضي، بديلًا عن المنتديات الواقعية والقوالب التقليدية، يدور حول الفرد ككائن تواصلي، وليس حول الحزب أو المؤسسة أو الصحيفة، ومن ثم أصبح العالم ساحةً صاخبةً لمعارك وصراعات وقضايا لا رابط بينها، حيث بات طلب السلطة والتنافس عليها، يدور في فلك الإغواء والإبهام والتحايل، بديلًا عن الخطابات الإيديولوجية، التي تنطوي على رؤية للعالم وتصورات عن المستقبل؛ لأنَّ الناخب في جمهورية التواصل الاجتماعي، لا يبحث عن جذور القضايا المثارة، ولا يتساءل حول عدالتها وإنسانيتها، بل يطلب حلولًا بسيطة لها، تتوافق مع وعيه الاختزالي وغرائزه السياسية، ولهذا بات يرفع زعامات وهمية تلبي طلبه السياسي، غير عابئ بخلفيتها التي قد تكون طائفية هنا وشعبوية هناك وعنصرية في كل الأحوال، هكذا بدا العقل السياسي في حال ضمور، واللاوعي السياسي في حال نشوة متصاعدة، فمؤلف النص (السياسي/ الأيديولوجي) مات إكلينيكيًا، بينما أخذ (القارئ / الناخب) يصعد تدريجيًا على جسده، لقد تراجعت القيادات الملهمة ،وتقدمت الجماهير الغفيرة؛ ولأن الجماهير لا تكترث بالأفكار، فقد صارت المشهدية سيدة الموقف، وبات مفهوم الحقيقة أكثر انفصالًا عن عالم السياسة حيث وُلد عصر ما بعد الحقيقة، في موازاة عصورًا ما بعد الصناعة و الحداثة…..إلخ.
في هذا العصر، حيث الظل يسبق الجسد نفسه، والألفاظ تغني عن المعنى ذاته، بات ممكنًا أن تُدار المعارك ويُغتال الأشخاص معنويًا، وعن بعد على مذبح (الوسائط التكنولوجية)، تحت أقدام طوفان المعلومات والصور، التي يجري تبادلها كل لحظة في تيار فيَّاض، يكاد يُغرق الجميع من دون تدقيق أو حذر، بل ربما مع تعمد ترويج الكذب وتعميم الخطأ، فطبيعة تلك الوسائط تفترض من المرسل والمستقبل السرعة في رد الفعل، والإيجاز في التعبير عن الانفعالات والمشاعر والأفكار، فما يقبل التبادل هو الأخف وزنًا والأصغر حجمًا والأكثر مباشرةً، وهنا يتراجع كل ما هو عميق ومركب من أفكار، ويتقدَّم كل ما هو بسيط واختزالي من معلومات؛ لأن المعلومة تحتاج إلى مساحة من الخيال تتحرك فيها ؛كي تصبح فكرة عن شيء ذي معنى ودلالة، وهى مساحة لا تتوافر في ظل صخب (الوسائط الشبكية)، والانفعال المسيطر على مستخدميها.
هذا هو السياق الذي برز فيه (الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب)، إذ بدا تصوره للعالم بسيطًا وسطيحًا، قريب الشبه بـ(التويتة ،والبوست)، اللذين يستخدمهما رواد( تويتر، وفيسبوك ) ،أكثر مما يشبه الفكرة لدى أي فيلسوف أو مفكر أو حتى الخاطرة الأدبية في خيال أي قاصٍ أو رواءٍ، لقد أجاد (ترامب) توظيف سطحيته؛ ليصبح أقوى رجلًا في العالم بصياغة مواقف شعبوية عبَّر عنها بطريقة مستفزة ودرامية، تخيَّلنا أن شعبويتها سوف تهزمه منذ البداية، فإذا بدراميتها تنتصر له في النهاية، وفي ممارسته الفعلية للسلطة كان الرجل وفيًّا لكل وعوده، أحال توهم ما بعد الحقيقة إلى حقائق واضحة، وأعلن كثيرًا من قراراته من منصة (تويتر) وصاغ معظمها انطلاقًا من وعي غريزي، يقوم بأفعال شرطية، تنتمي إلى عالم الذهن أكثر مما تنتمي إلى عالم العقل، ويدوس كل ما هو رمزي وأخلاقي، طالما كان ذلك ممكنًا، لا تحول دونه قوة صلبة، تحرمه من منفعةٍ شخصيةٍ أو تُعاقبه على مسالكه المبتذلة، فالرجل صرَّح بما فكَّر فيه، وقال ما أراده، وفعل ما قاله، ومارس مغامراته غير المحسوبة على كافة الأصعدة، فيما تعين على الآخرين، طالما كانوا عقلاء أو يملكون حسًّا أخلاقيًّا بالمسؤولية عن عالمهم، أن يعملوا كرجال مطافئ لحرائق، لم يتوقف (ترامب) عن إشعالها يوميًا، بعد أن وضع سيف (العبث والهمجية والظلم والبداوة ) على رقابنا جميعًا، وجعل من عالمنا محض رهينة لا تملك خيارًا خارج حدين: إما الخضوع المذل أو الموت غير الرحيم، وعلى هذا أصبح (ترامب) تجسيدًا لذلك النوع السيئ والخطير من القادة، الذين أعادوا التقدُّم وسعوا لإخضاع التاريخ لغريزة القوة، بل حاولوا إعادته إلى حالته الطبيعة الأولى، تلك التي كان الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز)، قد أجاد في وصفها باعتبارها همجية مطلقة، يبدو فيها الإنسان ذئبًا حتميًّا لأخيه الإنسان، والعلاقة بين الجماعات والدول مجرد انعكاس لقوانين الحياة الحيوانية في الغابات الاستوائية الكبرى، وهنا يسقط التنوير القادم، وتتوارى الحداثة تحت أقدام الهمجية.
كان مؤكدًا لدينا، خسارة الرجل للانتخابات الأخيرة، وهو ما تنبأنا به وكتبناه بوضوح على صفحات جريدة سيارة، قبل الانتخابات لا بعدها، وقد خسرها بالفعل، ولكنَّه في سلوك متوقع من مثله ،عاد ليشكك في نتائجها محاولًا المماطلة في تسليم السلطة، متصورًا أنَّه قادر على تغيير قواعد (النظام الأمريكي)، التي استمرت فعَّالة ومُتطورة منذ نحو (القرنين ونصف القرن)، رغم تلك المناورات الساذجة كان رحيل الرجل مؤكدًا أيضًا، لكن كان ثمة مخاوف من احتمال نجاحه، في أن يمد أذرع نهجه الفوضوي وعقليته الانتهازية لتخيم على (الفضاء السياسي الأمريكي) بر بناء تيار معارضة غير تقليدي، يدير صراعاته من الشارع، وليس من داخل المؤسسات الرسمية على منوال الديمقراطيات غير الناضجة، محاولًا إعاقة الإصلاحات المطلوبة؛ لتصويب نهجه الشعبي الذي أصاب السياسة الأمريكية داخليًا وخارجيًا، أملًا في أنْ يبقي على حظوظه كمرشح جمهوري في الانتخابات القادمة.
باتت تلك الممكنات صعبةً، بفعل جريمة اقتحام مبنى( الكونجرس) بكل رموزه السياسية والتاريخية، من قبل أنصاره، الذين نشروا الفوضى والرعب في كل جنباته ،بتحريض سافر منه، بغية منع التصديق على نتائج الانتخابات الأخيرة، وإعلان( جو بايدن) رئيسًا جديدًا للبلاد، لقد عرفت مصر ما أسماه( الإخوان والسلفيُون) قبل (تسع سنوات) بــ (غزوة الصناديق)، عندما تمكنوا من تثبيت دستورٍ معيبٍ، يكاد يجعل منها دولة دينية تحت ضغط الغواية والخداع، مع حصار مبنى (المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي) كرموز لمدنية الدولة، وكما كان دستور الإخوان نذير شؤم أودى بحكمهم، فقد أفضت (غزوة الكونجرس)، عكس ما أراد الرئيس إلى فضح همجيته، وانزعاج الكبار في حزبه منه، إلى حد التنصل منه؛ ليخسر الرجل تعاطف الجميع، حتى أنصاره الذين شاهدوه وهو يدينهم ويتبرأ من سلوكهم، بعد أن شعر بخطورة موقفه، وخشي من احتمال محاكمته قانونيًّا بعد رحيله عن منصبه؛ لينكشف أمامهم كشخص مغامر، يمكنه التضحية ليس فقط بأمن أمريكا) وديمقراطيتها، بل أيضًا بأنصاره وناخبيه، الذين تصرف نحوهم وكأنهم مجرد حطب لحريق أراد أن يشعله في كل شيء قبل مغادرة منصبه. لقد استهلك( ترامب) نفسه (زخم الترامبية) عندما بالغ فيها وذلك هو دهاء التاريخ وحنكته في الدفاع عن مسيرة تقدُّمه.
نعم : بلغت الديمقراطية مع (ترامب) ذروة الإنهاك، إذ لم تعد كما كانت قبل (ربع القرن) أيقونة يُنظر إليها، باعتبارها المحطة الأخيرة على طريق التَّطور التاريخي، ولكن أسوأ استخلاص ممكن لما جرى هو القول بتهافتها أو تقادمها، كمحاولة خبيثة؛ لتبرير الاستبداد، فرغم كل عيوبها تبقى هي الأكثر قدرةً على صون الحرية الفردية، وترشيد القرار الوطني وإدارة التنوع الديني والعرقي، لا ندعى بأنَّها نظامًا مثاليًا ينضوي تحته الطيبون والملائكة، ويطرد خارجه الأشرار والفاسدين لكننا نؤمن بقدرتها على صياغة توازنات دقيقة بين هؤلاء وأولئك بين ممكنات الاستقرار ودواعي التغيير وعلى ممارسة التصحيح الذاتي بآليات سلمية، دون انقلابات عسكرية وحركات ثورية ،تحول دون تراكم خبرات الشعوب وتفرض البدء- كل مرة – من جديد، ستتعلم أمريكا من أخطائها يقينًا ولو بعد جهد جهيد وألم شديد، وستواصل (الديمقراطية)؛ لتجديد نفسها ذاتيًّا، وهذا هو الدرس الحقيقي الذي يتعين علينا أن نتعلمه.