2019العدد 180ملف عربي

العالم العربي والمحيط الإقليمي والدولي والمتغيرات الجديدة

تعيش الدول العربية في محيط إقليمي متفاوت التأثير والتأثر، ففي الشرق والشمال تواجه طلائع الأمة العربية الأمتين الإيرانية والتركية، وتلك الأمم الثلاث (العربية والإيرانية والتركية) أنتجت بجدارة التاريخ الحضاري للإسلام، ومع ذلك تشتد ما بينها التوترات ما بين الآونة والأخرى. وفي الغرب والجنوب تتعايش الشعوب العربية مع تأثيرات الأوربة والأفرقة وانعكاساتها. إن هذه الجغرافية السياسية والثقافية تدفعنا للتساؤل: كيف يتشارك العالم العربي جيرته مع كل هذه الألوان الثقافية وما هو موقعه دوليًا وما مدى تفاعله مع المتغيرات الدولية الجديدة ؟

قبل قرابة عقدين من الزمان أصدرت كتابًا عن حالة العرب والغرب على مشارف قرن جديد وقلت: إن الأمس فاتنا والحاضر يجري بسرعة فلا ينبغي أن يفلت منا الغد.. بعد كل هذه السنين أدركت بأننا ما زلنا نعيش في ظل الأمس ومقتضياته وحاضرنا بات ماضيًا أما مستقبلنا فهو في علم الغيب ، لم نحقق تقدمًا يذكر ، وما زلنا نراوح مكاننا بطريقة “محلك سر”! بل إننا في كثير من الميادين قد تراجعنا بنحو يدعو إلى الاستغراب.

دعونا نستكشف المكان والزمان العربيين ونحكم تاليًا . المكان هو جغرافية العالم العربي فهل تغيرت؟ والجواب نعم ولكن إلى الأسوء، وفي هذا لن نبحث في ضياع لواء الإسكندرونة والأقاليم السورية الشمالية التي سلمتها فرنسا إلى تركيا، ولا جزر الكناري وسبتة ومليلة وصخرة الحسيمة التي أصبحت جزءًا من إسبانيا وسنترك عربستان والجزر الإماراتية طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التي احتلتها إيران .

سنعود لما فقدناه منذ عقدين فقط ، فما إن انقضت العشرية الأولى من هذا القرن حتى انفصل جنوب السودان عن شماله عام 2011 مودعا عروبة المكان، وسبق أن احتلت الولايات المتحدة العراق عام 2003 وقضت على أسس دولته الوطنية وأشعلت الفتنة في جماعته الوطنية .. واقتطعت إسرائيل وما زالت تقتطع يوميًا أراض فلسطينية، وتجرأت إدارة ترامب الأمريكية فقامت بنقل سفارتها إلى القدس المحتلة واعترفت بالاحتلال الإسرائيلي للجولان، وقامت الدول الإقليمية المجاورة بتعزيز نفوذها في ديارنا فزرعت أعدادا كثيرة من القواعد العسكرية على أراضينا.. وهكذا اقتسمت القوى الكبرى والقوى الإقليمية كعكة جغرافيتنا السياسية وما زالت شهيتها متقدة نحو مزيد من القضم.

أما الزمان العربي فقد تقهقر هو الآخر حتى أن آلة الزمن قد حركت عجلاتها مسرعة نحو المستقبل في العالم بأسره وتوقفت مشلولة في ديارنا ! لقد أصبحنا نشهد على تخلف متسارع لكل مناحي الحياة العربية وبخاصة أنظمة التربية والتعليم التي تراجعت في أغلب البلدان العربية ، وأظهرت إحصائيات المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم “ألكسو” لعام 2018، بأن معدلات الأمية في الوطن العربي وصلت لـ21 في المئة وهو رقم مرتفع عن المتوسط العالمي والذي يبلغ 13.6 في المئة. وحسب بيانات المرصد العربي للتربية فإنه و حتى عام 2024 يتوقع أن يكون هناك 49 مليون أمي في العالم العربي. من بينهم حوالي 15,5مليون ذكر و33,5مليون أنثى. يبلغ عدد الأميين الشباب منهم حوالي 6,5 مليون. وحسب المرصد العربي أيضًا فإن حوالي 5,6 مليون طفل عربي ما بين 6-11 سنة لم يلتحقوا أساسًا بالمدرسة (61,2 % منهم من الإناث) هذا في عام 2014.

وعجلة الزمن العربية –كما أسلفنا- لم تتقدم بل تراجعت، واستمرت في ذلك وكأنما تجهيل الأمة العربية ليس بكاف على مقدراتها، فقد ارتفعت مستويات الفقر في بعض الدول العربية إلى درجة خطيرة حتى أصبحت آفة الفقر في إحدى هذه الدول تهيمن على قرابة نصف السكان، وهو الأمر الذي يثير قلق جامعة الدول العربية والمجموعة الدولية.

وقد انتشر وباء الفساد الإداري والمالي خلال العقدين الماضيين في غالبية الدول العربية بنحو مقلق جدًا حيث حلت الصومال الأكثر فسادا فاحتلت المرتبة الأخيرة 180 في تقرير منظمة الشفافية الدولية، وسبقتها سوريا واليمن حيث تشاركت الدولتان في المركز 178 و السودان 172 وليبيا 170 والعراق 168 وموريتانيا 144.

كما حلت معظم الدول العربية في مراتب متقدمة على مؤشر الدول الفاشلة أو الهشة لعام 2019. فقد جاءت اليمن أولا بين دول العالم أجمع من حيث هشاشة الدولة وخطورة الأوضاع فيها، ولأسباب أبرزها الحرب وتداعياتها. ثم جاء الصومال وسوريا والسودان وليبيا والعراق في أعلى قائمة الدول التي استوجب سوء الأوضاع فيها “التحذير بدرجة عالية جدا ، وتظهر النتائج تردي الأوضاع في غالبية الدول العربية، خصوصا تلك التي تعاني من حروب داخلية وخارجية خلال السنوات الأخيرة، ما جعلها مركزا لعدم الاستقرار ضمن فئات الدول ذات الإنذار العالي جدا”.

وسبق أن أصدر صندوق السلام العالمي في العام2005، بالتعاون مع مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy، أوّل مؤشّر سنوي حول الدول الهشة أو الفاشلة، ضمَّ 76 دولة بينها 13 دولة عربية. وفي العام 2006، صدر المؤشّر الثاني ليضمّ 146 دولة، بينها 16 دولة عربية، وفي العام 2007, صدر المؤشّر الثالث ليشمل 177 دولة، من بينها 20 بلدًا عربيًا. والأمر في تصاعد مقلق.

وتفيد إحصائيات الأمم المتحدة المنشورة عام 2017 إلى أن هناك 258 مليون شخص مهاجر ونازح في العالممنهم 40 مليون مغترب ونازح ومهاجر عربي .

ومن البديهي أن نستدرك ونحن نعرض لأوضاع العالم العربي المتردية لنشير إلى أن هناك جهودًا كبيرة تبذل من عدد من الدول العربية، بالإضافة إلى جهود جامعة الدول العربية لتطوير الإمكانات والاستجابة لمستلزمات التنمية المستدامة.. ومؤخرًا أشار الاجتماع السادس للجنة العربية لمتابعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة المنعقد في الجامعة العربية في حزيران الماضي إلى التحديات التي تواجه الدول العربية في مهمتها هذه مثل: التحديات السياسية والأمنية وبخاصة النزاعات المسلحة والصراعات التي تعيشها بعض الدول، وضعف البنية القانونية المؤسسية لمواكبة المستجدات وجذب الاستثمار، والإشارة إلى أن أغلب الاقتصادات العربية تُعَد اقتصادات ريعيَّة. وضعف مؤشرات الاقتصاد المعرفي والبنية التكنولوجية بالوطن العربي، بالإضافة إلى زيادة مُعدلات الفقر، وعدم القدرة على الاكتفاء الذاتي، كما تواجه الدول العربية، التحديات البيئية والمناخية والتي تعد تحديات ذات طبيعة شديدة بشكل خاص، فرغم أن المنطقة غنية ببعض الموارد الطبيعية مثل النفط والغاز، لكنها تواجه عجزًا خطيرًا في موارد أخرى كالماء والأرض الزراعية اللازمة لدعم متطلبات النمو. وقد خرج الاجتماع بعدد من التوصيات منها : ضرورة مواكبة الثورة الرقمية، وتشجيع منظمات المجتمع المدني على إنشاء منتديات وطنية للتنمية المستدامة، وأهمية دور الشباب كشركاء في تحقيق أهداف التنمية.

أما قضية الحريات ونشر الديمقراطية فهو مشروع مؤجل لانتفاء مستلزماته وعلى رأسها البنى المؤسساتية لدولة القانون، هذه الدولة التي تفصل ما بين السلطات الثلاث ولا تهيمن فيها السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقانونية، كما يحدث في غالبية دولنا العربية مما يجعل الحريات والديمقراطية مؤجلة وبالتالي تبقى دولة القانون حلما بعيد المنال .

تلك هي باختصار لمحات عن أوضاع العالم العربي فما مدى اندماج هذا العالم في النظام الإقليمي وما مدى التحالف والتخالف بين عناصره وقضايا تحدي تجديد العروبة في علاقاته ؟

إن للنظام الإقليمي العربي بنيته الجغرافية والسكانية والاقتصادية والسياسية وهي بنية مغايرة لبنية النظام الشرق أوسطي الذي يدخل على نظامنا العربي دولاً إقليمية غير عربية لها استراتيجيات مختلفة وربما عدائية مع دول النظام العربي . ومما لا ريب فيه أن القوى الثلاث التي تبرز في هذا المحيط الإقليمي وتتقاسم تأثيراتها على الدول العربية كافة هي كل من: إيران، تركيا وإسرائيل التي تبدو قوى مؤثرة جدًا في ظل عوامل الفرقة العربية والاحتدامات بين أطراف النظام العربي مما يبرز إلى العيان تجاذبات وأطماع القوى الثلاث وانعكاساتها الميدانية على الدول العربية.

إيران

هناك عدد من الخلافات ما بين بعض الدول العربية وإيران منها قديمة مثل: الاحتلال الإيراني للجزر العربية الثلاث والذي يعود إلى قرابة نصف قرن (1971) والخلاف العراقي الإيراني حول شط العرب وخط التالوك الذي يعود أيضًا إلى منتصف السبعيناتوخلاف حول مجرى مجموعة من الأنهار والروافد التي تنبع من الأراضي الإيرانية، وتحويلها إلى أنهار وخزانات مياه داخل الأراضي الإيرانية والتي اعتبرت من قبل الخبراء خطة لتقليل نسبة المياه المتدفقة إلى العراق.. وخلافات نفطية تعود إلى ستينات القرن الماضي ما بين الكويت والسعودية من جهة وإيران من جهة أخرى تتعلق بحقل الدرة الذي يقع في منطقة بحرية لم يتم ترسيمها بعد والجزء الأكبر منه يقع ضمن نطاق حدود الكويت والسعودية.

 وإلى جانب هذه الخلافات القديمة تبرز الخلافات الجديدة وهي في مجملها خلافات ذات طبيعة سياسية حادة تتعلق بصراع القوى في المنطقة والتنافس المذهبي. ويجد هذا الصراع مبرراته في مقولات التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية والوجود العسكري الإيراني في سوريا والدعم العسكري الإيراني لحزب الله في مواجهة إسرائيل وللحوثيين في اليمن في مواجهة السعودية، الأمر الذي أدى إلى حرب الناقلات النفطية وتفجيرات الطائرات المسيرة وهي عمليات عرضت وتعرض الأمن الإقليمي العربي للخطر .

تركيا

 مع تركيا أيضًا تتعدد الخلافات العربية التركية القديمة والجديدة وربما يكون من المفضل البحث في الخلافات الجديدة لأن القديمة لم تعد على جدول أعمال جامعة الدول العربية السنوي. فعلى العكس مما أقرته المبادئ الأتاتوركية “سلم في الداخل وسلم في الخارج ” وعلى عكس ما جاء به منظر حزب التنمية والعدالة السابق أحمد أوغلو في كتابه العمق الاستراتيجي بتصفير المشاكل مع الجيران استندت تركيا على رواية أن اتفاقًا جرى بينها وبين العراق في زمن الرئيس الأسبق صدام حسين يقضي بإمكانية دخولها إلى الأراضي العراقية بعمق 30 كيلومترا لملاحقة “الإرهابيين” فقامت بإنشاء نحو 20 من القواعد والمقرات العسكرية التركية وأكبر هذه القواعد قاعدة بامرني شمال دهوك.

 وتمتلك تركيا قواعد عسكرية أخرى في عدد من الدول العربية ، ففي مقديشو بالصومال أقامت قاعدة تبلغ مساحتها أربعة كيلومترات مربعة يمكنها أن تأوي حوالي 1500 جندي لاستقبال قطع بحرية وطائرات عسكرية إلى جانب قوات كوماندوس. وفي قطر أعلنت تركيا مؤخرا أنها بصدد افتتاح قاعدة جديدة لها وسيتم تدشينها قريبا إضافة إلى قاعدة “طارق بن زياد” الحالية التي افتتحت عام 2016 وهي قادرة على استقبال 3 آلاف جندي إضافة إلى قوات بحرية وجوية وقوات كوماندوس . وتركيا بصدد إقامة قاعدة بحرية في جزيرة سواكن السودانية ، وفي سوريا تحتفظ تركيا بعدد من القواعد العسكرية في مناطق الباب وجرابلس وأعزاز وعفرين، وهي مناطق واقعة على الحدود التركية السورية، كما تحتفظ تركيا بوجود عسكري غير معلن في ليبيا.

إسرائيل:

 عملت إسرائيل منذ قيامها على أرض فلسطين وحتى اليوم على تحدي المنطقة العربية وشن الحروب عليها وتجاهل الحقوق الفلسطينية وضم الأراضي الفلسطينية والعربية بالقوة. استمرت في عدائها للعرب والفلسطينيين حتى بعد أن وقعت بعض الدول العربية ( مصر والأردن) اتفاقيات سلام، أو مع تلك التي وقعت معها اتفاقات تجارية أو فتحت لها مكاتب اتصال. ومع ذلك عملت إسرائيل على إثارة الفتنة والصراعات الأهلية والحروب بين الشرائح والطوائف والقوميات المتعايشة في الدول العربية.

 ولم تلتزم إسرائيل بكل قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة القاضية برفض احتلال الأراضي بالقوة والقاضية بإرجاعها للدول العربية والفلسطينيين .. وقد قادت إســرائيل حملـة تشويه الإسلام والثقافة العربية واتهام العرب والمسلمين بتمويل الإرهاب وقيادته، وذلك في وسائل الإعلام الدولية وفي علاقاتها الدولية .. وقد استمدت إسرائيل قوتها من خلال امتلاكها للسلاح النووي الممنوع على العرب حيازته وبواسطة تحالفاتها الدولية وبخاصة مع الولايات المتحدة.

 تلك هي الأجواء المضطربة للمحيط الإقليمي المجاور للعرب، فالقوى الثلاث سابقة الذكر تمارس ضغوطاتها اليومية وتأثيراتها على كامل التراب العربي..

 بدأت بوادر التغيير السياسي في المحيط الإقليمي الشرق أوسطي وانعكست بسرعة على أنماط التحالفات الإقليمية والدولية، وأبرز تغيير طرأ في المنطقة حدث في تركيا، فمنذ صعود حزب العدالة والتنمية التركي إلى سدة الحكم عام 2002 ، بدأ التغيير نسبيا وببطء حتى اشتد الخلاف التركي مع إسرائيل في حادثة الاعتداء الإسرائيلي على أسطول الحرية عام 2010 في المياه الدولية ومقتل 9 وإصابة أكثر من 26 من المتضامنين، الأمر الذي عجل في برود العلاقات التركية الإسرائيلية. ومن الملاحظ أن تركيا وهي عضو مؤسس لحلف شمال الأطلسي تمتلك علاقات وثيقة مع إسرائيل وكانت ثاني أكبر دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام 1949 بعد إيران التي سبقتها عام 1948 . لقد شكلت تركيا في الخمسينات والستينات وحتى نهاية السبعينات أحد أضلاع المثلث الاستراتيجي الشرق أوسطي المكون من : تركيا إيران وإسرائيل لمحاصرة الدول العربية.

 لقد مثل امتناع الدول الغربية وبخاصة الولايات المتحدة عن إدانة الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016 الذي ذهب ضحيته عشرات الضحايا ، وعدم تسليم المخططين له المقيمين في أمريكا، مثل نقطة افتراق استراتيجية ما بين تركيا والولايات المتحدة .. فعلى الرغم من وجود 26 قاعدة عسكرية أمريكية على الأراضي التركية، ومن كون الجيش التركي يشكل ثاني أكبر جيش في الحلف الأطلسي ، فقد بدأت تركيا ولأول مرة البحث عن تحالفات دولية مع الدول المنافسة لجبهة الغرب عمومًا وبالتحديد روسيا وإيران. ومما فاقم الأمور اعتراض تركيا على القرار الأمريكي بتسليح وتدريب 30 ألف مقاتل كردي من الحزب الديمقراطي الكردي معتبرةً هذه السياسة خطيرة على الأمن القومي التركي فهاجمت مواقع الأكراد في عفرين بسوريا واحتلتها رغم الوجود العسكري الأمريكي في منبج على مقربة من قواتها.

 اشتد الخلاف التركي الأمريكي وتصاعد وأبرز صورة له هي قضية التقارب التركي الروسي والتباعد التركي الأمريكي إلى درجة الاستغناء عن منظومة الدفاع الجوية الأمريكية والاتجاه إلى شراء منظومة دفاعية روسية (صواريخ S-400  ) التي بدأت تركيا بتسلمها في تموز/يوليو الماضي . واليوم تتجه تركيا لشراء طائرات (سوخوي Su-35  الروسية ) بعد أن حرمتها الولايات المتحدة من المشاركة في برنامج إنتاج المقاتلة F-35/ flickr ومن اقتنائها ملغية عقد شراء تركيا 100 طائرة منها.

 إن المواقف التركية الإقليمية الجديدة والتفاهمات السياسية والتسويات العسكرية مع روسيا وإيران في سوريا (عفرين على سبيل المثال) والاتفاقات الاقتصادية التركية الإيرانية أثارت غضبًا كبيرًا في أوساط صناعة القرار الأمريكي إلى درجة أن ارتفعت الأصوات لمعاقبة تركيا ، وبدأت بالفعل الضغوطات الاقتصادية التي أثرت بقوة على سعر الليرة التركية، ولولا الدعم الداخلي التركي ودعم قطر المالي لكانت العقوبات أكثر قسوة مما هي عليه اليوم.

 وتتبين بوادر اهتزاز قبضة الهيمنة الأمريكية على سوق التسلح في الشرق الأوسط من خلال الخروقات التركية والعربية ، فاستنادًا إلى التقرير السنوي للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن لعام 2018 حصلت مصر على منظومة صواريخ” إس ـ 300″ الروسية واشترى العراق طائرات هجومية روسية من طراز “سوخوي سو-25” وأبدت كل من السعودية وقطر اهتماما بشراء منظومة “أس 400” وباتت كل من السعودية ومصر والإمارات العربية والعراق تعتمد على طائرات من دون طيار صينية الصنع، ووقعت مصر على صفقة طائرات صينية متطورة “دون طيار”، من طراز “ASN-209″، وتزودت قطر بمنظومة قاذفات “SY-400” من الصواريخ الصينية قصيرة المدى.

 ما الذي تشير إليه تلك الأحداث الجسام بتغير أنماط التحالفات، وبتنويع مصادر السلاح، وبتفكك القبضة الأمريكية، أو ليست ذات دلالة. ألا يحق لنا التساؤل: كيف يستفيد العرب من هذه التحولات؟ مع ملاحظة أنهم ممزقون تحالفيًا – إذا صح القول- وبخاصة إذا أخذنا بالاعتبار الوقائع التالية : العراق متحالف مع إيران وروسيا في سوريا، والسعودية والإمارات مع أمريكا ضد إيران، وقطر مع السعودية والإمارات وأمريكا ضد النظام السوري، وقطر وتونس مع تركيا، في حين أن السعودية والإمارات ضد تركيا . على الرغم من أن إيران وتركيا تتعاونان اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا.. وكما نرى فإن إسرائيل لوحدها كإحدى القوى الثلاث الشرق أوسطية تعيش بمعزل أو بتدبير في نعيم السلام الإقليمي متفرغة لمواجهة الفلسطينيين ومصادرة حقهم في الأرض والسلام، وهي تتحدى العرب يوميًا في كل الميادين !!.

في عالم مضطرب متعدد القطبية ومتسارع الخطى نحو المستقبل وعولمة فرضت علينا ولم ندخلها بعد مع أنها أصبحت في نهاية عهدها ، عولمة صاحبت ثورة المعلومات وعملت على تسريع وتيرتها وتعدد مجالاتها يمكننا أن نلتقط الصور المميزة التالية:

 أولاً : دخلت البشرية قبيل بداية الألفية الثالثة عصرًا جديدًا على مستوى الفكر والممارسة الميدانية فتح آفاقًا لا حدود لها لمن يريد من الدول انتشال حاضره وصناعة مستقبله.. عصر يمكن أن تساهم في قيامه شعوب تقع خارج المركزية الغربية كما فعلت بعض الدول الأوروبية المهمشة (الاشتراكية سابقًا) وبعض الدول الآسيوية التي فرضت نفسها دوليًا… وكنا قد أدركنا تسارع وتائر التقدم بفعل المستجدات في العالم والفرص المتاحة للانفلات من التبعية قبل عقدين من الزمان حين ذكرنا في أحد كتبنا : “أن انتفاء مركزية هذا العالم ستصبح حقيقة واقعة من حقائق العصر الجديد، لأن العالم اليوم هو عالم متعدد القطبية اقتصاديًا وإن كان أحادي القطبية عسكريًا.. وهذا التفاوت ما بين القوتين الاقتصادية والعسكرية يمثل الحالة الاستثنائية التي لن تستمر طويلاً، فالكتل الاقتصادية تمتلك من التكنولوجيا والإمكانات المادية ما سيمكنها سريعًا من اقتناء الأسلحة المتقدمة لضمان الدفاع عن مصالحها الحيوية.. عند ذلك الوقت سيتوازن الرعب من جديد مما يفتح آفاقًا لتجمعات وتحالفات توفر هامشًا من المناورة والحركة لم يعرفه العرب والمسلمون منذ زمن طويل”.

آن علينا اليوم أن نتساءل: ألم تفرض الصين والهند وغيرهما من القوى الآسيوية نفسها على الخارطة الدولية وبات يحسب لهما ولغيرها ألف حساب كما يقال. وهل بقيت الولايات المتحدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي القوة الوحيدة دوليًا أم أننا نشهد اليوم تفكك وتواري ما سمي بالعالم أحادي القطبية؟. ألم تقف روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وحتى تركيا بوجه الغطرسة الأمريكية، ناهيك عن تصدع الغرب نفسه ببدء افتراق دول الاتحاد الاوروبي مصلحيًا وربما استراتيجيًا في وقت لاحق عن الولايات المتحدة التي استحدثت سياسات طاردة لمبادئ التحالفات الغربية.. لقد ارتكبت الولايات المتحدة عددا من الأخطاء على الساحة الدولية منذ صعود دونالد ترامب للرئاسة حيث جرى الإخلال بالقواعد الحاكمة للنظام الدولي مما شجع على بروز كل من روسيا والصين كقوتين دوليتين تتحديان القوة الأمريكية وتفرضان نفسيهما على مستقبل النظام الدولي.

وفي هذا السياق يرى يان شويتونج عميد معهد العلاقات الدولية في جامعة تسينغ هوا في الصين” أن الهيمنة الأمريكية المؤقتة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة في طريقها إلى الاختفاء وأن الطريق أصبح ممهدا أمام عودة عصر القطبية الثنائية، وأن الانتقال من عصر الأحادية الأمريكية إلى عصر الثنائية القطبية سيشهد اضطرابات، وأنه قد يكون عنيفًا حيث سيضع الصعود الصيني الدولة على مسار تصادمي مع الولايات المتحدة حول العديد من المصالح المتضاربة”.

ولا ريب أن الهند هي الأخرى قوة صاعدة على الساحة الدولية فحسب تقديرات صندوق النقد الدولي تعد الهند الأعلى نموا في الاقتصاد العالمي وهي إحدى القوى الاقتصادية الرئيسية في العالم ومع ذلك يوجد فارق هائل ما بين الناتج المحلي الإجمالي لكل من الولايات المتحدة ( 20,49 تريليون دولار) والصين (13,40 تريليون دولار) والهند (2,71 تريليون دولار).. وتبقى الحقيقة الأكبر هي أن الصعود الهندي يعزز واقع لا قطبية النظام الدولي.

ثانيًا: لقد تراوحت ردود الفعل العربية إزاء العولمة وثورة الهويات، ما بين توجهين: الأول الإدراك الليبرالي لمستجدات العصر ومقتضيات العولمة واندماج الأسواق، والثاني الحذر والريبة منها انطلاقًا من التمسك بالهويات الوطنية ، وفي هذا الشأن يلاحظ الباحث زكي العايدي في كتابه الصادر بالفرنسية بعنوان “نظام عالمي منفلت” وجود توتر بين الدينامية التي تدفع نحو العولمة واندماج الأسواق وبين النزوع نحو الأصالة والتمسك بحقائق الذات والبحث عن المعنى .. فهناك نوع من الانفصال بين “القوة” و “المعنى” تبدو تجسداته واضحة المعالم في ذلك التعارض الحاد بين العولمة وثورة الهويات.. فالتمسك بالهوية والوطن والأمة وبالخصوصية الثقافية والدينية يواجه بنحو حاد مقتضيات العولمة ويقاومها مع أنه في أحد معانيه ثمرة من ثمارها.

تلك وجهة نظر ثقافية مهمة سادت في ذلك الوقت ، بيد أن الكاتب مايكل أوسلفان يرى اليوم أن العولمة أصبحت وراءنا وهناك متغيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية بدأت تتشكل وتعلن عن بروز أقطاب دولية تؤسس لمرحلة ما بعد العولمة وهذه الأقطاب تتمركز حصرًا في ثلاث مناطق : أمريكا، الاتحاد الأوروبي، الصين- وسط آسيا”.

ومن المؤسف أن العولمة التي غادرتنا دون أن نكون فاعلين فيها قد تركت في عالمنا العربي انعكاساتها السلبية . فقد أصبح بإمكاننا أن نرى اليوم تمظهر التوتر الناجم عن ثورة الهويات القومية والدينية والطائفية في مقابل آليات العولمة في صيغ عدة عربيًا منها تفتت الكيانات الوطنية السياسية “الدولة” بفعل تدخلات القوى الدولية والإقليمية، وشيوع جو من الاضطراب والفوضى الأمنية والفكرية.. وهو ما حدث في حالة العراق واليمن وليبيا. ومن الواضح أن ذلك نتج عن حقيقة أن المركز الرأسمالي الأمريكي امتلك دون منافس كل أوراق اللعبة الدولية من مؤسسات القوة الاقتصادية والمالية إلى مؤسسات صناعة الرأي العام العالمي وتوجيه الإعلام وبالتالي صناعة القرار الدولي، فتمكن بقوته هذه من الهيمنة على الساحة الدولية، وفرض ما أطلق عليه “الفوضى الخلاقة”. ولكن بعودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الإقليمية والدولية وقوة الاقتصاد الصيني وتأثيراته السياسية والتنافسية وارتفاع معدلات النمو الهندي وأولوياته، والبعد التدريجي للاتحاد الأوروبي عن أمريكا تتفتح من جديد العديد من الأبواب في النظام الدولي تسمح بمرور العديد من القوى الدولية المحدودة والإقليمية.

ثالثًا : تواري الأيديولوجيات : ومن الواضح أن الصراع على الساحة الدولية لم يعد كما كان بين الشيوعية والرأسمالية، ومن الملاحظ أن القبضة الأمريكية على الغرب ليست بنفس قوتها الماضية، كما أن معارضتها ومجابهة تحدياتها ليست كسابق العهد أيديولوجية أو أنها عالم ثالثية فحسب، إنها معارضة من داخل معسكر الغرب نفسه ومن خارج معسكره أيضًا.. وهي منافسة بين كتل اقتصادية وحضارية عديدة تقف على أرضية الليبرالية الاقتصادية وتستخدم معايير السوق التوسعية والمنافسة التجارية وثورة المعلومات وتختلف معها في أنظمتها المعيارية والثقافية والحضارية وهذا التعدد في الأبعاد يفرض أولويات دولية مغايرة لما سبق أن خبرناه ، كما يحمل العديد من المفاجئات.

رابعًا : هناك حقيقتان اتسمت بهما العشرينيتان الماضيتان : الأولى تصدر العوامل الثقافية في إدارة العلاقات الدولية حتى أصبح من العسير فصل الاستراتيجية السياسية عن الثقافة، فلا يخلو اتفاق أو بروتوكول أو معاهدة اليوم من الإشارة إلى أهمية العوامل الثقافية .. ومن يطلع على الاتفاقية الأوروبية “ماستريش” أو اتفاقات الشراكة المتوسطية أو الشرق أوسطية ، حتى الاتفاقات ذات الطابع التجاري البحت “الجات” و “نافتا” و “آسيان” وذات الطابع السياسي والأمني مثل الاتفاقات العربية الإسرائيلية سيلحظ المكانة المتميزة للعامل الثقافي ولأهمية التطبيع وتغيير الأسس المعرفية والتعليمية كقاعدة لهذه الاتفاقات الاقتصادية أو السياسية أو الاستراتيجية. وقد أثبت اتساع حدة العمليات الإرهابية وانتشارها في العقد الأخير جدارة الرأي الذي يقول بأهمية محاربة الإرهاب وكل أنواع التطرف ثقافيًا بالدرجة الأولى وليس فقط أمنيًا أو عسكريًا. والحقيقة الثانية أن ثورة المعلومات قد هيأت بشكل لم يسبق له مثيل وعيًا ثقافيًا عالميًا يجمع بين الروحانيات والماديات، على أمل أن يعيد للأولى مكانتها التاريخية في حياة الشعوب ويحجم الثانية في حدود توازنها مع الأولى، وقد اتضح أن التوازن المطلوب عسير، والتطرف يسير . وعلى صعيد آخر أدت الثورة المعلوماتية إلى استحداث نوع جديد من الحروب أطلق عليها الحرب السيبرانية التي تقوم بها قوى خفية غير معلنة وتشن هجومًا إلكترونيًا عبر الإنترنت على الخصم تسمم مخزونه المعرفي وتشل قدرته على الحركة.. إن هذه الحرب “العسكرية” تتضمن استخدام الطاقة الكهرومغناطيسية للتحكم في مترتبات الهجوم. وقد مارست إيران مؤخرًا مثل هذه الحرب الألكترونية ضد مصالح أمريكية وسعودية.. فهل يتيح مجتمع المعلومات فرصة للعرب للمساهمة الفعالة في صناعة المعلومة وبثها عبر الشبكات الدولية دون عوائق وهل يمكن للعرب القيام بعمليات دفاع سيبرانية وربما هجوم ألكتروني عند الضرورة ؟ أسئلة تجد أجوبتها في المساعي العربية الجدية التي تجعلها تساهم بنحو فعال في إنتاج المعلومة بدلاً من الاكتفاء باستهلاكها ومن ثم القدرة على استخدامها في العمليات الدفاعية والهجومية .

 تلك هي الملامح الأساسية الظاهرة لوضعية العرب في النظام الإقليمي والدولي وما كان خافيًا أعظم بطبيعة الحال.. نذكرها مع التحذير من استمرار غياب التخطيط السياسي والاقتصادي المستقبلي في أغلب الدول العربية . وإذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، فإن القوى الكبرى في النظام الدولي لن تكتفي بالتفرج على صراعاتنا واختلافاتنا دون أن تتدخل فتزيد في وتيرتها تحقيقا لمصالحها ..

 إن توديع نظام دولي تقادم كنا أحد ضحاياه لا يبشر باستقبال نظام آخر لم نساهم بصناعته ، فنحن إلى يومنا هذا خارج ساحة التفاعل الدولية ..فربما يكون النظام الجديد أخطر من سابقه وهو ما يؤكده باحث سياسي مرموق حين يقول إن النظام الجديد ” أخطر بكثير من النظام الدولي الذي سبقه في القرن العشرين، وإذا كان هذا الأخير قد نجح في تجزئة القوميات في العالم، وتكوين الدول والكيانات السياسية في آسيا وإفريقيا وشرق أوروبا وأميركا الجنوبية على أساس وطني أو إقليمي، فإنّ النظام الدولي الحالي سيعمل على اختراق تلك القوميات، وسيقوم بتفتيت بعض الدول والكيانات، بحيث لن تقارن النتائج التي أسفر عنها مؤتمر الصلح في باريس في العام 1919، بما سيحدثه هذا النظام من عمليات اختراق وافتعال أزمات وولادة دويلات في ظل سيادة تحالفات وتحكّم قوى جديدة.

 تلك هي إحدى الصور المقلقة لمستقبل دولنا العربية في ظل النظام الدولي الجديد  فماذا أعددنا لكي نواجه مثل هذه المخاطر إن وقعت ؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى