2019العدد 180ملف عربي

توغل تركيا في شمال شرق سورية وتداعياتها على التسوية السياسية السورية

أطلقت تركيا يوم 9/10/2019 عملية عسكرية واسعة النطاق في شمال سورية تحت اسم “نبع السلام” تستهدف مناطق سيطرة قوات سورية الديموقراطية “قسد”، وهذا التوغل في الجغرافيا السياسية السورية، جاء في وقت كانت التسوية السياسية  السورية تشق طريقها، وإن بصعوبة، لا سيما بعد تشكيل اللجنة الدستورية، والتحرك لاحتواء آخر معقل للتنظيمات الإرهابية في إدلب. فما هي دوافع هذه العملية؟ وتأثيرها على جهود التسوية السياسية؟

ونظرا لضيق المجال، سنتناول هذا الموضوع في جزأين الأول: نبحث فيه عن دوافع وأهداف تركيا من عملية “نبع السلام” والثاني: يتعلق بتأثير عملية “نبع السلام” على مسار التسوية السياسية السورية.

أولاً: دوافع وأهداف تركيا من عملية “نبع السلام”

تركز تركيا على أن الهدف الرئيسي المعلن لهذه العملية هو “القضاء على تهديدات قوات سورية الديموقراطية “قسد”، ولضمان عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم بفضل المنطقة الآمنة التي ستنشئها تركيا عبر هذه العملية”، ونعتقد أن المسألة الكردية لها بعد داخلي أساسي يرتبط بالهوية التركية كما لها دوافع خارجية ، لكن البعد الغالب فيها – في تقديرنا – هو الداخلي، وفي مقدمته طموحات أردوغان الشخصية لتولي قيادة المنطقة العربية والتي لو تحقق ذلك – في تقديره – ستصبح تركيا قطبا إقليميا / دوليا.

1-البعد الداخلي للمسألة الكردية

“إن للوسواس التركي تجاه الأكراد له جذوره الممتدة منذ الحقبة العثمانية، عندما خالجت شكوك ومخاوف السلاطين العثمانيين تجاه رعاياهم الأكراد غير المتنامين مع الهوية التركية، فأثناء الحرب العالمية الأولى عقد العثمانيون تحالفا تكتيكيا مع الأكراد لمواجهة التمرد الأرمني. وفي الوقت الذي عمل فيه  كمال أتاتورك على التخلص من الكلمات العربية والفارسية، وبدأ كتابة  اللغة التركية بأحرف لاتينية، ووجد الأكراد، فضلاً عن جانب من الأتراك صعوبة في قراءة اللغة التركية الجديدة، وفضلوا التمسك بواحدة من لغاتهم الكردية الأصلية، ورأت السلطة التركية في ذلك فكرا قوميا كرديا متطرفا، بدلاً من أن ترى فيه عامل إثراء ثقافي واجتماعي، وفضل الأكراد بدورهم أن يظلوا “الآخر” ورفضوا عمليات التَتريك الممنهج… ولذلك صُنفوا في تركيا كأعداء ونفي وجود ما يسمى بـ “شعب كردي”، واستبدلوا ذلك بمصطلح “أتراك الجبال”. وبدأت سلسلة عمليات التمييز ضد “الأكراد”، والتعامل مع القضية التركية من منظور الأمن القومي ومكافحة الإرهاب وأصبحت الحكومة التركية تربط بصورة مباشرة بين الهوية الكردية وإرهاب حزب العمال الكردستاني.

مكمن المخاوف التركية الحالية تأتي من استكمال الأكراد السوريين مشروعهم في الإدارة الذاتية لمناطقهم – أنهم ربما يقتربون بمقتضى نتائج مسارات الصراع بين النظام السوري والمعارضة –لإقامة كيان كردي شمال سورية على طول الحدود الجنوبية التركية. هذا الكيان من المفترض أنه سيضم الكانتونات الكردية السورية الثلاثة (الحسكة، وعين العرب “كوباني”، وعفرين) وهو ما اعتبرته تركيا تهديدا مباشرا لأمنها القومي. وبالتالي اختارت قطع تواصل المشروع الكردي، عبر الحيلولة دون ربط الكانتونات الكردية المذكورة مع بعضها البعض، لما يفرضه استقلال الأكراد السوريين من تداعيات على تطلعات القومية الكردية التركية، سواء بالانفصال في دولة كردية أو بعلاقة ارتباط فيدرالية يتمتع خلالها الأكراد بنوع من الحكم الذاتي، ألا يشكل ذلك خرقا للسيادة السورية وتدخلا سافرا في الشأن الداخلي لسوريا.

وتجدر الإشارة هنا أنه بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة منذ عام 2003، أصبح الموقف التركي من القضية الكردية أكثر انفتاحا وأكثر استعدادا لاستيعاب الأكراد في الجسم التركي، وقام البرلمان التركي بإقرار العديد من الإصلاحات التي كانت تعتبر بداية حل للقضية الكردية وبحلول عام 2005 أقر رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان بارتكاب الدولة التركية أخطاءً في التعامل مع الملف الكردي، وسمح للأكراد بتأسيس معاهد للغات الكردية وأظهر حزب العدالة والتنمية تصورا مختلفا مع المسألة الكردية. ولكن بعد رفض حزب (PKK) الاستجابة لنداء إلغاء السلاح ونبذ العنف، أصبح “حزب العدالة والتنمية” لا يختلف موقفه وتشدده عن موقف باقي الأحزاب التركية.

نلخص مما تقدم أن المسألة الكردية هي مسألة محلية وداخلية بالدرجة الأولى وأراد أردوغان تصديرها للخارج وحلها يجب أن يبدأ من الداخل التركي، وليس بنقلها لدول الجوار وبصفة خاصة سوريا.

2-طموحات أردوغان الشخصية

استهدفت القيادة التركية المنطقة العربية في ظل متاهة “الربيع العربي” ومآلاته، وانشغال معظم دولها بهمومها الداخلية الثقيلة، ورأى القادة الأتراك أن بلدهم مؤهل للقيادة في هذه المنطقة وبسبب شعورهم بفائض القوة العسكرية والاقتصادية التي تحوزه بلدهم مرحليا فقامت في البداية بانتهاج سياسة جديدة فيها، “سياسة تصفير النزاعات”، لكن الإشكال الأساسي لتركيا أن إرثها ورصيدها في المنطقة لم يكن بالضرورة إيجابيا. فالعرب يرون فيها مستعمرا حَكمهم بالبطش والتعسف لمدة خمسة قرون تعرضوا خلالها للتجريف الثقافي والمهني.

يضاف إلى ما تقدم أن القيادة التركية لم تستطع إخفاء أطماعها، فأحمد داوود أوغلو وقت أن كان رئيسا للوزراء أوضح “أن فكر الشرق الأوسط الجديد سترسمه تركيا وتقوده إلى التغيير”. فأحمد أوغلو وقت أن كان وزيرا للخارجية، أفصح عن هذا الطموح في مقابلة مع جاكسون ديهيل، بـ”الوشنطن بوست” بقوله “إذا كان لدى بريطانيا كومنولث، فلماذا لا يكون لتركيا بالمقابل أن تعيد بناء قيادتها داخل الأراضي العثمانية السابقة”.. ووفق هذا المنظور وجدت القيادة التركية أن العلاقة مع سورية تتسم بأهمية خاصة في مخططها تجاه الشرق الأوسط وتوازناتها، وأن سورية تمثل البوابة الرئيسية ومفاتيحها للتغلغل في المنطقة العربية. والأدبيات التركية المعلنة لم تكن تخفي الطموح التركي إلى زعامة المنطقة العربية لما طرأ عليها من متغيرات، وفي مقدمتها الصعود المرحلي للتيار الإسلامي في بعض الدول العربية مما قد يجعل تلاقي الحكم الإسلامي مع الحكم العثماني يقترب من التحقق. ولكن الحلم التركي تعثر ومشروع أردوغان في المنطقة العربية الذي بدأ ورديا عندما تبنى سياسة كان مهندسها وزير الخارجية وقتها أحمد أوغلو ونظريته للعمق الاستراتيجي وتصفير النزاعات، انتهى رماديا. فقد أصيب بالعديد من الإخفاقات، بدأت في استغلال الإسلام السياسي لتغطية طموحاته ولم يحقق النجاح المنشود، لا سيما بسبب الموقف السوري المعروف من الإخوان المسلمين، وفشلت الجهود التركية في إقناع النظام السوري في إتاحة المجال لمشاركتهم في الحكم في بدايات الحركة الاحتجاجية عام 2011 إضافة إلى إسقاط حكم الإخوان في مصر وتغير العلاقات بين تركيا وعدد من الدول العربية لهذا السبب من صفر مشاكل إلى صفر علاقات.

3-تراجع شعبية أردوغان

نعتقد أن حل لغز وإقدام أردوغان على التوغل العسكري في الأراضي السورية، يتلخص في عبارة واحدة هي “بداية أفول نظام أردوغان” ويتمثل ذلك في عدد من المؤشرات من بينها الانقسامات داخل حزبه، وتشكيل بعض أنصاره لأحزاب معارضة، وخسارة حزب العدالة والتنمية لنتائج الانتخابات  البلدية في استنبول وأنقرة وغيرهما. وفي تقدير أحد المراكز البحثية أن خسائر “حزب العدالة والتنمية” لعدد من البلديات الكبرى على هذا النحو، يعد مؤشرا على تراجع الحزب ورئيسه أردوغان بما يحمله ذلك من احتمالية خسارته لاستحقاقات الانتخابية في 2023 وفضلاً عن محاولة الانقلاب العسكري 2016 الذي مازال تداعياته مستمرة فحكومة “العدالة والتنمية” تقوم بين الحين والآخر باعتقال المئات من أفراد الجيش للاشتباه في صلاتهم بشبكة المعارض فتح الله جولن (المقيم في الولايات المتحدة منذ سنوات ورفضت واشنطن تسليمه لأنقرة حتى الآن) وهو متهم بتدبير الانقلاب الفاشل ،فضلاً عن اعتقال أكثر من 77 ألف شخص ينتظرون محاكمتهم.

كما أقالت نحو 150 ألفا من موظفي الحكومة بتهمة الاشتباه في ضلوعهم في هذا الانقلاب وهو ما أضعف حكومة أردوغان على المستوى الشعبي وأراد أردوغان بشن عملية “نبع السلام” بهدف استيعاب أزمته الداخلية واستعادة جانب من شعبيته. وأظن أنه ورط نفسه في المستنقع السوري، وسيخرج منه بأسوأ النتائج.

والملفت للنظر أن الأطماع التركية في الأراضي السورية وغيرها، تعود إلى ما يردده بعض الساسة الأتراك، من أن سياسة تركيا تجاه دول الجوار تستهدف محاولة استعادة السيطرة على المناطق التي أخضعت للدولة العثمانية منذ عقود سابقة، والإشارة إلى هذه المناطق ضمن حدود  الميثاق الوطني لتركيا الذي تبناه البرلمان عام 1920.

ونظن أن حد تطبيقاته الأولى جاء في عملية “نبع السلام”، لضعف الوضع العام في سوريا لاستمرار الحرب لأكثر من ثمان سنوات واعتقدت القيادة التركية أنه من السهل اختراقه.

ثانياً: تأثير عملية “نبع السلام” على مسار التسوية السياسية السعودية

أحدثت عملية “نبع السلام” ارتدادات” على الوضع الداخلي السوري العام وعلى مواقف مختلف الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة.

1-  موقف النظام السوري من عملية “نبع السلام”

ينظر النظام السوري للوجود التركي في الأراضي السورية، على أنه وجود غير شرعي ويمثل انتهاكا صارخا للسيادة السورية. بقيام تركيا بعملية “نبع السلام” أصبحت طرفا مباشرا في الحرب السورية واكتسبت صفة القوة الغازية بجانب قيامها بالحرب بالوكالة، مما يهدد بإشعال المزيد من الصراعات في شرق سوريا وشمالها، ويعرقل بالتالي مسار التسوية السياسية في سورية بعد تشكيل اللجنة الدستورية والتي تهدف إلى تعزيز جهود الحل السياسي. والغزو التركي يعيد مسار هذه التسوية إلى المربع رقم واحد مجددا.

وحتى الآن مازال الأكراد السوريون مترددين في قبول عروض النظام السوري بالعودة إلى الحضن السوري، لأن ذلك يدعم موقعه السياسي والتفاوضي في مواجهة قوى المعارضة التي تحتضنها تركيا. ويجد الأكراد السوريون أنفسهم في وضع في غاية الصعوبة فهم محاصرون وسط جبهتين، الأول تركيا التي تسعى للقضاء عليهم، والثاني النظام السوري، الذي مازال مترددا في منحهم باقي حقوقهم. وإضافة لذلك فهم يعانون من خذلان ترامب لهم، ويرون أنه أعطى الضوء الأخضر لانطلاق عملية “نبع السلام”.

2- تحلل تركيا من التزاماتها المتعلقة بإدلب

طبقا لمحادثات “أستانا” في 3/5/2017، تم الاتفاق – كما هو معروف- على وجود أربع مناطق سميت بمناطق “خفض التصعيد” في سورية، أشرفت عليها كل من روسيا وتركيا وإيران، وكان هدف هذه المباحثات تهدئة التوترات بين النظام السوري والمعارضة، وتوفير ممرات إنسانية للمدنيين، ووضع الأساس لنهاية سلمية للحرب السورية. وتعتبر منطقة إدلب بمنزلة نقطة تجمع لما تبقى من مقاتلي المعارضة السوريين والمعتدلين والمتشددين على حد سواء، وتضم قرابة 70 ألف مقاتل من مختلف الجماعات المسلحة،  والتي كانت تشكل تحديا كبيرا للنظام السوري بسبب الدعم التركي لها. وبموجب هذا الاتفاق كان سيتم إنشاء منطقة منزوعة السلاح بحلول 15/10/2018 بين المعارضة السورية في إدلب والقوات السورية النظامية ولاقى هذا الاتفاق في حينه ترحيبا من مختلف الأطراف لكونه سيجنب سكانها (قرابة ثلاثة ملايين) كارثة إنسانية.

وتعهدت تركيا بإخراج جميع الفصائل الجهادية من إدلب، والتي تعتبر بمثابة “الخزان” الذي استوعب كافة مخرجات الصراع خلال الأعوام الماضية، خاصة مع النظام السوري، الذي كان يعتبر إنهاء مسألة إدلب المرحلة الأخيرة التي يتعين حسمها كخاتمة للصراع المسلح. وبعد قيام تركيا  بعملية “نبع السلام” في منطقة شمال شرق سورية، فإن ذلك عقد المشهد العسكري والسياسي في إدلب لا سيما وأن تركيا لم تقم بإخراج الجماعات الجهادية منها، وربما كان ذلك أحد الأهداف التركية بقيامها بعملية “نبع السلام” للتحلل من تعهدها والتزامها السابق في هذا الشأن وإعادة الملف السوري إلى نقطة الصفر. خصوصا بعد استيلاء “جيش الفتح” على إدلب بالكامل واعتبرت تركيا ذلك انتصارا شعبيا ضد نظام مستبد.

3- تغيير التركيبة السكانية قسرا

تمثل مشكلة اللاجئين السوريين أزمة حقيقية للعديد من دول المنطقة، لما فرضته من ضغوط اقتصادية وأمنية وسياسية، وقد عملت تركيا على توظيف تلك القضية الإنسانية لتحقيق مصالحها السياسية، والاقتصادية والأمنية، وزيادة وزنها النسبي في التفاعلات الإقليمية والدولية. وفي هذا السياق، تقدم تركيا نموذجا لهذا التوظيف، من ذلك مثلا استثمار الأهمية التركية في هذا الشأن، كورقة للتفاوض للانضمام للاتحاد الأوروبي، بخلاف طلب متواصل للمساعدات المالية مقابل منع تدفق اللاجئين لدول الاتحاد الأوروبي.

ولكن الجانب الأخطر في تعامل تركيا مع اللاجئين وتوظيفهم لأغراض سياسية، هو إعلانها أن بين أهداف عملية “نبع السلام” إنشاء منطقة آمنة”، سيتم نقل مليوني لاجئ سوري إليها، إلى مناطق سكنية، والتي لم يكن أغلبهم يسكنون فيها من قبل، الأمر الذي سيخلق أزمات ومشاكل بين السوريين من خلال عملية تغيير التركيبة السكانية، على نحو قيام عناصر الفصائل الموالية لتركيا مثلاً بتوطين عائلاتها بمنازل المدنيين في منطقة رأس العين بعد أن فر أصحاب تلك المنازل هربا من العملية العسكرية التركية. وقد تم القيام بعمليات مماثلة في مدينة تل أبيض من خلال توطين عائلات في منازل المهجرين قسرا. وهدف تركيا من تغيير التركيبة السكانية في منطقة الحدود الملاصقة لها إبعاد الأكراد عنها (الأهرام 17/11/2019) خاصة بعد نجاح الأكراد في استعادة السيطرة على معظم مدن الشمال السوري وعلى رأسها تل أبيض وعين العرب.

وتبقى ملاحظة أن ظاهرة التغيير القسري للتركيبة السكانية ليست قاصرة على ما تقوم به تركيا، فجميع الأطراف الإقليمية، الدولية المتورطة في الصراع العسكري في سوريا تساهم في مثل هذه العمليات رغم أنها تندرج ضمن الجرائم التي نصت عليها المادة 7 من قانون المحكمة الجنائية الدولية غير أن تركيا تضم أكبر عدد من اللاجئين وينبغي التهيئة المسبقة لمناطق العودة بإعادة إعمارها وتوفير متطلبات البنية التحتية، وما يتطلبه ذلك من ضرورة التنسيق مع النظام السوري.

وإذا كان أردوغان قد أعلن أن أحد أهداف الحملة العسكرية “لنبع السلام” إعادة اللاجئين السورين من تركيا إلى بلدهم، فقد ترتب على هذه الحملة نزوع أكثر من 300 ألف سوري حتى تاريخه.

4-إقامة “المنطقة الآمنة” تثير توترات أمنية وسياسية

في إطار حملات الترويج التركية لعملية “نبع السلام” قولها إنها تسعى لإقامة “منطقة آمنة” لإيواء اللاجئين السوريين بدلاً من الهجرة للغرب، ودون توضيح ما الذي من شأنه أن يجعل المنطقة الآمنة “آمنة” أي ما آليات تنفيذ ذلك. وهل ستتطلب ذلك إمكانية فرض منطقة حظر جوي تشارك في إقامتها الولايات المتحدة والناتو مثلاً، علما بأن فرض حظر جوي يتطلب حشد مئات الطائرات المتمركزة على الأرض بالإضافة لاستخبارات والدعم الحربي الإلكتروني بتكلفة تصل إلى مليار دولار في الشهر الواحد.

وتتعجل أنقرة في إقامة هذه المنطقة الآمنة وفقا للشروط التي تتبناها، وقامت بعمليات حفر في بعض المناطق وإزالة  بعض الأجزاء في الساتر الحدودي في مناطق أخرى، في وقت تغيب فيه ضمانات حماية الأكراد، الذين راهنوا على الدور الأمريكي الذي يبدو أنه سيتخاذل في الدفاع عنهم رغم ما قاموا به من دور مشهود في مواجهة تنظيم داعش. فواشنطن يبدو أنها لا ترغب في التصعيد مع أنقرة في ظل التوترات القائمة بينهما وفي مقدمة أسبابها صفقة صواريخ “400S” الروسية، وهناك أسباب أخرى تحول دون تقليص مساحة الخلافات بين الجانبين، وفي وقت مازالت السياسة الأمريكية تناور في المنطقة الرمادية بشأن إعادة هيكلة الوجود العسكري الأمريكي في سوريا.

ولم يكن مستغربا أن يعلن النظام السوري أن هدف تركيا من إقامة منطقة آمنة، مزيد من احتلال الأراضي السورية مما يتناقض مع أبسط مبادئ القانون الدولي، وأن سورية مصممة على الدفاع عن شعبها وسيادتها ضد أي شكل من أشكال العدوان. وسبق لوزير الخارجية السوري وليد المعلم أن طالب في الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2019) “بانسحاب فوري لجميع القوات الأجنبية “غير المفوضة” من بلاده، وأن الولايات المتحدة وتركيا تبقيان على وجود عسكري غير قانوني في شمال سورية، وأن أي قوات أجنبية تعمل في الأراضي السورية بدون تفويض هي قوات محتلة ويجب أن تنسحب على الفور.

ويلاحظ أن تركيا تعلن أنها تريد إقامة “منطقة آمنة” على حدودها مع سوريا بحيث تكون هي وحدها فيها، ولكن لا بأس من وجود دعم لوجيستي من الحلفاء. وتتمسك تركيا بعمق ما بين 30 و 40 كيلو مترا وعرض 480 كيلومترات انطلاقا من حدودها مع سورية وصولاً إلى حدود العراق من أجل إبعاد وحدات حماية الشعب الكردي وأن تكون لها السيطرة المطلقة على هذه المنطقة الشاسعة، وهو ما ترفضه واشنطن والتي تتمسك بضمانات لحماية الوحدات الكردية، وبأن يترواح عمق المنطقة الآمنة ما بين 5 و 14 كيلومترا في بعض المناطق وعلى امتداد 140 كيلومترا على طول الحدود التركية السورية.

وتشير رؤية تركيا لعمق “المنطقة الآمنة” إلى أنها لن تكتف فقط في هذه المنطقة، بإبعاد سيطرة الأكراد عن منطقة الحدود التركية، بل في خلفيتها ملف التغيير الديموغرافي في مناطق شمال وشرق الفرات، بل تسعى للسيطرة الدائمة على جزء منها أو كلها.

ولا شك أن إقامة “منطقة آمنة” وفق المواصفات والأهداف التركية، سيغير من المعطيات السياسية والعسكرية القائمة في الساحة السورية وسيعيد الملف السوري بمجمله إلى المربع رقم واحد، كما سبق القول.

الختام

  • إن قيام تركيا بهذا التوغل الواسع النطاق في الأراضي السورية سيكون له ارتدادات على مسار التسوية السياسية السورية، ويعرقل من تطورها الإيجابي، ويجعل بعض الأطراف تعيد النظر في مواقفها الحالية، وفق تراتب جديد للمصالح والأوزان، وربما وجد أردوغان بأن القضية السورية قاربت من حالة التسوية، فأراد إيقاف هذا التطور.
  • من المرجح أن تكون لعملية “نبع السلام” تداعياتها السلبية على الداخل التركي، خصوصا مع حالة تراجع الاقتصاد التركي، وستجد تركيا نفسها مطالبة بتوفير الخدمات الإدارية والموارد الاقتصادية لسكان منطقة بهذا الحجم وما يمثله ذلك من تكاليف وأعباء.
  • كما أن المواقف التركية تثير في المناطق السورية أسبابا ودوافع حركة لقيام حركات للمقاومة تستهدف القوات التركية الغازية. ويبدو أن تركيا لم تستوعب ما عانته قوات الولايات المتحدة من المقاومة العراقية.

إن تركيا مطالبة بإعادة النظر في المسألة الكردية والتركيز على حلها في أراضيها برؤية أكثر انفتاحا وواقعية وتسامحا، فذلك قدر الجغرافيا سواء أكان ذلك نقمة أم نعمة؛ فالتسامح يفتح ألف باب للتعايش، والكراهية لا تمثل سوى باب واحد مغلق.

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى