يتضح لنا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وتحول النظام الدولي بشكل جذري من سياسة القطبين إلى سياسة القطب الواحد، وانفراد الولايات المتحدة بعد ذلك في ترتيب ملفات المنطقة كاملة، وبما أن منطقة الشرق الأوسط عمومًا هي منطقة استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، فكان لابد لها أن توليها الأهمية القصوى في ترتيب شؤونها بما يضمن الاستقرار واستمرار مصالحها الحيوية، وكانت القضايا المعاصرة عمومًا بداية من احتلال فلسطين وحتى حرب الخليج الأولى والثانية، إضافة إلى مشروع السلام العربي الإسرائيلي، كذلك الأزمة العراقية فهي القضايا الأساسية التي لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا كبيرًا فيها بما يتناسب مع مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية وأهدافها السياسية.
وقد ضمت عملية صنع وتشكيل السياسة الخارجية الأمريكية خاصة تجاه منطقة الشرق الأوسط، تحالفًا يضم المحافظين الجدد، اليمين المسيحي والصهيونية الأمريكية، وهو تحالف توافقت مصالحه حول عدد من أهداف السياسة الخارجية، منها ما يتعلق بصفة خاصة بمنطقة الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، مثل حماية أمن إسرائيل وسلامتها والعمل على ضمان تفوقها الإقليمي على جيرانها وتأمين وصول الولايات المتحدة إلى نفط الخليج.
ومنها ما يرتبط بالدور العالمي للولايات المتحدة مثل تفعيل دورها القيادي انطلاقًا من وضعها كقوى عظمى مهيمنة، وتعمل أيضًا على التوسع في استخدام السياسات العسكرية والأمنية كأساليب أساسية لتنفيذ الرؤى والأهداف الأمريكية.
ومن أهم الأسباب أيضًا وراء سعي الولايات المتحدة للسيطرة على هذه المنطقة تتلخص فيما يلي:
- تمتاز منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة بوفرة الموارد الطبيعية والثروات المعدنية ومصادر الطاقة.
- الاتساع المكاني لمنطقة الشرق الأوسط الذي يمكن من نشر قواعد عسكرية.
- تأمين الولايات المتحدة من صد أي عدوان مستقبلي عليها.
- تعتبر منطقة الشرق الأوسط قوة حيوية في إيجاد نفوذ مراكز أمريكية لتكون قريبة من دول التكتلات قد تنازع مصالح الولايات المتحدة هي الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين.
- توافر عوامل الإنتاج اللازمة لقيام صناعة حربية واكتفاء ذاتي في مصادر الطاقة والوقود اللازمة للعمليات العسكرية.
لذا تسعى الولايات المتحدة من خلال سياستها في الشرق الأوسط إلى إدامة قضاياه ومشاكله وأزماته، ذلك ما يوفر لها الظرف المناسب لإحكام السيطرة على منطقة الشرق الأوسط كلية والإبقاء على تدخلها في شؤونه العامة إذا كانت داخلية أو خارجية.
أما الفصل الأول من الكتاب فعنوانه “محددات السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي” حيث تتناول الكاتبة في هذا الفصل المحددات الداخلية للسياسة الخارجية الأمريكية تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، الذي يتم فيه إلقاء الضوء على الضغوط التي تنبع من البيئة الداخلية، خاصة تلك المؤثرة على عملية صنع السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي مع الاهتمام بالدور الذي لعبته الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة، وطبيعة دور هذه الأقلية في التأثير على عملية صناعة القرار المتعلق بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وتشمل هذه الأقلية اليهودية وهي جماعات الضغط والأحزاب السياسية ومدة تأثير هذه الجماعات على القرار السياسي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فبالنسبة لجماعات المصالح فهي تلك المنظمات غير الحكومية التي تضم أفرادًا لديهم اتجاهات متمثلة أو مشتركة لبعض القضايا، ويحاولون التأثير على قراءات الحكومة وهي تكون في شكل نقابات أو اتحادات وتتبع جماعات المصالح الأمريكية أسلوبين للتأثير على دائرة صنع القرار هما:
- الأسلوب المباشر بمعنى الاتصال المباشر بكل من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية وتقديم المساعدات للمرشحين في الحملات الانتخابية.
- الأسلوب غير المباشر عن طريق تعبئة الرأي العام ودفعه نحو خيارات سياسية محددة وخلق الأسلوب غير المباشر عن طريق تعبئة الرأي العام ودفعه نحو خيارات سياسية محددة وخلق اتجاه معين يؤثر على صانعي السياسة لإقناعهم بقرار معين يعمل على تحقيق أهداف ومصالح تلك الجماعات.
أما جماعات الضغط الصهيونية فهي أشهر جماعات المصالح وأقواها تأثيرًا على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط بكاملها، حيث تضم هذه الجماعات الصهيونية حوالي خمسة وسبعين منظمة مستقلة موالية لإسرائيل تعمل في الولايات المتحدة الأمريكية على رعاية الأهداف والمصالح الإسرائيلية وتعتبر هذه الجماعات الصهيونية من أهم الجماعات انتشارًا في الولايات المتحدة، وهي من أنشط الجماعات سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، ورغم قلة نسبة سكان اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدر بنحو 6 ملايين نسمة إلا أن هذه الأقلية اليهودية تتمتع ببعض الخصائص التي تجعلها ذات تفوق وتأثير على السياسة الأمريكية سواء الداخلية أو الخارجية.
وبالنسبة للمحددات الديموغرافية والاقتصادية فقد أصبحت الولايات المتحدة بقوتها الاقتصادية والعسكرية واقعًا يفرض نفسه على أغلبية المجتمعات الإقليمية والدولية، وأصبح فهم الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية أمرًا حتميًا لكونها القطب الأهم في النظام الدولي المالي والقوة الخارجية المهيمنة في المنطقة العربية.
فالخصائص الديموغرافية والاقتصادية للأقلية اليهودية في الولايات المتحدة الأمريكية أعطت لها وزنًا خاصًا لممارسة الضغوط السياسية والاقتصادية على الذين يقومون برسم السياسة الخارجية الأمريكية بهدف الحصول على التأييد لإسرائيل ومساعدتها، بغية تقويتها كدولة في منطقة الشرق الأوسط.
أما الفصل الثاني من الكتاب فعنوانه السياسة الخارجية الأمريكية تجاه القدس، حيث تعتبر القدس جوهر القضية الفلسطينية التي شكلت محور الصراع العربي الإسرائيلي، وهذا الصراع الذي جذب اهتمامًا ومشاركة فعالة من قبل أطراف دولية عديدة، ومن ضمنها القوتان العظميان بسبب وقوعها في منطقة مهمة من الناحية الاستراتيجية والاقتصادية، وهذا ما يدفعنا لتتبع ماذا تريد الولايات المتحدة من قضية القدس.
ويتتبع هذا الفصل موقف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه قضية القدس عبر عدة مراحل وهى: – الفترة ما بين 1947 وحتى 1967
– الفترة ما بين 1967 – 1992
– الفترة ما بين 1993 حتى 2008.
ونستنتج من تتبع تلك الفترات ما يلي:
- تمارس الولايات المتحدة سياسة القبول بالأمر الواقع وتأييد لفكرة التدويل ما بين عامي 1947 و 1967، انتقالاً من تأييد تدويل المدينة بكاملها إلى تأييد التدويل للأماكن المقدسة فقط في إطار تدويل عام شكلي للمدينة، حيث يتمتع الطرفان العربي والإسرائيلي بحكم ذاتي تحت مظلة الأمم المتحدة، وذلك تحديدًا بعد احتلال إسرائيل للجزء الغربي من المدينة عام 1948.
- من عام 1948 تمسكت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على استثناءات طفيفة بمبدأ القدس الموحد، وإنما من منطلقين مختلفين، فبين عامي 1947 و 1967 كان المنطق إزاء المدينة هو التدويل العميق أو المحدد، أما بعد حرب 1967 فقد أصبح المنطق هو التمسك بوحدة المدينة مع احترام الأمر الواقع الذي فرضته إسرائيل باحتلالها للقسم الشرقي وإعلانها القدس عاصمة موحدة لها، حيث تم إسقاط فكرة التدويل كعنصر ملازم لمبدأ كان من أولويات مواقف السياسة الأمريكية.
- برزت في عهد كارتر فكرة وضع الأماكن المقدسة الخاصة بكل الديانات تحت السلطة الكاملة لممثلي تلك الديانات، وهي فكرة هدامة تتضمن تكريس السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المدينة باستثناء جامع أو كنيسة وذلك على نحو مماثل للوضع في الناصرية اليوم، حيث إن البابا مسؤول عن الأماكن المقدسة في الجزء الخاضع للاحتلال الإسرائيلي، وينطوي ذلك على الاعتراف الدولي الرسمي بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل.
- يلعب اللوبي اليهودي الأمريكي والإسرائيلي أدوارًا رئيسية في توجيه السياسة الأمريكية تجاه القدس من خلال مجلس الشيوخ والنواب منذ أوائل الثمانينات بصفة خاصة حتى الآن.
- قامت إسرائيل بمساعدة الإدارة الأمريكية بترويج ما يسمى بسياسة التهجير من خلال عدم تجديد حق المواطنة لكثير من العائلات المقدسة قد بدأ منذ عام 1967 وتواصل حتى الآن، ففي الفترة من 1995 وحتى عام 2000 مارست إسرائيل من خلال وزارة الداخلية أسلوبًا جديدًا لتقليص عدد المقدسيين وذلك بسحب صفة المواطنة ممن انتقل للسكن خارج الحدود المصطنعة لبلدية القدس، وكل مقدسي لا يتمكن من إثبات مكان سكنه في الماضي والحاضر في مدينة القدس، في هذه الحالة يفقد حقوقه كاملة .
- يطرح موضوع القدس في الولايات المتحدة مع كل دورة انتخابية للرئاسة الأمريكية حيث يستغل اللوبي اليهودي هذه المناسبات لخلق مواقف معينة ومباشرة وضغوط محددة لصالح أن تكون القدس الشرقية العربية جزءًا من قدس موحد تحت سيادة إسرائيلية.
- تتبع مواقف وسياسات الولايات المتحدة إزاء القدس في ضوء أحكام الشرعية الدولية يكشف عن تأرجح هذه السياسة تارة ما بين تأييد فكرة التدويل، شاملاً كان أم مقتصرًا على الأماكن المقدسة بالمدينة، وما بين الاتفاق مع الموقف الدولي لأجهزة الأمم المتحدة والموقف الدولي عمومًا، حيث اعتبار القدس وخاصة القدس الشرقية أرضًا محتلة والإشارة إلى المدينة في شطرها الشرقي باعتبارها أراضي أو مناطق تنازع عليها يتعين حسم أمرها من خلال المفاوضات المباشرة.
أما الفصل الثالث من الكتاب فيتناول السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المستوطنات، وهناك أيضًا رصد لبعض تطور عمليات الاستيطان ومتابعة مخططاته من خلال تطور عمليات الاستيطان اليهودي في فلسطين، ويمكن ملاحظة مدى أهمية الاستيطان بالنسبة للأيديولوجية الصهيونية والكيان الإسرائيلي، فقد كان الاستيطان هو الوسيلة / الهدف لتحقيق الصهيونية السياسية، فنمو الاستيطان وما رافقه من تزايد في أعداد المهاجرين كان من أهم الوسائل العلمية لتحقيق الهدف الصهيوني، كما أن هذا الاستيطان كان على رأس الأهداف التي وضعتها الصهيونية لتحقيق الحلم الصهيوني إلى واقع مادي في المنطقة العربية، أما بالنسبة للكيان الإسرائيلي فقد كانت المستوطنات بمثابة النواة التي حولها العمل السياسي إلى كيان قائم للمستعمر الإسرائيلي، فكلما اتسعت مساحة الاستيطان كلما قويت القاعدة الديموغرافية للكيان القومي اليهودي في فلسطين وتدعمت أركانه، كما كان الاستيطان العامل الحاسم في النهاية لتقرير حدود هذا الكيان وتقرير مصيره، وقد قامت عملية الاستيطان من خلال إنشائها بعدة مراحل متناسقة وكانت كل مرحلة تساعد في وضع القاعدة الأساسية وتهيئة الظروف للمرحلة التالية، وقد تمكنت من تكثيف جهودها عبر استغلال أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية.
لذلك ينقسم الفصل الثالث إلى ثلاثة أقسام، الأول يدور حول السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين وخاصة المشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كما يتناول الثاني الأهداف الإسرائيلية تجاه سياسة الاستيطان، بينما الثالث يتناول المشاريع الاستيطانية القصيرة المدى والمشاريع الطويلة المدى والمستقبل الاستيطاني الإسرائيلي في فلسطين.
ومن خلال متابعة هذا الفصل فيمكن أن نخرج منه بالآتي:
أن السياسة الإسرائيلية في مجال السيطرة على الأراضي في الضفة الغربية وقطاع غزة والمشاريع الاستيطانية فيها، تستطيع إدراك أهمية الأرض بالنسبة لاستراتيجية الاستيطان الصهيوني في فلسطين وكذلك أهمية هذا الموضوع من حيث خلفياته التاريخية والأيديولوجية في العقيدة الصهيونية، إذ اعتبر امتلاك الأرض وسيلة اليهود للحصول على الحرية، ولذلك فقد شكلت الأرض محور الصراع بين العرب واليهود في فلسطين منذ بداية المشروع الصهيوني في هذه المنطقة ولكن هذا الصراع أصبح بعد قيام الكيان الإسرائيلي في فلسطين وسيطرته العسكرية على الضفة الغربية وقطاع غزة صراعًا بين طرفين غير متساويين بين من يملك الأرض وبين من يملك القوة من خلال دعم الحكومة الإسرائيلية المسيطرة على المنطقة ومساندة المنظمات الصهيونية العالمية.
ولذلك فإن نتيجة هذا الصراع حسمت إلى حد بعيد لصالح الجانب الإسرائيلي، ومع ذلك فإن المعركة للسيطرة على الأرض مازالت مستمرة حيث تمكن الجانب الإسرائيلي حتى الآن من الاستمرار في زيادة رقعة الأراضي المصادرة عامًا بعد عام.
ويتضح مما سبق أن إخلاء المستوطنات هي مهمة معقدة وإنجازها يتطلب وقتًا طويلاً، ومع ذلك هناك خطوات أولية يمكن اتخاذها من أجل التخفيف قدر المستطاع من المساس بحقوق الإنسان ومخالفة القانون الدولي، وكذلك على إسرائيل أن توقف البناء الجديد في المستوطنات سواء كان لأجل إقامة مستوطنات جديدة أو التوسيع في المستوطنات القائمة، وأيضًا وقف مصادرة الأراضي المعدة لذلك، والاستيلاء عليها وإعادة مصادرة الأراضي غير المبنية والتي ضمت لمنطقة نفوذ المستوطنات والمجالس الإقليمية لأصحابها الفلسطينيين، وهنا يجب إلغاء لجان التخطيط الخاصة في المستوطنات وخصوصًا إلغاء صلاحيات هذه السلطة المحلية بإعداد خرائط هيكلية واستصدار تصاريح بناء، وأيضًا يجب إلغاء المحفزات المشجعة للمواطنين الإسرائيليين على الانتقال للمستوطنات، ويجب تخصيص موارد وتشجيع المستوطنين على الانتقال إلى داخل إسرائيل.
ويتضح أيضًا من كل ما سبق أن إقامة المستعمرات والاستيطان على الأرض الفلسطينية يمثل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية، وذلك الأهمية العظمى التي ينطوي عليها الاستيطان، وتكمن هذه الأهمية في عدة جوانب ديموغرافية وأمنية وسياسية واقتصادية ومائية وطائفية، فإقامة المستعمرات يعمل على جلب المزيد من المهاجرين اليهود، وبالتالي تهويد الأرض الفلسطينية.
أحــمد محــمد سعـيد
باحث مصري – القاهرة