2020العدد 182مقال رئيس التحرير السفير/ سعيد رفعت

جائحة كورونا وتداعياتها السياسية دوليا وإقليميا وعربيا

لأن الوباء انطلق من دولة كبرى تتمتع بمكانة دولية متصاعدة، ولأنه انتشر منها إلى كافة أنحاء العالم بسرعة مذهلة يصعب تتبعها، ولأنه كان عصيا على التشخيص والمتابعة والعلاج لقدرته على التحول والتحور المفاجئ في ظروف غامضة. ولأنه حصد من الأرواح على مستوى العالم ما لا يمكن مقارنته في الخسائر البشرية إلا بالكوارث الكبرى في التاريخ الإنساني، ولأن انتشاره قد كشف ضعف أداء الدول الكبرى، وعدم استعداد أنظمتها السياسية ونظمها الصحية لمواجهة مثل هذا النوع من الكوارث الوبائية الكاسحة، ولأن ما عكسته ظروف انتشار الوباء على سياسات هذه الدول من رعونة في القرارات، وأنانية في احترام الالتزامات تجاه الحلفاء. فضلا عما كشفته من منافسات غير صحية، ومحاولات لتسييس جهود مكافحة الوباء بين الدول المختلفة سياسيا وايدليولوجيا.

لذلك، فقد كان من الطبيعي أن يكون لانتشار هذا الوباء، الذي أخذ شكل الهجوم التسونامي الكاسح، وتحول في غضون أيام قليلة من جداول حسابية إلى متتاليات هندسية، أصداء عالمية ضخمة ومؤثرة، وتداعيات سياسية عميقة، خاصة فيما أظهرته وسائل مقاومته من وجود نموذجين يمثلان أسلوبين في الحكم بين دول مركزية تتمتع بقدرات خاصة في حشد الجهود وتجميع الطاقات، ومواجهة الوباء من خلال سياسيات الحصار والمراقبة والتتبع. وهي سياسيات قد تكون نجحت في الحد من انتشار الوباء والحفاظ على حياة المواطنين، إلا أنها اتسمت بقيود اجتماعية ضاغطة، واتباع أساليب الإجبار والقمع وتقييد الحريات. ودول ليبرالية تفضل تطبيق سياسيات التخفيف، والتدرج، وتسطيح المنحنى، والسماح بقدر محكوم من حرية الحركة والتعامل اعتمادا على وعي المواطنين. وهي سياسات من شأنها انعاش متطلبات الحياة، وإحياء الاقتصاد، إلا أنها تهدد -في المقابل- بتصاعد احتمالات انتشار الوباء وتمكينه من الدخول في موجات جديدة ربما بمعدلات أكثر خطورة وأشد قسوة.

هذا فضلا عما أظهرته تطورات الوباء من آثار سياسية بعيدة المدى أهمها سقوط ما يسمي “بالدولة النموذج” في قيادة المجتمع الدولي وإدارة الأزمات العالمية. وهو ما أظهره فشل السياسات الأمريكية في إدارة الأزمة الوبائية على أراضيها، رغم انكفاء سياساتها على الداخل، وعزوفها عن مساندة حلفائها على المستوي الأوروبي والأطلنطي لمواجهة الوباء. فضلا عما أظهرته الجائحة من ضعف دور النظام الدولي وتفكك دعائمه، وضعف قدراته وعجزه على القيام بأية جهود جماعيه لمكافحة الوباء، وهو الأمر الذي وضحت دلالاته في فشل مجلس الأمن في الخروج بنتائج حاسمة في شهر مارس الماضي لإيجاد علاج جماعي للوباء. وهو ما ينطبق -ربما بقدر أقل – على موقف الاتحاد الأوروبي الذي شهد عزوفا جماعيا عن التعاون المشترك لمكافحة الوباء، وكشف عن اتجاه كل دولة في الاستقلال بأساليبها الخاصة في المكافحة، وإن كانت الفترة الأخيرة قد شهدت مبادرات خجولة لتحريك مؤسسات الإتحاد الأوروبي بهدف إعادة التضامن لمواجهة الوباء.

كما أدى انتشار الوباء – من ناحيه أخري- إلى تداعيات على اتجاهات العولمة، نتيجة ما فرضته متطلبات مواجهته من مفاهيم تتعارض مع مبادئها. ومنها تصاعد دور الدولة الإقليمية في مواجهة الوباء، وتحكم السلطة التنفيذية في أساليب وأدوات هذه المواجهة، وغلبة السيطرة الحكومية على نظم الرعاية الصحية، والاستعانة بقدرات القوات المسلحة التنظيمية والصحية في مكافحة الوباء.

هذا إضافة الى انعكاسات الوباء على نفسية المجتمعات ومعنويات الشعوب، نتيجة ما فرضته من عزل ذاتي، وحجر صحي، وتباعد اجتماعي، فضلا عن إجراءات التباعد الدولي بفرض الحظر على السفر بين الدول، وسحب المواطنين من الدول العالقين فيها، والحد من التبادل التجاري، وتقييد تدفق البضائع والسلع، واتباع سياسات اقتصادية ومالية تعتمد على الإمكانات الذاتية والجهود المحلية أكثر من اعتمادها على التعاون بين الدول، وهي أمور قد يكون لها في مجموعها مضاعفات سياسية وتدهورات اقتصادية وتداعيات اجتماعية ونفسية داخلية وخارجية بعيدة المدى إذا استمر تطبيق هذه الإجراءات لفترات طويلة.

ومن هنا ظهرت اتجاهات اتخذت سياسات عملية – وخاصة في بعض الدول الأوروبية والأسيوية – للتعايش مع الوباء، تجمع بين النظامين من حيث التخفيف التدريجي من قيود التحركات الفردية والنشاطات الاقتصادية، تبعا لظروف كل دولة، ومدي انتشار الفيروس فيها وقدرة نظامها الصحي على مواجهته، وذلك في مقابل اتباع أسلوب صارم في تنفيذ التعليمات الصحية وهو أمر تفرضه ضرورات دفع مسارات الحياة بالبلاد، وفتح أبواب العمل والرزق للمواطنين، وإدارة عجلة الاقتصاد. وإن كان هذا النهج يتطلب توافر وعي جماهيري عميق وانضباط سلوكي واخلاقي عال.

v v v

وإذا كان الحدث الرئيس الذي كشفته جائحة كورونا، وكان له صدي كبير على المستوى العالمي، هو صعود الدور الصيني على الساحة الدولية بنجاحها في مواجهة الوباء وتقييد سرعة انتشاره على أراضيها، وبجهودها المكثفة للتوصل إلى علاج لاحتواء مخاطره. فقد أصاب عصبا حساسا في السياسة الأمريكية، وخاصة في ظروف قرب بدأ الحملة الانتخابية الرئاسية في البلاد، مما زاد من قلقها، وأثار غيرتها العلمية، وصعّد من حدة تنافسها مع الصين، وضاعف من تعزيز أوجه الخلافات بينهما، وتسبب في تسييس جهود مكافحة الوباء بين الطرفين، ووصوله الى حد توجيه اتهامات امريكية للصين بمسئوليتها عن التكتم على ظهور الوباء في أراضيها، والتلميح باحتمالات تخليقه داخلها إهمالا أم عمدا. وهو الأمر الذي ظهرت انعكاساته في الموقف الأمريكي من منظمة الصحة العالمية بإيقاف التعامل الأمريكي معها ووقف الدعم لها بادعاء انحيازها لموقف الصين. وفى قيامها بعرقلة التصويت علي قرار في مجلس الأمن يدعو لوقف إطلاق النار في العالم لإصرارها على وصف كورونا في القرار بالوباء الصيني.

وإذا كان نجاح التجربة الصينية في مكافحة الوباء، وتخفيف درجة انتشاره، قد أثبتت فعالية أسلوبها في الحظر والحجر وهو الأمر الذي حسمت معظم الدول خيارها بشأنه بالسير على خطى النهج الصيني، في مقابل سياسة ترك الفيروس للانتشار حتى يكتسب المجتمع ما يسمي بمناعة القطيع، إلا أنّ الواضح من تطورات انتشار الوباء ووسائل مكافحته، الأهمية الكبرى التي تعلقها الأوساط العلمية على التعاون الدولي في مواجهته عبر نشر المعرفة، وتبادل المعلومات، والمشاركة في نتائج التجارب والاختبارات، وإشراك المجتمع الدولي بمنظماته المتخصصة في جهود مكافحته، وهو ما يُظهِر خطورة الاتجاه المعاكس الذي يتمثل في الاتهامات الأمريكية للصين- التي يبدو أنها ستمثل بؤرة التركيز في الحملة الانتخابية القادمة للرئيس الأمريكي – بتسييس أزمة كورونا عبر إظهار الصين بإتباع سياسة التستر والإخفاء والغموض والتركيز على الجهود الوطنية المنفردة للتوصل إلى علاج للوباء يمكّنها من استثماره سياسيا وإعلاميا ومصلحيا لتأكيد نوازع المكانة والهيمنة على الساحة العالمية.

v v v

أما بالنسبة للقول الشائع بأن العالم ما بعد كورونا لن يكون كما كان قبلها، وهو الأمر الذي دفع بعض الأوساط السياسية والأكاديمية النافذة بالوصول في تقديراتها إلى أفاق تكاد تلمس حدود التوظيف السياسي، فقد يكون من المهم في هذا الشأن الإشارة إلى أن الوباء ما زال في مراحله الأولى، ويبدو أنه سيستمر معنا لفترة طويلة قادمة. ومن المتوقع أن يشهد العالم خلالها تطورات عديدة وجديدة ويصعب تحديدها أو توقع مداها وآثارها في الوقت الحالي. الأمر الذي يفرض علينا البُعد ما أمكن عن محاولات التوصل إلى استنتاجات قاطعة او سيناريوهات متكاملة، أو خلاصات نهائية لعالم ما بعد كورونا، سواء فيما يتعلق بالادعاء بتفوق نظام حكم على أخر في مكافحة الوباء، أو التوصل إلى تقديرات وهمية لتشكيل قيادة العالم من خلال عملية “تبديل وإحلال” لدور الدول المهيمنة على الساحة العالمية. أو بتغيير مؤثر في موازين القوى الدولية، أو تبدل التحالفات الإقليمية والدولية بشكل جذري، أو إجراء تغييرات هيكلية في تشكيل النظام الدولي القائم. وذلك لأسباب تعود الى:

أولا: أن توجهات القوي الكبرى تقوم على مرتكزات سياسية واقتصادية وأيدليوجية تعبر عنها إستراتيجيات طويلة الأمد، ومصالح تستند إلى معطيات ممتدة، وعلاقات وتحالفات تغطي الساحة العالمية على اتساعها، ويصعب تغيير منطلقاتها أو تعديل مساراتها تبعا لتطورات طارئة ومؤقتة يمكن احتواءها ثم القضاء عليها آجلا إن لم يكن عاجلا.

ثانيا: صعوبة تغيير النظام الدولي بمقتضياته الراهنة والقائمة على عدم القطبية. وذلك في ضوء تراجع الولايات المتحدة عن دورها القيادي فيه طوعا وقبل انتشار وباء كورونا. فضلا عن محدودية قدرة الصين -في المرحلة الحالية- على ملء الفراغ الناتج عن هذا التراجع، بل وربما رغبتها في تجنب تحمل مسئولية قيادة نظام دولي منهار، في مرحلة شديدة الاضطراب، نتيجة الكوارث التي يمكن أن تخلفها جائحة كورونا. إضافة إلى تركيز روسيا على أولوياتها في تعزيز دورها الدولي في اتجاه تعميق علاقاتها بالصين، وتثبيت مواقعها في أوروبا الشرقية وسوريا. وذلك في الوقت الذي ينسحب فيه الدور الأوروبي نتيجة دخول الإتحاد الأوروبي في حالة مزمنة من الانقسام، وظهوره وكأنه ساحة لاستعراض اللاعبين في تزويده بالمعدات الطبية اللازمة لمكافحة الوباء.

ثالثا: الطبيعة الكونية لوباء كورونا من حيث طريقة ظهوره وأسلوب انتشاره في كل دول العالم دون تمييز بين دول غربية أو شرقية، ليبرالية أو مركزية، متقدمة أو نامية. إذ أصبح الأمر يتطلب حشد كافة الجهود والإمكانات والعقول لمواجهته، خاصة وأن فعالية هذه المواجهة تتوقف على امتلاك القدرات العلمية والطبية والتكنولوجية، والإمكانات التنظيمية وتوافر إرادة التعاون المشترك مع المجتمع الدولي. وهو تعاون يتصل بتقنيات العلم أكثر مما يتعلق بمقتضيات السياسة.

رابعا: أن التجارب السابقة في الأزمات الكبرى على الساحة العالمية قد أثبتت أنه بعد انتهاء مرحلة الأزمة، فإن الدول عادة لا تجد وقتا للتوقف وتعلم الدروس المستفادة، وتغيير المعطيات القائمة. ولكنها تنكفئ على داخلها، وتنشغل بترميم خسائرها، وتأهيل اقتصادها، وبذل جهودها لإعادة الحياة في البلاد إلى طبيعتها، وذلك تهيئة لمواصلة رحلتها في استعادة قدرتها لتحقيق أهدافها والعودة إلى مساراتها المعهودة.

v v v

لذلك، فإن المعتقد أنه بعد انتهاء جائحة كورونا، فإن العالم سيعاود مسيرته السياسية في اتجاهه الحالي نحو عالم متعدد الأقطاب، وأن أهم ما قد يشهده من تغييرات في هذا الشأن هو زيادة التوجهات الأمريكية الإنعزالية، وتصاعد خلافها مع الصين وإطلاق العنان لكافة عوامل المنافسة الكامنة بينهما، فضلا عن توسيع فجوة عدم الثقة بين أمريكا وروسيا، وزيادة الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، وتصاعد تآكل الثقة في مؤسسات التكامل بين دوله. هذا إضافة إلى ما يمكن أن تفيض به هذه التداعيات على بعض مسارات العولمة مثل كيفية التعامل مع توزع عناصر الإنتاج للتجارة والصناعة العالمية على عدة مراكز، واعتماد الدول الهامة على سلع كاملة تستوردها من الخارج، مع ما يتطلبه ذلك من نقل ما يسمي بسلاسل التوريد إلى دول أكثر قربا من الناحية الجغرافية، وأكثر توافقا من الناحية السياسية، والاتجاه إلى توطين هذه السلاسل عبر إحلال الواردات بمنتجات محلية. وذلك في نفس الوقت الذي قد ترغب فيه بعض الدول إلى إعادة توجيه علاقاتها الاقتصادية، وتغيير بعض مساراتها من الشركاء التقليديين إلى الدول الصاعدة التي ساعدتها أثناء محنه الوباء.

ولعل كافة هذه التطورات، هي ما دعت إلى تصاعد المطالبات الدولية بتوسيع إطار الأزمات التي تهدد السلم والأمن الدوليين لتشمل مجالات الأوبئة، وتغير المناخ، وقضايا البيئة، وذلك باعتبار أن هذه القضايا وإن لم تكشف عن وجهها الكارثي كاملاً بعد، إلا أن المعتقد أن تداعياتها على المستوى الكوني، ستكون أكثر خطورة وأشد قسوة من الجائحة الفيروسية، وهو الأمر الذي يستوجب اتخاذ تحركات استباقية جادة وسريعة لإطفاء مبكر للحريق. حيث أن العالم لن يكون مستعدا لمواجهة مثل هذه الكوارث المتعاقبة، وتكرار تحمل الإصابة بالشلل الكامل والشامل في كافة مناحي الحياة خلال فترات زمنية متقاربة.

v v v

أما بالنسبة لتداعيات الجائحة إقليميا وعربيا، فإن الشاهد أن الدول الإقليمية غير العربية، رغم معاناتها من انتشار الفيروس على أراضيها – إلا أنه لم يردعها عن استثمار ظروف انشغال العالم بمكافحة الوباء، وتركيز الدول الكبرى على المناكفات السياسية، وتبادل الاتهامات، لزيادة تدخلاتها فى الدول العربية، وهو أمر عكسته السياسة الإيرانية في تحركها المكثف في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا التي زادت توغلاتها في الأراضي السورية، ونقلت الإرهابين إلى ليبيا، لدعم حكومة الوفاق بالمرتزقة والسلاح، بهدف حصولها على مزايا في ملف الطاقة، وخدمة مشروعها الإقليمي التوسعي. وذلك في الوقت الذي تُسابق فيه الحكومة الإسرائيلية الجديدة الزمن في الضم الرسمي للأراضي الفلسطينية واستغلال نتنياهو هذه التطورات لتكريس موقعه في السياسة الإسرائيلية وعرقلة إجراءات محاكمته، بينما تتمترس الحكومة الإثيوبية في موقفها الرافض لتوقيع اتفاق واشنطن حول سد النهضة، وفى إصرارها على البدء بعملية ملء خزان السد في الشهر القادم دون إتفاق. وهو أمر يوضح – في مجموعه – نظرة الدول الإقليمية غير العربية المتعالية والشامتة والطامعة إلى الدول العربية، وسُعارها في محاولات التوسع والنفوذ في أراضيها. وهو ما يصطدم باتجاهات عربية متصاعدة، تريد استدعاء صداقة بعض هذه الدول على حساب اكتساب عداء بعضها الأخر، رغم أن العين الفاحصة، والنظرة الدارسة، توضح بجلاء أن هذه الدول، فيما يتعلق بالتكالب على النفوذ في المنطقة، وحرمان دولها  من مصادر قوتها، وسلب أمنها، وتقسيم صفوفها، تتشارك جميعها في نفس الأهداف، وتتساوى في التطلع إلى التعامل مع عالم عربي متراجع ومتهاون ومنزوع الفعالية.

اظهر المزيد

السفير/ سعيد رفعت

رئيس تحرير مجلة شؤون عربية، مساعد وزير الخارجية الأسبق بوزارة الخارجية المصرية، الرئيس الأسبق لصندوف المعونة الأفريقية للدول العربية التابع لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى