لم تخف الولايات المتحدة الأمريكية بأنها قامت بإنشاء النظام الدولي الجديد عام 1991 على أنقاض النظام الدولي ثنائي القطبية الذي انهار بعد الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق ومنظومة الدول الاشتراكية، كما لم يعد خافيًا أن الولايات المتحدة استطاعت فرض هيمنتها المطلقة على مجرى العلاقات الدولية وتفردها بالنظام الدولي الجديد وسيطرتها الواضحة على المجتمع الدولي من خلال تحكمها بهيئة الأمم المتحدة وأغلب وكالاتها المتخصصة.
وبذات الوقت فإن تلك الهيمنة الأمريكية أوجدت ردة فعل عكسية أوقعت الإدارات الأمريكية في البيت الأبيض التي تعاقبت على السلطة منذ قيام النظام الدولي الجديد عام 1991 بالحرج الكبير الذي يمكن التعبير عنه بالفشل الذريع جراء السياسة الخاطئة التي تنتهجها تلك الإدارات، فقد شهدت دول العالم عامة والولايات المتحدة الأمريكية اندلاع أزمة الإرهاب الدولي التي تنامت بشكل كبير بعد أن أوجدت تداعيات عميقة على السلم والأمن الدوليين. ثم ظهرت نتائج ردة الفعل المعاكسة للرغبات الأمريكية في فرض هيمنتها على العالم ومقدراته في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فتعرضت الكرامة الأمريكية إلى إهانة كبيرة لم يكن لها سابقة في التاريخ المعاصر، كونها أدخلت الأجهزة الأمريكية المختصة في دوامة الفشل والتراجع جراء أحداث سبتمبر 2001، فضلاً عن اندلاع أزمة البرنامج النووي الإيراني منذ عام 2002، وإعلان إيران تحديها للعالم وللولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في المنطقة الأمر الذي منح موضوع إدارة الأزمات الدولية أولوية كبيرة لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة في البيت الأبيض.
وعلى هذا فالكتاب يعالج موضوع إدارة الأزمات الدولية البالغ الأهمية خلال هذه الحقبة التاريخية، وذلك من خلال التركيز على إدارة الولايات المتحدة الأمريكية للأزمة الدولية التي لها مساس مباشر في قضية الأمن العالمي، خاصة أن موضوع إدارة الأزمات قد أصبح حقلاً مهمًا من حقول البحث العلمي في علوم الاقتصاد والإدارة. وبينما تبدي جميع دول العالم اهتمامًا بإدارة الأزمات التي تكون طرفًا فيها، وتهتم المنظمات الدولية، بإدارة الأزمات ضمن جهد جماعي، فإن الدول الكبرى تجد نفسها معنية بأزمتها وأزمات الآخرين، كما هي الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودورها الدولي في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
كما يسعى الكتاب أيضًا للتعرف على مفهوم الإدارة الدولية مستعينًا بما قامت به الولايات المتحدة في إدارتها للأزمات الدولية كونها دولة عظمى ساهمت في صنع كثير من التفاعلات الدولية، إبان فترة الحرب الباردة، وعملت مع الاتحاد السوفيتي السابق على إدارة أزمات العالم، عبر محاولة الفوز أحيانًا وبالتوافق على الحل أحيانًا أخرى. أما الفترة اللاحقة لانتهاء الحرب الباردة أو ما تعرف بالنظام الدولي الجديد فهي التي تناولها الكتاب وعمل على متابعتها، كونها شهدت تحولات سياسية واسعة واختلافًا كبيرًا في البيئة الدولية، نتيجة غياب الطرف المكافئ للقوة الأمريكية، مما أغرى الولايات المتحدة بالانفراد بقيادة العالم وإدارة أزماته بما يخدم مصالحها، ويعزز طموحاتها بالزعامة الدولية.
والكتاب يجيب على عدة تساؤلات منها: كيفية التعامل الأمريكي مع الأزمات الدولية، وماهية الأدوات والوسائل التي استخدمتها، وكيفية توظيف الأزمات لخدمة أهدافها، وما هي أبرز الأزمات الدولية التي تعرضت لها الولايات المتحدة خاصة ودول العالم عامة، والتي كانت لها تداعيات مؤثرة في السياسة الدولية، وخاصة من قبل السياسة الأمريكية التي تعرضت لكثير من الأزمات.
والكتاب مكون من أربعة فصول: الفصل الأول يناقش موضوع إدارة الأزمات الدولية، حيث يواجه صناع القرارات في أغلب دول العالم تحديات حقيقية عند تعاملهم مع موضوع إدارة الأزمات التي يأتي حدوثها نتيجة خلافات داخلية أو خارجية، خاصة عندما تتطور تلك الخلافات وتتحول إلى مشكلات مختلفة مع دول أخرى قد تفضي إلى الدخول في أزمات نتيجة لتضارب المصالح بين أعضاء المجتمع الدولي. وتختلف طبيعة تلك التحديات باختلاف الأزمات التي يراد إدارتها باعتبارها وسيلة لدرء المواجهات العسكرية الوخيمة العواقب، إذ تعد إدارة الأزمات إحدى أهم التقنيات في درء المخاطر التي تعترض مسيرة المجتمع الدولي، وذلك من خلال اعتمادها على السبل التقليدية كالمفاوضات في بادئ الأمر والتي قد تتطور لتعتمد على طرق فنية وتقنيات عالية الدقة والفعالية من أجل التقريب بين أطراف النزاع بعد حدوث الأزمات. ويعد موضوع إدارة الأزمات الدولية من المواضيع واسعة الانتشار في المجتمع المعاصر كونه أصبح يمس بشكل أو بآخر كل جوانب الحياة بدءًا من الأزمات التي تواجه الفرد مرورًا بالأزمات التي تمر بها الحكومات والمؤسسات وانتهاءً بالأزمات الدولية.
ثم يتناول الفصل بعد ذلك مفهوم وتعريف الأزمة الدولية، حيث يعد تحديد حالة ما على أنها أزمة دولية، من الأمور بالغة الصعوبة والتعقيد كونه يتعلق بإدراك تلك الحالة ومدى تأثيرها وفيما لو كانت مشكلة أو أزمة أو نزاعًا أو صراعًا، فضلاً عن اختلاف الجهود وتباينها في تحديد الموقف الذي يوصف بأنه موقف متأزم لم يحط بما يستحق من الدراسة والتحليل بالرغم من المحاولات والجهود الحثيثة لتقصي مفهوم الأزمة.
والفصل الثاني من الكتاب يتناول موضوعًا بعنوان “أدوات السياسة الأمريكية في إدارة الأزمات الدولية” حيث يبدو التعاطي مع الأدوات العسكرية والسياسية في إدارة الأزمة أمرًا غريبًا، ولكن واقع الأمر يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية اعتادت التلويح بقوتها العسكرية إلى جانب النشاط السياسي والدبلوماسي في أغلب الأحيان، بل إنها استخدمت قوتها العسكرية لحسم الأزمات، ولم يكن النشاط السياسي مقصودًا منه الوصول إلى حل بل ربما فقط التسويغ والترويج للنهاية العنيفة للأزمة.
وتعد أدوات السياسة الخارجية من أبرز أدوات إدارة الأزمة الدولية لأن عمل الخارجية يعنى تحديدًا بالعلاقات الخارجية، وسبب الثقل الدولي للولايات المتحدة الأمريكية، فإن سياستها الخارجية ربما تكون الأكثر نشاطًا بين سياسات دول العالم. وتتنوع وسائل السياسة الخارجية وأدواتها بتنوع البيئة الدولية وتعقدها، وتمثل الدبلوماسية إحدى أهم تلك الوسائل، فهي تضم المهارات والموارد التي تستعملها الدولة في تمثيل ذاتها إزاء الوحدات الدولية الأخرى، وطريقة التفاوض معها بما في ذلك توضيح سياستها إزاء القضايا الدولية وحماية مواطنيها وممتلكاتهم في الخارج وتنظيم تعاملهم مع الأجانب.
ثم يضيف الكاتب أنه في أعقاب نظام القطبية الثنائية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القطب المهيمن على السياسة الدولية، وقامت بالتبشير بقيام النظام العالمي الجديد من خلال تبنيها لطروحات ما بعد مرحلة الحرب الباردة حسب التوصيفات التي أطلقتها إدارة الرئيس جورج بوش الأب (1989-1993)، ومن ثم تبني مفهوم العولمة خلال فترة حكم الرئيس بيل كلينتون (1993-2001)، فيما اعتمدت إدارة الرئيس بوش الابن (2001-2008)، وباراك أوباما منذ عام 2009، إلى جانب العولمة على عدد من المؤسسات المالية الدولية عبر توظيف مقررات هيئة الأمم المتحدة بما يخدم توجهاتها في إدارة الأزمة الدولية.
ثم يتناول الكاتب الأدوات الاقتصادية الأمريكية في إدارة الأزمات الدولية من خلال المطالب الآتية:
- العولمة: حيث عملت الولايات المتحدة بعد فرض هيمنتها على العالم على إيجاد صيغة جديدة تكرس الانفراد الأمريكي من خلال العولمة، وذلك من أجل إحداث تغيير جذري للحالة العالمية وتأسيس وضع دولي جديد، وجعلت من العولمة معيارًا أساسيًا للنخبة السياسية والاقتصادية الأمريكية تعمل وفقًا لبرامجها، وتحولت العولمة خلال عقد التسعينات من القرن العشرين من نظرية اقتصادية إلى عقيدة، ثم تعظيم إيجابياتها عبر المناداة بها في كثير من المؤتمرات المهنية الدولية، والتشجيع على تبنيها من قبل المنظمات المالية والتجارية الدولية تماشيًا مع الإدارة والرغبة الأمريكية.
لذلك سعت الولايات المتحدة لجذب عدد من حلفائها من أجل دعم جهودها في نشر العولمة وفرض أشكالها على كافة دول العالم عن طريق استهداف بيئة الأمن القومي في الدول القومية، كون هذه البيئة هي المجال الأرحب التي أرادت الولايات المتحدة والأطراف الغربية السائرة معها في نهج العولمة التغلغل فيها، بعد أن استفادت الأطراف الدولية الداعمة للعولمة من التقدم الحاصل في وسائل الاتصال والمواصلات، وتزايد الدعوة إلى التعاون الاقتصادي، ونمو فكرة القرية الكونية الواحدة في ظل العولمة.
- المؤسسات المالية الدولية: كان الهدف الأساسي من إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، المساعدة على زيادة الارتباط بين دول العالم الرأسمالي، بسبب استيعاب قادة الدول الرأسمالية، لحقيقة أن تشابك المصالح الاقتصادية آنذاك كفيل بأن يبقي نار الحرب خامدة أطول مدة ممكنة، حيث كان دور الصندوق الحفاظ على نظام المدفوعات الدولي مستقرًا، من خلال التحكم بالائتمان النقدي والعمل على إعطاء الصندوق دور إعادة بناء ما دمرته الحرب في الدول المتحاربة. وقد سعت الولايات المتحدة للهيمنة على هاتين المؤسستين وتوسيع نطاق عملهما، ويمثل أيضًا وجود كل من المقر الرئيسي للبنك والصندوق في واشنطن عاملاً آخر للسيطرة الأمريكية عن طريق اللقاءات بين المدير التنفيذي الأمريكي وممثلي الحكومات الأمريكية بصفة منتظمة.
- منظمة التجارة الدولية: يكاد يتفق الباحثون والخبراء والمتخصصون في الشؤون الاقتصادية على أن منظمة التجارة العالمية تعد أهم الأجهزة التي سيطرت عليها الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الباردة وخاصة في الأزمات الدولية التي يكون الطرف الأمريكي طرفًا فيها، فهذه المنظمة تمثل حكومة العالم الجديد بكامل أجهزتها، بما فيها الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية.
وهناك جانب آخر يتحدث عنه الكاتب أيضًا هو الأدوات الاستخباراتية والبحثية حيث تمتلك تلك الأدوات ومراكز البحث العلمي، عنصرًا أساسيًا من عناصر السياسة الخارجية الأمريكية في إدارتها للأزمات الدولية، إذ أن الإدارات المتعاقبة، اعتمدت على هذه الأدوات في تحقيق برامج السياسة الخارجية، والعمل على الاستراتيجية الشاملة للأمن القومي الأمريكي، حيث تقوم بإنجاز العديد من المهمات مثل، التجسس والتخريب وافتعال الأزمات الإقليمية والدولية، تحت ستار العمل الدبلوماسي الأمريكي، ويمتد نشاط أجهزة الاستخبارات الأمريكية إلى جميع أنحاء العالم، لذلك فإن الآلة الاستخباراتية الأمريكية تكتسب أبعادًا مهمة ومؤثرة في صنع وتنفيذ القرار السياسي الأمريكي.
أما الفصل الثالث فعنوانه “مرتكزات السياسة الأمريكية في إدارة الأزمات الدولية”، حيث إن الولايات المتحدة تتدخل في أزمات دولية قد لا تكون طرفًا مباشرًا فيها أو في مناطق بعيدة عنها، وذلك من خلال استنادها على مرتكزات وبدائل كثيرة في التصرف حسب ما تقتضيه الحالة، ومن التكيف مع نوع الأزمة الدولية سياسية كانت أو اقتصادية أو مالية، أو حتى الأزمات الناجمة عن الكوارث الطبيعية، يدعمها في ذلك دورها المهيمن عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا، وهذا الفصل يتناول مرتكزات السياسة الأمريكية في إدارة الأزمات الدولية من خلال قسمين، القسم الأول يتناول المرتكزات السياسية والعسكرية، والقسم الثاني يتناول المرتكزات الاقتصادية والإعلامية. فبالنسبة للمرتكزات السياسية توظف الولايات المتحدة العديد من وسائل الدعم السياسي لإدارة الأزمة الدولية، وذلك من خلال ما تمتلكه من إمكانات في السيطرة، فقد عمدت إلى استغلال تأثيرها في تحديد اتجاهات الأزمة وإدارتها، وذلك من خلال مجموعة من المرتكزات السياسية أبرزها:
- السيطرة على المنظمات الدولية: إلى جانب أن السياسة الأمريكية ترتكز أيضًا على ذرائع الدفاع عن حقوق الإنسان والأقليات لدفع الأمم المتحدة لتشريع التدخل في شؤون الدولة المستقلة تحت تسمية “التدخل الإنساني”، وهي ذرائع تبدأ باستصدار القوانين الأمريكية ثم دفع الأمم المتحدة لتبنيها، ومن الأمثلة على ذلك الأسلوب في التدخل هو ( قانون تحرير العراق) الذي أقره الكونجرس الأمريكي عام 1996، وقانون (حماية الأقليات في مصر) عام 1998 الذي يوجه ضد مصر بحجة اضطهاد الأقليات الدينية.
- التحالفات السياسية وتبادل الأدوار مع الحلفاء والأصدقاء: حيث اعتمدت الإدارات الأمريكية أسلوب إيجاد تحالفات سياسية تتحول فيما بعد إلى تحالفات عسكرية في التعامل مع الأزمات الدولية، وذلك من خلال تبادل الأدوار مع حلفائها وصولاً إلى إدارة أكثر فاعلية للأزمات، بما يحقق الهدف منها، وترى الإدارة الأمريكية أنه عند مقاومة التحديات الجديدة المهددة لأمنها، فإن المهمة التي تحدد التحالف وليس العكس، ومن هنا فإن كل أزمة تعامل بخصوصية.
وبالنسبة للمرتكزات العسكرية، فتمتلك الولايات المتحدة الأمريكية أكبر الإمكانات العسكرية في العالم وأكثرها تطورًا، ويقدم استخدام المرتكزات العسكرية خيارات عديدة لصانع القرار. وعندما تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بإدارة الأزمة الدولية، فإن استخدام المرتكزات العسكرية غالبًا ما يأتي لأغراض الردع والترهيب، أو للتدخل المباشر والحسم.
لذلك اعتمدت مؤسسات الأمن القومي على القوة العسكرية عند وضع خططها، وسخرت إمكاناتها الدولية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية، لدعم المؤسسات العسكرية من أجل تأمين متطلبات الردع في فترة الحرب الباردة واستراتيجية الهيمنة في المرحلة التي تلتها.
أما القسم الثاني من هذا الفصل فيناقش المرتكزات الاقتصادية والإعلامية، فبالنسبة للمرتكزات الاقتصادية تعد المساعدات والقروض الاقتصادية من أهم المرتكزات التي تمتلكها وتسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية في الساحة الدولية حيث تعمل على توظيفها في إدارة الأزمات الدولية، وتضع الولايات المتحدة شروطًا يصعب التأكد من تحقيقها من أجل تقديم المساعدات والقروض وهي شروط سياسية في أغلب الأحيان مثل تعزيز حقوق الإنسان وتعزيز التجارة الحرة وتعزيز نشر الديمقراطية.
وعلى هذا الأساس فقد مارست الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطًا اقتصادية على الدول الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن لتأييدها والتصويت لصالحها في أي قرار صادر من مجلس الأمن ، فمثلاً عندما كانت تحاول استصدار قرار في شهر آذار/مارس 2003 يخول لها شن العدوان العسكري على العراق، فانطبق ذلك على بلغاريا التي كانت تسعى لدعم اقتصادي أمريكي، كما تم تأخير اتفاقية للتجارة الحرة مع شيلي.
أما عن المرتكزات الإعلامية، فقد تعاملت الولايات المتحدة على أساس كونها الدولة التي تسيطر على أغلب أجهزة الإعلام الدولية على اختلافها بأسلوب يخدم مصالحها وأهدافها بصورة سافرة، ومن هذا المنطق تعاملت مع التقدم التكنولوجي والعلمي، من ميزة التفوق، فعمدت على تسخير معطيات العلم الحديث لتسويغ سياساتها وتأمين مصالحها، عبر الدعاية المدروسة، حيث إن هذه الدعاية أصبحت إحدى أهم مرتكزات السياسة الخارجية الأمريكية ووسائلها، وباتت مهمتها تبرير وتفسير وتغطية المواقف السياسية للدولة حتى في حالة تناقضها.
أما الفصل الرابع فعنوانه “الإدارة الأمريكية للأزمات الدولية في النظام الدولي الجديد”، فيمكن القول إن ما شهدته حقبة التسعينات من القرن العشرين من تربع الولايات المتحدة الأمريكية على قمة النظام الدولي وتفردها المطلق بمقدراته والتحكم بإدارة أزماته وذلك بعد قيام النظام الدولي الجديد، بأنه يناقض تمامًا الوعود التي قدمتها الإدارة الأمريكية بعالم أكثر أمنًا وسلامًا وديمقراطية، والاستثناء الوحيد تمثل بتدخلها الإيجابي أحيانًا في مشكلات القارة الأوروبية، التي استقبلت ذلك العقد وهي تعاني من حالات انقسام واضحة بفعل تجزئة العديد من دولها وتصاعد حدة الأزمات فيها.
لقد واجهت الولايات المتحدة الواقع الدولي باعتبارها القوة العظمى الوحيدة بما يغريها لاكتساب المزيد من النفوذ، عبر الاندفاع نحو مناطق الفراغ الجديد الناشئ عن انهيار المعسكر الاشتراكي والدولة السوفيتية، وعبر تحييد القوى البازغة الجديدة (أوروبا والصين واليابان) لمنعها من الحصول على مواطئ قدم في المناطق الجديدة، وكذلك كبح طموحات تلك القوى من الوصول إلى أن تصبح قوة مكافأة أو موازية للقوة الأمريكية، ومنع أية حالة استقطاب دولية جديدة، يمكن أن تحد من النفوذ الأمريكي. وقد أصبح هدف الاستراتيجية الأمريكية في تلك المرحلة ليس ملء الفراغ الناشئ من انهيار الاتحاد السوفيتي، بل خلق مناطق فراغ جديدة تتيح لها التدخل وصولاً لاكتساب مناطق سيطرة جديدة، ومن أبرز الأساليب للوصول إلى ذلك الهدف، الإفادة من التوتر القائم وتفعيله مستفيدة من وجود زعامات متناغمة مع السياسة الأمريكية أو تابعة لها أو جاهلة بخطورة التورط في ألاعيب القوى العظمى.
هذا وقد نجحت الولايات المتحدة أيضًا في استغلال الأفكار التي وضعها الباحثون والمختصون في مجال العلاقات الدولية، والتي تحمل اعتقادات تتعلق بضرورة استخدام القوة العسكرية لردع الخصوم أثناء حصول تصعيد في الأزمات الدولية التي لها مساس بالمصالح الحيوية والأمن القومي الأمريكي.
وقام منظرو السياسة الأمريكية بإعادة التفكير فيما يتعرض له الأمن القومي الأمريكي من مخاطر، وقاموا بترتيب تلك المخاطر وفق المستويات الآتية:
- المستوى الذي يشتمل على المخاطر التي تهدد الوجود الأمريكي، والذي يتمثل في الصين وروسيا الاتحادية.
- المستوى الذي يشتمل المخاطر التي تهدد المصالح الأمريكية، والذي يتمثل في الدول التي تهدد الوجود الأمريكي والدول الأخرى التي تنتشر في مناطق مختلفة، في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة آسيا الوسطى، ومنطقة الشرق الأوسط.
- المستوى الذي يشتمل على المخاطر التي تهدد المصالح الأمريكية تهديدًا مباشرًا، والذي يتمثل في الدول التي يعد وجودها مقلقًا من الناحية الأمنية وينبغي التحسب لها، مثل دول البلقان والصومال والسودان وهاييتي ورواندا.
ومن أجل تفادي تلك المخاطر سعت الولايات المتحدة الأمريكية لتوظيف ميثاق الأمم المتحدة الذي حرم اللجوء إلى القوة أو التهديد باستخدامها في العلاقات الدولية، لكنه خول مجلس الأمن الدولي التدخل عسكريًا في إطار نظام الأمن الجماعي في حالة تطور الأزمات والمنازعات الدولية بشكل يهدد السلم والأمن الدوليين، وهذا ما قامت به الولايات المتحدة عبر خلق ظروف تعجيزية لاستنفاذ إدارة عدد من الأزمات الدولية سلميًا، الأمر الذي سمح للجانب الأمريكي بطرح فكرة ممارسة حق الدول في الدفاع الشرعي الفردي والجماعي عن النفس.
لقد حرصت الولايات المتحدة الأمريكية في إطار سعيها لإدارة شؤون العالم إلى تقديم المبررات لتحركها، وتدخلها في شؤونه الداخلية وقد سمح لذلك الخلل في البيئة الدولية والاختلالات التي رافقت المنظومة الاشتراكية، كما سعت أيضًا إلى تفعيل بعض المشكلات وخاصة في أوروبا وأفريقيا من أجل فتح منافذ إضافية للتدخل وصولاً إلى تحقيق مصالحها، وتحقيق هدف الهيمنة ومنع ظهور منافسين، إلا أن ما شهده القرن الحادي والعشرون من أحداث هيأ للإدارة الأمريكية فرصة إضافية لتتحرك بسرعة وقوة لفرض رؤاها على العالم عبر ما سمي بالحرب على الإرهاب، وفي عملية إدارة أزمة الإرهاب الدولي.
عماد الدين حلمي عبد الفتاح
الأمانة العامة لجامعة الدول العربية – القاهرة