2023العدد 196ملف عربي

العلاقات العربية-العربية: ازدهار في التعاون الثنائي وتعثّر في التحرك الجماعي

المقدمة:

   يزخر مسار العلاقات العربية – العربية بأنماط تفاعلات تعاونية ثنائية متنوعة، إزاء مُحفِّزات وازنة لإنجازها، خلافًا للمستوى الجماعي المُتعثِّر، لما تستدعي إرادة الانتقال بالتعاون من حيزه الضيّق إلى نطاقه الأشمل، أكثر من مجرد بيئة حاضنة لضمان نفاده ونجاح استمراره، مما يحدُّ من المنافع الواعدة ويُعيق إيجاد رؤية عربية موحدة في مواجهة التحديات الثقيلة المُحدقة بالمنطقة راهنًا.

   وقد يؤسس نمط التعاون الثنائي بسهولة لنواة توسعه عربيًّا عند انضمام دول أخرى إليه، مثلما يسمح بتطوير آلياته حين توفر الإرادة السياسية لأنماط تفاعلية متنوعة من التقارب البيني حد بلوغ الشراكة الإستراتيجية والتكامل الاقتصادي والتكتل العربي، وذلك عبر تعزيز مجالاته ومأسسة مساره، مما يسهم في تحقيق المصالح والأهداف المشتركة، ويصبُّ في خدمة الشعوب العربية.

   وعلى الرغم من توفر الأسس المُعتبرة للتحرك الجماعي، وصولًا للتعاون التكاملي العربي، إلا أنه يصطدم بجملة تحديات (داخلية، وخارجية) قد تؤدي إلى تعثره وضعف مساره، وتُعرقل إمكانية الاستفادة من مكاسبه المتوخاة عند الأخذ بناصيته سبيلًا للعمل الجمعيِّ وفق أساس إقليمي، وجني المنافع المتبادلة، وتحقيق توازن القوى الإقليمي، وصد التهديد الخارجي، وتنسيق المواقف حيال أزمات المنطقة والقضايا الدولية ومحاولة تسويتها سلميًّا، فضلًا عن التشبيك التكاملي مع أهداف تنظيمات وتكتلات إقليمية فرعية مناظرة؛ لتحقيق التنمية والنهوض والتقدم المنشود.

 أولًا: مسوغات تعثر التحرك الجماعي العربي.

تحضر جملة مفاعيل (داخلية، وخارجية) معتبرة ضمن أس مسوغات تعثّر الأنماط التعاونية الجمعيّة في النظام الإقليمي العربي، سواء أكانت مجرد نواة فكرة تعاونية لم يقدَّر لها النضوج غداة إحباطها، أم اصطدمت آلياتها التأسيسية في مهد خطواتها التعاونية بعراقيل ناجعة، أم فشلت تجربتها التكاملية بعد حين مسار متفاوت السقوف الزمنية من التعاون البيني، رغم توفر المتطلبات والمحفزات الأساسية المؤسّسة لأشكال من التفاعلات التعاونية الممكنة داخله، والتي دارت حولها تجارب تكاملية تاريخية غير مكتملة، مقابل غلبة الخلافات في حدها الأدنى.

وتعزى أبرز مسببات تعثر التحرك أو التعاون الجماعي العربي إلى المتغيرات التالية:

أولًا: يؤدي غياب الإرادة السياسية على المستوى الجمعي أو حدوث خلافات بين أنظمتها السياسية إلى حسر المد التعاوني وإضعاف مسار التحرك الجماعي، حتى في ظل تشابك جماعات المصالح؛ إذ أن إرادة التعاون الجمعي مرتبطة بإرادة الأطراف أكثر من ارتباطها بالوظيفة الاقتصادية أو الاجتماعية.

ثانيًا: يبرز الجانب السياسي عائقًا أمام التحرك الجمعي داخل النظام الإقليمي العربي، وذلك عند تشبث الدول بسيادتها ما يتسبب في تعطل التوجه نحو التعاون، أو لدى غياب السياسة الخارجية الجمعية والرؤى السياسية المشتركة حيال القضايا الإقليمية والدولية، والتباين حول طريقة معالجة التحديات والحلول الناجعة لاحتوائها ومنع تغلغل أبعادها في المشهد الداخلي العربي. ويتصل ذلك بطبيعة الخلافات القائمة بين الأنظمة السياسية، ومنها تاريخية، والتي تعيق العمل العربي المشترك.

ثالثًا: المسافة الجغرافية؛ فقد يشكل التجاور دافعًا للصراع وعدم الاستقرار عبر إثارة قضايا الحدود، كما قد يشكل عامل تعاون تكاملي من خلال سيولة المبادلات والعلاقات، غير أن ذلك يتوقف على طبيعة العلاقات داخل الإقليم ومتغيري التماسك وتوزيع القوة.

رابعًا: طبيعة الاتصالات الجارية داخل النظام الإقليمي العربي؛ إذ إن كثافتها تسهم في التفاهم والتعاون المشترك وحل الخلافات بالوسائل السلمية، بينما ضعفها يؤدي إلى تراجع الوسائل السلمية عند نشوبها وزيادة فرص الاختراق الخارجي.

خامسًا: مستوى التماسك “Cohesion” أي التجانس “Homogenity” (الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والتنظيمي)، الذي يُعد مؤشرًا أو شرطًا حيويًّا لتحقيق التعاون العربي، فزيادة درجته تعني اتجاه النظام الإقليمي نحو ضبط الصراع والتحكم فيه والحد من اللجوء للحرب كوسيلة لفض المنازعات، وصد الاختراق الخارجي، بينما يؤثر انخفاضه أو ضعفه سلبًا في درجة التفاعل التعاوني أو مسار التحرك الجماعي، عند زيادة حدة الخلافات الحدودية، وتعزيز حالة الاستقطاب الداخلي والاختراق الخارجي، وضعف القدرة على ضبط الصراعات. وفي حين يجعل التماسك الاقتصادي ثمن اللجوء للحرب باهظًا؛ نظرًا للتكلفة العالية الناتجة عن تعريض المصالح الاقتصادية المشتركة للخطر، فإن ضعفه يسمح بالاستجابة لنوازع الخلاف والقبول بتصعيدها.

سادسًا: يؤدي غياب الإطار الجمعي القادر على حل الخلافات وضبطها، لأن يكون النظام الإقليمي العربي- في الغالب- مهيَّأً لبروز النزاعات البينية ومهددًا بالاختراق الخارجي وظهور المحاور والتحالفات، فيما تعد الأدوات العسكرية مرشحة لاستخدامها في الصراع، والتي إذا ما اشتدت حدتها فقد تعرض النظام إلى خطريِّ (الانفجار، وغياب الأمن)، أو على الأقل، مثلبة انفراط الأنماط التعاونية القائمة أو تلك التي قيد النفاذ.

ويحدد متغير توزيع القوة بين فواعل النظام الإقليمي أنماط التعاون والتحالف وأسباب الاستقطاب، بين المهيمن “Hegemonos”، أو المتطلع للهيمنة “Aspiring Hegemonos”، والمساوم “Bargainer”، والموازن “Balancer”، مقابل الدول الطرفية، بما يتصل ببنية القوة نفسها والتي لا تنحصر في القدرات الكلية للدولة فقط، بل تشمل القدرة المتاحة أو المحتملة لدولة ما على التأثير في تفاعلاته أو تغيير وتبديل عملية صنع القرار داخل طرف مناظر أو بين أوساط النظام نفسه وفق مصالحها وأهدافها، وذلك عبر ربط بعض النظريات بين التكافؤ في توزيع القوة وتحقيق الاستقرار النسبي، مقابل من رأت العكس، وثالثة أكثر مرونة اعتبرت عدم التكافؤ الشديد في القوة بين دولتين سبيل تجنب الصراع، وكلما ازداد التكافؤ ارتفعت احتمالات الصراع.

ويطرأ الخلل في توزيع القوة عند اشتداد دور الدولة “المهيمن”، أو “المتطلع للهيمنة”، الذي يمتلك قوة “تقليدية” نافذة كافية للسيطرة على النظام الإقليمي وتحديد توجهاته وسياساته والتحكم في تفاعلاته والتأثير داخله، ومدى امتداد سيطرته وطبيعتها، عما إذا كانت عالية أم متوسطة أم منخفضة، ومواقف أطراف الإقليم منها، أو عند تركز مقاليد القوة (المادية، والعسكرية، والمعنوية)، أو ما يُسمى “القوة الناعمة” (الثقافية، والإعلامية، والاقتصادية،… وغيرها)، أو غالبيتها في إرادة دولة ما، أو عدد محدود من أطراف النظام، باحثة عن مكانة إقليمية ودولية على حساب الأنماط التعاونية البينية القائمة داخل النظام، أو لدى محاولة دولة- أو أكثر- من داخل النظام لتبديل الوضع القائم والإحلال مكان “الدولة المهيمنة” أو ممارسة نفس الدور، سواء بأدوات مماثلة أم مغايرة، مما يخلق تنافسًا على فرض النفوذ وأنماطًا (تحالفية، وصراعية، واستقطابية) تحتدم وتيرة حدتها عند الاستعانة بطرف داخلي أم خارجي، أو حينما يسعى طرف من خارج الإقليم لأخذ محل “المهيمن”، مما يسمح- في كلتا الحالتين- بالاختراق الخارجي، بينما قد تسعى الدول الضعيفة للتحالف مع الأطراف القوية المسيطرة لتفادي حالة الانزواء.

سابعًا: يُعد التهديد “Threat”، أو إدراك التهديد “Threat Perception”، عنصرًا وازنًا في إثارة الخلافات البينية داخل النظام الإقليمي العربي وعرقلة التحرك الجماعي والتعاون المشترك بين دوله، وقد يكون “التهديد” من إحدى دول النظام الإقليمي ضد دولة أو دول أخرى من داخله، إما مباشرًا أو عبر أشكال سياسية ودعائية وقيود تجارية أو تخريب وتدمير باستغلال الجوانب “المذهبية” والدينية أو جماعات سياسية معارضة لتحقيق أهداف معينة، وربما تصل إلى الحرب المسلحة، بما يؤثر على أمن واستقرار النظام، لاسيما عند غياب آلية جماعية لفضِّ النزاع سلميًّا أو الانقسام حوله. وقد يكون التهديد خارجيًّا ضد دولة ما أو النظام عند تهديد مصالحه، بما يؤدي لانقسامه وتهديد استقراره، وربما شنّ حرب وصراع إقليمي، إذا وجد مساندة داخلية، أو قد يقود لنزعة تعاون مضادَّة.

ثامنًا: يشكل البعد الخارجي متغيرًا مؤثرًا في التفاعلات التعاونية داخل النظام الإقليمي العربي واستقراره، لاسيما إزاء كثافة مصالح القوى الخارجية الاقتصادية أو الإستراتيجية المباشرة في الإقليم، ومدى ارتباط الأخير بها، أو نظير تنافسها مع مركز الدولة المهيمنة داخله، أو تدخلها بناء على تلبية دعوة إحدى دول النظام لموازنة نفوذ وقوة دولة أخرى في الإقليم تسعى لتوسيع سيطرتها على حساب مصالح تلك الدولة أو تريد التدخل في شؤونها، بما يسمح للاختراق الخارجي الذي قد يجر تبعات عدم استقرار الإقليم وعرقلة أي تحرك أو تعاون جماعي.

ويحضر عنصر الاستقلال “Autonomy”، الذي تتمتع به أطراف الإقليم بعيدًا عن تأثير البيئة الخارجية، محددًا حيويًّا؛ إذ كلما قلت نزعته كلما لعبت العوامل الدولية الخارجية دورًا مهمًّا في مسألة التعاون العربي. وتبعًا لذلك، فإذا كانت مقدرة النظام الإقليمي على مقاومة الخلل الناتج عن تهديد، أو أزمة خارجية، أو تحييده، غير متوازنة أو متفاوتة بصورة حادة، فإن ذلك يشكل مصدر تهديد حقيقي لاستقراره ولثبات أنماطه التعاونية بفعل التشابك في العلاقات المتداخلة، بما يؤدي- إزاء تداعي المضاعفات وردود الأفعال- إلى فقدان المقدرة على التماسك والاستمرار.

وتبرز هنا إشكالية التوازن، بمعنى قدرة النظام على التكيف “Adaptation” مع الظروف البيئية الضاغطة والاستجابة للمشكلات التي تطرأ نتيجة التفاعلات مع أطراف النظام، بحيث يؤثر ضعفها سلبًا على خريطة العلاقات البينية نحو أيّ من الصراع والحرب المسلحة إذا تصاعدت وتيرة الخلافات الداخلية ولم يتم حلها بالطرق السلمية، أو نشوب خلاف يؤثر على الأنماط التعاونية المختلفة، بخاصة عند إظهار دولة من أعضاء النظام قدرة ملحوظة على ممارسة السيطرة والتسلط داخل الإقليم، استنادًا إلى تفوق قدراتها (المادية، والعسكرية، والمعنوية). ويتحكم في وجود التوازن أو انتفائه من العلاقات الإقليمية محددات هيكلية النظام وقدراته، ومستوى التماسك القائم داخل الدولة أو بين أعضاء النظام، وتوفر قوة مهيمنة من عدمه، ومساومين بقدرات معينة، مما يؤثر بدرجة كبيرة في إمكانيات بروز نوازع السيطرة والتسلط أم التعاون، عدا نوع التهديد الخارجي، وكثافة الصراعات القائمة داخل النظام الإقليمي، ما يؤدي في حال عدم توفرها أو توفر غالبيتها إلى الخلاف وعدم الاستقرار، وبالتالي صعوبة إيجاد تحرك جماعي حيال قضايا المنطقة.

بيد أن الخلافات البينية المتبادلة، وضعف التماسك (الداخلي، والإقليمي)، واختلال موازين القوى بين دوله، فضلًا عن أزمات اللجوء وظواهر الاحتجاج والمطالب الانفصالية ببعض ساحاته، تؤدي إلى صعوبة تحقيق التوازن وغلبة الميل نحو التنافس والصراع، وبالتالي نشوء حالة من عدم الاستقرار الطاردة لأي تحرك وتعاون جماعي. ومثل هكذا نظم ستكون قابلة للتأثر بمتغيرات النظام العالمي، لاسيما منطقة الشرق الأوسط بحكم قدراتها وإمكانياتها المحدودة وضعف تماسكها، بخاصة على المستويين (الاقتصادي، والسياسي)، واتساع نطاق وعمق صراعاتها، وتحدي تنامي الحركات المتطرفة والتنظيمات المسلحة، ومحاولات إذكاء أزمة هوية سياسية ونزعات طائفية ومذهبية متنامية داخل ساحته، وتنامي النزعات الانفصالية، ومحاولات التدخل الخارجي، والتي تشكل تحديات وازنة تدفع إما لتعزيز العمل العربي المشترك لمعالجتها أو لتعاون عربي محدود عند غلبة أسباب تعثر التحرك الجمعي.

تاسعًا: يدخل مستوى الإرضاء التكاملي “Integrate of Satisfaction” أو ما يُسمى “الإرضاء الوظيفي” Functional Satisfaction، للمنافع المتبادلة المتوقعة من التحرك الجماعي أو التعاون الإقليمي العربي متغيرًا معتبرًا في مصيره؛ الذي قد يؤول إخفاقًا عند تضاربّ مصالح النخبة، السياسية أو الاقتصادية، الداخلية المسيطرة أو المهيمنة على آلية صنع القرار مع المسار التعاوني أو عدم تحقيقها للمكاسب المرّجوة منه أو فشل تكيفها مع متطلباته نتيجة فقدان نفوذها وامتيازاتها السابقة، بما يجعلها في خانة الفئة “المضادّة” له، أو عند حدوث خلل في توزيع المنافع وموارد القوة بين الأطراف المعنية، ما يؤدي إلى اتساع قاعدة المعارضة للتعاون الإقليمي، بحيث يصبح مصيره مهدَّدًا إما بسياسة “الإفشال” قبل ولادته، أو بـ”الانفراط” عند اكتماله.

 كما يشغل مفهوم “الانتشار” التعاوني مكانة معتبرة في مسوغات التعثر؛ وذلك إزاء الإخفاق في انتقال التعاون من قطاعات معينة إلى أخرى، أو عند حدوث انتكاسة أو تراجع في العملية التكاملية إذا ما كان الفشل مصير العائد المتحقق من التجربة التكاملية في القطاع الذي تم اختياره للبدء في العملية التعاونية، أو بسبب ضعف إرادة النخبة الحاكمة للأطراف المعنية وعدم استعدادها للتكيف مع الواقع الجديد ورفضها تعميم النجاح في قطاع معين على قطاعات أخرى، أو عند تعارض الأهداف بين النخب، السياسية أو الاقتصادية، والقيادة السياسية في الأنظمة المعنية بالتعاون، مما يجعل التكامل عندها واقفًا على أرضية مهتزة.

عاشرًا: يؤثر غلبة الاتجاه ضمن النظام الإقليمي العربي نحو زيادة الإنفاق العسكري “التسلح”، وليس للاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي بين دوله، في ضعف مساريِّ التحرك الجماعي والتعاون التكاملي، لما يكرسه من أجواء التوتر وسيادة أعلى درجات العسكرة وأخطر مثالب النزاعات والحروب، على حساب تفاعلاته التنموية والتعاونية التكاملية وتحويله إلى كتلة أو جماعة اقتصادية – سياسية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي، وسط علاقات اقتصادية وتجارية بين أطرافه لا تتعدى 11% من حجم تجارتها الخارجية، وقولبة مفهوم الأمن القومي ليصبَّ في حماية أمن النظام وبقائه أولًا مع غياب مفهوم الأمن غير التقليدي، ونزعة التحالف مع الخارج مقارنة مع الداخل، ما جعله عرضة للاختراق الخارجي، إزاء كثافة صراعاته البينية وهشاشة تماسكه وتعرضه لموجة عاتية من التحديات الداخلية.

ثانيًا: ازدهار التعاون الثنائي العربي.

تنتفي مسوغات تعثر التحرك الجماعي من أنماط التفاعلات التعاونية الثنائية ضمن النظام الإقليمي العربي؛ إذ تلتقي هنا الإرادة السياسية للدول المنخرطة في الأطر التعاونية لتعزيز علاقات التعاون والتنسيق المشتركة وتطوير مجالاتها المتنوعة، والبناء على التوافقات البينية والرؤى السياسية المتقاربة حيال أزمات المنطقة، سبيلًا لتحقيق التنمية والتقدم والازدهار لشعوبها، وخدمة القضايا العربية.

وتنطلق التفاعلات التعاونية الثنائية من أسس سياسية مُعتبرة تستند إلى الرؤى المشتركة حيال الكثير من قضايا وأزمات المنطقة، ومن قاعدة الروابط التاريخية المتينة والإرث الثقافي المجتمعي والقيميِّ المتجانس والمصالح المتبادلة، والحرص على معالجة الملفات الإشكالية العالقة- إن وجدت- وذلك تمهيدًا لخطوات متقدمة تشكل أنماطًا أساسية للأطر التعاونية، مثل:

  • الأمن الجماعي: عبر اعتماد ترتيبات أمنية واتخاذ قرارات متعلقة بالأمن المشترك، من خلال التخطيط والتنفيذ والقيادة المشتركة، وتجميع الموارد لردع عدوان خارجي، بما يُسمى “الدفاع المشترك” أو “الضمان الجماعي”.
  • حل المنازعات بالطرق السلمية: عبر تغليب علاقات التعاون على علاقات الصراع، واستبعاد الوسائل العسكرية في حل الخلافات وإعطاء الأولوية للطرق السلمية لتسويتها، بهدف الحفاظ على المصالح المشتركة.
  • السياسة الخارجية المشتركة: وذلك بالانتقال من خانة الاجتماعات التقليدية، رغم أهميتها، إلى سياق استكشاف نقاط الالتقاء وصياغتها في شكل توجهات وسياسات عامة تعكس الرؤية المشتركة.
  • التكامل الاقتصادي: ويتجسد من خلال إقامة الأسواق الاقتصادية المشتركة بهدف تعزيز الطاقات الاقتصادية المتاحة لدى الدول الأطراف، ويتم ذلك عبر توحيد التشريعات الضريبية والجمركية، وإزالة العوائق أمام التدفق الحر للسلع والخدمات، وانسياب حركة العمل ورأس المال بين مختلف مناطق السوق المشتركة. ويعد عنصر التوقعات الناجمة عن الدور الإيجابي للتكامل الاقتصادي في دعم الاقتصاد الوطني حافزًا لإنجازه.

وتسهم مأسسّة آلية التنسيق التعاونية، عبر اللجان المختصة والسقوف الزمنية المحددة، في تعزيز علاقات التعاون الثنائية، مثلما تشكل الاجتماعات التنسيقية المتواترّة والقمّم المتوالية فرصة مهمة لاستمرار التشاور وتعزيز التعاون المشترك وتنسيق المواقف ضمن المحافل الدولية والإقليمية. في حين قد يؤسس التعاون الثنائي لخطوات متقدمة نحو مزيد من التقارب وبلوغ الشراكة الإستراتيجية والتكامل الاقتصادي والتكتل العربي، مثلما يفتح المجال أمام انضمام شركاء جدد لجهة التوسع عربيًّا، بحيث لا تنحصر مكاسبه (السياسية، والاقتصادية، والأمنية الواعدة) على الدول المنضوية في إطاره التعاوني، فقط، بل تنسحب على المنطقة العربية أيضًا.

وإذا كانت التفاعلات التعاونية الثنائية ليست بديلًا عن التحرك الجماعي، إلا أنها تكتسب أهمية بالغة لجهة تحقيق المصالح والأهداف المشتركة، وخدمة القضايا العربية، ودعم التعاون العربي، وتحصين الساحة العربية في مواجهة التدخلات الخارجية، وتأكيد قدرة الدول العربية على حماية أمنها القومي، وفرض معادلات متوازنة في المشهد الإقليمي، فضلًا عن الإسهام في تبريد صراعات المنطقة وتسوية النزاعات وتعزيز آفاق السلام والتنمية، والحفاظ على وحدة أراضيها وسلامة حدودها، بما يجعلها دعامة إسناد واستقرار للأمن الإقليمي العربي.

وفي المحصلة: على الرغم من توفر الأسّس المُعتبرة للتحرك الجماعي، إلا أنه يصطدم بتحديات (داخلية، وخارجية) وازّنة تؤدي إلى تعثّر مساره، والاكتفاء بالتفاعلات التعاونية الثنائية الزاخرة، مما يحد من المنافع الواعدة المتوخاة منه، ويُعيق إيجاد رؤية عربية موحدة في مواجهة التحديات الثقيلة المُحدِقة بالمنطقة راهنًا.

اظهر المزيد

نادية سعد الدين

كاتبة وباحثة في العلوم السياسية -الاردن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى