تواجه الولايات المتحدة الأمريكية أوضاعا مستجدة على مسرح السياسة الدولي بعد سنوات من استقرار النظام العالمي الذي هندسته بعد نهاية الحرب الباردة لصالحها، وتشكل هذه الأوضاع تحديات للهيمنة الأمريكية، في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ورغم أن الولايات المتحدة ما تزال القوّة الأكبر والأكثر فعالية، غير أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الأطراف المقابلة تحقّق نجاحات معينة يتم قضمها من رصيد الهيمنة الأمريكية على مستوى العالم وعلى أصعدة وفي أماكن كانت حتى وقت قريب حكرا للأميركي.
يحصل ذلك في ظل وجود إدارة إشكالية في البيت الأبيض، بقيادة الرئيس دونالد ترامب، وحالة انقسام غير مسبوقة، وتخبط في السياسات، وخلط بين الاستراتيجي والتكتيكي، ودعوات انعزالية ترى أن اتساع النفوذ الأميركي مكلف ومرهق فيما تحتاج البلاد لأموال طائلة لإجراء إصلاحات في البنية التحتية.
مخاطر استراتيجية
حددت إدارة الرئيس دونالد ترامب، في نص الاستراتيجية الجديدة 2018 ثلاثة تهديدات رئيسة على أمن الولايات المتحدة الأمريكية، وهي “طموحات روسيا والصين، والدولتان المارقتان إيران وكوريا الشمالية، والجماعات الإرهابية الدولية الهادفة إلى العمل النشط ضد الولايات المتحدة”.
لقد كان لافتا وصف الولايات المتحدة لكل من روسيا والصين بـ”المنافسين الرئيسيين” لها على الساحة الدولية بسبب تنامي تأثيرهما الجيوستراتيجي، مؤكدة على أن الولايات المتحدة تدخل “عصرا جديدا من التنافس”، تتحداها فيه كل من روسيا والصين. كذلك، أكد الرئيس ترامب، أن الاستراتيجية الجديدة تتضمن “الاعتراف، وسواء طاب لنا ذلك أم لا، بأننا دخلنا عصرا جديدا من التنافس.
وحذرت استراتيجية ترامب من أن روسيا والصين تنافسان “خصائصنا الجيو-سياسية وتحاولان تغيير النظام الدولي لصالحهما. وعلى الرغم من ذلك، لن تفلح سياسة الردع كما كانت أيام الحرب الباردة. فقد درس الخصوم الطريقة الأميركية في الحرب وبدؤوا الاستثمار في القدرات التي استهدفت نقاط قوتنا وسعوا إلى استغلال نقاط ضعفنا.”
إدارة الصراعات
تنطلق التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية، من منطقة أوراسيا، الصين وروسيا وإيران، ولا توجد أطر عسكرية ولا حتى اقتصادية صلبة تجمع هذه الأطراف، باستثناء منظمة شنغهاي للتعاون، وهي ليست إطارا عسكريا، مقابلاً لحلف الناتو وبديلاً عن حلف وارسو، وينصب جل اهتمام الأعضاء على ترتيبات أمنية بينية، من نوع التنسيق ضد الجريمة وتجارة المخدرات، فضلاً عن التعاون الاقتصادي.
تقوم الاستراتيجية الأمريكية في تعاطيها مع التحديات القادمة من هذه الأطراف بتكتيكات تختلف من طرف لآخر، وذلك نتيجة تقديرات تخص كل حالة على حدة، وتقييم قدرة كل طرف ومدى جدية التحدي الذي يظهره، وكذلك حجم الأضرار على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وبناء على ذلك، تعمل الإدارات الأمريكية على حشد الموارد اللازمة لمواجهة هذا التحدي وتحديد نمط سياسات المواجهة التي يمكن اتباعها في هذه الحالة.
لذلك تلحظ الدراسة وجود أكثر من نمط استجابة أميركي لمواجهة التحديات الصاعدة في عالم اليوم، تنطلق من تقدير الخطر الذي تشكله كل حالة، ودرجة الخطورة( مرتفعة- متوسطة- منخفضة)، ونوعية المجالات والقطاعات التي من الممكن أن تتأثر جراء ذلك.
الصين الخطر الأكبر
تشكل الصين في التقديرات الاستراتيجية الأمريكية الخطر الأول الذي يهدّد زعامة الولايات المتحدة للنظام العالمي وتربعها على عرش قوته، فالصين في طريقها إلى أن تكون المنافس المكافئ الحقيقي الوحيد. ففي أثناء تسعينيات القرن العشرين وبالعقد الأول من القرن الحالي، انتفعت الولايات المتحدة من هوس القادة الصينيين بالنمو الاقتصادي والاستقرار الداخلي على حساب القوة الجيوسياسية. لكن منذ تولي الرئيس شي جين بينغ الرئاسة في 2012، والصين تسعى بكل وضوح إلى إعادة إرساء هيمنتها بآسيا.
على المستوى الاقتصادي
تسعى الصين لكي تصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم قبل عام 2030 على صعيد إجمالي الناتج المحلي، ويقترب قطاع التكنولوجيا من مثيله الأمريكي بالفعل، على مستوى الإنفاق على البحث والتطوير وحجم السوق.
وتخشى الولايات المتحدة الأمريكية من حجم الفوائض المالية الكبيرة لدى الصين، وإمكانية تحولها إلى بنك للعالم الجديد، مع ما يعنيه ذلك من إمكانية نزع أقوى سلاح بيد أميركا وهو سلاح العقوبات الاقتصادية، وتاليا تدمير الهيمنة الأمريكية إلى الأبد، وحلول الصين مكان الولايات المتحدة في زعامة النظام الدولي. وتكمن المشكلة الأخرى في نموذج الصين الشيوعي الرأسمالي والذي ترى فيه أميركا تحديا خطيرا لنظامها الليبرالي.
على الصعيد العسكري
في خضم السباق العسكري الأميركي الصيني المحتدم، تعمل الصين حثيثا على تطوير أسلحة جديدة، يقول خبراء الحروب إنها تهدد التفوق الأميركي، في ملعب كانت تحتكره أميركا قبل عقود، وبحسب “مركز أبحاث الأمن الأميركي الجديد”، لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تمتلك الهيمنة المطلقة في المجال العسكري، وأن الصين تهرول لأن تصبح “قوة عظمى” عسكريا وعلميا وتكنولوجيا. ويؤكد موقع “إن بي سي نيوز” الإخباري الأميركي، أن الجيش الصيني ربما تفوق على نظيره الأميركي في بعض نقاط القوة العسكرية، وخاصة المدافع الكهرو مغناطيسية التي تعادل سرعة قذيفتها سبعة أضعاف سرعة الصوت، وكذلك الطائرات المقاتلة من نوع “شينجدو جي 2″، التي يطلق عليها “النسر الأسود”، لتكسر الاحتكار الأميركي لصناعة الطائرات الشبح. وأعلنت الصين مؤخرا عن خطة “قُد العالم”، بهدف استثمار نحو 150 مليار دولار في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري بحلول عام 2030.
طرق مواجهة التحدي الصيني
إن ما يقلق الاستراتيجيات الأمريكية كثيرًا هو تنامي قدرة الصين العسكرية، فسعي الصين لامتلاك قوات بحرية وجوية أقوى، فضلًا عن قواتها البرية الضخمة أصلًا، يشير إلى طموحات إقليمية وربما عالمية، والحاجة إلى مواجهة محاولات الصين من أجل الهيمنة على آسيا ومنطقة بحر الصين الجنوبي تدفع الولايات المتحدة إلى تصميم استراتيجيات مواجهة بأسرع وقت.
تكمن طريقة المواجهة الأولى في الاستراتيجية الأمريكية، في افتعال الأزمات الجيوسياسية في محيط الصين، ومحاولة إفقاد الصين السيطرة والنفوذ على المجال الجيوسياسي المحيط بها، لإعاقة المشاريع الاستراتيجية الصينية البحرية والبرية، وقد بدأت هذه العملية منذ افتعال أزمة الجزر المتنازع عليها مع الفلبين وقرار المحكمة الدائمة للتحكيم لصالح الفلبين.
أما الطريقة الثانية فتتمثل في استغلال الولايات المتحدة الأمريكية لمعاناة الصين من مشاكل نضوب الموارد المتجددة في بيئتها المحيطة وتسعى لتعويض هذا الضغط على مواردها بالتوسع الجيوسياسي، وهو الأمر الذي تسعى الإدارات الأمريكية الحالية إلى جعله متعذرا عبر الاستمرار بمحاولة افتعال وإدارة الأزمات الجيوسياسية ضد الصين .
روسيا خطر غير دائم
رغم تصنيف الاستراتيجية الأمريكية لروسيا على أنها تشكل خطرا استراتيجيا صاعدا، إلا أنها أقل أهمية في التقدير الأميركي من الخطر الصيني، وهي في التقييم الاستراتيجي الأميركي قوى انتقامية، لكن ركودها الاقتصادي يجعلها طرفا مُفسِدا للمشهد أكثر من كونه منافسا حقيقيا. وترجح التقديرات الأمريكية احتمال انحسار النفوذ الدولي لروسيا على مدار العقد القادم، بسبب الاعتمادية التامة لاقتصادها على النفط، ومعدل النمو الاقتصادي الثابت الذي يتأرجح حول نسبة 2%. لكن ما زالت روسيا هذه الأيام أكثر استقرارا على الصعيد الاقتصادي والسياسي مما كانت عليه في تسعينيات القرن العشرين، وهو ما يسمح لها بممارسة نفوذها خارج حدودها. بالإضافة إلى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تمكن من اللعب بالأوراق السيئة في يده لعبا جيدا، فقد أدمج القدرات الحربية الهجينة البارزة لدى روسيا والحرب الإلكترونية والقدرات النووية في استراتيجية دفاعية غير متماثلة، مكَّنَت الدولة من تسديد ضربات أكبر من وزنها. لكن كل ذلك لن يجعل روسيا تشكل تحديا حقيقيا على الهيمنة الأمريكية، بقدر ما أنها ستفسد العمليات الديمقراطية لدى أعضاء الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، وتهدد دول الاتحاد السوفييتي السابقة في المستقبل المنظور.
هل تتوحّد الصين وروسيا في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية؟.
لا تخفي مؤشرات التقارب الصيني- الروسي، نفسها عن رادار رصد الديناميكيات الصاعدة في النظام الدولي ما بعد انتهاء عصر القطبية الأحادية، فالعلاقات بين الصين وروسيا تتطوّر على كافة الأصعدة، وتأخذ طابع العلاقات التحالفية، وخاصة في المجال العسكري، بعد إجراء مناورات عسكرية بين الجيشين الصيني والروسي، في أيلول /سبتمبر الماضي، وصفها الخبراء بأنها الكبرى في تاريخ روسيا، أطلِق عليها اسم “فوستوك 2018″. والأهم من حجم المشاركة هو رمزيتها ودلالاتها السياسية؛ فقد رأى بعض المحللين أنه يؤشر على ولادة تحالف شرقي مفتوح على العديد من البلدان الإقليمية، قد يكون شبيها بـ”حلف وارسو”.
بيد أن الكثير من التحليلات الدولية ترجح أن «درء المخاطر» وليس تحقيق المصالح هو ما يوحد الأهداف الصينية الروسية على الأقل في شرق آسيا والمحيط الهادئ، فالصين تشعر أن الولايات المتحدة تعمل وفق رؤية ومنهجية متكاملة لإضعافها، خاصة أن الرئيس ترامب باع أسلحة لتايوان تزيد على 2.3 مليار دولار، وتصر السفن العسكرية الأمريكية على المرور في بحر الصين الشرقي الذي يفصل الصين عن تايوان، ويتزايد القلق الصيني من «عسكرة» بحر الصين الجنوبي والذي أدى إلى تراجع النمو الصيني عام 2018 إلى 6.9% لأول مرة منذ 30 عاما، وتنظر الصين بعين الريبة للمظاهرات في هونغ كونغ، ولا تستبعد دورا أمريكيا في كل ذلك، فضلاً عن الحروب التجارية مع الرئيس ترامب.
الأمر نفسه في روسيا التي ترى أنها مستهدفة من الاستراتيجية الأمريكية الجديدة من خلال نشر منظومة الصواريخ الأمريكية «ثاد» في كوريا الجنوبية، وتقييم روسيا أن عمل هذه المنظومة يتجاوز أراضي كوريا الجنوبية ليكشف جزءا من أراضي شرق روسيا للولايات المتحدة، وما زاد من القلق الروسي هو موافقة مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون ينص على جمع البيانات حول كيفية دعم روسيا لكوريا الشمالية.
لكن السؤال الجوهري هل العداء المشترك لأميركا قد يثمر تحالفًا عسكريًا يشبه حلف الناتو بين الصين وروسيا؟، تؤكد الوقائع وجود مساحة اختلاف كبيرة بين الطرفين يصعب تطويعها أو تجاوزها، فالبلدان اللذان تربطهما حدود برية بطول 4200 كلم، ودفعتهما للتورط في حرب حدودية عام 1969، ما يزالان لم يتوصلا إلى تسويات نهائية بشأن هذه الحدود، كما يوجد بينهما صراع تاريخي وجيواستراتيجي على مناطق النفوذ الإقليمية، ويكشف حجم الخلاف بين الصين وروسيا أن الصين لم تعترف حتى الآن بانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، كما لا تؤيد روسيا مطالب الصين بالجزر المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي وبحر اليابان، لذلك ليس من المقبول على الأقل في الوقت الحالي لصانعي السياسة في روسيا والصين الدخول في حلف عسكري «لأن هذا قد يحد من» القدرة على المناورة لدى البلدين في ظل تشابك العلاقات الأسيوية والأمريكية، كما يخشى بعض الروس أنفسهم من الصين، ويقولون إنهم لا يمكن أن يقبلوا أن تتحول روسيا لتابع للصين على غرار تبعية كندا للولايات المتحدة.
إيران قوة مشاغبة يسهل توظيفها.
تستفيد إيران من جملة من المتغيرات، على الأصعدة الإقليمية والدولية، جعلتها طرفا مؤثرا، ولو في حدود معينة، في الوضع الدولي الراهن، وقد أهلتها هذه الأوضاع إلى امتلاك أوراق قوّة في مواجهة خصومها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وذلك عبر اتباعها جملة من التكتيكات:
أولا: الاستفادة من الفراغ: بنت إيران نفوذها في بيئاتٍ تعاني من فراغ سياسي، نتيجة أزمات عصفت بها، وقد عرفت كيف تستفيد من هذه الأوضاع وتوظفها لصالحها. ولطالما طرحت إيران نفسها ضمن هذه البيئات بوصفها قوّة استقرار، هدفها الأساسي الحفاظ على كيان الدولة، ولكن بطريقتها الخاصة، وعبر هندساتٍ عسكرية واجتماعية، استطاعت من خلالها تفكيك البنى القديمة، وإعادة تركيبها بمنهجية جديدة.
ثانيا: استثمار الحروب الهجينة: تميزت القوّة الصلبة لإيران بمرونتها وقدرتها على التكيف، بل إنها فرضت نمطا من القوّة، على مساحة الإقليم، صار من الصعب كسره في إطار الحروب الكلاسيكية وركائزها العسكرية. وقد دمجت إيران في قوتها العنصر المليشياوي “الوكيل” سهل الحركة ومنخفض التكاليف، بالإضافة إلى استخدام التقنيات الحديثة، وكان جديدها الطائرات المسيّرة التي يبدو أنها ستكون العنصر الأكثر فعالية في الجيل الحديث من الحروب.
ثالثا: الاستفادة من طاقة الصراع الهوياتي في المنطقة: حيث تركز إيران على البيئات الشيعية، والتي طالما اعتبرت نفسها ضحية مظالم منذ مئات السنوات، وأنها تواجه فرصة تاريخية لتغيير معادلات السلطة والحكم في المنطقة، لذا هي على استعداد لتحمل تبعات هذا الأمر ودفع أثمانه، في مواجهة بيئاتٍ مستنزفة، بفعل صراعات سلطوية داخلية، أو بفعل تراجع تأثير البعد الهوياتي في اجتماعها، أو حتى نتيجة نكوصها إلى هويات صغرى متعدّدة.
رابعا: اللعب على الصراعات الدولية: تعرف إيران كيف تجعل بعض الأطراف الدولية تقف في صفها في مواجهة خصومها، وقد نجحت سياساتها في جعل روسيا والصين حلفاء لها في مواجهة عداء أميركا، وتموضعت ضمن هذه العلاقة بوصفها قوّة ممانعة دولية في مواجهة التفرد الأميركي.
ويحسب لصانع القرار الإيراني قدرته على التقاط توجهات البيئة الدولية ودراسة مواضع الضعف والقوّة فيها، فقد اكتشفت إيران باكرا أن إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تلهث وراء الحصول على اتفاق نووي، ولو بتأجيل المشروع النووي الإيراني بضع سنوات، في مقابل غض الطرف عن سياسات إيران الإقليمية. كما التقطت نقطة الضعف الأساسية في سياسات إدارة دونالد ترامب الخارجية، وهي مكافحة الانجرار إلى حروبٍ خارجية، وتراجع أهمية الشرق الأوسط بالنسبة لهذه الإدارة، ما أتاح لها الفرصة لتوسيع رقعة نفوذها وتثبيتها.
تعاملت إيران في صراعاتها مع أميركا، الطرف الأكثر فعالية في المنطقة، عبر أسلوبين: العمل من خلال وكلائها في المنطقة، فلا تتبنى أي عمل بشكل مباشر، ما يضعف الخيارات العسكرية للأطراف الأخرى، والأمثلة كثيرة، منها الهجوم أخيرا على منشآت لشركة أرامكو في المملكة العربية السعودية، والذي تبنّاه الحوثيون، وضرب المنطقة الخضراء في بغداد، والطائرات المسيّرة التي يطلقها حزب الله باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة. واللسع هو الأسلوب الثاني في تكتيكات الصراع الإيراني، حيث تعمد إيران إلى القيام بعملياتٍ يجري، في الغالب، تصنيفها في إطار السلوك الاستفزازي الذي لا يستدعي الرد بإشعال نزاع واسع، في وقتٍ ترفع هذه العمليات من قوّة الردع الإيرانية وتكسبها زخما معنويا هائلاً.
مبررات صبر أميركا على إيران
وصفت صحيفة “الواشنطن بوست” الأميركية الهجوم على “أرامكو” بالوقح في هدفه وتنفيذه، لأنه استهدف بعضا من البنية التحتية النفطية الأكثر حيوية في العالم، ما كان يستدعي ردا أميركيا عنيفا. وكانت إيران قد استبقت هذه الحادثة باستهداف ناقلات للنفط في الخليج العربي، وذهبت إيران أبعد من ذلك عبر إسقاطها لطائرة استطلاع أمريكية مسيرة، وهو ما رجح، بدرجة كبيرة، قيام الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية لإيران.
غير أن المفاجأة كانت في تراجع ترامب عن ضرب إيران في اللحظات الأخيرة، وقد برّر ذلك بكون الرد سيكون غير متناسب مع حادث حصل على الأرجح عن طريق الخطأ. وهو ما فتح المجال لطرح السؤال عن السبب الحقيقي الذي يدفع الإدارة الأمريكية، رغم انخراطها في عداء علني لإيران، إلى التغاضي عن استهدافها؟.
أولاً: حسابات “رجل الأعمال” الرئيس
لا يريد ترامب الحرب مع إيران لأسباب تتعلق بالشق الاقتصادي من ناحية وبانتخابات الرئاسة الأمريكية العام القادم من ناحية أخرى. فالمواجهة العسكرية، بغض النظر عن محدوديتها أو كونها حربا مفتوحة، ستكون لها عواقب اقتصادية خطيرة؛ حيث إنه على الأرجح فإن الملاحة في مضيق هرمز ستتأثر إن لم تتوقف بالكلية، وهو ما يعني ارتفاع أسعار النفط بصورة كبيرة ستؤثر قطعا على الاقتصاد العالمي بشكل عام.
بما أن ازدهار الاقتصاد الأمريكي هو الورقة الرابحة التي يلعب بها ترامب، وكان ذلك واضحا في إعلانه الترشح لولاية ثانية، فإن الدخول في مواجهة عسكرية مع إيران وانعكاسات ذلك على الاقتصاد ربما يحرق تلك الورقة ويجعل فرص إعادة انتخابه محل شك كبير.
ثانيا: أمن إسرائيل
يشكّل عامل الأمن الإسرائيلي سببا مهما في امتناع الولايات المتحدة الأمريكية عن ضرب إيران، ذلك أن التقديرات الأمريكية تذهب إلى أن مبررات تنفيذ الهجوم الأمريكي ضد إيران ربما تكون غير كافية لشن ضربة من شأنها أن تتحول في غمضة عين إلى حرب إقليمية ستؤثر على الحليف الأميركي الأساسي في المنطقة، إسرائيل، ولاسيما أن إيران قادرة على استغلال وكلائها في لبنان وسوريا لشن هجمات مضادة عند الهجوم عليها أو للضغط على أميركا.
ثالثا: تراجع أهمية المنطقة في التقييم الأميركي.
لا يمكن عزل التراخي الأمريكي تجاه إيران عن سياق التطورات الاستراتيجية الكبرى التي يمر بها العالم، ولا سيما بخصوص أمن الطاقة ومدى حاجة أميركا لنفط الشرق الأوسط، والآن بعد أن جعل النفط الصخري من أميركا أقلّ اعتمادا على نفط الشرق الأوسط، من الصعب تخيّل أي رئيس أميركي يخاطر بحرب في المنطقة قد تكلف الكثير من الثروات والأرواح.
رابعا: الرهان على سلاح العقوبات
يعتقد صانع القرار الأميركي أن العقوبات الاقتصادية كافية للتأثير على إيران، وهي عقوبات غير مسبوقة، تمتد من تصفير صادرات إيران من النفط والغاز، لتشمل قطاعات الحديد والصلب والألومنيوم والنحاس الإيرانية، وصولاً إلى منتجات الفستق والزعفران.
وترى أوساط سياسية غربية أن إيران تحاول الخروج من وضعية الدولة المأزومة والمحاصرة عبر التصعيد في المنطقة، وذلك لدفع الإدارة الأمريكية إلى التفاوض ورفع العقوبات الاقتصادية، وهو ما تدركه إدارة ترامب وتحاول عدم تحقيقه لإيران.
خامسا: توظيف الصراع الإيراني في ابتزاز العرب.
وبحسب هذه النظرية، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، تستخدم نظام الملالي ورقة وظيفية لتحقيق الكثير من الأهداف الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية في المنطقة، وفي مقدمة تلك الأهداف، توفير الأمن لإسرائيل، بعد أن تم استنزاف طاقات دول المنطقة في مواجهة المشروع الفارسي بدلا من التركيز على القضية المركزية وهي القضية الفلسطينية، وبقاء المنطقة سوقا ضخمة للسلاح الأميركي، الذي سيتم شراؤه بقصد مواجهة الخطر الإيراني، وفرض دمج إسرائيل في التحالفات العربية، لمواجهة عدو مشترك، وهي مقايضة صريحة للدفع نحو التطبيع العلني، أعلنت عنها أميركا بوضوح في ما يسمى مشروع” صفقة القرن”.
وتخدم نبرة العداء المتبادلة بين إيران وإسرائيل، والمستمرة منذ عقود كلا الطرفين في توطيد نفوذهما الإقليمي، وهي استراتيجية فيها من الوشائج ما يدعم الإبقاء على الخطاب الدعائي ولغة التهديد والصراع بالوكالة، كأدوات ذرائعية لتحقيق أهداف جيوسياسية .