2021العدد 188ملف دولى

الشراكة الثلاثية الأمنية (AUKUS): دلالاتها الجيوسياسية وتداعياتها الاستراتيجية

مقدمة:

في 15 سبتمبر 2021، أعلنت كل من أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة عن تشكيل شراكة “أمنية ثلاثية معززة”، أو ما أسمته “Aukus ” (الأحرف الأولي من أسماء الدول الثلاثة) بهدف- ضمن أمور أخرى- تزويد البحرية الأسترالية بغواصات تعمل بالطاقة النووية. وقدم الرئيس الأمريكي “جوبايدن” الاتفاق على أنه “استجابة لحتمية ضمان السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ على المدى الطويل”. وهناك إجماع بين المراقبين على أن الغرض – غير المعلن – الواضح من هذا التحالف الأمني الجديد هو موازنة النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة، وقناعة واشنطن بأن التنافس على النفوذ البحري مع بكين محصور، حاليًّا، في منطقة جيواستراتيجية تقع الصين في قلبها، وهو ما يمنح الأخيرة أفضلية وميزة على الولايات المتحدة، الأمر الذي يستوجب تفعيلًا مكثفًا لشعار “التحول نحو آسيا” الذي أطلقته إدارة أوباما الأولى عام 2009 -خاصةً مع ضيق الفجوة في القوة بين الولايات المتحدة والصين بوتيرة متسارعة. ومع تولي ترامب، حَظِيَ خطابه المناهض للصين وتدابير السياسة العامة ضد الصين بجاذبية محلية هائلة.

 ومن جانبها اعتبرت إدارة بايدن الصين بمثابة التحدي الجيواستراتيجي الأبرز لهيمنتها العالمية، خاصة في منطقة المحيطين (الهندي والهادئ).

وعلى الرغم من التحديات التي يفرضها صعود الصين، والتي كانت واضحة منذ فترة، إلا أن الولايات المتحدة لم تتمكن من بلورة إستراتيجية فعالة للمنطقة، ومن هنا جاء التفكير في صفقة “أوكوس”، التي تعوِّل فيها واشنطن كثيرًا على الحلفاء والشركاء على أساس الأهداف والمصالح المشتركة.

وبالرغم من التغطية الإعلامية الواسعة النطاق لهذه الشراكة الأمنية الجديدة، إلا أنه لا توجد سوى تفاصيل قليلة حول مضمونها وأبعادها، والتي نظرت إليها فرنسا على أنها بمثابة “طعنة في الظهر” ،و “خيانة”،و “خيبة”، و “قرار مؤسف”؛ وذلك تعليقًا على قرار رئيس الوزراء الأسترالي فسخ عقد ما سُمي آنذاك بــــ “صفقة العصر”، الذي أُبرم عام 2016 بين باريس وكانبيرا، بموجبه تقوم شركة الصناعات البحرية  “Naval Group” الفرنسية ببناء 12 غواصة تعمل بالدفع التقليدي (وقود الديزل – الكهرباء) بقيمة 56 مليار يورو، وهو أكبر عقد على الإطلاق لصناعة الدفاع الفرنسية، وقد قرر الجانب الأسترالي التخلي عن صفقته مع باريس لصالح حيازة 8 غواصات أمريكية الصنع، الأمر الذي كان بمثابة مفاجأة لباريس حسبما أكد مسؤولوها.

أولاً: الهدف الجيوسياسي الرئيس للصفقة:

وفقًا للبيان المشترك الذي صدر عن رئيسيّ وزراء أستراليا “سكوت موريسون” والمملكة المتحدة “بوريس جونسون”، والرئيس جوبايدن، اتفقت الدول الثلاثة على التشاور على مدى الأشهر الـــ 18 القادمة؛ لتحديد “المسار الأمثل” لتوفير أسطول من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية (مسلحة تقليديًّا) لأستراليا على مدى العقود القليلة المقبلة، بما في ذلك الهيكل الأساسي للغواصة الجديدة، وكيف وأين سيتم بناؤها؟ ومتى تبدأ عمليات التسليم؟ وقد نوهت نائبة وزير الدفاع الأمريكية “Kathleen Hicks” عن أن تصميم الغواصات الجديدة قد يكون الأكثر تقدمًا قائلة: “أن الصينيين يتقدمون بقدراتهم بشكلٍ غير مسبوق، والتي تشمل قدرات تحت سطح البحر”.

وتعتقد الدول الثلاثة الأطراف في الاتفاق أنه ينطوي على تغيير في قواعد اللعبة، فقد صرح رئيس الوزراء الأسترالي مرارًا بأن قرار التخلي عن عقد الغواصات الفرنسي، والحصول بدلًا منه على تكنولوجيا أمريكية وبريطانية لبناء ثمانِ غواصات نووية، هو قرار أملته حصرًا عوامل استراتيجية، وبصفة خاصة بيئة أمنية سريعة التدهور في منطقة المحيطين (الهندي والهادئ)؛ فأستراليا مقتنعة بأن مستوى التهديد الحالي في المنطقة يتطلب غواصات يمكنها تغطية المسافة الاستراتيجية، والبقاء مغمورة بالمياه لعدة أشهر في كل مرة، وتقديم قوة نيران صاروخية مركزة، وجمع المعلومات الاستخباراتية ونشر قوات خاصة. ويعتقد المخططون الأستراليون أن هذه القدرة الإضافية سوف تعقد التخطيط الاستراتيجي لبكين في المنطقة وتعزز الردع لبضعة عقود على الأقل في المستقبل.

وهكذا يمكن القول بأن أستراليا لم تنهِ العقد للأسباب المعتادة، مثل: العجز المالي أو الأداء المعيب للمجموعة البحرية الفرنسية أو لصعوبات تقنية، وإنما من أجل استراتيجية طويلة الأمد، ومن ثم فهي مستعدة للانتظار حتى نهاية العقد الثالث من الألفية الحالية، حتى يتم تسليم الغواصات.

من ناحية أخرى، شدد البيان على أن التعاون بين البلدان الثلاث يمكن أن يشمل أيضًا، من بين أمور أخرى، “القدرات السيبرانية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيات الكم والقدرات الإضافية تحت سطح البحر”، وذلك دون مزيد من التفاصيل حول هذه النقطة.

وبالتوازي مع ما أعلن حول الصفقة، أعلنت الحكومة الأسترالية قرارها بشراء أو تطوير مجموعة من الصواريخ من الولايات المتحدة، مثل صواريخ “توما هوك” الانسيابية لتجهيز مدمراتها من طراز “هوبارت “Hobart”، موضحة أن اقتناء هذه القدرات العسكرية سيسمح لها بإدارة الانتقال إلى اقتناء غواصات تعمل بالطاقة النووية في المستقبل، ولذا فإنه من المقدر أن تكون هذه المسألة محورية في المشاورات المقبلة فيما بين الدول الثلاثة.

وارتباطًا بما تقدم، أعلنت (الولايات المتحدة وأستراليا) أنهما ستزيدان مناوراتهما العسكرية المشتركة، وأن واشنطن قد تمنح إمكانية أكبر للوصول إلى البنية التحتية الأسترالية؛ لتسهيل عملياتها العسكرية في المنقطة.

وهكذا يمكن القول بأن ما يستهدفه الاتفاق الثلاثي الجديد بالدرجة الأولى هو التعاون الصناعي العسكري فيما بين الدول الثلاثة، وهو تطور مهم من الناحية الجيوسياسية. فالتحالف يوفر مجموعة أساسية من الشركاء يمكن للولايات المتحدة الاعتماد عليهم في تنافسها المتنامي مع الصين في منطقة المحيطين (الهندي والهادئ). وفضلًا عن ذلك، من شأن الاتفاق أن يجعل أستراليا أكثر اعتمادًا على واشنطن، ولندن بدرجة أقل  في العقود القادمة، وبالتالي يعتقد البعض أن من شأن ذلك تقليص قدرة هذه الدولة على المناورة على الساحة الدولية. ومع ذلك يرى هذا البعض أن قبول أستراليا تقييد استقلالها الذاتي الاستراتيجي بموجب الصفقة الجديدة، بدلًا من الشراكة مع الصناعة الدفاعية الفرنسية، يرجع إلى أنها ترى أن التهديد الذي تشكله الصين بات أكبر بكثير مما كان عليه من قبل.

وتأتي مسألة إعادة تقييم التهديد هذه في أعقاب سلسلة من المواجهات الدبلوماسية بين (كانبيرا وبكين) على مدى السنوات القليلة الماضية، مثل المقاطعة التجارية الصينية لأستراليا بعد دعوتها إلى إجراء تحقيق دولي في أصول وباء “كوفيد –19″، فقد دفع هذا التوتر المتزايد أستراليا إلى إيلاء أولوية لضمان احتياجاتها الأمنية، حتى لو أدى ذلك إلى بعض التنازلات على حساب الدفاع عن استقلالها الذاتي، وهو هدف تعتقد كانبيرا أنها قادرة على تحقيقه بشكلٍ أفضل من خلال إقامة علاقات صناعية وتكنولوجية أوثق مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

ومن الناحية الاستراتيجية، فإن الغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية سوف تمثل قدرة بالغة الأهمية في ردع الصين أو حتى مواجهتها في صراع بحري شديد في منطقة المحيطين (الهندي والهادئ).

وتوجد لـ(واشنطن ولندن) علاقات دفاعية طويلة الأمد مع أستراليا، كما أصبحت الأخيرة الشريك الأسيوي الوحيد في دعم حلف شمال الأطلسي؛ حيث أرسلت كانبيرا قواتها في السنوات الأخيرة للانضمام إلى عمليات الحلف في (البوسنة وأفغانستان والعراق وخليج عدن). كذلك تتعاون الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بشكلٍ مكثف مع أستراليا في ترتيب تبادل المعلومات الاستخباراتية مع الشركاء الأخرين (كندا ونيوزيلاند) في ترتيبات “العيون الخمس”، وقد احتفظت هذه البلدان الخمس بعلاقات تاريخية وثيقة وتراث أنجلوسكسوني مشترك واحتفظت لنفسها بهذه الترتيبات؛ حيث قاومت محاولات الغرباء مثل ألمانيا، الانضمام لتلك الترتيبات في السنوات الأخيرة. ويلاحظ المراقبون أن المملكة المتحدة تبدو الآن حريصة على إعطاء “العيون الخمسة” بعدًا عسكريًّا يتجاوز تبادل المعلومات الاستخباراتية، ومن مظاهر ذلك اجتماع قادة الجيش في الدول الخمسة في لندن في أواخر سبتمبر الماضي لتقييم التهديد الإرهابي المحتمل من أفغانستان تحت حكم طالبان.

وقد ضاعفت الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة من علاقاتها الأمنية مع أستراليا- خاصةً مع توسع دور الصين في المنطقة؛ حيث أقامت واشنطن رادارات للإنذار المبكر والتعقب في البلاد، وأقامت وحدات البحرية الأمريكية قاعدة تدريب في “داروين”، وشاركت أستراليا بشكلٍ وثيق في المناورات البحرية الأمريكية مثل “ريمباك”، ووجدت الولايات المتحدة في كانبيرا زبونًا جيدًا لطائراتها المقاتلة وسفنها. وبالنسبة لواشنطن، فإن التقارب مع كانبيرا يوفر ميزة هائلة تتمثل في وجود دولة ضخمة كقاعدة عسكرية وإقليم رئيس في المحيط الهادئ يمكن من خلاله إبراز القوة الأمريكية في جميع أنحاء المنطقة. وحتى الآن، لم تستخدم الولايات المتحدة سوى الجزر الصغيرة مثل (جوام وهاواي وأوكيناوا). والواقع أنه في اليوم التالي لإعلان اتفاق” أوكوس”، أعلنت الولايات المتحدة أنها سترسل المزيد من القوات إلى أستراليا للتدريب.

ثانياً: رد فعل الصين:

أعرب المتحدث باسم الخارجية الصينية عن قلقه إزاء الاتفاق، قائلًا: “أنه سيقوِّض بشكل خطير السلام والاستقرار الإقليميين، وسيفاقم سباق التسلح، ويضعف الجهود الدولية لعدم الانتشار النووي”. وأضاف “أنه يتعين على الدول الثلاثة التخلص من عقلية الحرب الباردة التي تقوم على معادلة صفرية ومنظور جيوسياسي ضيق”.

وقد أشارت الصين إلى أضرار خمس سيجلبها اتفاق “أوكوس” على المنطقة هي: مخاطر الانتشار النووي، أن الاتفاق سيكون حافزًا على جولة جديدة من سباق التسلح، ويقوض الازدهار والاستقرار الإقليميين، ويخرب الجهود الرامية إلى إنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في جنوب شرق آسيا وإحياء عقلية الحرب الباردة.

وتعتقد الصين أن هذه الخطوة متعمدة من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، ووفقًا للمتحدث باسم الخارجية الصينية: “لم تكلّ الولايات المتحدة أبدًا من تحريك حلفائها مثل القطع على رقعة الشطرنج ضد الصين”.

وفي التعليقات الصادرة عن كبار المسؤولين الصينيين ارتباطًا بالاتفاق، تم إبراز حذر دول آسيا من الصفقة وقلقها من تداعياتها على استقرار المنطقة، خاصةً وأن هذه الدول لم تصدر أي بيان رسمي في هذا الشأن؛ حيث لا يوجد توافق فيما بينها في هذا الشأن، فقد أعربت ماليزيا عن مخاوفها مما أسمته “عسكرة متنامية للعلاقات في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”، وهو ما ذهب إليه وزير الخارجية الإندونيسية.

ثالثاً: التداعيات الاستراتيجية طويلة الأمد للاتفاق:

في ملاحظاته حول الاتفاق، خلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه برئيس وزراء أستراليا والمملكة المتحدة في 22 سبتمبر 2021، ذكر الرئيس بايدن أن اتفاق أوكوس: “خطوة ستستكمل الشراكات القائمة الأخرى مثل أستراليا ونيوزيلاند والولايات المتحدة الأمريكية (المعروفة اختصارًا بــــ (ANZUS)، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (ASEAN)، والدول الأعضاء في ترتيبات “العيون الخمسة” (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلاند) في منطقة المحيطين الهندي والهادئ”.

وفي تقدير عدد من المحللين الأوروبيين أنه بالنظر إلى نطاق مشروع “أوكوس”، أو ما أعلن عنه حتى الآن، لا يمكن النظر إليه على أنه ثورة أو خروج على التحالفات التقليدية القائمة في ضوء اعتبارين رئيسين:

أن أوكوس لا يُعد “تحالفًا” جديدًا، بالمعني الدقيق للكلمة، وفي حين استخدم العديد من المعلقين هذا المصطلح (تحالف) لوصف الاتفاق، إلا أن هذا الاستخدام كان من باب “الاستسهال اللغوي”  “a linguistic convenience”؛ فالاتفاق لا ينطوي على التزام واضح بالدفاع الجماعي- على النحو الوارد- على سبيل المثال، في المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلنطي.

وفي التقدير لا يقصد باتفاق “أوكوس” الاستجابة مباشرة لتحدي مثل احتمالية غزو تايوان من قبل الصين، وهو ما يستفيد ضمنًا من تهرب رئيس الوزراء البريطاني “بوريس جونسون” من الرد على سؤال تيريزا ماي حول مدى التزام بريطانيا في هذه الحالة.

أن هذه الشراكة الأمنية المعززة بين أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة لا تغيِّر بشكلٍ جوهري من طبيعة التجمعات الجيوسياسية الحالية في المنطقة؛ فالولايات المتحدة وأستراليا ملتزمتان رسميًا بالفعل ببند يتعلق بالدفاع الجماعي في اتفاق ثلاثي مع نيوزيلاند(ANZUS)، في حين أن واشنطن ولندن حليفتان راسختان داخل منظومة حلف شمال الأطلنطي. وفضلًا عن ذلك، وإلى جانب التحالفات الرسمية، يعمل أعضاء “أوكوس” بالفعل معًا، وبشكلٍ وثيق بموجب عدد من الاتفاقات الأمنية والدفاعية، لعل أكثرها شهرة ما يُسمى باتفاق “العيون الخمسة” “Five Eyes Agreement”، الذي يضم أيضًا كندا ونيوزيلاند حول التعاون في مجال الاستخبارات. وأخيرًا، وفي إطار أوسع، تشترك (كانبيرا ولندن وواشنطن) في عدد من السمات، كونها “ديمقراطيات بحرية”، وفقًا لما أشار إليه البيان المشترك لشراكة “أوكوس”، كما تتشارك في التضحيات والجهود التي بذلتها خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة.

في السياق عاليه، يمكن القول بأن الأثار الاستراتيجية الطويلة الأجل لاتفاق “أوكوس”، تتمحور حول قضايا أربعة أساسية:

  1. الانتشار النووي في منطقة المحيطين (الهندي والهادئ )وخارجها:

بموجب الصفقة ستتبادل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة التكنولوجيا والمواد والقدرات النووية المتقدمة مع أستراليا، وحرصت الدولتان على إيضاح أنهما لن تمنحا أستراليا أسلحة نووية.

وبالرغم من ذلك، أكَّد عدد من الخبراء في قضايا منع الانتشار النووي، ومنهم على سبيل المثال “James M. Acton” المدير المشارك لبرنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي- أن الآثار المترتبة على الانتشار ارتباطًا بصفقة الغواصات سلبية وخطيرة في آنٍ واحد؛ ذلك أن قيام أستراليا بتشغيل غواصات تعمل بالطاقة النووية يفترض أن تكون هذه السفن حربية وليس للاستخدام السلمي للطاقة النووية، وهو ما سيجعلها أول دولة غير حائزة على الأسلحة النووية تفتح ثغرة تسمح لها باستبعاد المواد النووية من نظام الضمانات التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية؛ ذلك أن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية سكتت عن حالة الدول غير الحائزة على الأسلحة النووية، التي يمكنها بناء أو تشغيل سفن تعمل بالطاقة النووية، ومن المفترض أن الوكالة لأسباب عملية، لا يمكنها السيطرة على السفن التي تعمل بالطاقة النووية- لا سيما الغواصات التي تبقى مواقعها سرية ويتعذر الوصول إليها أساسًا. ونتيجة لذلك فإن اتفاق الضمانات الشاملة للوكالة لا يغطي حالة الدول غير الحائزة على الأسلحة النووية التي تمتلك غواصات تعمل بالطاقة النووية لاستخدامها في “نشاط عسكري”.

 وينظر إلى هذه المسألة على أنها ثغرة صارخة ومثيرة للقلق في إطار ضمانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلا أن الحاصل هو أن الدول الحائزة على الأسلحة النووية وغير الدول الموقعة على معاهدة عدم الانتشار يمكنها ذلك، فمنذ صياغة اتفاق الضمانات الشاملة لأول مرة قبل خمسين عامًا تقريبًا، لم تمارس أي دولة غير حائزة للأسلحة النووية هذه الثغرة مطلقًا، رغم تفكير بعضها في ذلك بجدية مثل (البرازيل وكندا)، كما أن إيران أبلغت الوكالة في عام 2018 أنها تخطط “لبناء دفع نووي بحري في المستقبل”.

ويخلص هذا البعض إلى أنه إذا كان من المقبول القول بأنه إذا ما أقدمت دولة مثل إيران على هذه الخطوة، فإنها ستواجه برد فعل دولي عنيف، خاصةً من الدول النووية بما في ذلك من (الصين وروسيا)، فإنه في حالة أستراليا، سيكون رد الفعل هذا أضعف بكثير، وقد لا يكون هناك رد فعل أصلًا. وبالتالي من المرجح أن يضعف اتفاق “أوكوس” قيمة الردع وفقًا لاتفاق الضمانات ويجعل الانتشار أكثر احتمالًا، وأنه على أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة إدراك أن تكاليف منع الانتشار النووي تفوق كثيرًا الفوائد العسكرية والاستراتيجية المقرر أن يجلبها اتفاق أوكوس.

 وفي هذا السياق يقترح هذا البعض سلسلة من التدابير التي يتعين على الدول الثلاثة تطبيقها للتخفيف من هذه التكاليف، أولها: ضرورة أن تعمل مفاعلات الغواصات الأسترالية باليورانيوم منخفض التخصيب، الذي لا يستخدم مباشرة في الأسلحة النووية، بدلًا من اليورانيوم عالي التخصيب المستخدم فيها. ويشير بعض الخبراء إلى أنه طالما أن المملكة المتحدة والولايات المتحدة، لا تملكان حاليًا تصميمًا للمفاعلات البحرية التي تعمل باليورانيوم منخفض التخصيب، فإنه ينبغي عليها دعوة فرنسا للانضمام لاتفاق “أوكوس”؛ لكي توفر هذا الوقود المستخدم لديها لتشغيل الغواصات الأسترالية.

وفي كل الأحوال فإن الصين والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأي دولة أخرى معنية، ستكون مهتمة بضمان ألا تنتهك صفقة الغواصات معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، وبالتالي من غير المستبعد إثارة هذه المسألة في مؤتمر مراجعة معاهدة منع الانتشار النووي المقرر عقده في نيويورك في يناير 2022. وبعيدًا عن إصرار واشنطن ولندن على أنهما لن يفعلا ذلك، إلا أن الاهتمام سيتركز على مدى الاستقلال النووي الذي ستحصل عليه أستراليا، وبصفةٍ خاصة في أمور مثل: إعادة معالجة قضبان الوقود النووي أو تطوير مفاعلات وصيانتها في الداخل. ولا يستبعد البعض في هذا السياق أن يقوم مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية- كحد أدنى- بإنشاء نظام معزز للتفتيش والتحقق وضمانات صارمة للبرنامج النووي الأسترالي.

  • مدى احتماليه انضمام بلدان أخرى لاتفاق أوكوس:

 في دحضهما للانتقادات الفرنسية للصفقة، أصر كلٌّ من “بوريس جونسون والمتحدث باسم البيت الأبيض” على أن الاتفاق ليس ترتيبًا حصريًا، بمعنى أنه غير قاصر على الدول الأطراف فيه، وذلك بالرغم من تبرير الاتفاق بالروابط التاريخية والثقافية والاستراتيجية الوثيقة للغاية بين الأعضاء الثلاث المؤسسة، وبالتالي من الصعب الاعتقاد بأن الأعضاء الأخرين المحتملين سيتمتعون بنفس الثقة والنفاذ والوضعية. ولنيوزيلاند – التي تشاطر الدول الثلاثة ذات الروابط – موقف خاص في هذا الشأن، حيث رفضت السماح للسفن الأمريكية التي تعمل بالطاقة النووية بزيارة الموانئ النيوزيلاندية، وهي قاعدة مرعية في هذه الدولة. وفي هذا السياق، عندما أُعلن عن اتفاق “أوكوس”، رحبت به رئيسة الوزراء “جاسيندا أردرن” لإسهامه في أمن منطقة المحيطين (الهندي والهادئ)، إلا أنها كانت حريصة على تأكيد أنه لن يُسمح للغواصات النووية الأسترالية- عند تشغليها- بدخول موانئ نيوزيلاند، وقد دفع هذا الموقف واشنطن إلى إلغاء التزاماتها تجاه ولنجتون. ويستبعد المراقبون أن تنضم فرنسا إلى الاتفاق نظرًا لرفضها من قبل كانبيرا؛ حيث يبدو أن باريس تعطي الأولوية لشراكة الدفاع مع الهند بدلًا من ذلك، خاصةً وأنها باعت طائرات “راﭬال لنيودلهي”، وهناك تكهنات بأن تحاول بيعها بعض غواصات “باراكودا” من صفقة أستراليا الملغاة.

  • اتفاق أوكوس والرباعية:

تشكلت مجموعة الأربعة (The Quad) – والتي تضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا – منذ نحو 17 عامًا من خلال استجابة مشتركة لأزمة عاجلة، هي زلزال المحيط الهندي وتسونامي عام 2004؛ حيث قدمت القوات البحرية للدول الأربعة إغاثة سريعة وفعالة للجرحى والمشردين في المنطقة ما بين أول ديسمبر من ذلك العام ويناير 2005. ومع الوقت، بات صعود الصين هو العامل المشترك لوحدة دول المجموعة، الأمر الذي استغلته إدارة ترامب التي اعتبرت المجموعة وسيلة مفيدة لمواجهة صعود الصين في آسيا، وبالتالي اكتسبت الرباعية زخمًا مطردًا بدءًا من عام 2017، واجتمع وزراء خارجيتها في سبتمبر 2019 ثم في أكتوبر 2020، وتلى ذلك مناورة “مالابار” البحرية بقيادة الهند في نوفمبر2020، وجاءت إدارة بايدن لتسير على نفس درب الإدارة السابقة وتوظف المجموعة بوصفها حجر الزاوية في استراتيجيتها الإقليمية الخاصة ضد الصين. وقد عقدت الرباعية قمة غير رسمية في 12 مارس 2021، ثم قمة أخرى في البيت الأبيض في 24 سبتمبر 2021، مع جدول أعمال مكثف شمل بدء تشغيل تكنولوجيا الاتصالات 5G ومواءمة المعايير التكنولوجية وتوزيع لقاحات وباء كوفيد -19. وبرر عدد من المحللين هذه الأجندة الواسعة بمحاولة الرباعية تفادي الانتقادات المواجهة إليها كونها أسيرة لتركيزها شبه الحصري على القضايا الأمنية ارتباطًا بصعود الصين.

 ومع هذه الأجندة المتنوعة من القضايا الاجتماعية والاقتصادية للرباعية، يعتقد البعض أنها يمكن أن تصبح المظلة الاستراتيجية الشاملة للقوة الناعمة لمنطقة المحيطين (الهندي والهادئ)، بينما تقوم “أوكوس” بدور قوة الردع الأصغر أو القوة الصلبة. وقد تنشأ في المستقبل صيغة ما للتعاون بين الهيئتين، بما فيها تدريبات ومناورات متقدمة للقوات البحرية والجوية والخاصة، التي تتشارك فيها (الهند أو اليابان أو كوريا الجنوبية أو فرنسا أو ألمانيا). ومن المرجح أن ترتبط المملكة المتحدة وفرنسا بالرباعية في صيغة “الرباعية +2″، خاصة بحكم الحضور الفرنسي القوي في منطقة المحيط الهادئ حيث ينتشر نحو 7000 جندي ويقيم حوالي 2 مليون من الرعايا الفرنسيين.

من ناحية أخرى، تسعى أستراليا إلى التوصل إلى اتفاقية تجارة مع الهند للتعويض عن خسائرها التجارية من لحوم البقر والنبيذ والحبوب والأخشاب عقب الحظر الذي فرضته بكين على كانبيرا، ومع ذلك يؤكد البعض أنه حتى الدول الموالية للولايات المتحدة في المنطقة، من غير المرجح أن تقدم على التورط بشكلٍ مباشر في اتفاقية دفاعية لن تؤدي إلا إلى وضعها على مسار تصادمي مع بكين الشريك التجاري والاستثماري الحيوي. لذا- وعلى الرغم من أن هذه البلدان سترحب سرًا بتواجد أكبر للولايات المتحدة في المنطقة باعتباره ثقلًا مضادًا للصين- فمن المرجح أن تكون حذرة في رهاناتها.

  • يثير اتفاق “أوكوس” العديد من التساؤلات حول آثاره على مستقبل دور الاتحاد الأوروبي في المنطقة والعلاقة بين الاتحاد والصين:

حاول الاتحاد الأوروبي في استراتيجيته لمنطقة المحيطين (الهندي والهادئ)، التي أطلقها في اليوم التالي للإعلان عن اتفاق “أوكوس”، توجيه مسار وسط، مدركًا المخاطر الأمنية المتزايدة وخطاب الصين الحاد مؤخرًا، في الوقت ذاته تدرك بروكسل أيضًا أن بكين باتت الآن أكبر شريك تجاري لها، وأن الوصول إلى السوق والاستثمارات الصينية أمر بالغ الأهمية بالنسبة لانتعاش الاتحاد الأوروبي في مرحلة ما بعد ” 19 – COVID”.  ومع ذلك، فإن “أوكوس” دليل أخر على أن محاولة توجيه مسار وسط في التنافس والمواجهة المتنامية بين الولايات المتحدة والصين أصبح أمرًا أكثر صعوبة.

وفي أواخر سبتمبر الماضي، رفضت بكين قبول زيارة الفرقاطة الألمانية “بافاريا”، التي كانت في حالة انتشار في المحيطين (الهندي والهادئ)، إلى جانب فرقاطات فرنسية وهولندية وبلجيكية؛ لإظهار اهتمام الاتحاد الأوروبي المتزايد بالمنطقة ورغبته في السعي إلى إقامة شراكات للتعاون. ومع ذلك، كانت رسالة بكين هي أن برلين لابد وأن ترسل وفودًا تجارية بدلًا من السفن الحربية، وأنها لن ترحب بدور عسكري للاتحاد الأوروبي، حتى ولو كان دورًا محدودًا.

 ومن خلال اتباع نهج واسع النطاق، كان الاتحاد الأوروبي يأمل في أن يتمكن من سدِّ الفجوة بين الولايات المتحدة والصين ودفع واشنطن نحو إبرام صفقات تجارية متعددة الأطراف والتعاون مع بكين، حتى مع قبول المزيد من المنافسة في التكنولوجيا والمعايير، والتركيز بشكلٍ أكبر على التوازن العسكري. والآن يرى الاتحاد الأوروبي نفسه مدفوعًا نحو الانحياز إلى جانب واحد، وقد يحاول الدخول في شراكة مع الرباعية واستخدام ذلك لتخفيف نهجه تجاه بكين أو قد يسير في طريقه الخاص كجزء من الحكم الذاتي الاستراتيجي للاتحاد الأوروبي الذي دعت إليه فرنسا بعد فشل صفقتها مع أستراليا، ومحاولة التفاعل بشكلٍ أكبر مع المجموعات الإقليمية مثل رابطة أمم جنوب شرق آسيا، وبالتالي تعزيز بنية أمنية إقليمية شاملة تضم جميع بلدان المحيطين (الهندي والهادئ).

  • تداعيات الاتفاق على الهياكل التجارية الإقليمية:

عادة ما يُنظر إلى التجمعات التجارية الإقليمية كعناصر مكملة لا غنى عنها للتحالفات العسكرية، وفي محاولة لربط منطقة المحيطين (الهندي والهادئ) بشبكة كثيفة من العلاقات المتعددة الأطراف التي تعكس المعايير الديمقراطية، تتجاهل واشنطن البعد التجاري الأساسي؛ ذلك أن نمو التجارة والاستثمار في مختلف أنحاء المنطقة هو الذي يفسر صعودها المذهل إلى الصدارة، كما أنه السبب الآن وراء قلق العديد من القوى الإقليمية والخارجية من أن هذا الازدهار قد يتضرر من المنافسات الاستراتيجية.

وقد مضت بلدان المنطقة قدمًا في التوصل إلى اتفاق تجارة خاص بها، وهو الاتفاق الشامل والتقدمي للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP)، الذي وقع عليه في فبراير 2016 وانسحبت الولايات المتحدة منه بعد تولي ترامب الرئاسة مباشرة. وعلى النقيض من ذلك، رعت الصين ترتيبًا بديلًا، هو الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، التي تضم 15 بلدًا، ولكنها لا تتضمن نفس المعايير الصعبة عندما يتعلق الأمر بقوانين العمل والمعايير البيئية والضوابط بشأن المشاريع المملوكة للدولة. ومع ذلك لفت طلب رسمي تقدمت به الصين في 16 سبتمبر 2021 – أي في اليوم التالي للإعلان عن اتفاق “أوكوس” – للانضمام إلى الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ، انتباه العالم.

وتشترك الصين في علاقات تجارية عميقة مع جميع أطراف الاتفاق (أستراليا وبروناي وكندا وشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلاند وبيرو وسنغافورة وفيتنام)، كما تربطها بها اتفاقات تفضيلية للتجارة الحرة، باستثناء المكسيك وكندا، فضلًا عن ارتباط غالبية الأعضاء بالصين من خلال اتفاقية “الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”.

بالإضافة إلى ما تقدم، فإن النفوذ الدبلوماسي والاقتصادي الصيني في منطقة المحيط الهادئ واضح، حيث خلقت الصين هذا النفوذ الهائل من خلال سيطرتها الكبيرة على البنك الأسيوي للاستثمار في البنية التحتية وخطة تطوير البنية التحتية الضخمة في إطار مبادرة “الحزام والطريق”. وتُعد هذه الإجراءات تحديًّا للقوى التقليدية في المنطقة مثل الولايات المتحدة، وعلى حين يعتقد العديد من الخبراء الغربيين أن الصين تستخدم الاتفاقات التجارية كأداة لتوسيع نفوذها، وأنها اتفاقات سياسية أكثر منها اقتصادية- تنظر للصين لهذه الاتفاقات كأداة فاعلة لتقييد النفوذ الأمريكي في المنطقة والنيل من فعالية ترتيبات مثل الحوار الأمني الرباعي واتفاق “أوكوس”.

وتشير التقديرات الأولية للطلب الصيني إلى أنه من غير المحتمل أن يواجه اعتراضًا كبيرًا من الدول الأعضاء في الشراكة، وأن انضمام الصين إليها سوف يؤثر بلا شك على المشهد التجاري الإقليمي بل وعلى إعادة تشكيل آفاق التجارة العالمية ويعيد توازن القوة في المنطقة في ضوء العلاقات الاقتصادية العميقة بين الصين ودول المنطقة، واعتماد الأخيرة على الأولى في التجارة.

وعلى العكس من ذلك، لا تبدي الولايات المتحدة أي اهتمام بالسعي إلى إبرام اتفاقيات تجارية إقليمية جديدة، خوفًا من معارضة العمالة الأمريكية والكونغرس.

والخلاصة: هي أن اتفاق “أوكوس” جاء كمشروع لتعميق خطوط الجغرافيا السياسية القائمة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والتي يشمل التنافس الشديد فيها بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين محاولات كل جانب تعزيز قدرته على التدخل وضمان المزيد من الخيار العسكرية، إلى جانب زيادة النفوذ الاقتصادي، واكتساب التفوق في المنطقة في النهاية. وعلى حين يستهدف الاتفاق تعزيز التعاون فيما بين أطرافه في مجال الصناعات العسكرية، وهو تعاون قائم بالفعل، وذلك على المدى الطويل، إلا أنها لم تقدر تمامًا أبعاد الأزمة الحادة التي سببها ميلاد “أوكوس” لحليف مثل فرنسا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي.

من ناحية أخرى فإن أغلبية دول المنطقة، بما فيها بعض الحلفاء والشركاء للولايات المتحدة، وإن كانت متخوفة من النوايا الاستراتيجية للصين، خاصةً عسكرة بحر الصين الجنوبي، إلا أنها أعربت في الوقت ذاته عن عدم ارتياحها إزاء الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بالمنطقة، وتفضيلها حماية مصالحها الاستراتيجية من خلال الحفاظ على نوع من التوازن في علاقاتها مع البلدين وعدم الرغبة في أن تجد نفسها أمام خيار الانحياز لطرف بعينه.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى