2019العدد 180مقال رئيس التحرير السفير/ سعيد رفعت

السياسات الشعبوية الغربية وتداعياتها على المنطقة العربية

التطورات القلقة والمتسارعة التي تشهدها المجتمعات الغربية، والتي تبدو وكأنها زلزال مدمر يضرب في أسس نظمها السياسية، وتركيباتها الحزبية، ومرتكزاتها الديمقراطية وتقاليدها المجتمعية، ليست ناتجة عن مشكلات خارجية أو اختراقات أمنية، وإنما هي تنبع أساسا من داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من أزمات سياسية داخلية عميقة، ومشكلات بنيوية راسخة، تعود إلى تكلس نظمها الديمقراطية، وعجز تنظيماتها السياسية عن التأقلم مع مستجدات العصر، وضعف قياداتها السياسية، وجمود أفكارها، وتقليدية أدائها، مما أسفر عن تناقص شعبية هذه التنظيمات، واهتزاز الثقة في الديمقراطية التمثيلية التي تجسدها، وذلك لمصلحة تيارات سياسية صاعدة ينتظم بعضها في شكل حزبي، ويتمرد البعض الآخر عليه. ولكنها في النهاية تعبر عن تغيرات ثقافية ومجتمعية في العالم الغربي لا تستوعبها التركيبات الحزبية التقليدية. وهو ما أدى – بالتبعية – إلى صعود هذه التيارات المتطرفة باتجاهاتها المختلفة، عبر فوزها في انتخابات بعض الدول الغربية، وانتشار دعواتها الهادفة لتغيير أنماط الحكم فيها، وتشجيع أساليب الديمقراطية المباشرة، وتقوية قبضة الحكم على السلطة، وتصفية التجمعات السياسية على ساحتها.

v v v

ولعل أكثر هذه التيارات تأثيرا في توجيه الأحداث، والوصول إلى سلطة الحكم هو تيار اليمين الشعبوي الذي يضم أطيافا فكرية شتى، تتحرك بين أقصى اليمين وصولا إلى اليسار الراديكالي. وهي التيارات التي تعتبر أكثر استغلالا للشعور الشعبي الغاضب من ضعف كفاءة النظام السياسي، والرافض لكيفية سير الديمقراطية في البلاد، الأمر الذي منحها الفرصة لتصدُر المشهد السياسي، وإحراز قصب السبق في التنافس على سلطة الحكم، و الحصول على ثقة الجماهير الغاضبة. وذلك بالرغم من افتقادها لأية نظرية سياسية في الحكم، وافتقار قياداتها لأية رؤى أو تصورات يمكن تجسيدها في سياسات واضحة ومحددة المعالم. وإنما الشاهد أن كل ما يطرحونه – في هذا الشأن – هو مجموعة من المفاهيم، وأنماط السلوك والتوجهات العامة التي تستهدف هز صورة النظام القائم وتقويض أركانه دون طرح بديل له، ويمكن حصرها في الدلائل التالية:-

أولاً: إثارة نوازع الاستياء والغضب الشعبي من السياسات الحاكمة، وإطلاق الأحكام العامة والغامضة بشأنها، وتغليب طابع السخرية المشوبة بالتشاؤم والامتعاض Cynicism في النظر لمشاكل البلاد. والتعايش على مناخ التوتر والإثارة بصرف النظر عن مواقع المحتجين الاجتماعية وانتماءاتهم الطبقية.

ثانيا: الرغبة في تغيير مسار الحكم، وإفقاد الثقة في صلاحيته وقدرته على خدمة المواطنين، والاتجاه إلى هز الأوضاع السياسية التقليدية السارية، والذهاب إلى أقصى الحدود في المواقف والإصرار على الأهداف المعلنة وعدم التراجع عنها.

ثالثا: المبالغة في ترويج قوة انتماء هذه التيارات للشعب، والادعاء بأنها تتحدث باسمه وتدافع عن مصالحه، واتخاذ هذا التوجه ذريعة للطعن في وطنية كل من يعارضها، أو لا يتقبل أفكارها، وإظهاره على أنه يعادي الأمة ويقف في مواجهة مصالح البلاد.

رابعا: تحدي المؤسسات التشريعية والقضائية، ومحاولة التشكيك في أدائها عبر انتقادها والهجوم على قيمها ورموزها، والعمل على تعطيل أو تأجيل أعمالها، ومحاولة التملص من سلطاتها الرقابية من خلال إنزال القضايا المعقدة إلى الجماهير التي يسهل إقناعها وكسب تأييدها، اعتمادا على أساليب المناورة والإثارة.

خامسا: اتسام تفكير أنصارها بالنعرة العنصرية، وتركيزهم على العلاقة بالآخر على أسس العرق أو الدين أو الثقافة، واتجاه سلوكهم – بالتبعية- إلى معاداة الأجانب، خاصة المسلمين والعرب منهم. وهو أمر يجد تبريره في توجهاتهم الانعزالية المتنامية، وشعورهم بالتفوق الثقافي، ودعواتهم القومية المنغلقة .

سادسا: التعامل مع السياسة، ليس من وجهة نظر التقاليد الديمقراطية العريقة التي تؤمن بضرورة تبادل مواقع السلطة والحكم بين القوى السياسية المختلفة عبر الانتخابات، وإنما من زاوية اعتمادهم على التلاعب في العملية الانتخابية والتحكم في المؤسسات التشريعية، وشراء الإعلام، وإثارة الشارع السياسي تمهيدا للمطالبة بالاستجابة لضغوطه، وتجاهل التقاليد والثوابت المرعية التي درجت عليها سياسات الدول المتقدمة، والهبوط بمحتوى ومستوى الخطاب السياسي إلى درجة التشكيك في الوطنية واستخدام الأساليب السوقية.

v v v

وإذا كانت المجتمعات الغربية لا تنظر إلى فكرة السخرية – في حد ذاتها- باعتبارها ممارسة خبيثة وضارة بأمنها واستقرارها، بل إنها ترى فيها أمرا مقبولاً، وتصرفا حميدا، يستوجب التشجيع لأن المواطنين في دولها كثيرا ما يوجهون – عبرها- انتقادات صحية ورسائل مفيدة لحكامهم.

إلا أن الأمر يختلف كثيرا في حالة السخرية المتشائمة السوداء التي تقلب الأوضاع، وتستثير الغرائز، وتشوه المؤسسات، وتضعف الثقة في الديمقراطية، وتدفع الأطراف إلى التطرف من خلال غرس الاعتقاد بأن اللجوء إلى الحلول الوسط يعتبر “خيانة”. خاصة في ظروف الإنهاك الذي تتعرض له السياسات الأوروبية نتيجة تعقيدات الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي من جهة، واتجاه الولايات المتحدة لإدارة ظهرها لأوروبا سياسيا ولحلف الأطلنطي أمنيا من جهة أخرى.

على أنه بالرغم من صعوبة انتشار مثل هذه المفاهيم، ناهيك عن تطبيقها، في دول الديمقراطيات الغربية، إلا أن الشاهد أن بعض دول أوروبا الشرقية قد أصبحت تُحكَم بالفعل من قياداتها الشعبوية وفق هذه المفاهيم، لدرجة أنها قد تبدو من الخارج وكأنها تنتمي إلى الديمقراطيات الصاعدة، ولكنها تُعتبر، من حيث الواقع المعاش، من دول الحزب الواحد. وإذا كان اختلاف الظروف بينها وبين دول الديمقراطيات الغربية المتقدمة، من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية، والتي تمارس حياة ديمقراطية أكثر رسوخا واستقرارا وعراقة، من المفروض أن تحول دون وقوعها فريسة لمثل هذه الممارسات إلا أن الشاهد أن هناك علامات ودلالات حتى في هذه الدول على ذهاب ديمقراطيتها في اتجاه الانحسار والانحدار، نتيجة نجاح الاتجاهات الشعبوية في بعضها، ليس فقط في الوصول إلى سدة الحكم، وإنما أيضا في قيام قياداتها بالترويج لأفكار وممارسة تصرفات، واتخاذ قرارات تعتبر غريبة عن التقاليد والأعراف التي تتبناها الديمقراطيات الراسخة. مما دفع البعض إلى اعتبار هذه التطورات من قِبَل علامات الساعة الديمقراطية. إلا أن ما يُطمئن شعوب هذه الدول ويحول دون انجرافها لهذا المصير، هو أن السلطة فيها مازالت أكثر توزعا وتوسعا وتنوعا، كما أنها تمتلك مؤسسات ذات تاريخ أطول وتجربة أعمق، فضلا عن الاقتناع الشعبي الراسخ فيها بأن الديمقراطية تستطيع أن تجدد نفسها بأدواتها تلقائيا كلما استلزمت الأحوال وحكمت التطورات.

v v v

وإذا كانت التيارات الشعبوية الانعزالية المتطرفة قد برزت من قاع المجتمعات الغربية، وظهرت أول بوادر لنشاطها من طرف حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، ثم تنامت حركاتها في أوروبا واكتسبت زخما شعبيا أكد صعودها السياسي وحضورها الفكري والاجتماعي والثقافي. إلا أن الحدث الأساسي الذي أعطى لهذا التيار دفعته الكبرى هو وصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة في ظروف وملابسات غامضة، وتبنيه في العلن ما تردده هذه التيارات وتفعله على استحياء. إذ اتبع نمط التعامل السياسي المربك تجاه الحلفاء كما الخصوم، وسلك مسالك غير معهودة على الساحة الدولية، ومارس في تصرفاته وخطاباته أساليب متغيرة وأفكارا متناقضة، واعتمد هذه الطريقة أسلوبا للتفاوض ونهجا للعلاقات. كما استدرج الميديا العالمية ناقدة ومدمنة لتغريداته وتحرشاته برؤساء الدول، وعداوته للتجمعات السياسية والمؤسسات الدولية ومساندته لقيادات التيارات الشعبوية.

من هنا، كان تأييد ترامب الواضح لبوريس جونسون رئيس وزراء بريطانيا في معاركه داخل البرلمان حول موضوع الخروج البريطاني “الخشن” من الاتحاد الأوروبي، في ضوء تقاربهما في بعض الصفات الشخصية، والتصرفات العفوية، واتباع أسلوب الإلهاء تمهيدا لاتخاذ القرارات المفاجئة، وهو الأمر الذي ظهر في سلوك جونسون ” غير المحافظ” من حيث إهمال الدستور، والقيام بتعطيل أعمال البرلمان وتجاوز الأعراف البرلمانية التي تستوجب اللجوء إلى المشاورات ومحاولات التوافق في القرارات الاستراتيجية حتى إذا تعذر الاتفاق حولها في البرلمان، وإصراره على دفع الأمور في اتجاه إجراء انتخابات مباشرة يعلم أن فرص فوزه فيها أكبر من فرص خصمه رئيس حزب العمال. وهو أمر يؤكد أن موقف ترامب المؤيد لجونسون في هذا الشأن يعكس قوة التحالف بين التيارات الشعبوية في كل من المجتمعين أكثر مما يتصل بالتحالف الاستراتيجي الثنائي بين الدولتين. ولعل ما يزيد من عمق العلاقة بين الزعيمين الأمريكي والبريطاني هو مشاركة ترامب لجونسون في الشعور بالثقة من احتمالات نجاحه في الانتخابات الرئاسية المقبلة اعتمادا على ضعف المجموعة الديمقراطية المقابلة، وعدم قدرتها على منازلته في ضوء امتلاكه لقاعدة متماسكة ومتعصبة ومستعدة لدعمه في كافة الظروف. وهو ما يوضح أن الاتجاهات الشعبوية في الدولتين قد نجحت في بذر بذور الشك والانقسام داخل المجتمعين البريطاني والأمريكي، وأربكت قواعد الخلاف الحضارية التي كانت تحكم التعامل في الحياة السياسية بالدولتين، وأضعفت التقاليد الديمقراطية المرعية التي كانت تمثل المنارات المضيئة للعلاقات الحزبية على ساحتيهما.

v v v

وإذا كانت التيارات الشعبوية قد بلغت هذا القدر من القوة والانتشار في بعض الدول الغربية – وخاصة الكبرى منها – فمن الطبيعي أن يكون لها انعكاسات على علاقات هذه الدول بالمنطقة العربية وقضاياها الرئيسية. خاصة في ضوء ظروف التوتر والاستقطاب والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية والإقليمية في القضايا العربية التي تشهدها، وهو الأمر الذي تظهر تداعياته في الدلالات التالية:-

أولاً: المواقف المتعالية وغير المبالية التي تتخذها الدول التي تسيطر عليها هذه التيارات تجاه الدول العربية، من حيث التعامل معها من منطلق فوقي، والاستهانة بتأثير تداعيات تحركاتها في المنطقة على المصالح العربية والتوازنات القائمة على ساحتها، واتجاه أجهزتها الإعلامية والسياسية للتقليل من شأن الجهود العربية، وتجاهل إنجازاتها، والغمز في مصادر ثرواتها رغم ما يُغدق على هذه الدول من هذه الثروات وينعكس بمنافعه على اقتصادياتها وخلق فرص عمل لمواطنيها. وهي مواقف لا تُستشف فقط من تقارير أجهزتها الإعلامية، وإنما تُستقى معظمها من الملاحظات الساخرة، والتعليقات الجارحة التي تصدر عن قياداتها كلما تعلق الأمر بشأن عربي. هذا فضلا عن تصاعد محاولات التجزئة والتقسيم الجارية في الإقليم على قدم وساق، والدخول في مباحثات جماعية حول قضاياه الاستراتيجية مع دول إقليمية غير صديقة للعالم العربي، تراعي فيها متطلبات أمنها ومقتضيات مصالحها، في مقابل تغييب كامل ومتعمد للجانب العربي عنها.

ثانيا: الانحياز التام – سياسيا وأمنيا- لإسرائيل، وتجاوز كل الخطوط الحمراء في السياسة الأمريكية لمساندة قيادتها الشعبوية، ومنحها – على حساب القضية الفلسطينية والجانب العربي- كل الجوائز التي تضمن لها الفوز في الانتخابات العامة. والتي بلغت في تجاوزها للسياسات الأمريكية المعتمدة، والقرارات الدولية الراسخة، حد الانحراف الشعبوي الكامل. وهو الأمر الذي أسفر ليس فقط عن إجهاض فرص السلام القائمة على اساس حل الدولتين، وإنما أيضا عن سد السبل أمام أية إدارة أمريكية قادمة قد ترغب في تغيير هذه السياسات. ومع ذلك فإن توجهات ترامب في هذا الشأن قد أثارت في إسرائيل عاصفة من الانتقادات على أساس محاولته استثمار مواقفة الداعمة لها لأهداف حزبية وانتخابية بتوسيع الفجوة بين إسرائيل والحزب الديمقراطي الأمريكي. وهو ما يصطدم باعتقاد راسخ لدي الإسرائيليين بأن علاقتهم بالولايات المتحدة ليست حزبية، وإنما تقوم على المصالح والقيم التى تجعل من إسرائيل مصلحة أمريكية يتفق عليها الحزبان الرئيسيان، وتتمتع بتأييدهما معا مهما كانت الظروف، وأيا كانت توجهات الائتلاف الحزبي الذي يحكم إسرائيل.

ثالثا: أن السياسة الأمريكية في المنطقة التي أصبح يغلب عليها طابع الشعبوية السياسية، وعنصر الشخصنة الرئاسية، قد بلغت ذروتها في العفوية والتقلب وافتقاد الاستراتيجية، في قرار ترامب بانسحاب القوات الأمريكية من سوريا، ومنح الضوء الأخضر لرئيس تركيا “الشعبوي” لغزو الشمال السوري وإقامة منطقة عازلة على ساحته، بما يعني التخلي عن الحلفاء الأكراد الذين لعبوا دورا رئيسيا إلى جانب القوات الأمريكية في الحرب على داعش، وتركهم فريسة لانتقام القوات التركية، وهو الأمر الذي أدى – بالضرورة – إلى اهتزاز صورة الولايات المتحدة دوليا، وسقوط مصداقيتها في احترام تحالفاتها والوفاء بالتزاماتها. فضلا عما رتبته سياستها من تداعيات كارثية على دورها الدولي ومصالح حلفائها في المنطقة، من حيث تغير التوازنات على ساحتها واستعادة القوات السورية لمواقعها في شمال البلاد، وتمكين روسيا من أن تكون أهم القوى الفاعلة في المنطقة، وإظهارها على أنها الدولة التي تحترم التزاماتها وتقف إلى جانب حلفائها. ثم جاءت قمة التخبط في السياسة الأمريكية بقرار ترامب مكافأة أردوغان على عدوانه، بإعفائه من كافة العقوبات المفروضة على بلاده، والامتناع عن المطالبة باتخاذ أية إجراءات للتحقيق معه رغم ارتكاب قواته – أثناء الغزو- لممارسات ترقى أن تكون جرائم حرب، هذا فضلا عما أظهره ترامب من ترحيب بالغ بأردوغان أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة-رغم التناقضات الواضحة في سياسات الدولتين- وهو ما أثار تعليقات عديدة في الدوائر السياسية الأمريكية، يدور بعضها حول تداخل البُعد الشخصي بالمصلحي في علاقة ترامب بأردوغان، ويتعلق البعض الآخر بتأثر ترامب بتوجهات هنري كسنجر بأن تكون أولوية السياسة الأمريكية هي الحفاظ على توازن القوى في المنطقة، وتجنب الحروب التي تؤدي إلى هز استقرارها. وهو ما يتطلب إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة بين الولايات المتحدة وتركيا حول مناطق الاتفاق بينهما، واستبعاد أية تأثيرات سلبية للموضوعات التي يختلفان حولها على التوازنات القائمة على ساحتها.

v v v

وعموما فإنه بالرغم من قيام الأمريكيين بدور هام في دفع تركيا للموافقة على وقف إطلاق النار فإن الشاهد أن الجهود الدولية الروسية هي التي نجحت في القيام بالدور الرئيس لتهدئة الأوضاع، وتثبيت وقف إطلاق النار، وتحقيق انسحاب الأكراد، وتسيير دوريات روسية تركية لحماية الممر الآمن، وذلك طبقا لمذكرة التفاهم التي جرى توقيعها بين الطرفين. وهكذا انتهى التدخل الأمريكي في العملية التركية بخسارة الولايات المتحدة لصورتها الدولية، والإضرار بمصالح حلفائها، مقابل تحقيق مكاسب هامة للدول والتنظيمات غير الصديقة لها (روسيا – سوريا – تنظيم داعش)، أما عن تركيا فقد حققت معظم أهدافها من هذه العملية من خلال علاقتها بروسيا.

v v v

ولا يبق بعد ذلك إلا الإشارة إلى أن انتشار التيارات الشعبوية لا تقتصر فقط على الدول الأوروبية والأمريكية، وإنما الشاهد أنها امتدت إلى بعض الدول الأسيوية واللاتينية التي جرى اختراقها، والسيطرة على مكامن السلطة ومقاليد الحكم فيها. وبالرغم من الاعتقاد السائد بالتأثيرات السلبية التي تتركها هذه التيارات على المسار الديمقراطي في الدول المتقدمة. إلا أن الواضح أن شعور التوجس منها لا يصل في هذه الدول إلى حد القلق، ليس فقط لأن هذه التيارات تستمد قوتها من قوة شخصية قياداتها، وهي أمور تحكمها في هذه الدول ضوابط وكوابح دستورية وقانونية. وإنما أيضا لأن الأفكار والمفاهيم التي تستند إليها هذه التيارات تنبع أساسا من جذور الفكر الغربي، وتتجه في تحقيق أهدافها إلى وسائل وأدوات سياسية غير عنفية، وهو الأمر الذي يُغلَّب الاعتقاد بأن هذه التيارات قد تمثل ظاهرة عابرة ووقتية، يمكن احتواؤها عبر علاج أسبابها، أو من خلال اختفاء قياداتها.

أما بالنسبة للمنطقة العربية، فإن الشاهد أنها تعاني من ظاهرة مختلفة، وإن كانت تتشابه مع التيارات الشعبوية في أساليبها وممارساتها، إلا أنها تختلف عنها في المنطلقات والأهداف. إذ أنها تلجأ إلى إثارة مشاعر الاستياء واستثمار مظاهر الغضب من بعض ممارسات الحكم في البلاد فضلا عن رغبتها المعلنة في تغيير الأوضاع فيها، وتكرار ترديد نغمة قوة انتمائها للشعوب، وتغلغلها في أوساطها، وتعبيرها عن معتقداتها. ولكنها تختلف جذريا عنها في منطلقاتها الفكرية وشعورها بالتفوق العقائدي، وادعائها الانتماء إلى المرجعية الإسلامية “الحقيقية”، وتعاطيها مع الديمقراطية على سبيل “التُقية السياسية” ورغبتها في إسقاط الدولة وتغيير هويتها، واستعدادها لإجراء هذا التغيير – إذا اقتضي الأمر- عبر وسائل العنف وعمليات الإرهاب المسلح، وهي دلائل تعكس في مجموعها ظاهرة “التقاء النقيضين” وتَعيُش كل منهما على أهداف ونشاط الآخر. إذ أن انتشار التيارات الشعبوية- بشعاراتها المعادية للعرب والمسلمين- من شأنها أن تُنعش تيار الإسلام السياسي عبر تمكينه من تصعيد خطاب المظلومية، وتوسيع قاعدة أنصاره ومؤيديه. كما أن تصاعد قوة الإسلام السياسي من شأنها أن ترفع من رصيد التيارات الشعبوية، وتوفر لها مبررات وجودها، ودوافع مواقفها المعادية للعرب والمسلمين.

اظهر المزيد

السفير/ سعيد رفعت

رئيس تحرير مجلة شؤون عربية، مساعد وزير الخارجية الأسبق بوزارة الخارجية المصرية، الرئيس الأسبق لصندوف المعونة الأفريقية للدول العربية التابع لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى