2018العدد 173ملف عربي

التحرك التركي في المنطقة العربية وجوارها الأفريقي

أقفل العام 2017 على حركة تركية طالت دولاً في القرن الأفريقي وشمال أفريقيا. وكانت مفاجئة إلى حدٍ ما نظرًا لانهماك تركيا الواسع في التطورات السورية والعراقية وفي الخلاف مع الولايات المتحدة الأمريكية. وطرحت بمناسبة هذه التحركات تساؤلات عما إذا كانت هناك محاولات لإعادة تعويم ولو جزئي للدور التركي في المنطقة العربية.

انحسار الدور

مثلت العقوبات الروسية على تركيا بعد إسقاط تركيا لطائرة حربية روسية على الحدود مع سوريا قرب لواء الإسكندرون في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 ذروة انحسار الدور التركي في المنطقة.

فالقوات الروسية كانت أعلنت انخراطها في الأزمة السورية في نهاية أيلول/سبتمبر 2015 وكانت نقطة تحول إيجابية لصالح المحور الروسي- الإيراني- السوري. وبدا واضحًا أن الدور التركي المتمثل بدعم المجموعات المعارضة في سوريا مثل “داعش” وجبهة النصرة  فضلاً عن الفصائل الأخرى هي المستهدفة المباشرة من التدخل السوري. وقد ترتب فعلاً على ذلك تراجع للمعارضة في المعارك ضد قوات النظام السوري وحلفائه وشلّ لحركة المقاتلات التركية فوق المجال الجوي التركي.

وجاءت العقوبات الروسية الاقتصادية لتلحق بتركيا خسائر كبيرة أهمها تراجع كبير في الموسم السياحي وتضييق سوق الصادرات ولاسيما الزراعية على المنتجات التركية.

وفي ظل الخلاف الكبير مع الولايات المتحدة حول الأكراد لجأت تركيا في منتصف العام التالي، 2016، إلى خطوات دراماتيكية لتفك العزلة الشاملة حولها. فكان اتفاق التطبيع في العلاقات مع إسرائيل ومن ثم اتفاق التطبيع مع روسيا في نهاية حزيران/ يونيو. والانفتاح على إسرائيل في لحظة كان يرتفع فيها الخطاب التركي المنتقد لإسرائيل عكس مدى حاجة السلطة التركية لأي منفذ يخفف من حولها العزلة حتى لو كان مع البلد الذي كانت تنتقده باستمرار.

وكان سبق هذين الاتفاقين تغيير جذري في الحكم عندما أُطيح في 22 أيار/مايو 2016 برئيس الحكومة أحمد داود أوغلو واستبداله برئيس حكومة جديد هو بن علي يلديريم الذي قال إن بلاده تريد أن تقلل من أعدائها وتكثر من أصدقائها وكان هذا إشارة إلى أن تغييرات محتملة قد تطرأ على السياسة الخارجية بعدما كان داود أوغلو طبعها بطابعه على امتداد السنوات العشر السابقة.

انقلاب 15 تموز/يوليو 2016

في 15 تموز/يوليو 2016 وبعد أقل من شهر على تطبيع العلاقات التركية- الروسية تحديدًا شهدت تركيا محاولة انقلابية لخلع رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان. لكن المحاولة فشلت وكان هذا بداية لصفحة جديدة مختلفة إلى حدٍ ما في علاقات تركيا الخارجية. العامل الجديد الحاسم كان طبيعة القوى المتهمة بالوقوف وراء الانقلاب والذي سيترتب عليها توجهات جديدة وتداعيات مختلفة. جاء الانقلاب في لحظة حساسة من العلاقات التركية – الأمريكية والتركية- الأوروبية بسبب قضايا الإرهاب واللاجئين.

وقفت واشنطن بوضوح وبشكل عملي إلى جانب قوات الحماية الكردية في سوريا وهو ما اعتبرته تركيا تهديدًا للأمن القومي التركي مخيّرة الإدارة الأمريكية بين حليفتها الأطلسية تركيا أو “الإرهابيين” الأكراد. وعندما حصل الانقلاب لم يتأخر أردوغان في اتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراءه كذلك بضلوع الأوروبيين ولاسيما ألمانيا فيه.

واختبر أردوغان مدى وفاء الحليف الأمريكي من خلال طلب تسليم فتح الله جولين زعيم الجماعة المعروفة باسم “خدمت” والمتهم بالتدبير لمحاولة الانقلاب من مكان إقامته في الولايات المتحدة. لكن الرد الأمريكي كان سلبيًا واستمر كذلك رغم انتهاء ولاية باراك أوباما وحلول دونالد ترامب مكانه. وبذلك كان عاملان يحولان دون تحسن العلاقات التركية- الأمريكية وهما الموقف من الأكراد في سوريا ومن الداعية جولين.

ترتب على المحاولة الانقلابية إعادة تركيا النظر في بعض سلوكياتها تجاه الأزمة السورية وفي علاقاتها الإقليمية. رأت أن التهديد يتسع حولها. وجاء توغل قوات الحماية الكردية نحو مدينة منبج نذيًرا بإمكانية الوصول إلى منطقة عفرين الكردية في أقصى الشمال الغربي من سوريا ليكتمل بذلك الكوريدور الكردي في سوريا على الحدود التركية من الحدود العراقية إلى لواء الإسكندرون. وهذا رأت فيه تركيا أكبر خطر قومي يتهددها ويفصلها عن الجغرافيا العربية.

وبين المحاولة الانقلابية وتقدم الأكراد نحو عفرين اختارت تركيا إحداث تغيير في سياساتها السورية والإقليمية، وقوامه التخلي الاضطراري عن دعم بعض الجماعات المسلحة مقابل السماح لها بالدخول إلى سوريا واحتلال مثلث جرابلس- إعزاز- الباب عبر ما سمي عملية درع الفرات والذي يحقق هدفًا مركزيًا واستراتيجيًا لتركيا وهو منع أكراد سوريا من إقامة شريط حدود متصل تحت سيطرتهم على امتداد الحدود التركية. وهذا كان يحقق في الوقت نفسه هدفًا سوريًا من خلال منع الأكراد من التموضع بشكل قوي يجعل منهم قوة لا يمكن تجاهلها خصوصًا إن وصل الكوريدور كان يعني ترسيخ النفوذ الأمريكي في سوريا وهو ما كان يهدد المصالح الروسية والإيرانية والسورية.

مع ذلك فإن اللعبة الكبرى كانت بين روسيا وإيران من جهة وبين تركيا من جهة أخرى. فروسيا بعد فشل الانقلاب وبعد ما قيل عن دور روسي في إفشال الانقلاب وجدت الفرصة ذهبية لاستمالة تركيا إلى جانبها وإبعادها عن حلف شمال الأطلسي فكانت “المقايضة” الكبرى: تركيا تعطي روسيا خطًا للنفط والغاز يمر في تركيا إلى أوروبا فتتحرر روسيا من ابتزاز أوكرانيا في الخط الذي يمر بأوكرانيا، كما تعطي تركيا روسيا التزام بناء المفاعل النووي في مرسين. أيضًا تمكنت روسيا لاحقًا في نهاية 2017 من حسم بيع تركيا صواريخ أس 400 ما يشكل خرقًا مهمًا لمنظومة السلاح داخل دولة عضو في المنظومة الأطلسية. ومقابل ذلك ومن بين عدة قضايا سمحت روسيا لتركيا بالدخول إلى سوريا واحتلال أراضٍ تمكن تركيا من إبعاد التهديد الكردي ولو جزئيًا ومن تمكينها بموطئ قدم ميدانية وسياسية في المعادلة السورية.

الحسابات الإيرانية لم تكن بعيدة عن الحسابات الروسية وكانت تأمل باستمالة تركيا إلى جانبها في سوريا وفي الصراع الإقليمي ولاسيما ضد السعودية. أما دمشق فمع أنها لم تكن مرتاحة للتمدد الكردي والنفوذ الأمريكي ولكنها لم تكن مرتاحة للدور الجديد الذي أعطي لتركيا التي تنظر دمشق إليها على أنها تهديد كبير وكانت لها الحصة الأكبر في تدمير سوريا ولا تثق بها كيفما دارت الرياح. غير أن دمشق لم تكن قادرة على الوقوف بوجه الحسابات الروسية-الإيرانية.

أكثر من ذلك نجحت روسيا في نهاية 2016 في اختراع مسار جديد اسمه أستانا يضم روسيا وإيران وتركيا كدول ضامنة لمسارات الحرب والقوى المتحاربة ما عدا الأكراد. وهو ما ساعد على تقييد حركة تركيا الميدانية في سوريا وجرّها إلى تفاهمات عسكرية ساهمت في تخفيف حدة المعارك والنزوع تدريجيًا إلى مناخات هدوء وصولاً إلى إنشاء مناطق خفض تصعيد في أكثر من منطقة سورية.

لم تكن تركيا عمومًا مرتاحة إلى تطور دورها في سوريا. فهي التي منّت النفس بإسقاط النظام في سوريا خلال أسابيع أو أشهر وجدت نفسها بعيدة عن هذا الهدف ومضطرة لاتخاذ خطوات لا تحبذها.

كانت الخيارات أمام تركيا محدودة وضيقة. فمن جهة خسرت الحليف الأمريكي كذلك الأوروبي الذي هو في الأساس غير فاعل ومن جهة ثانية لا تستطيع أن تصبح جزءًا من المحور المقابل الروسي- الإيراني- السوري. وهذا يطرح فذلكة حساسة حول الدور التركي وموقعه ومدى استدارته من عدمها.

اللعب على التناقضات من كردستان إلى الخليج

اتبعت تركيا في ظل تغير المعادلات القائمة استراتيجية تقليل الخسائر والعمل على اللعب على تناقضات أطراف الصراع لتحقيق مكاسب تكتيكية وتحويلها عند الضرورة إلى أدوات ضغط تثبّت تركيا من جديد لاعبًا شريكًا في رسم التطورات والخرائط والمعادلات.

بعدما كادت تصبح كليًا خارج اللعبة السورية والعراقية نجحت تركيا في احتلال مناطق في سوريا مقرونة بـ “شرعية” روسية وإيرانية. وهذا لا يقتصر على أهداف مناهضة الأكراد بل يرتبط بأطماع تاريخية في شمال سوريا ومن هنا تحديد ساعة دخول القوات التركية في 24 آب/أغسطس 2016 أي في التاريخ نفسه الذي حصلت فيه معركة مرج دابق بين العثمانيين والمماليك في شمال سوريا وانكشاف المنطقة في سوريا ومصر أمام السيطرة العثمانية.

ونجحت تركيا ولو جزئيًا في الهيمنة على إدلب واعتبارها من حصتها. ونجحت في أن تكون شريكًا في أستانا وفي قمم سوتشي وبالتالي أن تعود لاعبًا على طاولة المفاوضات.

وفي العراق نجحت تركيا في استعادة علاقاتها بالعراق بعدما وقفت ضد الاستفتاء الكردي فخسرت، نسبيًا، الأكراد وكسبت العراقيين. وهو ما سيعزز مصالحها التجارية مع بغداد كما ستثبّت تركيا مبدئيا قواعدها ومراكزها العسكرية ولا تقل عن 12 نقطة في أنحاء مختلفة من العراق.

بعيدًا عن سوريا والعراق تعمل تركيا أيضًا على سياسة “غرز” قواعد أو مراكز أو نقاط عسكرية في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط.

وهذا الهدف لا ينفصل عن الهدف الذي لا يزال قائمًا في العقل السياسي لحزب العدالة والتنمية وهو أن المشروع العثماني لم يمت رغم أنه انتهى إلى الفشل.

ولا شك أن تركيا استفادت جدًا من التناقضات الخليجية ولاسيما من الخلاف القطري مع كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر. كانت القاعدة العسكرية التركية في قطر مجرد مشروع أو مركز عسكري فيه البعض من المستشارين. انفجار الخلاف القطري كان فرصة تركية لتحدي هذه الدول وإظهار أنها موجودة بل قادرة على الحراك. وهي انطلقت من قراءة أن دول الخلاف مع قطر غير قادرة لأسباب أمريكية أن تحدث تغييرًا في قطر لا عبر السياسة ولا عبر غزو عسكري. وهو ما دفع بتركيا لتصعيد خطوات وربح معركة بالمجان. فمررت بسرعة اتفاقية القاعدة في البرلمان التركية وما لبثت أن بدأت ترسل تدريجيًا مدرعات وجنودًا وصل عددها إلى الآلاف، بحيث بدت قطر كما لو أنها “محمية” عسكرية تركية وكما لو أنها واقفة على قدميها بفضل جنود تركيا ودباباتها.

لم تنجح تركيا فقط في إظهار هذه الصورة “القوية” ضد دول إقليمية مؤثرة بل كانت الأزمة القطرية فرصة لتعزيز العلاقات التركية مع إيران وفي تقريب إيران أكثر إلى قطر. وهذه كلها تسجل نقاطًا لصالح تركيا أولاً وإيران ثانيًا وتضعف في المقابل من موقع الدول الخليجية ومصر.

تسعى تركيا إلى استغلال أي فرصة مهما كانت صغيرة لتعويم صورتها كلاعب إقليمي بل على الساحة الدولية. ومع أن هذا الجهد أحيانًا افتراضي أكثر منه حقيقي لكنها في ظل القطيعة مع أمريكا وانعدام الثقة، رغم التعاون، مع روسيا وإيران وسوريا وفي ظل الخلاف والتوتر مع السعودية والإمارات ومصر ومعظم الدول الإقليمية، فإن الخطاب التركي كما الممارسة يجد نفسه في مأزق وتخبط وعدم وضوح وارتباك. فالتعاون هو روسيا وإيران والعين على العلاقات مع أمريكا. إذ إن تركيا لا تجد نفسها سوى في المربع الأصلي لسياساتها الخارجية أي المربع الأمريكي-الأطلسي وليس في المربع  الاضطراري الروسي-الإيراني. وفي هذا الإطار استغل أردوغان قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل لدعوة منظمة التعاون الإسلامي لعقد قمة في إسطنبول في 13 كانون الأول/ديسمبر 2017. ومع أن تركيا هي الدولة الأكثر قدرة على اتخاذ عقوبات ضد إسرائيل ردًا على قرار ترامب نظرًا لامتلاكها رزمة ضخمة من المصالح المشتركة مع إسرائيل كما مع الولايات المتحدة، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يبادر إلى أي خطوة مهما كانت صغيرة أو رمزية ضد إسرائيل أو أمريكا. لكنه يواصل توجيه الرسائل غير المباشرة أو عبر ساحات وأدوات ثالثة إلى مربعه الأصلي عله يقارب بطريقة تريح تركيا العلاقات التركية مع الغرب وإسرائيل.

وفي إطار توجيه الرسائل إلى الغرب جاء أيضًا أحد أهداف عملية الهجوم التركي على منطقة عفرين السورية التابعة لسيطرة قوات الحماية الكردية بدءًا من العشرين من كانون الثاني/يناير 2015. فهذه القوات الكردية تمتلك سلاحًا أمريكيًا ومع أن الولايات المتحدة تنصلت من دعم الأكراد في عفرين بالقول إنها تقع خارج عمليات “التحالف الدولي” لكن أردوغان أدخل أمريكا طرفًا في العملية عندما قال إن هدفه عفرين ومن ثم منبج ومن ثم منطقة شرق الفرات وصولاً إلى الحدود العراقية. وإذا كانت الولايات المتحدة لا وجود عسكريًا مباشرًا لها في عفرين لكن إحدى رسائل العملية التركية واضحة بأنها أيضًا للولايات المتحدة بإعلان أردوغان أنها ستتوسع لتشمل مناطق يوجد فيها حضور عسكري أمريكي مباشر. أما الأهداف الأخرى للعملية فهي تعزيز النفوذ الميداني التركي في سوريا وامتلاك أوراق إضافية كلاعب وشريك على طاولة المفاوضات حول سوريا فضلا عن إضعاف الأكراد في كل مناسبة وأينما كانوا.

جولة أردوغان الأفريقية والأمن القومي لمصر والسعودية

وبعد أيام من قمة إسطنبول وفي 24 كانون الأول/ديسمبر 2017 كان الرئيس التركي أردوغان يصل إلى السودان في زيارة استغرقت يومين تلتها زيارة إلى تشاد (يوم 26) وتونس (يوم 27).

ومع أن زيارة تشاد ارتبطت أكثر برغبة أردوغان تصفية نفوذ جماعة فتح الله جولين هناك حيث له مؤسسات تعليمية ودينية وغير ذلك، لكن تشاد في موقعها الجغرافي تقع في الحديقة الخلفية المباشرة لدول مركزية  تقف عقبة أمام التغلغل التركي وفي مقدمها مصر. وتشاد على حدود ليبيا وهي امتداد مباشر لها وتؤثر فيها وتتأثر بها. لذا فإن شمول تشاد بالزيارة على صلة مباشرة بالصراع بين تركيا ومصر وما بين تشاد ومصر من جغرافيا اسمها ليبيا التي تمارس فيها تركيا منذ بدء أزمتها تدخلاً مباشرًا وتدعم فريقًا ضد فريق بالأسلحة والرعاية والإيواء، وشكلت قاعدة مركزية في إرسال الإرهابيين إلى مصر والقيام بعمليات وتفجيرات. ونظرًا لبعض المشاريع التي اتفقت تركيا مع تشاد على إقامتها ومنها مطار، فإن تشاد ستشكل مركزًا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا محتملاً للنفوذ التركي.

وكانت زيارة أردوغان إلى تونس مفاجئة إلى حدٍ ما، ذلك أن تونس كانت مركز نفوذ كبير لتركيا بعد وصول حركة النهضة إلى السلطة أثناء ما سمي بـ “الربيع العربي”. لكن الثورة المضادة التي أطاحت بحكم الإخوان المسلمين انقلب عداء لتركيا إلى درجة وصف وزير الخارجية السابق الهادي البكوش تركيا بأنها دولة إرهابية. المفاجأة أن تونس بدت مغيّرة لسياساتها وبصورة غير مفهومة. فمن تونس أعاد أردوغان رفع شارة “رابعة” المعادية لمصر والمؤيدة لتنظيم الإخوان المصريين. ومن تونس كان الهجوم العنيف لأردوغان على الرئيس السوري بشار الأسد ووصفه بالإرهابي الذي قتل مليون شخص ولا يمكن أن يسير الحل معه رغم أن أردوغان كان قبل فترة قصيرة يقول بما له صلة بالعلاقة مع الأسد إن “الأبواب في السياسة تبقى مفتوحة حتى النهاية”.

زيارة تونس في ظرف متغير يمكن أن ينعش نفوذ الإخوان المسلمين في تونس ويمكن أن يعيد لتركيا بعض نفوذ فقدته. ودعم أردوغان في هذه اللحظة لإخوان تونس رسالة إلى إخوان مصر وتحفيزهم على عدم التراجع والصمود في وجه النظام المصري ورئيسه عبد الفتاح السيسي.

لكن زيارة السودان تبقى المحطة الأكثر دلالة في جولة الرئيس التركي

لا يمكن لأحد أن يتوقف كثيرًا عند الاتفاقيات الاقتصادية، وهي كثيرة، التي وقعها أردوغان ووزراؤه مع الرئيس السوداني عمر البشير والوزراء السودانيين. وما يفترض التوقف عنده البعدان السياسي والعسكري من هذه الجولة.

وكما أقامت تركيا قاعدة عسكرية “شرعية” أولى في الصومال في أيلول/سبتمبر 2016 لتطل من هناك على المحيط الهندي وبحر العرب وكما أقامت قاعدة عسكرية ثانية في قطر ليكون لها موطئ قدم في منطقة الخليج، وكما لتركيا قواعد عسكرية، غير شرعية، في العراق وكما لتركيا مناطق بكاملها في سوريا تحت الاحتلال غير الشرعي فإن السودان مرشح ليكون البلد العربي الخامس الذي تقيم فيه تركيا قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن على البحر الأحمر الذي أعطى السودان حق إدارتها لأنقرة  بذريعة إحياء الآثار الثقافية العثمانية فيها. السودان بذلك ينضم إلى استراتيجية تركيا إقامة قواعد عسكرية في العالم ومن ذلك في ألبانيا وأذربيجان وكوسوفا وأفغانستان، فضلاً عن احتلال القسم الشمالي من جزيرة قبرص. ووجود قوات تركية ضمن قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في مناطق نزاعات ومنها لبنان.

انطلاقًا من مبدإ استغلال التناقضات لإعادة تعويم ولو جزئي للدور التركي فإن التحرك التركي في القرن الأفريقي وشمال أفريقيا يأتي ضمن الصراعات الإقليمية مع دول تقع على طرفي نقيض مع السياسات التركية. وفي رأس هذه الدول كل من السعودية ومصر. ويشكل السودان مرتكزًا نموذجيا لتوجيه الرسائل والمشاغبة على هاتين الدولتين. فالسعودية هي المنافس الأول لتركيا على زعامة العالم الإسلامي السنّي. ويأخذ هذا الصراع أوجهًا متعددة آخرها عدم مشاركة الرياض بمؤتمر إسطنبول الإسلامي على مستوى عال بل على مستوى أقل حتى من وزير الخارجية. كذلك كان من بين مطالب السعودية من قطر لدى بدء الخلاف معها في حزيران/يونيو 2017 إغلاق القاعدة العسكرية التركية قرب الدوحة.

تدرك السعودية أن وجودًا عسكريًا تركيًا عند حدودها الشرقية يشكل خطرًا ولو رمزيًا عليها. اليوم مع وضع السودان بتصرف تركيا جزيرة سواكن على البحر الأحمر فإن السعودية لا شك تتحسس كثيرًا من هذه الخطوة. فاليوم ليس من فصل بين الأهداف الثقافية والسياسية والعسكرية والأمنية والاستخباراتية، لتشكل عودة تركيا إلى الجزيرة منطلقًا لمخاطر متعددة على حدودها الغربية وفي البحر الأحمر.

لكن يبقى البعد المصري من الزيارة السودانية لأردوغان هو الأهم والأخطر. فحتى الآن فشلت كل محاولات أردوغان لتحقيق اختراق يضعف مصر في ظل حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي. ورغم الصلة التركية بالاعتداءات الإرهابية في سيناء وفي الداخل المصري فإن خطة تركيا الجديدة هي تطويق مصر من الخارج علها تثمر المزيد من الضغط في مواجهة مصر. ومن هذه الخطوات الاختراق الذي حققته تركيا من خلال تولي إدارة جزيرة سواكن، وتوجيه رسالة تحاول أن تظهر قوة تركيا وحضورها، ومنها تواجدها على الساحل الجنوبي من البحر الأحمر البوابة البحرية الاستراتيجية لمصر وهو آخر ما يمكن أن تتوقعه مصر. ولاشك أن السودان كان له دور كبير في هذا الاختراق. وخطورة ذلك أن تركيا تريد أن تحقق اختراقًا عبر النظام الحاكم في السودان بما له من قدرة التقرير وتوفير الدعم للمشاريع التركية وبالتالي الوصول إلى القاعدة الشعبية وتشكيل رأي عام مناهض لمصر.

وتركيا بهذا التكتيك تشجع الخرطوم على مواصلة عدائها لمصر (وهو أمر جرى احتواؤه بين الطرفين المصري والسوداني). كما تشجع أثيوبيا على مواصلة مشاريعها المائية المعادية لمصر وهذا يدخل جولة أردوغان بمحطتها السودانية في دائرة التهديد الاستراتيجي للأمن القومي المصري ومنه المائي. وقد يكتمل هذا التهديد في ما لو قرر أردوغان لاحقًا القيام بزيارة إلى أثيوبيا وهذا أمر ليس مستبعدًا بل ربما يكون مرحبًا به في أثيوبيا.

جولة أردوغان أشبه بهلال أو قوس يمتد من السودان إلى تونس مرورًا بتشاد ويشكل طوقًا تركيًا مباشرًا جنوبيًا غربيًا على مصر ويشكل أحد طرفي الكماشة (قطر الطرف الأول) على السعودية.

قد تكون المفاعيل الأولى لهذه الجولة ولهذه السياسة غير كبيرة لكن تطلعات العقل السياسي لحزب العدالة والتنمية لا تعرف حدودًا.

اظهر المزيد

د. محمد نورالدين

أستاذ في الجامعة اللبنانية - بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى