2021العدد 185ملف دولى

المسار المرتقب للعلاقات بين القوى الكبرى بعد فوز (بايدن) وتداعياته على المنطقة

مقدمة:

من الممارسات المعتادة في العلاقات الدولية سعي القوى الكبرى؛ لتعزيز نفوذها حول العالم، ومن ذلك سعي الولايات المتحدة الأمريكية – منذ إنتهاء الحرب الباردة؛ للاحتفاظ بوجودٍ مؤثرٍ في مناطق العالم المختلفة بهدف إدامة هيمنتها على النظام الدولي وضمان عدم صعود أي قوة أخرى يمكن أن تمثل تهديدًا لنفوذها.

ومع انخراط (واشنطن) في حربي (أفغانستان والعراق)، والأعباء الكارثية لذلك على الاقتصاد الأمريكي، أدركت النخبة السياسية الأمريكية التكلفة الباهظة للاستمرار في السيطرة على النظام الدولي، وتتفق هذه النخبة من الديمقراطيين والجمهوريين اليوم على أنَّ العالم دخل بالفعل فترة ممتدة من تنافس القوى العظمى، وأنَّ كلًا من (الصين وروسيا)، أصبحتا بالفعل منافستين أساسيتين للولايات المتحدة، وقد تأكد ذلك في وثائق أمريكية رسمية عديدة منها استراتيجيتي (الأمن القومي (ديسمبر 2017 م)، والدفاع الوطني (يناير 2018 م). غير أنَّ تلك النخبة منقسمة فيما بينها حول الأدوات المثلى؛ لحشد القوة الوطنية للتعامل مع المنافسين لها، فالديمقراطيون يتحدثون عن الحاجة إلى تنشيط الأدوات الدبلوماسية والتوسع في استخدام كافة أشكال العمل الجماعي، بينما يؤكد اليمين أهمية الاعتماد على جيش قوي وعلى أفضل استعداد لتبني تدابير أحادية. وفي كل الأحوال، هناك إدراكًا متزايدًا لدى الطرفين بأنَّ عصرَ الهيمنة الأمريكية على العالم دون منازع قد انتهى.

وبالنظر إلى فشل إدارة (ترامب) الذريع في إدارة أزمة وباء فيروس (كورونا) المستجد (كوفيد-19) وتداعياتها الاقتصادية، وعزوفها عن ممارسة دور قيادي عالمي؛ لاحتواء الوباء كما كان في الماضي، تنتظر الرئيس الجديد سلسلة من التحديات الداخلية الضخمة كـ (البطالة وانعدام الفرص الاقتصادية والانقسام الحاد في المجتمع الأمريكي)، وهو ما دفع بعض الكتاب الأمريكيين مثل (ريتشارد هاس) رئيس مجلس الشؤون الخارجية إلى الحديث عن (عالم ما بعد أمريكا).

وعلى صعيد السياسة الخارجية، تُشير أغلب التقديرات إلى أنَّ (بايدن) لن يلغي كل أو معظم الاتجاهات الأساسية التي جلبت (دونالد ترامب) إلى البيت الأبيض، فالمجتمع الأمريكي يشهد بالفعل حالة انقسام غير مسبوقة انعكست على رفض الرئيس السابق نتائج الانتخابات الرئاسية، بل والتحريض على اقتحام مبنى (الكابيتول) في (6 يناير) الماضي، مؤيدًا في ذلك عشرات النواب الجمهوريين، الذين صوتوا ضد محاكمته أمام الكونجرس مؤخرًا في حادثة فريدة في التاريخ الأمريكي. وفي ضوء القاعدة الشعبية الكبيرة المؤيدة لـ(ترامب)، يُرجح كُتَّابٌ كُثُر أن تؤدي حالة الاستقطاب وعدم القدرة على إدارة الأزمات في الداخل إلى عرقلة جهود (بايدن)؛ لإعادة تأكيد القيادة الأمريكية في الشؤون العالمية، والذي سيكون عليه كسب تأييد الحزب الجمهوري؛ لمقارباته لقضايا السياسة الخارجية.

ويعرض هذا المقال للمسار المرتقب لعلاقات الولايات المتحدة بكل من (الصين وروسيا) بعد فوز (بايدن)، وتداعيات ذلك على المنطقة:

أولًا: العلاقات الأمريكية – الصينية:

يعتقد العديد من الكُتَّاب الأمريكيين أنَّ التحدي الكبير الذي تمثله الصين لإدارة (بايدن) يتمثل في كيفية إعادة صياغة العلاقات المتدهورة بين البلدين، بحيث يمكن تعزيز المصالح الأمريكية مع ثاني أكبر اقتصاد و قوة تجارية أولى عالميًا، دون أن يتحول الأمر إلى صِدامٍ مباشر. ويُشير هؤلاء إلى أن الوضع التنافسي الحالي مع الصين، وما تمتلكه من الموارد اللازمة للنمو بمعدلات أكبر وأسرع وأقوى من (واشنطن)، يفرض على الرئيس (بايدن) وضع استراتيجية متكاملة لمواجهة هذا الصعود الصيني ، الذي سيُغير حتمًا شكل النظام العالمي. ويؤكد البعض هنا أنَّه من غير الممكن الدفع بما يسمي استراتيجية (فك الارتباط) مع الصين على نحو ما كان يدعو (ترامب)، وأنَّ العوامل الجيو اقتصادية تُشكّل اليوم أهمية تَماثل القوة العسكرية مع بزوغ نجم العولمة ناهيك عن حالة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين البلدين.

وكانت أزمة (كوفيد-19) بمثابة نقطة توتر جديدة في المنافسة الجيو سياسية الممتدة  بين (واشنطن وبكين) منذ سنوات، حيث كشفت أوجه قصور واضحة في المجتمع الأمريكي وتحوَّلت الولايات المتحدة سريعًا منذ بداية تفشي الوباء وحتى الآن؛ لتكون الدولة ذات العدد الأكبر من الإصابات والوفيات المسجلة، وانفضح النظام الصحي الأكثر تكلفة في العالم، ولجأت القيادة الأمريكية لمبررات واهية وتسييس سافر بإلقاء تبعيَّة تفشي الوباء على عاتق الصين بالتواطؤ مع منظمة الصحة العالمية، كما عزفت عن قيادة أي تحالف للتعامل مع الفيروس – كما حدث إبان وباء (إيبولا) مثلًا.

وعلى الرغم من الخلافات السياسية العميقة حول قضايا أخرى، أيَّد الديمقراطيون في معظم الأحيان سياسات (ترامب) تجاه الصين، وقبل الانتخابات قال (بايدن) ومرشحته لمنصب نائب الرئيس(كامالا هاريس): “أنَّهما ينظران إلى (بكين) على أنَّها التحدي الأهم في السياسة الخارجية الأمريكية”. في الوقت ذاته انتقد (بايدن وهاريس) الحرب التجارية التي يقودها (ترامب) ضد الصين، متعهدين بصياغة سياسة أكثر دقة على أساس نقاط القوة الأمريكية ممثلة في (الانفتاح الاجتماعي والديناميكية الاقتصادية، والشراكات والتنسيق مع الحلفاء). وقال (بايدن) مرارًا أنَّ الصين يجب أن تعمل وفقًا للمعايير والقواعد الدولية، وأنَّ الولايات المتحدة ستعمل مع شركائها وحلفائها بشأن القضايا الحيوية، مثل تكنولوجيا الاتصالات الصينية (5G) والتهديدات الإلكترونية التي تشنها الصين وروسيا من حين لآخر.

وتُشير التحركات الأولية لإدارة (بايدن) إلى تبنيه مقاربة واقعية تجاه الصين اعترف فيها ضمنًا بعجز (واشنطن) عن فعل شيء بدون تحالفات قوية، فقد أكدَّ في أول خطاب له حول السياسة الخارجية لإدارته في (4 فبراير الجاري) أنَّ التحالفات القوية هي (المفتاح لردع الطموحات المتزايدة للصين؛ لمنافسة الولايات المتحدة)، وأنَّ علاقاته بـ(بكين) ستكون متوازنة ما بين تنافسية في بعض المجالات، وتعاونية في مجالات أخرى كالتَّغير المناخي، وأنَّه سيُنسِّق مع الحلفاء سعيًا إلى تشكيل جبهة متعددة الأطراف ضد السياسات الاقتصادية والأمنية الصينية الضارة بالمصالح الأمريكية، ويتوقع أن تضم (الاتحاد الأوروبي واليابان والهند) بصفة أساسية، وقد فُسّر حديث (بايدن) عن الصين باقتضاب أنَّه اعتراف بأنَّ إدارته لم تقم بصياغة مقاربتها تجاه (بكين) بعد.

وفي التقدير، لن تكون مهمة (بايدن) هنا سهلة في ضوء حالة الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين الصين وأغلبية حلفاء واشنطن، وقد جاء توقيع الاتحاد الأوروبي والصين على (الاتفاقية الشاملة للاستثمار) في (30 ديسمبر) الماضي بعد أكثر من سبع سنوات من المفاوضات ودون أي تشاور مسبق مع واشنطن؛ ليؤكد هذه الحالة من الاعتماد المتبادل بين الجانبين وتآكل مصداقية الولايات المتحدة لدى الاتحاد بعد أربع سنوات من العلاقات المجمدة مع واشنطن، واتَّهم (ترامب) الاتحاد الأوروبي – غير المسبوق من أي رئيس أمريكي آخر- بأنَّه تهديدٌ، وشنَّ حربًا تجارية ضده، ووَصف خروج بريطانيا منه بأنَّه (انتصار عظيم).

والخلاصة: أنَّ معظم التقديرات الأمريكية تُشير إلى أنَّ المسار الحالي المتشدد الذي تنتهجه واشنطن لاحتواء الصين يعكس سياسة أمريكية مدروسة وطويلة الأمد لا تخضع للتغيير في الإدارات الأمريكية على المدى المتوسط أو حتى الطويل. فالولايات المتحدة تنظر إلى الصين باعتبارها الخصم الاستراتيجي الرئيسِ، الذي يجب احتواء طموحاته ونفوذه الدولي. وما يثير القلق الأكبر للأمريكيين هو أنَّ القيادة الصينية لم تعد تكترث بالانتقادات الدولية (الغربية)؛ لسلوكها على خلاف ما كان عليه الحال في الماضي، وأنَّ الرئيس الصيني ماضٍ بثبات نحو تحقيق هدفه المتمثل في (التكافؤ في القوة وفي القيادة مع الولايات المتحدة).

ثانياً: العلاقات الأمريكية الروسية:

وفقًا لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكية (2017 م)، انتقلت روسيا من مجرد قوة كبرى إقليمية – كما كان يحلو لـ(أوباما) وصفها- إلى منافسٍ أو عدوّ للولايات المتحدة وخطرًا داهمًا على أمنها القومي وتهديدًا للنظام اللّيبرالي الدولي الذي تقوده واشنطن ولمستقبل هذا النظام، خاصةً منذ الأزمة الأوكرانية عام (2014 م)، وضم (شبه جزيرة القرم).

وكما عرضنا بشأن التحدي الخاص بالعلاقات مع الصين، يعتقد خبراء أمريكيون أنَّ المهمة الصعبة التي يجب على (بايدن) التصدي لها هي صياغة استراتيجية شاملة للتعامل مع روسيا بما يُحقق التوازن السليم بين احتوائها وإشراكها في المجالات ذات الاهتمام المشترك، ولكي تحقق الإدارة الجديدة ذلك عليها التخلي عن (التصورات والأساطير الخاطئة)، ومنها الادعاء بأنَّ روسيا قوة متراجعة وفقًا للتحليلات الأمريكية لعناصر القوة الشاملة للدولة الروسية، وإجراء تقييم دقيق لنوع التهديد الذي تشكله روسيا (بوتين) وكيف يمكن للولايات المتحدة التصدي له بفاعلية.

والواقع أنَّ خطاب (بايدن) الأول حول السياسة الخارجية، لم يتضمن ما يوحي باعتزامه تبني استراتيجية متماسكة تجاه (موسكو)، وإن شدَّد على أنَّه سيتصدى لمحاولاتها تعطيل الديمقراطية الأمريكية واختراق مؤسساتها، مشيرًا إلى اتصاله الهاتفي بنظيره الروسي وأنَّه قال له: “بطريقة مختلفة تمامًا عن سلفي، إنَّ أيام تراجع الولايات المتحدة أمام الأعمال العدوانية الروسية مثل: التدخل في انتخاباتنا، والهجمات الإلكترونية، وتسميم مواطنيها، قد انتهت”. ودعا (بايدن) إلى إطلاق سراح المعارض (أليكسي ناڤالني)، مضيفًا: “لن نتردد في رفع التكلفة على روسيا”. ولم يُحدد الرئيس الجديد كيف سيحقق ذلك؟، وما هي خياراته التي تجمع خبراء أمريكيين على أنَّها ستكون محدودة؟.

وجاء خطاب (بايدن) بعد يوم من موافقة (واشنطن وموسكو) على تمديد العمل بمعاهدة (ستارت) الجديدة لخمسِ سنوات، وتَخلي الأُولى عن موقف (ترامب) الذي تمسَّك بإدخال تعديلات على المعاهدة وانضمام الصين إليها.

ومن المهم الإشارة إلى أنَّ (بايدن) اعترف في خطابه بأنَّ (التحالفات القوية) هي المفتاح لردع (موسكو)، على نحو ما ذَكر بشأن (بكين) كما أسلفنا، وبدورها لا تتوقع روسيا أي تحسن يُذكر في العلاقات مع الولايات المتحدة، وإن كان بوتين – كعادته مع الرؤساء الأمريكيين الجدد- أبدى استعداد بلاده للتعاون وتطوير العلاقات مع الولايات المتحدة، مقترحًا في هذا السياق عقد قمة للدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن للتشاور بشأن استجابة منسقة؛ لمكافحة وباء (كوفيد-19)، والتعاون في قضايا ضبط التسلح والأمن الاستراتيجي. ووفقًا لتصريحات عن الخارجية الروسية مؤخرًا، تلقَّت (موسكو) إشارات إيجابية من فريق (بايدن)؛ لإقامة حوار ثنائي بشأن التعاون الأمني في المجال السيبراني والتنسيق المتبادل في هذا الشأن.

وهكذا يمكن القول بأنَّ مقاربة (بايدن) لروسيا ستقوم على اعتبارات الموازنة بين التنافس والتعاون في القضايا ذات الاهتمام المشترك سواء كانت (عالمية أو إقليمية). وفي تقدير الخبراء الروس سيكون (بايدن) مقيدًا بالعديد من العوامل الداخلية وبتوازن القوى الداخلية، وأنَّه سيكون رئيسًا ضعيفًا سيصعب عليه استعادة العلاقات مع روسيا، وأنَّ واشنطن ستعود إلى موقفها التقليدي حول قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، وستعمل على استغلال هذا التوجه في تعزيز دعمها الدبلوماسي والمادي لجماعات المعارضة في (بيلاروس) وللنظام في (أوكرانيا).

ثالثاً: التداعيات على المنطقة:

هناك إجماع على أنَّ الرئيس (بايدن)، مثل سابقيه (أوباما وترامب)، يعتزم المُضي قدمًا في تخفيف الأعباء المالية والبشرية التي تتكبدها الولايات المتحدة؛ بسبب انخراطها في منطقة الشرق الأوسط التي تراجعت أهميتها الاستراتيجية في سياق عملية إعادة التقييم التي جرت على الاستراتيجية العالمية الشاملة للولايات المتحدة، خاصةً مع صعود الصين كقوة منافسة وتزايد نفوذ روسيا، وذلك على النحو الذي انعكس بوضوح في استراتيجية (الأمن والدفاع القومي الأمريكي).

ووفقًا لتقديرات عديدة – أمريكية وغيرها- لم يحدد (بايدن) بعد استراتيجية متماسكة لمنطقة الشرق الأوسط، وأنَّ الاحتمال الأكبر أنَّ الإدارة وإن كانت لن تترك المنطقة مع التزامها الأبدي بأمن إسرائيل، إلَّا أنَّها لن تقوم بدور قيادي فيها، وسوف تواصل وجودها ونفوذها فيها، إلَّا أنَّها ستكون أكثر انتقائية في ارتباطاتها بها، وقد عبَّر (بايدن) وكبار مستشاريه بوضوح عن:” أنَّ الدبلوماسية ستكون مركز السياسة الخارجية الأمريكية، وأنَّ مهمتهم الأولى ستكون استعادة التحالفات والشراكات وانتظار قيام أصدقاء الولايات المتحدة بدور أكبر في مواجهة التحديات العالمية والإقليمية”، حيث يدرك الرئيس الجديد استحالة قيام واشنطن بتحقيق أهدافها في المنطقة بمفردها، وبالتالي سيتبنى مقاربة متعددة الأطراف، لا تعني فقط عودة واشنطن إلى المؤسسات الدولية التي انسحب منها (ترامب)، بل أيضًا إشراك حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة والتشاور معهم.

وقد فرض الملف النووي الإيراني نفسه على الأجندة مبكرًا باعتباره القضية الملحة الأساسية المؤثرة على استقرار المنطقة، كما تؤكد التقديرات في هذا السياق، أنَّ الحوار الأوروبي مع الإدارة الجديدة سيشمل – وكأولوية بجانب الملف النووي الإيراني – الدور التركي في قضايا المتوسط والشرق الأوسط، خاصةً في ضوء نشاطها الخارجي والعسكري في جوارها الأوسع في كل من (سوريا وليبيا والعراق وجنوب القوقاز)، بجانب منظومة الدفاع الصاروخي الروسية (S-400)، والتي تمثل تحديًّا كبيرًا للأنظمة الدفاعية لحلف شمال الأطلسي، كما يتوقع أن يشمل حوار (بروكسل وواشنطن) الدور الروسي في أوروبا وفي الشرق الأوسط، ومن الواضح أنَّ الإدارة الجديدة أتاحت بالفعل مساحة أكبر للقوى الأخرى – خاصةً الحلفاء الأوروبيين، ودول الإقليم نفسها من أجل التفاعل مع بعض ملفات المنطقة، وعلى سبيل المثال: أوفد الاتحاد الأوروبي وفدًا إلى (عدن) للقاء الرئيس اليمني؛ للمساهمة في إيجاد تسوية للأزمة اليمنية التي أفرد لها (بايدن) مساحة معتبرة في خطابه الأول حول السياسة الخارجية، وهو ما فُسّر بالرغبة في تحقيق انتصار سريع وعد به (بايدن) في حملته، كما دعت روسيا مؤخرًا إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في (موسكو) بمشاركة (الرباعية الدولية ومصر والأردن والعربية السعودية والإمارات). ومن جانبها بدأت الإدارة في استئناف اتصالاتها الأولية بالجانب الفلسطيني من خلال (هادي عمرو)، مسؤول ملف الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية في وزارة الخارجية الأمريكية.

ومن المنطقي القول بأنَّ الاتحاد الأوروبي سيكون اللاعب الأكثر تعاونًا مع (واشنطن) بحكم العلاقة القوية، والترابط بين الجانبين اقتصاديًّا وماليًّا ورقميًّا وعسكريًّا وقيميًّا. غير أنَّ مدى فعالية دور الاتحاد في ملفات المنطقة سيظل مقيدًا بالمدى الذي ستسمح به الإدارة الجديدة – لا سيما القضايا الأمنية ذات الطابع الاستراتيجي كعملية السلام في الشرق الأوسط.

ومن غير المرجح أن تكون منطقة الشرق الأوسط ساحة تنافس فيما بين (واشنطن) من ناحية، وكل من (موسكو وبكين) من ناحية أخرى. فالروس يتفادون الصّدام مع الولايات المتحدة طالما لم يتعلق الأمر بجوارهم المباشر، ويؤكدون دائمًا أنَّه لا بديل عن الجهود الجماعية لحل المشكلات الدولية، ويتبنون مقاربة عملية في سياستهم الخارجية في الشرق الأوسط دون تكلفة أو أعباء.

أمَّا بالنسبة للصين، حيث ستكون منطقة (آسيا والمحيط الهادي) هي ساحة التنافس الرئيسة مع واشنطن، فمن غير المنتظر أن تَشهد سياستها الخارجية في المنطقة تحوّلات تُذكر خارج إطار أولوياتها الاقتصادية والتجارية، وكما هو الحال بالنسبة لـ(روسيا)، تتبنى الصين سياسة واقعية إزاء دول المنطقة والسعي للاحتفاظ بتوازن في علاقاتها بكل من: (إيران والسعودية والعرب وإسرائيل)، وذلك على أمل الفوز بالمكاسب الاقتصادية لعلاقاتها بالجميع. ومن الناحية السياسية تبدو الصين راضية بترك روسيا تلعب الدور الرائد في الشرق الأوسط داعمةً الموقف الروسي عادة. وقد لوحظ أنَّه منذ إخفاق الإدارة الأمريكية في إدارة أزمة وباء( كوفيد-19) بالكفاءة المطلوبة – مقارنة بالصين – وعزوفها عن ممارسة دور قيادي في هذا الشأن، لم تُظهر الصين أي مؤشرات على استعدادها للتدثر بعباءة الزعامة العالمية، رغم أنَّها قدمت الدعم والمساندة للعديد من دول العالم؛ لمعاونتها على مواجهة الوباء، ولم يدّع المسئولون الصينيون في أي وقت لأنفسهم هذا الدور، حيث مازالوا متمسكين بشدة بانتمائهم للدول النامية، كما يرون أنَّ النظام الدولي الحالي في مجمله يحقق مصالحهم بل ولا ينكرون أنَّهم مدينون بتقدمهم الاقتصادي والتجاري الهائل للبيئة التي وفَّرها هذا النظام رغم تحفظاتهم على بعض جوانبه.

والخلاصة: هي أنَّه في ظل حقيقة تَصدُّر القضايا الاقتصادية المشهد العالمي الراهن – بعد أن بات وباء (كوفيد-19) بمثابة الهاجس الأساسي الأول لجميع دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية- يُقدّر معظم الكُتَّاب الأمريكيين أنَّه خلال العام الأول على الأقل من ولاية (بايدن) سيكون تركيز الإدارة على الشؤون الداخلية لا سيما القضية الملحة المتمثلة في كيفية التعامل مع الأضرار والتداعيات الاقتصادية الناجمة عن الوباء، فضلًا عن محاولة رأب الصدع والتغلب على الانقسامات التي أشعلتها سياسات (ترامب) في المجتمع الأمريكي ،وقام هو شخصيًّا بتكريسها عندما حرَّض على اقتحام مبنى (الكابيتول) في (6 يناير) الماضي وفشل الكونجرس في محاكمته بسبب دعم (44) من الأعضاء الجمهوريين له.

وما تقدم لا يعني تجاهل الإدارة الجديدة لملف السياسة الخارجية، وكل ما في الأمر أنَّ(بايدن) لن يكون في عجلة من أمره؛ للتصدي لقضايا المنطقة، وقد يكون انخراط إدارته فيها أقرب إلى إدارة الأزمات، تاركًا- للشركاء والأصدقاء وربما المؤسسات الدولية المتعددة الأطراف والمنتديات الدولية الأخرى – القيام بأدوار في هذا الشأن، وفي هذا السياق يُقدّر (ريتشارد فونتين) الرئيس التنفيذي لمركز الأمن الأمريكي الجديد:” أنَّه لا يجب على (بايدن) محاولة حل جميع المشاكل؛ لاستحالة ذلك في الواقع، وأنَّ عليه إدارتها بدلًا من الوقوع في محاولة حلَّها بتوقعات غير واقعية يهدر خلالها الوقت الثمين والطاقة”. ويضرب (فونتين) أمثلة على ذلك منها: ( النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، الملف الأفغاني، النووي الإيراني والكوري الشمالي)، وبدلًا من ذلك يعتقد (فونتين) أنَّه من الأفضل للإدارة الجديدة (إتخاذ خطوات صغيرة في الاتجاه الصحيح).

 هذا ويظل التحدي الأكبر أمام الإدارة الجديدة في كيفية استعادة مصداقية الولايات المتحدة لدى حلفائها، التي تأثرت بشدة سواء بسبب سياسات الإدارة السابقة، أو ما حدث في (6 يناير) الماضي في مبني (الكابيتول) وعجز المؤسسات والأدوات (الديمقراطية) الأمريكية عن محاكمة الرئيس السابق، وفي هذا الصدد أشار بعض كبار الكُتَّاب الأمريكيين مؤخرًا- ومنهم (جوزيف ناي) العالم السياسي بـ(هارفارد): ” أنَّه لا توجد ضمانات في النظام الأمريكي تكفل عدم عودة (ترامب) آخر للحكم، فالانقسام في المجتمع الأمريكي بات مؤسسيًّا”، وكان دالًا في هذا الشأن ما أشار إليه التقرير السنوي الأخير لمجموعة (أوراسيا) حول المخاطر السياسية الأكثر تأثيرًا في التفاعلات الدولية المرجح أن تحدث خلال 2021 م. إنَّه مع التداعيات الكارثية لوباء (كوفيد-19)، ورغم التعافي الاقتصادي، يتوقع الجميع استمرار (حالة الركود الجيوسياسي) والعوامل التي تدفع إلى هيمنة الوضع العالمي الراهن، والذي يطلق عليه التقرير (G Zero World)، حيث لا توجد دولة كبرى أو تحالف دولي يستحوذ على النفوذ السياسي والاقتصادي لتولي مسئولية القيادة العالمية، كما أنَّ القواعد الحاكمة للقرارات في هذا النظام العالمي الراهن تتسم بحالة من عدم اليقين.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى