2020العدد 182ملف دولى

الأسئلة الكبرى للوباء الكوني

عانت البشرية من أوبئة كثيرة عبر تاريخها الطويل، أبرزها الطاعون والكوليرا والسُل، قبل أن تتقدم العلوم والمعارف، وتُنتج الأمصال واللقاحات التي تتصدى لها. ربما كانت تلك الأوبئة أخطر من فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، خصوصا الأنفلونزا الإسبانية التى أودت عام 1918م بمدن وقرى كاملة، وأزهق أرواح ملايين البشر في وقت لم يكن العالم قد بلغ ربع تعداده الحالي. غير أن ما يزيد الهلع من كورونا إنما يتمثل في أمرين: أولهما يتمثل في ارتفاع قيمة الشخصية الإنسانية بفعل التقدم المطرد، خصوصا نحو الديمقراطية الليبرالية، التي أحالت الفرد من كونه مجرد رعية للحاكم: ملكا كان أو سلطانا أو حتى أميرا إقطاعيا إلى مواطن كامل الأهلية، له قيمة اعتبارية فائقة، يتمتع بحقوق أصلية لصيقة بإنسانيته وحدها، بحيث صار موت إنسان واحد في بلد حر سببا لحزن عام لم يكن يترتب مثله على رحيل عشرات الرعايا، في العصور الإقطاعية. وثانيهما هو اتساع حركة السفر والسياحة ورأس المال بين أطراف العالم، مع اتساع الفضاء الإعلامي إلى مدى كوكبى، صارت معه أطراف الأرض مكشوفة، وأصبح سهلا ينتشر الوباء بين جميع أنحائها أو معروفا لدي كل أبنائها.

إزاء الوباء الكوني، وجد البشر أنفسهم في مجابهة قاسية مع أكثر أشكال الحقيقة صلابة وهى (الموت)، فكان طبيعيا أن تثور مخاوفهم، وأن يبحثوا عن يقين يمتص فزعهم. وهنا برز دور الدين باعتباره النسق الأقدر على تقديم رؤية كلية للوجود، تعنى بعالم الغيب مثلما تعنى بعالم الشهادة، تقدم العزاء للمحزونين، والسكينة للمفزوعين. كما وجدوا أنفسهم في مواجهة عشرات القواعد والمحظورات التى فرضتها دولهم، بسرعة وكفاءة ورشد أحيانا، وببطء وتخاذل أحيانا أخرى، الأمر الذي طرح سؤال السياسة، حول أي أشكال الدولة أقدر على تنظيم مجتمعها وحماية شعبها؟، خصوصا بعد أن بدا المجتمع العالمي عاجزا عن بناء أى تضامن فعال في مواجهة الوباء. وأخيرا وجدوا أنفسهم أسرى لقواعد التباعد الاجتماعي دوما، رهن العزل المنزلي غالبا، والحجر الصحي نادرا،  فيما ينهض بأعباء الحياة من حولهم أناس كالممرضين، وسائقي المواصلات العامة، وعمال النظافة وغيرهم من أهل المهن التي لم تكن تحظى باهتمامهم، ناهيك عن جيوش الأطباء الأبطال. وفى المقابل اختفي نجوم الفن والرياضة والدعاية والوجاهة، ما دعا البعض إلى إعادة التفكير في شروط الوجود الإنساني داخل مجتمعاتهم. وفي هذا المقال الطويل وقفة موجزة عند الأسئلة الثلاثة_الأكثر أساسية_ التى طرحها الوباء حول الدين والسياسة والمجتمع.

العناية الإلهية وسؤال الدين:

ثمة نادرة تحكى عن الظريف الأسطوري في التراث العربي (جحا)، الذى قصد السوق يوما فسأله صاحبه عمّا يريد فأجاب: قررت شراء ناقة، فرد صاحبه: قل إن شاء الله، فقال جحا: ولماذا إن شاء الله؟ المال في جيبى والناقة في السوق. فلما ذهب إلى السوق سُرق ماله وعاد بخفي حنين ليسأله صاحبه: أين الناقة؟. ليرد جحا: إن شاء الله النقود سُرقت. تكشف تلك النادرة الأسطورية عن حكمة عملية وهى أن الأسباب وحدها لا تضمن تحقيق النتائج المقصودة في كل الأحوال، فتوافر (العِلل) لا يضمن التحقيق الآلي لـ (المعلولات)، اللهم إلا في خيال علماء القرن التاسع عشر، بتأثير المدارس الوضعية المتطرفة كالميكانيكية والمنطقية، والتي بالغت في الادعاء بقدرة العلم الطبيعي على سبر أغوار الحقيقة الكونية، وإدراك (الشيء في ذاته)، كما ضيَّقت ممكنات اللغة وقصرتها على التعبير فقط عن عالم المحسوسات دون المثل والقيم وكل ما ينتمي إلى ما بعد الطبيعة، باعتباره مجرد لغو فارغ، ومن ثم أولدت تصورات حتمية عن التاريخ بلغ بها العوار مع الغرور حدا تصوّرت معه أن حركته محكومة بقوانين ضرورية يمكن التنبؤ بها، مثلما أن حركة الطبيعة محكومة بقوانين عُليا لا يمكن الخروج عليها.

لم يكن اليقين العلمي سوى مبالغة تجاوزتها فلسفة العالم بانتصاف القرن العشرين على يدى رموزها البارزين: كارل بوبر وإمرى لاكاتوش وتماس كون، ولم تزد الحتمية التاريخية عن وهم أسقطته التجربة السوفيتية. نعم تبقى الأهمية القصوى للأسباب والعلل، وفيها تكمن أهمية العقلانية وقيمة العلم، ولكنها لا توفر أكثر من احتمال للنجاح يزداد بدقة المنهج وتجرد الباحث، وعلى هذا يصير العلم طريقا إلى الحقيقة، ولكنه ليس طريقا إلى اليقين، ولا حتى الطريق الوحيد إلى الحقيقة بمعناها الوجودي الشامل.

فى مواجهة الفيروس اللعين، ومع توالي الأخبار عن أعداد المصابين المليونية، وتجاوز أعداد الوفيات لمئات الآلاف. وكذلك مع اضطراب خبراء الصحة فى العالم فى تشخيص طبيعة الفيروس، وحيرة الأطباء فى علاجه، وعجز العلماء (المؤقت) عن إنتاج لقاح مضاد له، كان طبيعيا أن يزداد شكوك البعض فى قيمة العلم، وأن يستدعوا الدين طلبا للأمل واليقين. غير أن تصور أن الدين يصلح بديلا عن العلم، وأن العناية الإلهية لا تحضر إلا على جثة العقل، لم يكن سوى سلوكا متسرعا، يعكس فهما خاطئا لعلاقة الدين بالعلم، واختزاليا لعلاقة الله بالإنسان، ومن ثم فأسوأ ما يمكن أن يثيره الوباء إنما يتمثل في فهمين أساسيين رغم تناقضهما: الأول: يقول بسقوط قيمة العقل أمام نزعة قدرية لا تبالي بالأسباب، كما يدعى المتدينون التقليديون، الذين تباهوا بأن الفيروس متناهي الصغر قد تحدى أرقى البلدان علما وحضارة، وكأن الإنسان قد استسلم لنهايته، أو أن الإيمان بالقدر يقتضى رفض العقل، فتلك دروشة لا تليق بالعصر. والثاني: يقول بكفاية العلم لضمان السيطرة على الكون، كما تصورت فلسفات التنوير الراديكالي عندما نظرت إلي الإنسان باعتباره سيدا للأرض لا خليفة عليها، القادر على إخضاع الطبيعة للعقل، ومن ثم التحكم في عالمه، وتحقيق السيطرة على مصيره، وهو ما يتنافي مع قدر الهلع الحقيقى من فيروس متناهي الصغر، ولا مع عمق الشكوك القائمة إزاء المستقبل.

ومن ثم تتبدى فجوة المصداقية بين الطرفين، فالمتنورون الراديكاليون يتصورون أن ثمة علاقة طردية بين التنوير والإلحاد، بمعنى أن الشخص لابد وأن يكون أكثر استنارة  كلما صار أقل إيمانا، وأقل استنارة كلما كان أكثر إيمانا بالمعتقدات الدينية، وكأن الدين والعلم فى مباراة صفرية، مع كل تقدم للعلم يفترض أن ينسحب الدين، ومع كل حضور للدين يفترض أن يتوارى العلم. لا يرى هؤلاء وجودا للعناية الإلهية، ولا يعتقدون فى إمكانية حوار إلهي – إنساني، فالإنسان لدى هذا التيار هو من يملأ الأفق فيما يتوارى حضور الله في الكون. هذا التأويل تجسد باكرا في الميثولوجيا اليونانية التي تعددت وتأنسنت فيها صورة الإله بأكثر الصور درامية، كما في الإلياذة والأوديسة خصوصا في أسطورتى: “بروميثيوس”، الذى تمكن من سرقة نار المعرفة من رب الأرباب زيوس وإهدائها إلى البشر، ليصنعوا بها مسيرة تقدمهم رغما عن إرادة الآلهة. و”أوديسيوس” الذى تمكن بمعاونة الآلهة الأخيار من العودة سالما إلى بلدته أوديسا، ناجيا من مصاعب وويلات فرضتها عليه آلهة الشر. توارت الوثنية اليونانية تحت ضغط المسيحية، ولكنها عادت في عصر النهضة على الصعيد الأدبى، لتلهم نزعة إنسانية وتغذى روح فردية معتدلة تتطلع إلى الحضور في التاريخ وإلى الحوار مع الله الذى لم تكن قد شككت في حضوره بعد. ولكن مع بروز التنوير الراديكالى أخذت النزعة الإنسانية منحى علمانيا خالصا، وبالذات عبر رموز النزعة المادية الألمانية: ماركس ـ فيورباخ ـ نيتشه ـ فرويد ـ هيدجر. أو النزعة الشكية الفرنسية: بيير بايل ـ كونت ـ سارتر ـ فيرى. وفيما بين نهاية القرن التاسع عشر، ومنتصف العشرين بلغت النزعة الإنسانية العلمانية ذروتها فى التأكيد على أن الإله إما غير موجود من الأصل، أو أنه محرك أول، خلق النظام الكونى وانسحب بعيدا عنه، غير مكترس بمصير الإنسان فيه. ولعل الأصداء الفكرية العربية لهذا التيار والتى لا تفهم جذوره الإلحادية أو حتى تتعامى عنها، هى التى استنكرت مجرد الدعاء إلى الله، طلبا للسكينة الروحية والعناية الإلهية، وكأن الأخذ بالأسباب العلمية يتناقض مع عناية الله بنا، ويفترض إهمال حضوره في عالمنا.

أما المتدينون التقليديون (الأرثوذكس) فيتصورون الدين طريقا وحيدا للحقيقة لا يكاد يترك للعلم دورا حتى في مواجهة أكثر الحقائق واقعية ومباشرة، فلا نطاق للمعرفة ولا مجال لها يمكن أن يقبع خارج سلطة الكتب المقدسة أو حتى شروحها الكبرى لدى كبار رجال الدين. لا يرى هؤلاء، أيضا، إمكانية لحوار إلهي ـ إنساني، فالله وحده هو من يملأ الوجود، فيما الإنسان كائن عرضي يكاد يقترب من العدم، لا قيمة جوهرية له ولا قدرة على الفعل، ولا دور سوى العبودية لله، وكأن تعظيم الوجود الإلهي يقتضى تحقير الوجود الإنساني، فالله لا يكون قادرا ومهيمنا إلا إذا كان الإنسان عاجزا ومشلولا، لا يمكنه فهم مقصود الله في الوجود أو التصرف فى الطبيعة كما يقضى عهد استخلافه فى الأرض، فلا خلافة للإنسان، كما يقول القرآن، بل مجرد تسخير وكأنه جرم سماوي أو مادة طبيعية. الوباء لدي هذا التيار شر، والشر عقاب على نقص في الإيمان، أو ابتلاء لقوة هذا الإيمان، وكلاهما إعمال لقدر إلهى طاغي. وفي الحالين لا طريق للنجاة سوى التسليم والصبر، التعبد والدعاء، إلى درجة جرى معها التشنيع_أحيانا_على أرباب المواجهة العلمية والطبية، فكل محاولة على هذا الطريق إما أنها غير مجدية فعلا، أو غير جائزة أصلا. أما الأسوأ داخل هذا التيار فيتمثل في نمط التدين السياسي، الذي ينهض فكريا على التأويل الجبري ذاته، ولكن مع تأسيسه حركيا لخدمة مشروعه الغامض حول الدولة الإسلامية، والذي مارس الترويج الزاعق له عن طريق تبخيس الدولة المدنية وقراراتها في مواجهة الوباء، بل ممارسة الكذب والتدليس والشماتة في المحنة الكونية، ما يعكس غيابا مريعا للحِس الإنساني.

ينحل هذا التناقض فقط في سياق ما نسميه بـ (التنوير الروحي)، الذي ينشغل بترقية وضع الإنسان دون معاداة الله، وذلك عبر تحريره من قبضة قيدين أساسيين: أولهما يتمثل في المدركات الخرافية التي تعطل مسعاه في طلب معرفة موضوعية بالطبيعة والتاريخ خروجا من فلك الأساطير والتقاليد البالية، التي وضعت على العقل حجبا كثيفة طالما أعاقته عن الاشتغال المنهجي. وثانيهما يتجسد في قوى الهيمنة التي تعيق تحرره، من قبيل الكهانة الدينية والوصاية السياسية، التي تكاد تفتك باستقلاله الشخصي. وعلى هذا يرفض التنوير الروحي الادعاء باليقين العلمي والحتمية التاريخية، لكنه لا يرى_ كالمتدينين التقليديين_في الكتب المقدسة فعالية علمية تمثل بديلا أو قيدا على العقل. بل يرى أن المعرفة نتاج تفاعل جدلي بين الحواس والعقل، وهنا نصبح أمام عقلانية (نقدية)، تتوسط بين العقلانية المثالية الصرفة وضمنها المعرفة الدينية وبين الوضعية المتطرفة.

يتصور تيار التنوير الروحي إمكانية قيام حوار مع الله على أرضية مفهوم الاستخلاف، الذي لا ينال من مركزية الله في الكون، لكن لا يحتقر الوجود الإنساني في الأرض، فالإنسان ليس عدما، وإن كان وجوده نسبيا، قياسا بالوجود الإلهي المطلق. يملك نوعا من المشابهة مع خالقه، ولكن دون الادعاء بمساواته: ففي الإنسان خير ولكنه ليس خالصا كالخير الإلهي، ونزوع إلى الكمال ولكنه غير قابل للاكتمال. علَّمه الله الأسماء كلها، وطالبه بالسعي إلى المعرفة  ولكن في ظل عنايته به، والتي تمنحه إدراكا باطنيا بخيرية الحياة واستثنائية الشر، يحفز إرادته في مواجهة مشاعر القلق وهواجس العدم، ويكسبه الشجاعة الوجودية التي تمثل بدورها (حركة سلب) ضرورية في جدل المواجهة مع الفيروس اللعين، تلبى للمؤمن الرجاء إما في: عدم التعرض للوباء أصلا، أو الشفاء منه إذا ما وقع فيه، أو الخلود في عالم أفضل بعد الموت إذ واجهه فعلا. إنها الحركة الضرورية لامتصاص الضغوط النفسية الواقعة عليه قبل الهجوم علي الفيروس في (حركة موجبة) تستهدى بجميع الوسائل العقلانية المتاحة، إذ لا يدعى أرباب التنوير الروحي الروحانية أن الدين، أيا كان اسمه، معنى بالبحث عن بدائل لتلك الوسائل، فما يدعونه فقط هو أن مواجهة التحديات القصوى تتطلب شجاعة وجودية فائقة، ولو أن المقاوم افتقد الإيمان بالله لفقد أساسا مكينا لتلك الشجاعة.

محورية الدولة وهشاشة العولمة:

تعلق الكشف الأهم لوباء كورونا بمدى خواء مفهوم (القرية الكونية) الذي اعتمدته العولمة خطابا لها، بدا مع الوقت تبريريا أكثر منه تشريعيا، ترويجا أكثر منه تبشيرا. نعم صارت الكرة الأرضية ساحة واحدة ينتشر فيها المرض، ملعبا واحدا تدور عليه مناورات الدول، مسرحا كبيرا تدور عليه الشائعات وتنتشر الاتهامات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. ولكنها، أي الكرة الأرضية، لم تصبح بعد ساحة حقيقية للتضامن بين المجتمعات، والتنسيق بين الحكومات في مواجهة الوباء، كما كان مفترضا من مجتمع عالمي يمتلك منظمة جامعة للصحة، أو متوقعا من قرية كونية، يدرك جميع أبنائها واجبهم المشترك تجاه بعضهم البعض، ويحرصون على القيام به في لحظة الخطر إلى الحد الذي يجعلها تضع لأجله المخصصات المالية، وتتخذ القرارات السياسية تجسيدا لكل المعاني التي يمثلها مفهوم القرية في السوسيولوجيا الثقافية كالتلاحم والحميمية والشعور المشترك بالمسئولية ضد المخاطر الكونية والبيئية.

لقد بدت الدولة القومية، في سياق المواجهة مع الفيروس اللعين، طائر الموت المحلق، وكأنها الحقيقة السياسية الصلبة في عالم يموج بالسيولة، وحائط الصد في لحظة تموج بالخوف، وبرز دورها كفاعل أساسي سواء على حساب الطائفة والقبيلة في مجتمعاتنا المتخلفة، أو حتى على حساب الكيانات الفوقية والتكتلات الإقليمية في أبرز نماذجها نجاحا كالاتحاد الأوروبي الذي بدا مشلولا أمام الوباء، لم تنهض مؤسساته الكبرى بإجراء جماعي يذكر، فيما كانت دوله القومية سيدة الموقف في فرض القواعد وتطبيق القوانين والإشراف على جميع إجراءات الوقاية والعلاج.

بالقطع نجحت بعض الدول أكثر من غيرها، ومن ثم برزت كتابات تمتدح من نجحت وتهجو الأخرى التي فشلت أو كانت أقل نجاحا. كانت “ووهان الصينية” موطن الوباء الأول، وللمفارقة أول من خرج من أسره بصرامة إجراءات الدولة، ونظامها الصحي الفعال، وربما ثقة الجمهور في قياداتها، ولذا حازت الصين على القدر الأكبر من المديح، حتى اعتبر البعض أن الوباء قد توج النموذج الصيني بشارة القيادة العالمية. في المقابل بدا الدور الأمريكي خافتا في قيادة العالم ضد الوباء، عكس ما اعتاد عليه الناس طيلة القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين، وضد ما روجته سينما هوليود عن الحلم الأمريكي، وضمنه القدرة الفذة على مواجهة الأوبئة والكوارث بداية من التوقع والتنبوء مرورا بالجاهزية العلمية والتكنولوجية، وصولا إلى النهايات السعيدة التى تحققها الروح البطولية الأمريكية رغم لحظات الخطر الوجودية التى تواجهها وهى تؤدى مهماتها المقدسة لأجل الإنسانية.

ولأن الصين تظل نموذجا للدولة السلطوية، التى لا يزال نظامها السياسي شيوعيا رغم انفتاحها الاقتصادي، فقد اعتبر هذا النموذج هو الأنجح، رغم أن تسلطيتها هى التى دفعت إلى عقاب الطبيب الذى استشعر الفيروس وحذر منه قبل أن يموت به، وأن انغلاقها ربما أعاق وصول خبر الوباء إلى لعالم بضعة أسابيع، لها قيمتها الخطيرة فى مجابهته. ولأن الولايات المتحدة أبرز نموذج للديمقراطية الليبرالية والنظام الرئاسي، فقد اعتبر هذا النموذج هو الأفشل، خصوصا وقد تكرر أداؤه المتدنى في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا، التى باتت جميعها مسرحا للوباء. وفي ظنى أن تلك الأحكام متسرعة وجائرة، تحفزها ضغوط اللحظة أكثر مما تستهدى بسنن التاريخ، إذ تتنكر لجماع مثل الحداثة السياسية وفضائلها الأساسية كالحرية والفردية والنزعة الإنسانية، التى كافحت الإنسانية طويلا، وأراقت من دماء أبنائها كثيرا حتى خرجت إلى فضائها الرحيب انعتاقا من كهف الإقطاع الكئيب وقبضة التسلط الرهيب. وابتداء، تنطوى تلك الأحكام على تعميمات اختزالية، تتجاهل حقيقة أن اليابان وكوريا، البلدين الديمقراطيين في الجوار الصيني نفسه حققتا نجاحا كبيرا في مواجهة الفيروس، ربما لانضباط شعبيهما، وقوة حضور القيم الجماعية لديهما، ناهيك عن النظام الصحي الفعال الذي يشهد بقوة حضور الدولة رغم ديمقراطيتها. وعلى الجانب الآخر نجد أن بلدانا سلطوية بل وقمعية، تحكمها الإيديولوجية الدينية كإيران قد عانت من الفشل ولم تحقق النجاح الصيني ذاته، ناهيك عن عشرات البلدان السلطوية خارج أسيا وأوروبا.

وظني أن العامل الحاسم في إضعاف المواجهة مع الفيروس لم يكن هو الديمقراطية التى لا يمكن أن تكون عبئا على أية مهمة تاريخية، بل الرأسمالية المتوحشة التي كادت تشل يد الدولة، وتعطل دورها الاجتماعي، بالتحكم في النظام الصحي بأكمله، والذى تعاملت معه كأي قطاع استثماري يقدم خدمة فى مقابل ثمن، ينهض السوق الخاص بإنتاجها وتوزيعها، فلا علاج  إذن إلا لمن يستطع، وهو ما حدث في دول أوروبا الغربية بدرجات مختلفة، ولكنه كان أكثر حدة وبشاعة في الولايات المتحدة بحكم أمرين أساسيين: أولهما: أنها قد تخلصت تماما من إرث دولة الرفاة الكينزية، واستسلمت للنزعة الليبرالية الجديدة التى تستقي أوامرها الكبرى من المجمع الصناعي العسكري، بل وتعيش على رأسمالية الكوارث، تستثمر فيها أكثر مما تسعى إلى مجابهتها. وثانيهما يتمثل في شخصية الرئيس الأمريكي نفسه والتى تجسد خليطا من النيوليبرالية الاقتصادية والشعبوية السياسية، بكل ما يتصور عن تلاقيهما معا من توحش وابتذال، أفضيا إلى تكبيل القدرة الأمريكية، وجعلا من شخص الرئيس عبئا عليها: أولا: كونه تنكر لإرث الرئيس أوباما وعلى رأسه نظام التأمين الصحي بدلا من أن يبنى عليه نظاما صحيا فعالا ينطوي فيه جميع الأمريكيين. وثانيا: لأنه أبدى ردود فعل ساذجة عند بدايات المرض، مستخفا به، ومتنكرا له، بل محاولا توظيفه في وصلات ردح سياسي مع الصين، استغرقت وقتا ثمينا من زمن المواجهة. وثالثا: لأنه يفتقد الرؤية والمصداقية معا، لا يزال يبدى حرصا على المصالح المالية، بل يحاول التكسب من الأزمة، أكثر من حرصه على حياة الناس.

المعضلة إذن في التوحش الرأسمالي وليس في النظام الديمقراطي، نعم كانت الدولة التدخلية، بقدر ما تمتلك من مقومات ضبط وترشيد، أقدر على المواجهة من الدولة الحارسة التى أعلنت حيادها، مثل حكم ساحة فى مباراة لكرة القدم، مكتفية بالفُرجة على الصراع الاجتماعي الدائر. فالأولى تدير نظام صحيا جماعيا فعالا استطاعت من خلاله أن تقول كلمتها. أما الثانية فأزاحت المهمة عن عاتقها حتى فقدت المبادرة فى لحظة الأزمة. لكن من قال بأن النزعة التدخلية تعنى فقط الشيوعية الصينية؟ ومن قال إن الإنسان كائن لا غاية له سوى البقاء، وأن وباء عابر مثل كورونا يستطيع أن يهزمه فيتنازل عن كل أحلامه فى الحرية والكرامة؟. إذ أجيب مستنكرا، أطرح هنا نموذج الاشتراكية الديمقراطية ودولة الرفاة الكينزية اللذين عرفتهما أوروبا الغربية، كأفق أسمى للتطلع الإنساني إلى نظام حكم يضمن تحقيق العدالة والحرية معا، إذ يُبقي على حضور الدولة دون إنكار لدور المبادرة الفردية، وفي ذلك ربما تكمن حكمة التاريخ، التي تهدرها نزعات القهر السياسي، مثلما تقوضها ممارسات كالتحيز الاقتصادي والشعبوية السياسية والعنصرية الثقافية، وتلك الأخيرة هى التى جسدها الرئيس ترامب ببراعة قاتلة، جعلته عبئا كبيرا على اللحظة الراهنة، مثلما كانت العبودية والسلطوية عبئا على التاريخ الإنساني برمته.

كورونا يفضح المجتمع ما بعد الحديث :

يتداخل مفهوم “الشرط الإنساني” مع “القدر الإلهي”، دون أن يتماهى معه أو يذوب فيه؛ فلكل شخص وُلد وعاش في هذا العالم ملابسات حياة تختلف كثيرا أو قليلا، سلبا أو إيجابا، عن السابقين عليه أو التالين له، البعيدين عنه أو المحيطين به، وذلك بفعل تباين الظروف الحاكمة لبيئة الحياة في الأزمنة المتعاقبة والمجتمعات المختلفة. تنسب الثقافات التقليدية، خصوصا ذات المرجعية الدينية، هذه الملابسات المختلفة إلى الخطة الإلهية للوجود البشرى، إذ تراها قدرا لا فكاك منه، كونها موروثة عن الآباء والأجداد. أما الثقافة الحديثة فلا ترى في تلك الملابسات قدرا حتميا بل مجرد نقطة انطلاق، شرط تاريخي قابل للتغيير عبر الكفاح المستمر ضد ما يعوق ازدهار الإنسان، انطلاقا من رؤية تنويرية متفائلة حيال الطبيعة الإنسانية بلغت ذروتها لدى “فولتير وروسو” تعتقد في قابلية الإنسان للترقي وصولا إلى ما يقارب الكمال من خلال التربية والتعليم والتحرر.

كانت الحداثة، وما رافقها من تقسيم جديد للعمل يناقض عصور الصيد والزراعة والإقطاع والغزو العسكرى، قد انتصرت لأصحاب المواهب اللامعة، القادرين على الخلق والإبداع ولو كانوا ضعاف البنية، على حساب أصحاب الأجساد الفتية، القادرين على النزال والصراع فيما لو افتقدوا الموهبة، الأمر الذى انتصر لمفهوم الشرط الإنساني وعظّم من قيمة الكفاح البشرى لأجل الترقى، وجعل شروط الحياة أكثر ديمقراطية وإنسانية. غير أن عصر ما بعد الحداثة قد أفرط في هذا الاتجاه منتصرا أولا للموهبة وحدها على حساب الكفاح البدني والاجتهاد الإنساني، قبل أن يتحيز ثانيا  لمواهب العالم المخملي/ الافتراضى/ الترفيهى، على حساب مواهب العالم الواقعي / الحقيقى/ العملى العلمية والطبية والفكرية، حتى اكتشف العالم فجأة_وهو كشف لابد وأن تتوقف عنده كل المجتمعات بالفحص والدرس_أن أبطال الحياة الحقيقية من المجتهدين والمكافحين، وأن صناع القيمة من الأطباء والمهندسين والعلماء  وليس فقط من الزراع والصناع، لا يكادون يحصلون على شيء أو يشعر بهم أحد، وأن صناع الترفية ورموز الحياة الافتراضية، وربما صناع الوهم، هم الذين يحصلون على كل شيء تقريبا، وينشغل بهم الجميع دوما، حتى أن نزواتهم الشخصية من قبيل الفضائح الفنية، أو وقائع الهروب الكروية، تصير غالبا موضع اهتمام وباب للترويج ومورد للكسب ربما أكثر من وقائع انجازهم الفعلية.

هذا الواقع المشوّه هو الذي أشار إليه  المفكر الجزائري الراحل “مالك بن نبى” قبل نحو ستة عقود، في واحدة من إلماحاته اللافتة التى لا تصدر سوى عن موهبة بِكر، وخيال خلّاق، عندما اعتبر أن المجتمع المريض هو ذلك الذي يُشبه سُلّما مقلوبا، تتناقض فيه قيمة البشر الحقيقة مع حظوظهم الآنية، فيكون أصحاب القيمة المعرفية والمهنية والأخلاقية في أدناه، لا سعر لهم في سوق الحياة الواقعية، أما الذين يفتقدون إلى تلك القيمة، ويكتفون غالبا بأدوار كالتوسط والسمسرة والدعاية والترفيه، فيصبحون في أعلاه، يستحوذون على أكبر العوائد المالية وربما النفوذ والشهرة، الأمر الذي يعكس خللا جسيما في قلب الشرط الإنساني، يزيد من مساحة الألم لدى البشر، ويُربك مسيرة ارتقاء المجتمعات.

هذا الاختلال هو ما فضحته محنة كورونا على صعيد العالم كله، فأولئك الذين كانوا نجوما لمجتمعاتهم قبلها لم يكن لهم أى دور في مواجهتها. أما أبطال الإنسانية الحقيقيين، الذين تصدوا للوباء، ودفعوا في مواجهته أرواحهم أحيانا، وعرقهم الغزير دائما، فجاءوا من كهوف المجتمعات وأحشائها الطبقية، إذ لم يكن الكثيرون يرونهم أو يتوقفون عندهم رغم قيمتهم العلمية والإنسانية. لقد أبرزت المحنة دور عموم الأطباء الذين عانوا الكثير من نير التحيز والغبن. كما أبرزت المحنة دور أطقم التمريض الذين وقفوا في الصف الأول للمواجهة بجانب الأطباء في معركتهم ضد الوباء، رغم النظر إليهم بما يشبه الازدراء. وأبرزت كذلك أدوار عمال النظافة والتطهير في كل مكان رغم مشاعر الدونية التى طالما أحاطت بهم قبلها. وفضلا عن هؤلاء ثمة جيوش العاملين في المرافق التى لم تتوقف قط لتستمر الحياة في سريانها كالصيادلة وأصحاب المخابز، وعمال النقل…الخ. وفي المقابل كان لاعبو الكرة، والفنانون: مطربون وممثلون، والموديلز من عارضات الأزياء والإكسسوارات، ونجمات الدعاية والإعلانات، وكبار رجال البيزنس، يختفون في أبراجهم المشيدة وقلاعهم الحصينة خلف أسوار المنتجعات والكومباوندات، ممتنعين عن أي نشاط، بل يحتاجون إلى من يخدمهم في مواقع تبطلهم، ويُسرى عنهم في أوقات استرخائهم، يعانون الملل ويرتعدون من الخوف، ليس لديهم ما يقدمونه للناس في محنتهم.

لنتأمل حال طبيبة فقدت حياتها دفاعا عن أهلها، كيف اجتهدت في دراستها لتلتحق بكليتها (المرموقة)؟. كم من جهد بذلته في تحصيل علومها! وكم من السنين سهرت حتى حملت لقب (دكتورة)! ولننظر كم من المال حصدت! ومن الشهرة حازت! ولنقارنها بفتاة إعلانات لا تملك سوى دلالها، تظهر لبضع دقائق في إعلان قد يكون فجا، تحصل به من المال والشهرة أضعاف ما حصلت عليه الطبيبة الشهيدة طيلة حياتها. ينطبق هذا على أى ممثلة شبه معروفة، قد لا تملك إلا جمالها، إذ تجدها ضيفة على كل البرامج التافهة على الشاشات الفضائية، تمارس دلالها أمام مذيعة أجهل منها، تجاملها حتى النفاق، بعد أن تدفع لها القناة مقابل خيلائها الكاذب، وثرثرتها الشخصية، وربما غير اللائقة. الأمر نفسه ينطبق على لاعبي الكرة، الذين يحصدون ملايين الجنيهات، مع شهرة واسعة وحب جماهيري دافق، فإذا ما اعتزلوا تحولوا مباشرة إلى إعلاميين وليس فقط محللين، رغم جهل بعضهم المطلق وليس بمهنة الإعلام فقط، إلى درجة يتفننون معها في إثارة الفتن، بدلا من إنارة الناس، ما يُمثل سطوا أخلاقيا على كفاح وعلم أولئك الذين حلموا بممارسته وأفنوا حياتهم في دراسته، فلم يجدوا أية فرصة للظهور. وفي المقابل يغيب عن تلك الشاشات اللامعة أعظم أطبائنا، وأهم علمائنا، وأكبر باحثينا، ولن نقول هنا أنشط ممرضينا، أولئك الذين لجأنا إليهم، وقمنا باستدعائهم، وقت شدتنا كي يدفعوا عنا الوباء.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى