تعددت لحظات الاهتمام بدراسة البحر الأحمر في العصر الحديث، بدءًا بقرار بريطانيا الانسحاب من “شرق السويس” (1968)، إلى تبعات حرب 73 التي أثارت فكرة تحويل البحر الأحمر إلى “بحيرة عربية”، ثم ظهرت موجة أخرى من الكتابات لمواكبة آثار عمليات القرصنة الصومالية وردود فعل المجتمع الدولي عليها في الفترة التالية لعام 2000، وهو ما تطور حاليًا إلى اهتمام بمصير هذا البحر الذي يحتل موقعًا استراتيجيًا هامًا يربط بين مصالح مجموعة من الدول والجماعات محليًا، وإقليميًا ودوليًا. ولعل ظروف التوتر التي يشهدها مسرح عمليات البحر الأحمر تستدعي نظرة جديدة على هذا الإقليم ومراجعة لاتجاهات المجهود العربي فيه.
أولاً: تعدد مقاربات دراسة البحر الأحمر
ويلاحظ تعدد المناهج والمقاربات التي استخدمتها هذه الدراسات:
- المقاربات التاريخية: ترصد تطور أدوار الدول المطلة على البحر الأحمر بدءًا من مصر الفرعونية، مرورًا بالتنافس بين الدول الاستعمارية الغربية (مثلاً حادث فاشودا عام 1898، وتنافس بريطانيا وإيطاليا على ميناء “مصوع” الأريتري أثناء الحرب العالمية الثانية)، وتتبع هذه الدراسات امتدادات الصراع العربي – الإسرائيلي على البحر الأحمر، والدول المحيطة به، كما تشمل متابعة التطورات المتلاحقة في دول المنطقة، خصوصًا في العقدين الماضيين.
- المقاربات الجيو – سياسية: تتناول هذه المقاربات الأبعاد الجغرافية ومدلولاتها، فالبحر الأحمر يمتد لمسافة تقارب 2000 كيلو متر من الشمال إلى الجنوب، وأوسع نقاطه يبلغ عرضها 300 كلم وأضيقها 29 كلم، وبالتالي فإنه توجد “نقاط اختناق” choke points تتحكم في المرور البحري، أهمها قناة السويس شمالاً، ومضيق باب المندب جنوبًا وهو بدوره يتمثل في ممرين تفصلهما جزيرة “بريم” حيث يوجد ممر غربي (عرضه 26 كلم) يستخدم في الإبحار جنوبًا، وممر شرقي (عرضه 3 كلم فقط) يستخدم في الإبحار شمالاً. وتوجد مجموعة أخرى من الجزر تتناثر في البحر الأحمر، لعل أهمها جزيرة “حنيش” التي نشب حولها صدام مسلح بين اليمن وأريتريا عام 1995. ولا يفوت أهل المقاربة الجيوسياسية مقارنة طريق البحر الأحمر ببدائله حيث يذكرونا بأنه يختصر المسافة بين بحر العرب وبريطانيا بمقدار 7,885 كلم أي بمقدار 43%، كما نذكر بمبادرة “حزام واحد طريق واحد” الصينية التي تمر بالقرن الأفريقي والبحر الأحمر باعتبارها شريانًا استراتيجيًا يهم الصين وذلك تحت مسمى “طريق الحرير البحري”.
- المقاربات الاقتصادية: تذهب التحليلات الاقتصادية إلى فحص مؤشرات النقل البحري عبر البحر الأحمر حيث تمر 20% من تجارة العالم، تحملها حوالي 17 ألف سفينة سنويًا (إحصاء عام 2016) بحمولة 820 مليون طن، وبقيمة حوالي 700 بليون دولار. وفي مجال الطاقة، يمر بالبحر الأحمر 4.8 مليون برميل نفط في اليوم الواحد في المتوسط، و 30% من الغاز المسيل للعالم [للمقارنة فإن مضيق “هرمز” يمر به 18.5 مليون برميل نفط في اليوم أي ما يقارب أربعة أضعاف “باب المندب”]. وتمضي التحليلات الاقتصادية لتدلل على أهمية البحر الأحمر من واقع البضائع التي تمر فيه، بما في ذلك 40% من القمح الذي تنتجه روسيا وأوكرانيا وكازاخستان، كما تمر في هذا المجرى 32% من مجموع إنتاج العالم من السماد، حيث ينتج أغلبه في كندا وألمانيا وروسيا وبلاروسيا بينما تمثل الصين والهند أكبر المستهلكين، كما تمر بضائع صينية تقدر قيمتها بمليار دولار في اليوم الواحد.
ثانياً: نظرة استراتيجية على البحر الأحمر
تدمج المقاربات الاستراتيجية بين عناصر المقاربات السابق ذكرها عبر عدة محاور:
تحديد دول “إقليم البحر الأحمر”: وهي تضم مصر والسعودية والأردن، والسودان، واليمن، والصومال، وجيبوتي (أي 7 دول عربية) يضاف لها أريتريا وإسرائيل بل أثيوبيا وجنوب السودان (رغم أن الأخيرتين لا يطلان على البحر الأحمر). هذه الدول الإحدى عشر يمكن النظر إليها على أنها تمثل نظامًا إقليميًا له تاريخه، وتفاعلاته، وتحالفاته ومنازعاته، كما يمكن اعتباره نظامًا إقليميًا فرعيًا يشكل امتدادًا للنظام الإقليمي في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي أو النظام الإقليمي الشرق أوسطي.
الربط بين النظام الإقليمي للبحر الأحمر بامتداده من الشمال إلى الجنوب، وشرقًا وغربًا، بنظم إقليمية (أو نظم إقليمية فرعية) أخرى مثل نهر النيل (10 دول)، أو الخليج (7 دول)، مع ملاحظة تعقد ظروف عدد من دول الإقليم (مثلاً السودان له حدود مشتركة مع 7 دول أخرى، وعانى من حرب أهلية استغرقت قرابة 50 سنة على فترات).
تعدد النزاعات الداخلية والنظم الفاشلة: يلاحظ هشاشة أوضاع معظم الدول التي تحيط بالبحر الأحمر، فهي في حالة نزاع مسلح (اليمن) أو قلاقل داخلية (أثيوبيا) أو تنشط فيها جماعات إرهابية (الصومال) أو تعاني من الفقر المدقع وغياب البنية الأساسية (جنوب السودان مثلاً)، وفي هذا السياق يمكن تحليل أسباب تحلل البنية الداخلية للكثير من هذه الدول وهي تشمل النزاعات القبلية والإثنية والتاريخية، والنزاع على الموارد، والخلافات حول الحدود، والصراع على السلطة بين المجموعات والقيادات والأحزاب، بالإضافة لضعف الحكومة بل فسادها في عدد من الحالات، وكلها عوامل تتضافر لتزيد من الضعف البنيوي لعدد من دول منطقة البحر الأحمر. وتمتد تداعيات هذه الأوضاع لتشمل صعود دور الفاعلين من غير الدول Non-state actors، وتعدد تدخلات الأطراف الدولية والإقليمية، ومعها العمليات التي تستهدف الجماعات الإرهابية، باستخدام القوات الخاصة أو الطائرات بدون طيار دون اعتبار لسيادة الدول التي تتم فيها هذه العمليات (اليمن، الصومال، السودان مثلاً) على أساس أنه لا توجد سلطة مركزية ذات نفوذ وأن هذه “الدول” أصبحت مناطق خارجة عن النظام ومباحة للعمل العسكري المباشر.
النزاعات الإقليمية وسيولة أنماط التحالف والتآلف: ساهم الضعف البنيوي لمنطقة البحر الأحمر في تنشيط مساعي دول المنطقة لإيجاد حلفاء يساندونهم عسكريًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا وخاصة في خلافاتهم مع الأطراف الأخرى، وهكذا وجدنا خلافًا مصريًا – أثيوبيًا حول مياه النيل ومشروع سد النهضة، وهو ما انعكس على تحركات الطرفين للحفاظ على علاقتهما بدول صديقة، وجذب حلفاء جدد، كما يرى بعض المراقبين أن جنوب السودان – مثلاً – يوازن التدخل الأثيوبي في شئونه بالتعاون مع مصر، كما أن إسرائيل كانت تساند أثيوبيا تقليديًا ولكن ذلك لم يمنعها من التعاون مع أريتريا، ولوحظ أن كلًا من السودان والصومال قطعا علاقاتهما مع إيران بتأثير الدبلوماسية السعودية.
أشكال جديدة من التدويل: رغم أن المنطقة عرفت أنواعًا من التدويل في الماضي، في شكل السيطرة الاستعمارية على دولها، أو في شكل التنافس بين الشرق والغرب إبان الحرب الباردة، أو من زاوية أنماط العلاقات العسكرية والاقتصادية والثقافية بالخارج [تجارة، مساعدات، تعليم، تدريب .. إلخ]، إلا أن التدخل الدولي أخذ أشكالاً جديدة في السنوات الأخيرة، فهو يشمل المبادرات الدولية وطرح مشاريع لتسوية النزاعات [مثلاً الوضع في اليمن] أو قيام مبعوث دولي أو إقليمي أو من إحدى الدول الأخرى بمهمة وساطة (اليمن وجنوب السودان مثلاً)، كما تشمل أشكال التدويل الجديدة تدخل قوات دولية (مثل القوة البحرية الدولية لمكافحة القرصنة مقابل الساحل الصومالي، وقوة الاتحاد الأفريقي في الصومال “اميسوم” AMISOM، وقوة الأمم المتحدة في جنوب السودان “اونمس” UNMISS)، ناهيك عن التدخل العسكري المباشر لبعض الدول في دول مجاورة لها لمواجهة منظمات مسلحة تعمل داخل هذه الدول (مثلاً تدخل كينيا في الصومال عام 2011، والتدخل الأثيوبي السابق له عام 2006، وبالمثل تدخل “التحالف العربي” في اليمن عام 2015 تحت اسمي “عاصفة الحزم” وعملية “إعادة الأمل”).
عسكرة النزاعات: تتجه الأوضاع غير المستقرة في محيط البحر الأحمر إلى تشجيع التسلح، فالدول الرئيسية في المنطقة تحتفظ بقوات مسلحة متطورة كبيرة العدد (مصر، السعودية، إسرائيل)، وبالمقابل فإن عددًا آخر من دول المنطقة تتسلح لمواجهة حركات تمرد أو منظمات إرهابية في أراضيها أو في دول مجاورة، ويبدو أن هذه الدوافع أخذت مكان الأسباب السابقة للسعي للحصول على السلاح والتي كان من بينها مواجهة دول مجاورة (مثلاً أريتريا مقابل أثيوبيا والعكس، أو اليمن مقابل أثيوبيا في مرحلة وفي مواجهة أريتريا في مرحلة أخرى). يلاحظ هنا الفارق الكبير في اتجاهات التسليح بين اللاعبين الكبار في شمال البحر الأحمر وبين الأطراف المحلية في جنوبه، فقد وصلت ميزانية الدفاع السعودية – مثلاً – إلى 25 مليار دولار عام 2005 ثم قفزت إلى 41 مليار دولار في 2009 (بمقدار 9.5% من الناتج القومي الإجمالي)، وفي 2010 عقدت السعودية صفقة سلاح كبرى مع الولايات المتحدة بقيمة 60 مليار دولار. وفي 2017، وفي أعقاب مشاركة الرئيس “ترامب” في مؤتمر الرياض، نقلت وسائل الإعلام أنه تم توقيع اتفاق نوايا لتوريد سلاح بمبلغ 350 مليار دولار وهي أكبر صفقة سلاح في تاريخ الولايات المتحدة (وإن كان من غير الواضح الحجم الحقيقي لهذه الصفقة)، وإن كان من الممكن تتبع صفقات سلاح كبرى لكل من مصر وإسرائيل أيضًا، فيمكن كذلك رصد محاولات عدد من دول جنوب البحر الأحمر لتعزيز قدراتهم العسكرية [خاصة اليمن والسودان وأثيوبيا وأريتريا] مع ربط التحولات في استيراد السلاح بأحداث محددة كالوحدة اليمنية، أو الحرب الأثيوبية الأريترية، أو هجوم تنظيم القاعدة على السفينة الأمريكية “كول” في اليمن عام 2000.
تكاثر القواعد العسكرية: تفاعلت العوامل السابقة من تنافس دولي، وتعدد للنزاعات الداخلية والإقليمية، وضعف دول إقليم البحر الأحمر، وسعيها للتحالف مع قوى خارجية لموازنة خصومها، بالإضافة للأهمية الاستراتيجية للمنطقة في ضوء حركة السفن فيها وارتباط ذلك باقتصاديات الطاقة والغذاء والتجارة الدولية، فأفرزت عددًا من القواعد العسكرية الأجنبية، تكثفت في جيبوتي، وإن كان هناك مؤشرات لانتشار الظاهرة لدول أخرى.
- معسكر ليمونيه Camp Lemonnier: ترتكز الولايات المتحدة في هذه القاعدة بقوة عمليات مشتركة للقرن الأفريقي Combined Joint Task Force – Horn of Africa (CTF-HOA) وهي تابعة للقيادة الأمريكية لأفريقياU.S. African Command (USAFRICOM)، وكانت هذه القاعدة قد أنشئت في 2003، بالإضافة إلى التصريح للقوات الأمريكية باستخدام ميناء ومطار جيبوتي، وترتكز عليها عمليات جوية أمريكية (بما في ذلك إدارة وتوجيه طائرات بدون طيار من عدة مطارات أخرى)، حيث يمتد نطاق عملياتها إلى منطقة الخليج. وطبقًا لاتفاق مع حكومة جيبوتي، تدفع الولايات المتحدة 63 مليون دولار كإيجار لهذه القاعدة، مع وجود خطة لتطويرها على مدى 20 عامًا بتكلفة 1,4 مليار دولار. ويلاحظ أن هذه القاعدة تلعب دورًا هامًا في العمليات الجوية الأمريكية الموجهة ضد عناصر إرهابية في كل من الصومال واليمن، وتقدر حجم القوة المرتكزة في هذه القاعدة بحوالي 4 آلاف فرد.
ومن الناحية العملياتية، أطلقت الولايات المتحدة عملية “الحرية الدائمة” Operation Enduring Freedom، حيث تتكون من مهمتين أولهما خاص بالقرن الأفريقي والآخر خاص بمنطقة الصحراء، وذلك بهدف محاربة الحركات الإرهابية والقرصنة، مع ملاحظة وجود مكون آخر لهذا الجهد هو “القوة البحرية المشتركة 150” Combined Task force 150 (CTF-150) التي تضم 25 دولة وقيادتها تقع في البحرين.
- التواجد الأوروبي وقاعدة “إيرون Heron ” الفرنسية: تضم هذه القاعدة قوات فرنسية وألمانية وإسبانية، طبقًا لاتفاق وقع عام 1977. وكان حجم القوة الفرنسية في هذه القاعدة في حدود 1,700 فرد إلا أن الضغوط الاقتصادية أدت إلى تخفيض هذا العدد، رغم أن العسكريين الفرنسيين ينظرون إلى دور هذه القاعدة – وخاصة قوة الهليكوبتر المرتكزة فيها – على أنه يتكامل مع دور القاعدة الفرنسية في أبو ظبى (حيث تتواجد قوة من “الفيلق الأجنبي”).
ويقدر عدد أفراد الوحدة الألمانية بحوالي 330 فرد، مع ملاحظة أن ألمانيا تشارك أيضًا في “القوة البحرية الدولية”. أما إسبانيا فلديها حوالى 50 فردًا يسيرون رحلات للاستطلاع الجوي في منطقة القرن الأفريقي، مع ملاحظة أن التعاون الثلاثي بين هذه الدول يقع في إطار آليات تعزيز التكامل العسكري بين دول الاتحاد الأوروبي وخاصة ما يطلق عليه EU Navfor في إطار العملية “أطلانتا” Atalanta. ويلاحظ أن إيطاليا تحتفظ بقاعدة خاصة بها يمكنها استضافة حوالي 300 فرد وطائرات بدون طيار Base Militare Nazionale di Supporto .
- الصين : استأجرت الصين قاعدتها في جيبوتي بمبلغ 20 مليون دولار سنويًا، مقابل قدرة استيعابية سوف تصل إلى 10 آلاف جندي، حيث تذهب التقديرات إلى أن نفقات البناء تبلغ حوالى 600 مليون دولار، بالإضافة لاستثمارات صينية في ميناء ومطار وسكك حديدية. وتم افتتاح القاعدة في 2017، مع ملاحظة أنها أول قاعدة للصين بالخارج، بالإضافة لمشاركة الصين في قوة الأمم المتحدة لحفظ السلام في جنوب السودان بحوالي ألف عسكري، ووجود عدد آخر من العسكريين الصينيين في مهمات حفظ سلام أخرى للأمم المتحدة في أفريقيا.
- اليابان: منذ 2011 يتواجد حوالي 180 فرد ياباني في القاعدة الأمريكية بجيبوتي تحت مسمىDeployment Airforce for Counter-Piracy Enforcement (DAPE).
- تركيا: أكدت زيارة الرئيس التركي للسودان في بداية 2018 اهتمام أنقرة بتوسيع تواجدها العسكري في البحر الأحمر عبر تعزيز بنية الموانئ السودانية وبحث آفاق التعاون مع الخرطوم وأطراف أخرى (عقد اجتماع ثلاثي بين رؤساء أركان تركيا والسودان وقطر)، مما يشكل إضافة للقاعدة التركية في الصومال التي افتتحت في 2017، بكلفة 50 مليون دولار، وحيث يتواجد 200 عسكري تركى، كما يرتبط ذلك بالتواجد العسكري لتركيا في قطر، والمناورات العسكرية التي تجري بين هذه الأطراف.
- الدول العربية: لجيبوتي علاقات تاريخية مع شقيقاتها العربية تتجاوز آليات جامعة الدول العربية، فهي تشارك في التحالف العربي الذي يحارب الحوثيين في اليمن، كما أنها استقبلت عددًا كبيرًا من اللاجئين اليمنيين (حوالى 38 ألف تحرك معظمهم إلى دول أخرى). وهكذا رحب وزير الدفاع الجيبوتي في نهاية 2017 بتواجد قاعدة سعودية في بلاده، وإن كان قد ظهر بعض التوتر مع الإمارات العربية المتحدة بخصوص نشاط شركة موانئ دبى، كما يبدو أن الإمارات تفضل الارتكاز عسكريًا في مينائي “عصب” الأريتري و”بربرة” الصومالي، بالإضافة لعملياتها للسيطرة على الموانئ والجزر اليمنية. ويمكن رصد تفاعل التطورات في القرن الأفريقي مع أوضاع الخليج في ظهور أنماط جديدة من التعاون والخلاف بين الأطراف المعنية، مثال ذلك انسحاب قوة حفظ السلام القطرية (حوالى 450 فرد) والتي كانت تعمل على الحدود بين أريتريا وجيبوتي، بعد نجاح الوساطة القطرية في تهدئة النزاع بين الطرفين، كما يلاحظ استدعاء الإمارات لسفيرها في “مقديشيو” بسبب امتعاض الأخيرة من اتفاق الإمارات مع “أرض الصومال” على إنشاء قاعدة بأراضيها، وهو ما يضيف لتوتر علاقات جيبوتي مع أبو ظبى.
ثالثاً: نحو استراتيجية عربية في البحر الأحمر
تتفاعل التطورات السابقة لتزيد من التوتر والتنافس في منطقة البحر الأحمر، كما أنها تشكل فيما بينها تحولاً كبيرًا في أوضاع هذا المسرح للعمليات مقارنة بالأحوال عقب حرب 73 عندما شاع الحديث عن المنطقة بوصفها “بحيرة عربية”. ويمكن رصد التحركات الإسرائيلية كعنصر يضيف لتعقيد الصورة سواء عبر العمليات العسكرية المباشرة في دول المنطقة (تتعدد التقارير حول ارتكاز البحرية الإسرائيلية على أريتريا ومعها محطة تجسس إلكتروني)، أو عبر استخدام إمدادات السلاح والتدريب وأعمال المخابرات للنفاذ لدول المنطقة والتأثير على مواقفها [مثلاً نمط تصويت الدول الأفريقية على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 11995 بخصوص القدس في 21 ديسمبر 2017]. وإن كانت الحرب في اليمن قد ركزت جهود السعودية والإمارات على هذا النزاع، فإنه يلاحظ أن دولة كمصر اتجهت إلى الإعلان عن “أسطول الجنوب” في إطار جهد كبير لدعم وتنويع قدرات البحرية المصرية بشكل غير مسبوق.
وفي هذا الإطار يمكن تصور أهمية إطلاق عملية بحث وتخطيط عربية لوضع استراتيجية شاملة تنسق الجهود العربية في البحر الأحمر، يمكن أن تتضمن العناصر التالية:
- القيام بتحليل موضوعي للتحديات الحالية والمستقبلية في البحر الأحمر، مع طرح سيناريوهات متعددة تشمل – على أقل تقدير – احتمالات أربعة أولها بقاء الأوضاع على ما هي عليه، وثانيها تدهور الأوضاع بدرجة كبيرة بارتفاع حدة النزاعات وزيادة التدخل الأجنبي وزيادة عدم الاستقرار في دول المنطقة، وثالثها تحسن الأوضاع الأمنية والاقتصادية في المنطقة، وآخرها السيناريوهات غير المتوقعة (التي يطلق عليها “البجعة السوداء”).
- تحديد المصالح العربية التي تحتاج إلى حماية في مسرح عمليات البحر الأحمر، واختيار أفضل الوسائل والأدوات لتحقيق هذه الأهداف، وحصر الأطراف الدولية التي يمكن التنسيق معها في هذا الاتجاه، وفي نفس الوقت تحديد الأطراف التي عليها تحفظات أو التي تتبنى أهدافًا تتعارض مع المصالح العربية (يلاحظ أن بعض الأطراف العربية انضمت للولايات المتحدة في الاعتراض على توجه جيبوتي لمنح روسيا – أيضًا – قاعدة عسكرية].
- تنشيط العمليات الدبلوماسية التي تسعى لحل النزاعات المتعددة التي تتفاعل في منطقة البحر الأحمر مع تحديد تلك التي يمكن إطلاقها عبر دور دول المنطقة والمنظمات الإقليمية المعنية بهدف تحجيم التدخل الأجنبي ولو قليلاً.
- توسيع القدرات العربية في مجال تكوين واستخدام قوات حفظ السلام والمراقبين الدوليين واستخدام تكنولوجيا الفضاء في عمليات حفظ السلام، ودعم القدرات العربية على إطلاق وإدارة عمليات الإغاثة الإنسانية وجهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- دراسة الفرص لتعزيز دول التنظيمات الإقليمية، سواء أكانت قائمة أو مطلوب إضافتها، بوصفها توفر إطارًا للتعاون بين دول البحر الأحمر، ويمكن أن يشمل ذلك طرحًا لمفاهيم أكثر اتساعًا كإعلان البحر الأحمر كمنطقة سلام أو الاتجاه نحو تحديد كميات وأنواع السلاح أو ترشيد سباق التسلح والتوجه نحو نزع السلاح، ولو بعد مدة.
هذا وقد دعت مصر الدول العربية والأفريقية المشاطئة للبحر الأحمر لاجتماع عقد بالقاهرة يومي 11-12 ديسمبر 2017 للتباحث في “إطار عربي أفريقي للتعاون” حيث أصدر الاجتماع توصيات تعبر عن الرغبة في تعزيز التعاون بين الدول المشاركة بحيث تتحرك بشكل جماعي في الأمور التي تخص البحر الأحمر، وتعمل على حل الخلافات في المنطقة بالطرق السلمية، وتتعاون في مجالات تبادل المعلومات الأمنية والبحرية ومكافحة التلوث والبحث والإنقاذ وتطوير التشريعات مع التنسيق في المجالات الاقتصادية. ومع ملاحظة غياب “أريتريا” عن هذا الاجتماع، رغم توجيه الدعوة لها، ووجود اتفاق على عقد اجتماع ثان خلال الربع الأول من 2018، يبقى السؤال حول مدى نجاح هذه المجموعة من الدول في إطلاق آليات مؤسسية تتمكن من تحقيق أهداف أكثر طموحًا، مثل تعزيز الأمن والاستقرار في البحر الأحمر ومحيطه وتقليص التواجد الأجنبي فيها. ويرتبط بذلك مواقف الأطراف الأخرى الإقليمية والدولية التي لها مصالح وتواجد في المنطقة ولكنها غير مشاركة في المبادرة المصرية الهامة. على أي حال، يمكن تقدير المبادرة المصرية كخطوة أولى إيجابية فتحت مجالاً لطرح قضايا البحر الأحمر بين مجموعة من الدول المشاطئة، كما أنها طرحت تصورًا لبعض الحلول المؤسسية والعملية وإن كنا نتوقع أن تواجه أمواجًا معارضة من دول الإقليم غير المشاركة (إسرائيل وأريتريا) وربما دول أخرى تعتبر أن لها مصالح في البحر الأحمر رغم أنها لا تطل عليه (الصومال – جنوب السودان) والقوى الكبرى التي استثمرت في إنشاء قواعد لها في المنطقة. أمواج العولمة تعقد الإبحار في قضايا البحر الأحمر.