2018العدد 174مقال رئيس التحرير السفير/ سعيد رفعت

معادلة الدولي والإقليمي في المنطقة

  • تتوالى التطورات المتصاعدة والمتصادمة في المنطقة على صعيد القوى الدولية والإقليمية بوتيرة متسارعة، تتسم بتلاحق الأحداث، وسيولة المواقف، وتماسك التحالفات المؤقتة رغم تناقض المصالح بين أطرافها. وإذا كانت المشكلة السورية أصبحت تمثل بؤرة الأحداث وبوتقة التوترات والمواجهات، إلا أن الشاهد أن التصارع بين القوى المعنية على ساحتها يستهدف النفاذ عبرها إلى المنطقة تأثيرًا وتواجدًا ونفوذًا، لإعادة رسم الخرائط والمصالح والعلاقات على ساحتها، فضلاً عن المقايضة بها في القضايا المثارة بين القوتين الكبيرتين وحلفائهما على الساحة الأوروبية. وهو الأمر الذي يوضح أن المواجهة الجارية بين أطراف مثلث القيادة الدولية (أمريكا وروسيا وتساندها الصين) أصبح يمثل الإطار المتحكم في مجريات الحروب القائمة بالوكالة في المنطقة، والتي يتصدر المواجهات فيها أطراف المثلث الإقليمي (تركيا – إيران – إسرائيل). إذ رغم أن هذه الأطراف تعتبر قوى هامة لدى كل منها مشروعها الخاص الذي تتمدد توجهاته عبر سوريا لتتقاطع في أكثر من ساحة دولية، إلا أن الشاهد أن أيًا منها لا يستطيع حسم الصراع الدائر على الأرض السورية وما حولها بإرادتها المنفردة، دون مباركة، إن لم يكن بتعاون مباشر، مع الدول الحليفة في المثلث الدولي.

v     v     v

ومن هنا يمكن تفهم تطورات الأحداث في سوريا ومواقف الأطراف المختلفة تجاهها، وتقديرها لتأثيراتها على مصير المنطقة، وعلاقاتها ببعضها البعض فيما يلي:

أولاً: أن التصعيدات العسكرية التركية / الروسية / الإيرانية، فضلاً عن الإسرائيلية، في الأراضي السورية، تتبدى فيها ثلاثية الحرب التي تدور بالوكالة على ساحتها، فبالإضافة إلى النزاع الأساسي بين النظام وبقايا القوات المعارضة له، يدور النزاع بين تركيا والأكراد. كما تدور المواجهة بين إيران وإسرائيل، وهو الأمر الذي يؤكد المحاولات التي تجري من جانب القوى الدولية والإقليمية لتعديل الوضع القائم على الأرض، وحيازة أوراق جديدة تعزز قيمة وصاية كل منها في رسم ملامح مستقبل سوريا والمنطقة.

ثانيًا: أن الخلافات الجارية بين روسيا وتركيا وإيران من ناحية، وبين الولايات المتحدة وحلفائها في الشأن السوري وجواره الأفريقي من ناحية أخرى يعكس إصرارًا روسيًا على إقامة تحالف يمثل محور ممانعة جديد يهدف إلى التخلص من الوجود الأمريكي في سوريا، وتقويض نفوذه عبر فرض التصور الروسي للحل بمساعدة تركيا ومباركة إيران. وذلك في الوقت الذي تعمل فيه الإدارة الأمريكية على استثمار تفاعلات الأزمة السورية كأداة لاستنزاف كل من إيران وروسيا، خاصة في ضوء حرص تركيا على التمسك بعلاقاتها بالغرب ومؤسساته الأمنية والاقتصادية مهما كانت اهتماماتها بالتعاون مع الحلف المقابل، فضلاً عن النجاح الأمريكي في إفشال الخطط الرامية لحل المشكلة السورية عبر المسار الروسي، خاصة مع وضوح الاتجاه الأمريكي إلى استمرار وجود قواتها على الساحة السورية، وتعويضه – إن حدث – بقوات أوروبية وعربية. وهو أمر يتسق مع الاستهداف الأمريكي للمنطقة الذي يتمحور حول إعادة رسم ملامح النظام الإقليمي في الشرق الأوسط بصفة عامة والمنطقة العربية بصورة خاصة.

ثالثًا: أن إيران تعتبر روسيا حاجة ضرورية لسياستها في سوريا، وبخاصة مع تفاقم مشكلاتها نتيجة تدخلاتها في أكثر من ساحة عربية، وفشل رهانها في أن يؤدي الاتفاق النووي إلى تخفيض حدة أزماتها الاقتصادية، فضلاً عن تزايد احتمالات حدوث مواجهات عسكرية مع إسرائيل نتيجة رفض الأخيرة التموضع العسكري الإيراني في سوريا. ومن هنا كان حرص إيران على لعب دور فعال على الساحة العسكرية السورية – بتنسيق مع روسيا – لحماية النظام، وضرب قوى المعارضة، واقتلاع السكان لتغيير الواقع الديموجرافي في البلاد.

رابعًا: إن تصاعد الحركات العدائية بين إسرائيل وإيران ووصولها إلى مرحلة تبادل الغارات الجوية والضربات الصاروخية في سوريا والجولان المحتل، أصبح ينبئ باحتمال حدوث مواجهة عسكرية شاملة بين الطرفين، خاصة في ضوء حدة التناقضات العقائدية والسياسية والعسكرية بينهما، وامتلاك كل منهما لمشروع توسعي صِدامي لا يقبل التشارك في المنطقة، خاصة مع شعورهما المشترك بالتفوق على دول الجوار استنادًا إلى مشاعر عنصرية من جهة، ونوازع طائفية من جهة أخرى. فضلاً عن توجس إسرائيل من الوجود الإيراني في سوريا، ومن تطور برنامجها النووي واحتمال امتداداته، عن طريق حلفائها، إلى حدودها مع لبنان. وإذا كانت إسرائيل تتمتع بتأييد كامل، وحماية مطلقة من طرف الولايات المتحدة، فإن إيران تمتلك – بدورها – أوراقًا يصعب تجاهلها من حيث امتداد نفوذها الجغرافي والمذهبي والميليشياوي في المنطقة، وعلاقاتها التحالفية على المستوى الدولي والإقليمي، إضافة إلى قوتها العسكرية الصاعدة، وقدراتها النووية القابلة للاستدعاء السريع عند الضرورة. ومن هنا تظهر أهمية المساعي الأمريكية الروسية في تهدئة الطرفين، ومنع التصعيد بينهما إلى درجة الدخول في حرب مفتوحة، خاصة وأن الولايات المتحدة لا تريد التورط في حرب أخرى على الساحة الإقليمية قد يصعب السيطرة عليها، ويمكن أن تسفر عن تفاعلات كارثية على استقرار المنطقة ومصالحها فيها، هذا فضلاً عن أن روسيا الحريصة، بدورها، على تجنب نشوب حرب في الإقليم، تتمتع بعلاقات متطورة مع إسرائيل، ظهرت دلائلها في تجاوب الأخيرة مع المطلب الروسي بعد إسقاط الطائرة الإسرائيلية دون طيار، لكونها تدرك أهمية التنسيق معها لضمان حرية حركتها في المجال الجوي السوري حتى في مواجهة إيران. وهو الأمر الذي يرجح في مجمله أن تظل العلاقة الصراعية بين إسرائيل وإيران لمدة قادمة في إطار تبادل المواجهات العسكرية المحكومة باتجاهات مختلفة.

v     v     v

وبالرغم من حرص الدول الإقليمية على أن يكون تحركها في سوريا منضبطًا بإطار مصالح  الثلاثي الدولي. إلا أن الواضح – من جهة أخرى – أن تحالف الممانعة الجديد (روسيا – إيران – تركيا)، رغم حرص أطرافه على توحيد أهدافها تجاه الولايات المتحدة، وعلى إظهار تماسكها في مواجهتها، فإن الشاهد أنه يعاني من خلافات عميقة بين أطرافها، لا تقتصر على تباين وجهات نظرها من التدخل العسكري التركي في شمال سوريا، أو حول مصير نظام بشار الأسد، أو على ملف المساعدات الإنسانية للسوريين الذي تقدر موسكو وطهران أنه يمثل أحد أدوات أنقرة لتصدير نفوذها إلى سوريا، وإنما تمتد هذه الخلافات لتشمل ملفات أخرى أكثر تعقيدًا، أهمها تموضع واشنطون من طموحات الدول الثلاث، وتنوع درجات علاقاتها مع أطرافها، وتأثير مراوحة التفاهم الروسي الأمريكي حول عدد من القضايا على هذه العلاقات، إضافة إلى الصعود الكردي في المنطقة، والتدخل التركي في الشمال السوري لمنع إقامة دولة كردية، وإحكام السيطرة على الحدود التركية السورية.

هذا وإذا كان تأزم العلاقات – أحيانًا – بين تركيا وإيران لا تؤثر في تنامي علاقاتهما الاقتصادية، وخاصة بالنسبة للدور التركي في تخفيف آثار العقوبات الاقتصادية على إيران، والقيام بدور “الوسيط” في التعامل التجاري بينها وبين الدول التي لا تريد المجاهرة بذلك. إلا أن الشاهد أن إيران لا تخفي قلقها من التمدد التركي في سوريا باعتبار أنه يعقد المشهد المأزوم فيها، ويؤدي إلى تقوية الجماعات الإرهابية، كما أنه يفرض تعقيداته على العلاقة بين أنقرة وموسكو التي تسعى إلى اتفاق تفاوضي بين الأكراد ونظام الأسد، ناهيك عن رغبة موسكو في الحفاظ على الدولة الكردية لكي تبقى شوكة في خاصرة الطموحات التركية في سوريا.

هذا فضلاً عن أن إيران رغم مشاركتها تركيا في مخاوفها من الطموحات الكردية، إلا أنها تتوجس أيضًا من الوجود التركي في سوريا، في ظل رغبتها – بعكس الموقف التركي – في إبقاء وحماية نظام الأسد، كما أنها تتخوف من نجاح تركيا في جبهة أخرى بعد عفرين (منبج) مما قد يشكل تهديدًا للمناطق الساحلية لنظام الأسد، وربما يهدد الخطة الإيرانية في ربط جبهاتها في كل من سوريا والعراق ولبنان ومحاولتها الوصول إلى البحر المتوسط.

v     v     v

وبالرغم من إدراك الولايات المتحدة والدول الغربية للاختلافات التي تعاني منها دول التحالف الثلاثي الممانع، إلا أنها تقدر – في نفس الوقت – أن لحظة تضارب المصالح بينها ليست قريبة، ويظل أكثر ما يثير حفيظة أمريكا والدول الغربية في هذا الشأن هو قيام روسيا بإتاحة الفرصة لكل من إيران وتركيا بالتلاعب في سوريا في فترة “ما بعد داعش” والسماح باعتبار مناطق خفض التوتر في البلاد مرحلة جديدة من الصراع. فضلاً عن إعطاء موسكو إشارات واضحة بسعيها لتغليب مسار سوتشي على مسار جنيف، وحرصها على تقديم الحل السياسي مجردًا من أي أفق انتقالي. إضافة إلى تجاهل موسكو لرسائل الغرب حول الوجود الإيراني في سوريا ونشاطاته المخربة في المنطقة، خاصة مع استعداد الغرب لإبقاء اللعبة الدولية والإقليمية في معادلتها الراهنة، التي تجيز العمل والتدمير في سوريا دون تجاوز الخطوط الحمر التي حددها الجانبان الأمريكي والروسي وتم توثيقها في قرار أممي اعتبرت فيه روسيا ضامنة لانضباط النظام السوري كيماويًا.

ومع ذلك فإن الواضح من تعامل روسيا مع رسائل الغرب في هذا الشأن أن بوتين يعاني من مشكلة مع حلفائه الذين يريدون استمرار الحرب ويواصلون منحه أوراقًا لتعزيز نفوذه وتشجيعه على انتظار “مساومة” مع الولايات المتحدة، ومن هنا تبلورت ملامح المعادلة الغربية لروسيا إما بمعالجة الوجود الإيراني في سوريا، أو إتاحة الفرصة لإسرائيل بالتعامل مع هذا الوجود، بدعم من دول الغرب الثلاث، داخل الأراضي السورية.

v     v     v

ولذلك، فقد جاءت الضربة العسكرية الأمريكية الفرنسية لسوريا، تحت ذريعة عابرة باستعمال النظام السوري للسلاح الكيماوي ضد المعارضة السورية، غريبة في توقيتها، ومريبة في أهدافها. إذ سبق للسوريين – كما تدعي الدول الغربية – استعمال هذا السلاح عدة مرات دون تقديم دلائل جادة على ذلك ودون إثارة ردود فعل غربية مماثلة. فضلاً عن أن شكل الضربات لم يكن موجهًا إلى النظام السوري بقدر توجهه إلى الدول الحامية له. كما أن حجم الضربة وتأثيراتها تُعتبر بمثابة ضربة سياسية بوسائل عسكرية، إذ لم تغير من المعطيات الإشكالية في سوريا، وإنما كانت تستهدف محاولة إعادة الوعي لروسيا في إدراك حجم دورها في الملف السوري، وتحجيم طموحاتها في بناء تحالف جديد مؤثر مع كل من إيران وتركيا لمواجهة النفوذ الأمريكي، فضلاً عن إزالة الوهم الروسي بالتفرد في المشكلة السورية، أو محاولة صياغة مفهوم جديد للشرق الأوسط، بدءًا من سوريا، وفق رؤيتها ومصالحها وتوافقاتها. هذا فضلاً عما أسفرت عنه الضربة من تحجيم القدرات الإيرانية، وإظهار عجزها عن حماية حليفها عسكريًا أو حتى إعلاميًا. كما أثبتت للنظام السوري أن أمريكا ستقوم بالتدخل في اللحظة التي تراها مناسبة، وبعيدًا عن أية مظلة يستظل بها النظام أو من يدعمه. وفي المحصلة الشاملة فإن الضربة تُلوِّح باتجاه أمريكي نحو إعادة توجيه مسار الصراع وفق تقاسم جديد يتضمن تبادل أدوار ومصالح ودخول أطراف وخروج أخرى إلى ومن ساحة الصراع.

وبالرغم من الموقف المتشدد – سياسيًا وإعلاميًا – الذي عبرت عنه روسيا تجاه الضربة العسكرية، إلا أن الواضح أن هذه الضربة قد منحتها تصريحًا جديدًا بالتعامل مع المجتمع الدولي في مشكلة سوريا “منفردة”، دون أن تحرجها شراكتها مع إيران، ودون العودة في كل قرار لرأس النظام السوري الذي يرى مصلحته في التحرك – كسلطة قائمة – تحت العباءة الإيرانية أكثر من المظلة الروسية، باعتبار أن الأخيرة لها حساباتها الخاصة – كقوة عظمى – على الساحة الدولية، ربما تكون مختلفة عن المصلحة الذاتية للنظام.

أما بالنسبة لصدى الضربة على الولايات المتحدة، فقد كشفت افتقادها لأية رؤية سياسية تجاه سوريا، أو أية استراتيجية متماسكة تجاه المنطقة، حيث إن الشاهد أنها تكتفي عادة بتعطيل فكرة الخصوم دون أن يكون لها سياسة بديلة، وهو الأمر الذي استغلته دول التحالف الثلاثي إعلاميًا، كما انتقدته دوائر سياسية نافذة داخل الولايات المتحدة، خاصة بعد ما أسفرت عنه الضربة من شعور كافة الأطراف بالرضا، حيث منحت كلًا منها انتصارًا جزئيًا يمكن تسجيله والتفاخر به أمام رأيها العام.

وعمومًا فإن أهم ما يستلفت النظر فيما بعد الضربة هو ما أنتجته من تبلور اتجاه لإعادة إحياء الخيار السياسي. إذ أعلنت فرنسا عن رغبتها في العودة إلى العملية السياسية، كما أبدت الولايات المتحدة بعض تلميحات إلى تفضيلها الاتجاه إلى هذا الخيار، إلا أن الشاهد أن الرئيس بوتين لم يكن ليسمح بالاستجابة السريعة لهذا المسعى، بعد ما جرى المساس بالهيبة الروسية من جراء الضربة العسكرية الثلاثية لسوريا. فقد أصبح موقفه أكثر تصلبًا بالنسبة للمبادرات الغربية في هذا الشأن، وأكثر تمسكًا بالتحالف مع إيران، وأكثر اندفاعًا في محاولات التسوية – بشروطه – عبر إصراره على عقد مؤتمر أستانا رغم توافر كافة الدلائل على فشل هذا المسعى. كما ظل على إصراره بتجاهل الدعوات الغربية بالمشاركة في جهود الحل السلمي، وتركيزه على أولوية ما يسميه بتصحيح مسار العلاقات الدولية، تحديدًا بين روسيا والولايات المتحدة، قبل أي شيء آخر.

v     v     v

ومن هنا كانت “مفاجأة” القرار الرئاسي الأمريكي بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، إذ أن كافة الدول الأوروبية والمنظمات الأممية التي كان لها دور في هذا الاتفاق قد أكدت أن إيران تفي بكل التزاماتها التعاقدية تجاهه، وأنها لم تخالف أيًا من بنوده. وإذا كان بعض القادة الأوروبيين قد قاموا بشرح وجهات نظرهم للرئيس الأمريكي وطالبوا بالإبقاء على الاتفاق لانتفاء البديل، ولوجود مصالح أوروبية ضخمة تتعلق به، واقترحوا عقد اتفاق تكميلي مع إيران لتغطية الموضوعات التي تم تجاهلها في هذا الاتفاق، إلا أن الواضح أن مسعاهم لم يجد تجاوبًا لدى الرئيس الأمريكي. بل اتخذت واشنطون موقفًا أكثر تشددًا بتحديد 13 شرطًا للتوصل إلى اتفاق جديد مع طهران، وتوعدتها – إذا لم تلتزم – «بأقصى العقوبات في التاريخ».

وإذا حاولنا تغليب العوامل الموضوعية في القرار الأمريكي، واستبعاد نزعة العفوية والتفرد في اتخاذ القرار وأسلوب الإعلان عنه، يمكن القول إنه يرجع إلى رغبة الرئيس ترامب في إرضاء قاعدته الانتخابية اليمينية، وإظهار التزامه بتنفيذ وعده الانتخابي في هذا الشأن، فضلاً عن تحطيم منجزات الرئيس الأمريكي السابق، والاستجابة لمطالب إسرائيل والدول العربية الصديقة التي تتوجس من توجهات إيران الطائفية، ونشاطاتها النووية، ونواياها التوسعية في المنطقة.

إلا أن الشاهد – من وجهة نظر عامة – أن القرار يمثل ضربة لسمعة الولايات المتحدة الدولية، ودليلاً على عدم احترامها لالتزاماتها التعاقدية، الأمر الذي يمكن أن يكون له تداعيات سلبية على مباحثاتها الاستراتيجية مع دول أخرى، فضلاً عما يعكسه القرار من تجاهل مصالح حلفائها الأوروبيين والآسيويين (كوريا واليابان)، مما دفع الأوروبيين إلى التحرك في اتجاه التنسيق بين مواقفهم للإبقاء على الاتفاق وحماية مصالحهم من العقوبات الأمريكية على إيران، هذا إضافة إلى ما يمثله القرار من عدم مبالاة أمريكية لتداعياته على أمن المنطقة، خاصة وأنه قد يعيد خلط الأوراق في قضاياها المتفجرة، وإثارة التوترات بين أطرافها، وتعريضها لمزيد من الضغوط الإرهابية.

v     v     v

ومن هنا تظهر أهمية الإشارة، في النهاية، إلى الأحداث الدامية التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، لعلاقتها الوثيقة بمعادلة الدولي والإقليمي وفقًا لقاعدة ترابط الأزمات في المنطقة، ولاتصالها المباشرة بالاعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقيام الولايات المتحدة بافتتاح سفارتها فيها في نفس يوم احتفال إسرائيل بما تسميه “يوم الاستقلال”، بوفد على مستوى استثنائي اختلط فيه – تبعًا للتقاليد الدبلوماسية الأمريكية المستحدثة – العنصر الرسمي بالعنصر العائلي. وإذا كان قرار ترامب في هذا الشأن يمكن احتسابه ضمن قراراته السابقة التي اتخذت تحت ذريعة وضع وعوده الانتخابية موضع التنفيذ، والحرص على الاستجابة لرغبات قاعدته الانتخابية اليمينية، التي يؤمن معظمها بتراث وأفكار الأساطير التوراتية. فضلاً عن أن طاقم معاونيه المسئول عن إدارة مشكلة الشرق الأوسط يتكون من شخصيات سياسية وعائلية تتميز بعلاقات سياسية وعقائدية وثيقة مع إسرائيل تبلغ حد اعتراف بعضها بشرعية احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتفهم بعضها الآخر لحقها في الامتداد إلى ما تدعي أنه حدودها التاريخية.

وإذا كان القرار الأمريكي يعكس بوضوح تدني موقع الدول العربية في التقدير الأمريكي، فإنه يوضح – في نفس الوقت – قناعة أمريكية بأن تأييدها الكامل لإسرائيل لن يكون له تداعيات مؤثرة على علاقاتها بالدول العربية، أو أية انعكاسات سلبية على مصالحها في المنطقة.

وبالرغم من أن الاتجاه السائد لدى الأوساط الأمريكية والإسرائيلية أن هذا القرار قد يُحدِث عند إعلانه، جلبة سياسية وإعلامية في الأوساط العربية، وبيانات شجب وإدانة على المستوى الرسمي، فإن تقديرهم الغالب أنها ستخمد ويتوارى تأثيرها أمام وتيرة الأحداث المتسارعة في المنطقة، وضغط الواقع الإسرائيلي المفروض بقوة السلاح والمؤيد أمريكيًا على ساحتها.

إلا أن الهبة الفلسطينية التي اندلعت في الأراضي المحتلة، ودفعت بجماهيرها إلى الاحتجاج قرب السياج الحدودي مع إسرائيل بأعداد غير مسبوقة ولفترة زمنية ممتدة، تذكيرًا بيوم النكبة، واحتجاجًا على القرار الأمريكي، والتي حاولت إسرائيل إجهاضها بكافة الطرق الدبلوماسية ثم العسكرية التي استعملت فيها وسائل العنف المفرط والذخيرة الحية والأسلحة المتفجرة، مما أسفر عن سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، قد أثار حفيظة المجتمع الدولي بمنظماته المختلفة، وأشعل غضب الرأي العام العالمي، كما دعا الدول العربية إلى التحرك من خلال الجامعة العربية لبحث إجراءات مواجهة القرار الأمريكي والممارسات الإسرائيلية. فضلاً عن عرض الكويت لمشروع في مجلس الأمن يدعو لنشر بعثة حماية دولية في الأراضي المحتلة، وقيام السلطة الوطنية بتقديم إحالة إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب وفصل عنصري ضد الشعب الفلسطيني يرتكبها مسئولون إسرائيليون.

وإذا كان الشاهد أن معظم الإجراءات السياسية سيتم اتخاذها في إطار الأمم المتحدة، وعبر مجلس الأمن، ثم الجمعية العامة في ضوء قيام الولايات المتحدة بعرقلة صدور أي قرار من المجلس يدين إسرائيل – كما كان متوقعًا -، فإن الواضح أن القرار الدولي في حالة صدوره سيقتصر تأثيره على المجالين السياسي والإعلامي، دون أن يكون له تداعيات عملية سواء بتراجع الولايات المتحدة عن قرارها أو باتخاذ إجراءات عقابية ضد إسرائيل.

ومن هنا يظهر أن الهبة الفلسطينية وردود الأفعال الدولية والإجراءات العربية التي أعقبتها لن تكفي لتحريك القضية الفلسطينية، أو قضية القدس المترتبة عليها، ما لم تصاحبها إرادة واضحة لدى القيادة الفلسطينية بدفع جهود المصالحة الوطنية ولم الشمل وضم الصفوف، فضلاً عن توافر متابعة للمسيرة الاحتجاجية، وجذب شباب الضفة الغربية لعمل مماثل. إضافة إلى تدخل عربي منسق مع الدول التي تتسابق للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفاراتها إليها، وخاصة الدول الأفريقية، واللاتينية، والآسيوية، التي حملت الدول العربية لواء نضالها التحرري على أكتافها.

وليس أدل على دور الولايات المتحدة في هذه التطورات، وما أظهرته سياستها من افتقاد للحساسية السياسية، وغياب الحس التقديري للمشاعر العربية والفلسطينية، من اختيارها لهذا التوقيت للإعلان عن قرب طرحها للمبادرة التي تسميها “صفقة القرن”، وهي المبادرة التي تُظهر التسريبات التي رشحت حولها أنها تستهدف إخلاء القضية الفلسطينية من عناصرها الأساسية – مثلما تم في موضوع القدس – وحرمان الموقف الفلسطيني من ثوابت مشروعيته، تمهيدًا لإخلاء القضية الفلسطينية من بُعدها السياسي وتركيز التعامل معها في الإطار الإنساني. ومن هنا يمكن تفسير المحاولات الأمريكية الدؤوبة لإقناع الدول العربية الصديقة بالضغط على الفلسطينيين لقبول المبادرة الأمريكية، وردود الأفعال العربية المتراوحة بين الإصرار على التمسك بالثوابت، أو بقبول المبادرة بعد إجراء التعديلات اللازمة عليها، أو النأي بالنفس عن المشكلة برمتها. كما يمكن اعتبار هذا الموقف جزءًا من سياسة “ترامبية” عامة تستهدف تصفية كافة القضايا العربية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي، وذلك كما تعكسها الأنباء الأخيرة عن احتمال اعتراف الولايات المتحدة “بسيادة” إسرائيل على هضبة الجولان.

ومع ذلك، فقد يكون من المهم التنويه بأن التحركات التي فجرتها الهبة الفلسطينية قد طرحت القضية بقوة على الساحة الدولية، ونجحت في استقطاب عدد كبير من الدول المؤثرة لإدانة الممارسات الإسرائيلية، والمطالبة بفتح تحقيق حول استعمالها للعنف المفرط تجاه التظاهرات الفلسطينية السلمية. فضلاً عن فرض العزلة على الولايات المتحدة وإسرائيل من جراء اتخاذهما لمواقف خارجة عن إطار التوافق الدولي العام حول موضوع القدس. وإظهار أن المقاومة الفلسطينية السلمية لم تتلاش أو تخفت، إذ أن الشعب الفلسطيني مازال ينبض بالحياة ويطالب باستعادة حقوقه المشروعة عبر تظاهرات سلمية حاشدة بالقرب من السياج الحدودي للدولة التي طردتهم من أراضيهم من سبعة عقود. وهو الأمر الذي يفسر حالة العنف والعصبية التي تواجه بها إسرائيل هذه الاحتجاجات، لأنها تثير في شعبها مشاعر التوجس وعدم الأمان، وتشعرهم – رغم مظاهر استقرار الدولة وتفوقها العسكري الكاسح – بعدم اليقين مما يحمله لهم المستقبل من احتمالات.   ¢

اظهر المزيد

السفير/ سعيد رفعت

رئيس تحرير مجلة شؤون عربية، مساعد وزير الخارجية الأسبق بوزارة الخارجية المصرية، الرئيس الأسبق لصندوف المعونة الأفريقية للدول العربية التابع لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى