2019العدد 180ملف ثقافي

فؤاد عبدالمجيد وموشحاته العصرية

لمحة تاريخية

ظهر الموشح أول ما ظهر كشكل شعري في الأندلس في البناء الشعري بعيدا ولو قليلا عن بلاغة الفصحى وإن لم يتخلَّ عنها نهائيا. وكانت هذه الليونة والمرونة في التأليف سببا تحويله إلى منجم غني للتلحين والغناء وعرف تاريخيا باسم الموشحات الأندلسية. ولابدّ من ذكر أن الوشاحين الأندلسيين قد استنبطوا من بحور الشعر العربي التقليدية المعروفة بحورا جديدة مجتزاة من البحور الأم. ومثال على ذلك هذا الموشح (أو بدايته) للأعمى التطيلي:

ضاحكٌ عن جُمانْ      سافرٌ عن بَدرِ

ضَاقَ عنهُ الزمانْ    وَحَواءُ صَدْري

وواضح هنا البحر الشعري غير التقليدي:

فاعِلن فاعِلان       فاعِلُنْ مُستَفْعِلْ

فاعِلن فاعِلان       مُتفاعِلْ فِعْلُنْ

كيف انتقل الموشح من أقصى الغرب (إسبانيا – الأندلس)، ثم المغرب العربي بعد سقوط الأندلس في عام 1492 إلى مصر والمشرق العربي؟ بالرغم من الصعوبة في تفسير هذه الظاهرة فإن المراجع التاريخية المهتمة بهذا الموضوع تفسره بشكل بسيط جدا: الانتقال جاء نتيجة طبيعية للروابط القومية التي تجمع ما بين عرب الأندلس والمغرب(بعد 1492) بعرب المشرق، ولحركة الانتقال الدائمة للعلماء والفنانين العرب بين المشرق والمغرب ودائما عبر مصر. ويذكر المستشرق الإسباني “آنخل كونثالث بالنثيا” أنه في خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر (أي أثناء الحكم العربي في الأندلس) توجّه من أهل الأندلس نفرّ من الفقهاء والمتصوفين والأطباء وأهل الأدب إلى المشرق وكان لهم أثر عظيم هناك. وعن طريق هؤلاء انتقل الزجل إلى المشرق. وكان أول من علّم أهله صناعته أبو مروان بن زهر وأبو على الشالوبين النحوي وعبدالمنعم عمر وكان ملحنا وفيلسوفا وأصله من جيان وابن سعيد الغرناطي الذي اجتمع في المشرق بشعراء أندلسيين هاجروا من بلادهم وانصرفوا إلى صناعة الزجل في مهاجرهم.

ويقول الأستاذ عبدالعزيز بن عبدالجليل في كتابه القيّم(الموسيقى الأندلسية المغربية) :”يخبرنا ابن سعيد عثمان الكعاك والصادق الرزقي أن أمية بن الصلت الإشبيلي المتوفى سنة 529 هجرية لقّن أهل أفريقيا الألحان الأندلسية ومن بينها الموشحات وأنه قضى في مصر عشرين سنة كرسها للبحث العلمي حتى برع في الفلسفة والطب والتلحين”.

ولا نعرف شيئا عن موسيقى هذه الموشحات التي لُحنت في مصر لقرون وذلك لعدم وجود تدوينات أو تسجيلات لهذه الموشحات وبالذات التي لُحنت في مصر. وبالرغم من ذلك كانت هذه الموشحات المصرية تُعرف ولفترة قصيرة من الزمن مضت باسم الموشحات الأندلسية. وسبب ذلك عدم معرفة اسم الملحن ولا اسم المؤلف. وإذا كانت تغفل عن ذكر أسماء المؤلفين والملحنين، والسبب معروف: أن الكثير مِمَّن نَظَموا ولحّنوا الموشحات المعروفة الآن تحت تسمية : تراث قديم كانوا من الشيوخ الذين كانوا يرفضون وضع اسمهم على أعمال تتغنى بالحب والحبيب والخمر.

ومن بين هؤلاء الشيوخ الشيخ قرّاعة مفتي الديار المصرية الذي كان يؤلف للمطرب والملحن الشهير عبده الحامولي، كما يذكر المؤرخ الكبير كمال النجمي في كتابه تراث الغناء العربي. بعد ظهور الأسطوانة سنة 1903 سجل هذا الاختراع كل الموشحات القديمة بصوت المطربين الحافظين لها.

وكذلك الموشحات الجديدة التي ظهرت وكان الموشح مع الدور القالبين الأساسيين للتلحين، ولم يعرف التاريخ ملحنا لم يترك أدوارا أو موشحات.

ويأتي القرن العشرون وبدأت الموشحات بالانحسار عن خريطة التلحين وذلك حين انتشرت تقليعة تلحين الطقطوقة على يد محمد لعبة حتى أن أحد أعظم ملحنين الموشحات العلامة الموسيقي كامل الخلعي جاء بصندوق لتلميع الأحذية ولصق عليه شهاداته العلمية واتخذ موقعا عند باب معهد الموسيقى مع صندوقه احتجاجا على حال الموسيقى والتلحين. وكان سيد درويش(1892-1923) من أهم من لحن الموشحات وتبعه كل ملحني هذه المرحلة تقريبا. لكن الاهتمام بتلحين الموشح قل كثيرا خصوصا بعد ظهور قالبين جديدين: الطقطوقة في آخر مراحل تطويرها على يد زكريا أحمد (جمالك ربنا يزيده واللي حبك يا هناه -1931 غناء أم كلثوم) والمونولج في آخر مراحل تطويره على يد محمد القصبجي بصوت أم كلثوم(مونولوج إن كنت أسامح وأنسى الأسية-1928) وهكذا اختفى تلحين الموشح من ساحة التلحين في مصر وإن ظلت ارتفاعاته المميزة موجودة في الاستعمال في الأشكال الجديدة المسيطرة(الطقطوقة المطورة) كما في (يا هل ترى يا زماني) المقطع الثالث من طقطوقة امتى الزمان لمحمد عبدالوهاب (1932) حيث يستعمل إيقاع السماعي الثقيل10/8، وفي أغنية (كثير قلبي الذُّل عليك) لمحمد عبدالوهاب  التي تبدأ على إيقاع الأقصاف 9/8، وفي جملة (صحيح تغيري علىّ) من أغنية (يادي النعيم) لمحمد عبدالوهاب وليلى مراد، حيث ترد الجملة على إيقاع الدور الهندي 7/8 وغيرها. وكان آخر من لحن الموشحات في هذه الفترة هو زكريا أحمد: موشح يا بعيد الدار وموشح بنت كرمٍ. ولابد هنا من ذكر الاهتمام الكبير الذي أبداه الموسيقار العلامة اللبناني توفيق الباشا بالموشح وصناعته وكان روى لي شخصيا بأنه كان يذهب إلى الحانات حيث يسمع المطربين يغنون الموشحات ويرجع بها ويوزعها على أوركسترا كبير. ومن أهم أعماله التراثية الموزعة مغناة اسق العطاش من التراث الحلبي وهي صلاة استسقاء المطر وغناها المطرب الفلسطيني الكبير محمد غازي.

شكل الموشح

الموشح قالب موسيقي غنائي يتألف من أربعة أقسام: دور أول – دور ثانٍ – خانة غطاء حيث يأتي الدول الأول والثاني والغطاء على نفس اللحن أمّا الخانة فهي الجزء الذي يحتوي على التطوير بما فيه تغيير الإيقاع والمقام والتفاعل وغيره من وسائل التغيير.

وأُسمّيِ هذه الأقسام الأربعة  كالتالي أ – أ – ب – أ ويذكَّر هذا القالب بقالب السوناتا التي تتألف مع كل الحركات الأولى من سمفونيات العصر الكلاسيكي الأوروبي (هايدن –موتسارت – بيتهوفن) ومن تابع في العصر الرومنتيكي كتابة السمفونيات (برامز –تشوبرت – شومان) لكن التأليف والإبداع لا يخضع لقوالب جامدة نظرية لذلك لا نجد في الموسيقى السمفونية الأوروبية حركتين أوليين تشبه بعضها حرفيا. كذلك في الموشح فإذا كان شكله الكامل النظري أ – أ – ب – أ والذي نجده بوضوح شديد في موشح سيد درويش يا بهجة الروح.

أقول إذا كان هذا القالب الكامل للموشح والذي التزم به سيد درويش تقريبا في جميع موشحاته فإن صناعة الموشحات لم تلتزم دائما بجميع أقسامه كما حدث بالضبط في تأليف السمفونيات الغربية. ومن أهم هذه التغييرات التي تأتي عندما يكون الموشح طويلا هو اختصار الألف الثانية كما في الموشح العظيم للملحن والمطرب اللبناني الكبير حليم الرومي “غلب الوَجد عليه فبكى” للشاعر والسياسي المصري الكبير: محمود سامي البارودي.

فؤاد عبدالمجيد

ولد فؤاد عبدالمجيد في 14/5/1926 وكانت بدايته في “دراسة” الموسيقى العربية هي مرحلة سماعية لكل ما يظهر من أعمال موسيقية في تلك المرحلة الغنية جدا بأعمال سيد درويش ومحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب وزكريا أحمد. واستمرت مرحلة استيعاب التراث الحديث للموسيقي العربية عنده لغاية بداية الخمسينيات من القرن العشرين حين ظهرت موهبته في التلحين. وكان تأثير هذه المرحلة في الموسيقى العربية “الحديثة” أن جاءت موشحاته حديثة المضمون وإن كانت على الشكل والإيقاعات التقليدية المعروفة للموشحات. ومع ملكة التلحين ظهرت عنده ملكة نظم الموشحات على غرار الموشحات الأندلسية التي كان يعشقها ولا يملّ من قراءتها.

في الأربعينيات بدأ فؤاد عبدالمجيد في دراسة الموسيقى على الموسيقار الكبير صفر علي وكذلك على حفظة الموشحات مثل درويش الحريري وإبراهيم شفيق وفؤاد محفوظ. لكنه حبس موهبته هذه في إطار الهواية فقط إلى جانب دراسته الأكاديمية كمهندس زراعي التي جعلها مهنته التي يعتاش منها.

أما في مجال الهواية فكان يلحن موشحات في سرية غريبة ورافقه في هذه المرحلة رفيق عمره وعازف العود الكبير – الهاوي الصديق محمد مدكور والذي بقي معه – طوال مشواره الفني. وقد استمرت حالة الانغلاق على أعمال فؤاد عبدالمجيد لغاية أواخر السبعينات إلى أن قرر أخوه مع رفيق عمره محمد مدكور كسر طوق العزلة هذه والانطلاق بموشحاته إلى العلن. فكان أن ذهبا إلى صديقهما المشترك الفنان الكبير علي رضا مؤسس فرقة رضا العريقة للفنون الشعبية ودعوه على “قعدة” سمع موشحات جديدة. فقبل علي رضا من باب مجاملة أصدقائه، الذهاب معهم للاستماع إلى موشحات جديدة في وقت اختفت فيه نهائيا الموشحات من على الخريطة الغنائية العربية. وسرعان ما تحولت مجاملة علي رضا إلى انبهار عند سماعه بعض الموشحات من ملحنّها ومؤلفها.

بداية فؤاد عبدالمجيد في مصر

بعد هذه السهرة ذهب علي رضا إلى الموسيقار المايسترو عبدالحليم نويرة مؤسس وقائد فرقة الموسيقى العربية التي كانت الفرقة الرائدة في تقديم درر تراث الموسيقى العربية من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ودعاه نيابة عن فؤاد عبدالمجيد إلى سهرة سماع للموشحات الحديثة. ويروي فؤاد عبدالمجيد شخصيا لأصدقائه ومحبي فنه في إحدى جلساته الخاصة.

جاء عبدالحليم نويرة وهو غير مقتنع بأن هناك من يلحن موشحات في الربع الأخير من القرن العشرين فأخذ يميّع الجلسة ليُبعد لحظة السماع لغاية نهاية السهرة. لكن علي رضا حال دون نهاية السهرة على هذا الشكل. وما إن انتهى فؤاد عبدالمجيد من الموشح الأول حتى طلب نويرة الاستماع إلى المزيد وامتدت السهرة وانتهت بأن اختار نويرة ثمانية موشحات من التي سمعها ووزعها على أوركسترا توزيعا أوركستراليا كبيرا.

أول ظهور في مصر

وفي ليلة رأس السنة الميلادية (1979-1980) وفي أول دقائق السنة الجديدة ظهر علي رضا وروى قصة الموشحات الثمانية وبعد ذلك ظهرت فرقة رضا بشكل مبهر ترقص على نغمات الموشحات الموزعة توزيعا عصريا وعلى رأسها الراقصة الأولى الرائعة فريدة فهمي.

بداية فؤاد عبدالمجيد في لبنان

في بداية سنة 1980 وضمن احتفالات النادي الثقافي العربي بعامه الخامس والثلاثين قمت بتأسيس فرقة موسيقية غنائية (فرقة بيروت للموسيقى) وقدمت أولى حفلاتها في شهر فبراير/شباط. واحتفالا بتأسيس الفرقة أقام النادي حفلة دعيت إليها الشخصيات العامة في لبنان. وكان بين الحضور وزير مصري سابق أقبل علينا أنا وأخي الكبير الناقد والمؤرخ الموسيقي إلياس سحاب وبدأنا نتكلم عن شؤون الموسيقى العربية وشجونها فقال طالما أنتم مهتمون بتقديم الموشحات هل سمعتم بفؤاد عبدالمجيد؟ فأجبنا بالنفي فقال إنه ملحن موشحات جيد يقوم الآن بتسجيل بعض موشحاته على شرائط كاسيت وسأرسل لكم من مصر شريطا.

وكانت ردة فعلنا بعد ذهابه أنه من سيلحن في مثل هذه المرحلة من الانحطاط الموسيقي موشحات. ولم يمضِ أسبوعان حتى تلقينا اتصالا هاتفيا من الوزير المصري السابق وقال: أنا الآن في بيروت ولقد أحضرت معي الشريط ولم أرد أن أحرم نفسي من مراقبة ردت فعلكم عند سماعه لأول مرة هذه الموشحات. والتقينا وبدأنا نسمع وكان إعجابنا وانبهارنا يكبر من موشح لآخر. لقد كانت نفس الموشحات الثمانية التي وزعها نويره ورقصت عليها فرقة رضا وظهرت على شاشة التلفزيون المصري ليلة رأس السنة 1980. وكانت حفلتي الثانية مع فرقتي الوليدة في الشهر التالي وقدمت فيها موشح فؤاد عبدالمجيد الرائع “يا غريب الدار” ولا أنسى انبهار الموسيقار توفيق الباشا في آخر الحفلة وسألني بلهجته البيروتية المحببة: “من أين جئت بهذا الموشح؟” ومنذ تلك الحفلة الثانية في حياتي المهنية لم تخْلُ حفلة من حفلاتي من أحد موشحات فؤاد عبدالمجيد لغاية الآن.

البناء الشكيلي والمقامي والإيقاعات

1-البناء الشكلي

يعتمد السواد الأعظم من موشحات فؤاد عبدالمجيد على الشكل الصارم الكامل للموشح أ – أ –ب – أ مكملا بذلك ما فعله الشيخ سيد درويش في معظم موشحاته من أكبر هذه الموشحات (منيتي عز اصطباري) لغاية أصغرها (سلّ فينا اللحظ هنديا) الذي لا يتعدى وقته الدقيقة الواحدة (52 ثانية مع مقدمة صغيرة كتبتها له) أي أنه بغير هذه المقدمة لا يتعدى الخمسين ثانية.

ونادرا ما يخرج سيد درويش عن هذا الشكل ويجب ذكر أن سيد درويش صاحب أقصر الموشحات فإلى جانب سلّ فينا اللحظ – نذكر: يا بهجة الروح وصحت وجدا وكلها كاملة القالب.

2-البناء المقامي

خريطة التلوين المثالي عند فؤاد عبدالمجيد واضحة جدا وطبعا  هذا التغيير المقامي لا يرد إلا في قسم ب وهو القسم الذي يحدث فيها تغيير كل شيء حسب خيال الملحن: الإيقاع واللحن والمقام والسرعة وأي شيء آخر. وتلوين قسم ب في موشحات فؤاد عبدالمجيد مقاميا يأتي حسب مقام بداية الموشح أي مقام قسم أ. هنا نجد نوعين من التلوين المقامي. إذا كان المقام الأساسي لا يحتوي على أرباع صوت (نهاوند، عجم، كورد وغيرها) نجد أن قسم ب يأتي إما على مقام يحتوي أرباع صوت (راست، بياتي ، صبا) الأقل جملة قصيرة من هذه المقامات. مثال على ذلك في موشح دعاني داعي الهوى (من مقام النهاوند) يأتي التلوين في قسم ب محتويا على جملة من مقام الصبا (سقاني من كاسه سقاني) أو موشح كم في الغربة بعد ليال(مقام النهاوند) يأتي التلوين المقامي في قسم ب في جملة شادٍ أهتف بالأشواق على مقام الراست.

أما في حال بدأ الموشح على مقام يحتوي على أرباع صوت فإن التلوين المقامي يأتي على مقام لا يحتوي عليها كما في موشح (فُتِنَ الذي) من مقام الراست يأتي التلوين المقامي على نفس الكلام (فتن الذي) من مقام النهاوند ( لا يحتوي على أرباع صوت).

3-الإيقاعات

أجمل ما لحن فؤاد عبدالمجيد هي الموشحات التي جاءت على إيقاع السماعي الثقيل وهو من أهم الإيقاعات في صناعة الموشح التقليدي الكلاسيكي ولابد من التذكير بموشح محمد عثمان ملا الكاسات الذي يعتبر من أعظم وأكمل الموشحات في تاريخ الموسيقى العربية إن لم يكن أعظمها، وقد لحنه صاحبه على إيقاع السماعي الثقيل. ومن موشحات فؤاد عبدالمجيد الرائعة على هذا الإيقاع نذكر هل دَرَى- لي ليالْ طوالْ – دعاني داعي الهوى – حيرني الهوى – لاهٍ تياه – وحرّم النوم عليا وغفا وغيرها.

أما باقي الموشحات فتُوزّع على إيقاعات مختلفة منها الغربي كما في الغربة – وإيقاع الفالس ذي الأضلع الثلاثة ¾ وأهم ما ورد على هذا الإيقاع: قف يا هوى – آه لقلبي – أمِنَ الفراق –عجبا لغزال وغيرها.

مجموعات موشحات فؤاد عبدالمجيد

يوجد تجاريا أربعة أشرطة موشحات لفؤاد عبدالمجيد وهي :

أ-شريط موشحات راقصة لفرقة رضا

ورد في هذا الشريط ثمانية موشحات وهي كلها من توزيع عبدالحليم نويرة ووردت كلها في الشريط التلفزيوني الذي تكلمنا عنه هذه الموشحات هي : يا غريب الدار (مقام النهاوند)، لحظ رنا(نهاوند)، لي ليالْ طوال(نهاوند)، يا من نشا(نهاوند)، عجبا لغزالٍ(نهاوند) لاهٍ تيّاه (نهاوند)، آه لقلبي والقمر (مقام عجم)، وقف يا هوى(عجم).

ويتميز من هذه المجموعة: لي ليال طوال أولا بمادته اللحنية الرائعة ثم بتلاحم الإيقاع العربي الكلاسيكي(سماعي ثقيل) مع التوزيع الأوركسترالي الغربي الخلاق الذي يبرز جماليات الإيقاع العربي هذا التوزيع الذي أبدعه عبدالحليم نويرة. أما باقي موشحات هذه المجموعة فتمتاز ككل موشحات فؤاد عبدالمجيد بالمادة اللحنية الثرية وبقالب الموشح التقليدي الصارم إلى جانب مضمون موسيقي حديث جدا واجدا ذلك الحل الرائع لمشكلة التراث مع التحديث. ويجدر بالذكر أن محمد مدكور عازف العود الهاوي والرائع شارك في تسجيل كل هذه الموشحات على عوده.

ب-شريط دعائي

وبه سبعة موشحات وكلها من توزيع مصطفي ناجي ونظم غناء فؤاد عبدالمجيد. ويحتوي إلى جانب الشريط على اسمه. شارك في التسجيل على عوده محمد مدكور.

  1. دعاني: من مقام النهاوند وإيقاعه سماعي ثقيل وهو من الإيقاعات المحببة عند الملحن. ويمتاز بلحنه الجميل الرائع وخطوطه الميلودية الهادئة التي نرى فيها التحام اللحن مع الإيقاع المركب للموشح بشكل تام. ولابد من ذكر المقدمة الهادئة المرسلة (من دون إيقاع) الذي أبدعها الموزع.
  2. يا ليل الصب متى غده: ويمكن اعتباره معارضة لحنية للموشح القديم “يا ليل الصب” على نفس القصيدة الذي جاء على مقام حجاز وإيقاع المصمودي الكبير. لكن فؤاد عبدالمجيد غير اللحن والمقام والإيقاع في موشحه هذا فعلى خلفية المقدمة المرسلة على مقام العجم والموزعة بطريقة حالمة نسمع فيها آلة القيبروفون، يبدأ الموشح على نفس المقام الذي سمعناه: العجم وعلى إيقاع السماعي الثقيل.
  3. ساقي بنت ألحان: بدأ بمقدمة مرسلة ويأتي على هذه الخلفية إلقاء الملحن بشعر الموشح. والمقدمة من نفس أجواء توزيع مقدمة يا ليل الصب: حوار هادئ بين الوتريات دالة القيبروفون التي  تضفي على صوت الوتريات ألوانها المعدنية اللامعة والقصيرة، كل هذا على مقام النهاوند معلنة بذلك عن مقام الموشح قبل دخول المقدمة الموقعة على إيقاع ¾ الثلاثي الأضلاع وكأنه فالسي بطيء. ولكن مقام النهاوند يخفي هنا تلوين جريئا إذ نسمع في نهاية كل جملة وكختام لها جملة موسيقية من مقام النكريز. وكأن الملحن هنا يريد مفاجأة المستمع بهذا التلوين ذلك أن مقام النهاوند يكون نظريا النصف الأعلى (الجنس الثاني) من مقام النكريز، فتأتي مفاجأة التغيير المقامي بسلاسة مدهشة .
  4. أمن الفراق: نصل هنا إلى ذروة  كل تراثه من الموشحات. إن هذا الموشح يحتوي على مضمون درامي لم أسمعه في كل الموشحات التي سمعتها أو قدمتها وهي كثيرة. بل أقول إنه من الناحية الدرامية أعتبره أقوى وأعمق موشح درامي في تاريخ الموسيقى العربية التي نعرفها منذ1903 تاريخ بداية تسجيل الأسطوانات في مصر والعالم العربي. وروى لي فؤاد عبدالمجيد شخصيا قصة تلحين وتأليف هذا الموشح قائلا: كنت أقرأ ديوانا شعريا فيه مجموعة من أبيات الشعر المتنوعة لمجموعة من الشعراء غير المشهورين. فقرأت بيتا أذهلني وظللت أحلم به لغاية ما جاءتني فكرة شرحه بقصيدة موشح هذا البيت هو:

   هل تعرفين وراءَ الحُبِّ مَنْزِلَة ً         تدني إليك؟ فإنَّ الحبَّ أقصاني

فكانت قصيدة أمن الفراق ولكن للأسف لم يدخل فيها هذا البيت في آخر القصيدة لتعارض إيقاعه مع إيقاع اللحن فَغَّيْرته.

والقصيدة – الموشح هي :

أمن الفراق جنــــون في مخيلتي       أم من لقاء به أظمى فأظماني

أنوي البعـــــــــاد لنلقى فيه راحتنــــا      إذ بالحنين وشوقي لا ينامــــــان

القلب يسألني عن طول رحلتنا       صبري يعلله والعقـــــــــــل ينهاني

“هل تعرفين وراء الحب منزلة       تعرني إليك فإن الحب أقصاني”

وقد أبدل الشاعر في الموشح البيت الأخير بالبيت الثاني:

لا ترتضين شفيع الحب يجمعنا           وهو الشفيع لقلبي ما له ثاني

ويحتوي لحن هذا الموشح على أبعادٍ موسيقية جديدة جدا على الموشحات لم ترد في أي  موشح تقليدي. مقام الموشح: الكورد هذا المقام الغامض الآتي من صلب مقام النهاوند الحزين والداكن اللون الميال إلى الطابع الدرامي. كل هذا جاء على إيقاع ¾ الفالس الهادئ المتهادي والبطيء الدرامي. وللموشح هذا معي قصة سوف أرويها لاحقا. ولابد هنا من التنويه بالتوزيع الذي خدم درامية هذا الموشح بأمانة وعمق مظهرا أعماقه الدرامية ومضمونه الموسيقي الحديث.

  • حيرني الهوى : من الموشحات المميزة في هذا الشريط ويتميز أولا بمقامه النادر الاستعمال وهو مقامه النكريز الذي يتألف نظريا من مقام النهاوند عند نصفه الأعلى (جنس2) و يستقر على الدرجة الأولى من مقام النكريز(الجنس1). يمتاز أيضا في استغلال جزء النهاوند من المقام ليبني عليه قسم الليالي (يالالالا) الذي استعمله الوشاحون التقليديون عندما كان البناء الشعري للموشح أقصر من البناء الموسيقي فيكملونه بهذه الليالي. لكن عند فؤاد عبدالمجيد تأتي هذه الليالي كجزء مستقل من البناء اللحني للموشح. بعد هذه الليالي نفاجأ بدخول مقام الراست على قسم ب من الموشح من دون أي تهيئة انفعالية ليزيد بذلك من قوة التلوين المقامي والتأثير الانفعالي.
  • حبيبتي : وهو معروف عن محبي فؤاد عبدالمجيد باسم لوجهك السني التي يبدأ بها الموشح بها. بعد مقدمة خارجة عن لحن الموشح وطابعه وتأتي على إيقاع يشبه إيقاع القطار السريع يدخل الموشح فجأة بوتيرة بطيئة هادئة على إيقاع ¾ (فالس بطيء) ويجمل لحنية رائعة على مقام النهاوند. ويأتي قسم ب على مقام العجم الفرح والمشرق بشكل تصادمي مع مقام النهاوند القائم والحزين والدرامي.
  • هل درى : آخر موشح في هذا الشريط

تأتى في المقدمة المرسلة كخلفية لإلقاء الملحن للقصيدة وتطول هذه المرة لتتخطى القصيدة. ويبدأ المغني الغناء وعلى نفس مقام المقدمة (النهاوند) على إيقاع السماعي الثقيل 10/8 بجملة دائرية جديدة في مضمونها وفي نهاية قسم أ يكمل لحن القسم هذا بالليالي ذات كيان موسيقي واضح كما وردت في الموشح السابق. وفي قسم ب يبقى الملحن في نفس المقام لكن مع لحن جديد يطور الجملة الأولى.

ج- شريط موشحات – غناء عفاف راضي

وزع هذا الشريط عمر خيرت وواضح في التوزيع الموزع الموسيقية كعازف درامز في فرقة “لي بتى شا” (القطط الصغيرة) Les Petits Chats  فآلة الدرامز هي المسيطرة على التوزيع. محتوى هذا الشريط على سبعة موشحات منها موشح (يا ليل الصب) الذي ورد في شريط مصطفى ناجي طبعا مع تغيير التوزيع. وهذه الموشحات هي: أبأفكاري ، كم في الغربة، حبي منيتي، فتن الذي، يا شادي اسمعنا يبرز من هذه المجموعة موشح ” كـم فـي الغُربةِ بعـد لـيــــــــــــــالْ ” من النهاوند وإيقاع قريب من إيقاع البايو ويمتاز بجملة الميلودية الغنية ويرد في قسمه الأوسط مقام العجم كتلوين مقامي، مع تلوين الملحن قصة تأليف هذا الموشح في مقام الراست في آخر الجملة : كان في مؤتمر للمهندسين الزراعيين في لندن وفي طريق العودة تأخر وقت إقلاع الطائرة من مطار هيثرو ثلاث ساعات. جلس وهو مليء بالحنين لبلده فكان هذا الموشح كلاما ولحنا في قاعة الانتظار في مطار لندن. فتن الذي يمتاز عن باقي موشحات فؤاد عبدالمجيد أن لحنه جاء على مقام الراست الذي كان الملحن يستعمله للتلوين المقامي فقط.

د-شريط منوعات توزيع سامي يحيى وهاني الشبراويشي

وكان هذا الشريط الأقل تداولا من سابقيه ويحتوي على أربع أغنيات وأربعة موشحات : ألأني أحبك، يا ذا الجمال البديع، أشرق يا طلعة البدر، ويا ذا الجمال الساحر وجميعها ذات جمل لحنية جميلة جدا ما يميز كل موشحات فؤاد عبدالمجيد.

ه-باقي الموشحات التي يتعدى عددها المائة موشح

والتي كان يقدمها فؤاد عبدالمجيد مع رفيق دربه محمد مدكور في جلساتنا الخاصة والتي للأسف بقيت قيد الخفاء والأرجح أنها موجودة في بيت الصديق وعازف العود الرائع المرحوم محمد مدكور وعند بنات فؤاد عبدالمجيد.

مصير فؤاد عبدالمجيد الغريب

لابد أخيرا من القول إن هذا الملحن النادر الظهور كان ومازال ضحية حياتنا الموسيقية المتدهورة. ولى الفخر أن أقول أني ومنذ الحفلة الثانية التي بدأت بها حياتي الفنية كقائد لفرقة بيروت للموسيقى وكورال الأطفال التابع لها لم تخلُ حفلة من حفلاتي ولغاية الآن من موشح واحد على الأقل من موشحات فؤاد عبدالمجيد: أكان في لبنان أم في مصر منذ قيادتي لأول حفلة فيها مع فرقة أم كلثوم ثم مع الفرقة القومية العربية للموسيقى وكورال الأطفال في دار الأوبرا المصرية ومع كورال أطفال مصر الذي أسسته منذ أربع سنوات. وكنت أصطدم مع آراء الكثيرين من الموسيقيين حول قيمة هذه الموشحات الفنية : مع التقليديين المحافظين من كبار السن ومع الشباب. وأذكر جدالا دار بيني وبين المؤرخ الموسيقي الكبير الصديق المرحوم محمود كامل الذي لم يكن يعتبر أعمال فؤاد عبدالمجيد موشحات على أساس أنه لا يستعمل الإيقاعات المركبة التي تستعمل في الموشحات فأجبته لنفترض ذلك مع أن الكثير من موشحاته استعمل فيها السماعي الثقيل، أغنية محمد عبدالوهاب “كثير يا قلبي الذل عليك” ملحَّنة ولغاية نصفها على إيقاع الإقصاق 9/8 فهل هي موشح؟ قال لا. قلت إذن ليس الإيقاع هو الذي يحدد شكل العمل بل القالب الموسيقي له. فالقالب المستعمل في معظم موشحات فؤاد عبدالمجيد هو نفسه الذي استعمله سيد درويش في موشحاته، لكنه لم يقتنع. ولاقيت نفس الرفض في الاعتراف بقيمة موشحات فؤاد عبدالمجيد في الفترة التي كانت أعمل فيها في المعهد العالي للموسيقى العربية(أكاديمية الفنون) من 1988-1990 وكنت أعلم صفوف الدكتوراه والماجستير. كان الجدال حامي الوطيس بيني وبين أحد طلاب درجة الدكتوراه وكان شديد الرفض لرأيي في القيمة الكبيرة لفؤاد عبدالمجيد.

فأدرت له الكاسيت على موشح (أمن الفراق) ثم قلت له أعطيك مهلة عشر سنين كي تجد موشحا واحدا في تاريخنا الموسيقي يحتوي على العمق الدرامي الموجود في هذا الموشح. وللآن لم يتصل بي.

في الأول من يوليو/تموز 1994 توفي فؤاد عبدالمجيد ولم يمشٍ في جنازته من أهل الفن سوى محمد مدكور صديقه ورفيق دربه، وكاتب هذه السطور.

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى