2021العدد 187ملف خاص

الأصولية الإنجيلية والاستثنائية الإسرائيلية

يرجع قبول الرئيس السابق “دونالد ترامب” بنقل سفارة بلاده إلى القدس- تناقضًا مع نهج الرؤساء الأمريكيين تأجيل تنفيذ قرار الكونجرس منذ عام 1995م، ناهيك عن قرارات الشرعية الدولية – في جزءٍ كبيرٍ منه إلى طبيعة الرجل النفسية وخلفيته كـرجل أعمال تحكمه المراهنات والصفقات دون القيم والرموز، لا يستطيع فهم شعور كل عربي )مسيحي أو مسلم(، يرى في المدينة ما هو أكبر من مساحتها، أي ذلك اللحن الروحي متعدد النغمات العقدية، الذي يجعل منها زهرة المدائن، ويرجع أيضًا إلى التأثيرات الانتخابية للوبي اليهودي على ترامب الذي كان وعد ناخبيه بتنفيذ القرار، ويرجع كذلك إلى حال الضعف العربي غير المسبوق الذي واكب القرار، لا الضعف العسكري والاستراتيجي المفهوم والمزمن بل الضعف الأخلاقي والمعنوي الطارئ وغير المبرر. ورغم ذلك فلا شخصية ترامب، ولا ضغوط اللوبي اليهودي، ولا رخاوة العرب، هي العوامل الحاسمة في اتخاذ القرار وإنما الخلفية الثقافية التي تُشجعه والجذر الديني الذي يُلهمه، ويضمن له قبول عموم الأمريكيين، غير المهتمين بفضائل العدالة الدولية قدر انصياعهم لأفكار دينية خلاصية على منوال العقيدة الألفية القائلة بعودة المسيح لحكم العالم في نهاية الزمان، وهو اعتقاد له جذور لاهوتية، وإن ارتبط صعوده وهبوطه بالتحولات التاريخية_ خصوصًا بتيار الأصولية الإنجيلية الذي ولد ونما في قلب الثقافة الأمريكية، وأخذ يبدي امتعاضًا واضحًا ومقاومة متزايدة لمسيرة العلمنة منذ الربع الثاني للقرن العشرين على أقل تقدير، خصوصًا على صعيدي )السلطة والهوية(.

على صعيد السلطة: ولدت أول جمهورية ديمقراطية من رحم الثورة الأمريكية 1776م على يدي البيوريتانيين (أي البروتستانتيين الأتقياء الداعين إلى التمسك الصارم بأهداب الدين والأخلاق الفاضلة الذين نشؤوا فى بريطانيا أساسًا، ودعموا ثورة كرومويل، وبرحيله عانوا اضطهادًا دفعهم للهجرة أولًا إلى هولندا، ثم من هولندا وإنجلترا إلى العالم الجديد الذي اعتبروه الأرض الجديدة، ومن ثَمَّ تأسيس الاتحاد الأمريكي بعد الاستقلال عن وطنهم الأم)، الذين بدؤوا حركة الهجرة من غرب أوروبا_ خصوصًا من بريطانيا؛ هروبًا من اضطهاد الكنيسة “الإنجليكانية” إلى العالم الجديد وأسسوا فيه مستعمرة “نيو إنجلاند” (إنجلترا الجديدة) في شرق الولايات المتحدة، التي انطلقت منها حركة الاستيطان إلى عموم أمريكا الشمالية.

 وعندما نجح البيوريتانيون في تأسيس الاتحاد الأمريكي، شعروا بالثقة ونظروا إلى بلدهم باعتباره أمة مُخلصة، مدينة جديدة مقدسة على التل تشبه أورشليم، تدعي لنفسها عهدًا مع الله وتحمل رسالة خاصة إلى بقية العالم، وعلى الرغم من أن إعلان الاستقلال -الذي كتبه “توماس جيفرسون” مع “جون أدامز” و”بنيامين فرانكلين”، وصادقَ عليه مؤتمر المستعمرات يوم 4 يوليو من العام نفسه (1776م)- كان بمثابة وثيقة تنويرية أساسها حقوق الإنسان التي كان “جون لوك” ينادي بها كـ (الحق في الحياة والحرية ومناشدة السعادة)، ولم يكن فيه أي إشارات غيبية أو طوباوية؛ فإن الأغلبية الساحقة من الأمريكيين كانت كالفنية، ومن ثم اختلطت لديهم الأيديولوجية العلمانية مع الأفكار الدينية في سياق تعبوي أتاح للمستوطنين على التفاوت الشديد بينهم أن ينظموا صفوفهم تحت العلم الأمريكي لمحاربة القوة الإمبريالية لبريطانيا، وإنشاء أول جمهورية علمانية حديثة.

في عام 1786م أعلن توماس جيفرسون :”أن الكنيسة الأنجليكانية لم تعد هي الرسمية في ولاية فيرجينيا؛ لأن القسر في مسائل الدين ينم عن الخطيئة والطغيان؛ ولأن الحقيقة سوف تنتصر إذا سُمح للناس باعتناق أفكارهم الخاصة، ومن ثَمَّ فلابد من إقامة جدار يفصل بين الدين والسياسة”. وقد حَظى المرسوم بتأييد الكنائس البروتستانتية الأساسية (المعمدانية، والميثودية، والمشيخية)، المستاءة من المكانة المتميزة التي كانت كنيسة إنجلترا تتمتع بها في الولاية، وقد سارت الولايات الأخرى على هذا الطريق فيما بعد، وأعلنت عدم وجود كنيسة رسمية لأي منها.

 وفي إطار لائحة الحقوق 1789م، كان التعديل الأول للدستور يَفصل رسميًّا بين الدين والدولة، فلم يعد يشير إلى دور الإله في نشأة الاتحاد إلا عابرًا، ولم ينته القرن الثامن عشر إلا وقد نضجت فلسفة التنوير ودخل الناس في “عصر العقل”، حيث صارت الفضائل علمانية وإنسانية كـ (الحرية والمساواة والأخوة والعدالة)، فأصبحت العقيدة مسألة فردية وطوعية، ولم  يعد الكونجرس يضع أي حظر على حرية الممارسة الدينية، وكانت ولاية “ماساتشوستس” آخر ولاية تلغي هذا الحظر عام 1833م. 

غير أن ثمة ممانعة لصيرورة العلمنة هذه، أخذت شكل انبعاثات مضادة:

جاء أولها في النصف الأول من القرن التاسع عشر, ليشكَّل ما أسماه مارتن مارتي “اللحاف المجنون للمذهبية البروتستانتية”، الذي عبر عن نفسه في صحوة دينية ظهرت سواءً في الأنشطة الفردية، أو في تشكيل مؤسسات جماعية من قبيل “الجمعية الأمريكية للكتاب المقدس” 1816م، و”الاتحاد الأمريكي لمدارس الأحد” 1824م، بهدف (نشر وتوزيع الكتاب المقدس، وبناء الكنائس والمدارس والجامعات اللاهوتية، والقيام بالحملات الدينية وإلقاء المواعظ). وبانتصاف القرن صرفت هذه الصحوة كثيرين عن المذهب الجمهوري الكلاسيكي للمؤسسين، وأدخلتهم إلى ما أسماه البعض ساحة الديمقراطية السوقية والنزعة الفردية الغليظة التي باتت تميز الثقافة الأمريكية حتى اليوم، وكان “أليكسىس دى توكفيل” قد حذر منها آنذاك في كتابه الشهير عن (الديمقراطية في أمريكا).

 وجاء الانبعاث الثاني مطلع القرن العشرين: في مواجهة علمنة التعليم العام وفقدان السيطرة البروتستانتية على المجال الاجتماعي، وفي سياقه ظهر مصطلح الأصولية؛ ليميز أصحاب العقيدة المسيحية الأصلية عن أتباع المذاهب الأكثر عقلانية وعلمانية وقبولًا بالتعددية، التي اعتبرها الأصوليون تساهلًا في العقيدة، ومن أهم المقولات التي رفعها الأصوليون آنذاك مبدأ “عصمة الإنجيل”، الذي أقاموا على أساسه عام  1925م دعوى قضائية ضد مدرس يعرض في محاضراته نظرية “داروين حول التطور”.

 أمَّا الانبعاث الثالث: وهو الأكثر أهمية، فيرجع إلى سبعينيات القرن العشرين، ويندرج في سياق صحوة عامة في الأديان العالمية الكبرى شملت أيضًا (الإسلام واليهودية والهندوسية)، وأيضًا في سياق خاص أمريكي يتمثل في الاحتجاج الأخلاقي على المستوى الفائق من العلمنة الذي نال من جل القيم الروحية المسيحية باسم التوجه الإنساني العلماني وحركة الحقوق المدنية في الستينيات، ومن مكونات هذا الانبعاث تشكل اليمين السياسي المحافظ على قاعدة اليمين المسيحي الأصولي كقاعدة قوية للحزب الجمهوري، لكن- رغم تلك الانبعاثات- ظلت الأصولية الإنجيلية في الولايات المتحدة هينة ويسيرة، لم تتورط في عنفٍ واسع يشبه ما تقوم به الأصولية الإسلامية منذ السبعينات، وهو ملمح يمكن تفسيره بأربعة أسباب رئيسة:

أولها: أنها حركة بعد علمانية، نشأت في مجتمع تجذَّرت فيه الدولة المدنية، سواءً في الفضاء القانوني أو السياسي، وذلك عكس نظيرتها الإسلامية التي ظهرت في بلدان اقتصرت العلمانية فيها على النخب المتغربة جزئيًّا، ولم تصل إلى المجتمع القاعدي تمامًا، وحتى عندما يحدث الاستثناء وتصل الأفكار العلمانية إلى الناس فالأغلب أن تصلهم مشوشة إلى الحد الذي يُقرنها بالإلحاد أو يختزلها في رفض الدين ويدفع المتشددين إلى الجهاد ضدها. أما الأمريكي بتأثير حركة التحديث العميقة ومسيرة العقلانية الطويلة المرتبطة بجذوره الأوروبية فيبدو أكثر تقبلًا للمفهوم، واعيًا بحدوده حتى لو تحفظ على بعض تجلياته أو تطبيقاته، ولذا تبقى أصوليته ناعمة تعكس نوعًا من المحافظة الأخلاقية وليست خشنة يحفزها خوف جذري على العقيدة الدينية.

وثانيها: أن السياق العام المحيط بها يتمثل في مجتمع ديمقراطي، يتقيد بثقافة مشاركة وتقاليد تعددية، لم تتعرض فيه تنظيماتها للقمع العنيف الذي تعرضت له نظيرتها الإسلامية، والأهم من ذلك أن التقاليد الديمقراطية سمحت لها بالتعبير عن نفسها من داخل النظام السياسي كقوة تصويت مؤثرة على كافة الأصعدة من مجالس المدارس ومجالس المدن في ولايات عدة إلى الكونجرس وحكام الولايات فلماذا تمارس العنف إذن؟! بل إن اليمين المسيحي- ضمن سعيه إلى التنصير من فوق- قد دفع بمرشح للرئاسة في الانتخابات الأولية للحزب الجمهوري عام 1988م، وهو “بات روبرتسون” قبل أن تُكرر المحاولة في الترشيحات التمهيدية للانتخابات الرئاسية لعام 2000م من خلال “جارى بوير” الذي خاض معركة ترشيحات الحزب الجمهوري، وإن لم يُكمل الطريق إلى نهايته.

وثالثها: أنها نشأت في مجتمع رأسمالي يقوم على الحرية والتنافسية؛ ولذلك نجدها تعمل بمنطق السوق، لدرجة أن البعض يقول بوجود “سوق أمريكي للدين” تتنافس فيه الشبكات التليفزيونية الدينية “الكنائس المرئية”، والجامعات اللاهوتية، ومنظمات التبشير، ووسائل النشر المطبعي والإلكتروني المسيحية، في ظل غياب دين رسمي للدولة أو كنيسة قومية، وهو ما أعطى الأصولية المسيحية نطاقًا للحضور داخل المجتمع المدني، وفَّر له قدرًا من الإشباع والتوكيد الذاتي، وأغناه ولو جزئيًّا عن طرح مطالب عنيفة في مواجهة النظام السياسي.

أما رابعها: فيتمثل في عدم وجود عدو صريح (متفوق، قوي واستعماري) من قبيل الغرب بالنسبة إلى الأصوليين المسلمين، فمن أجل تعبئة فاعلة تحتاج أي مجموعة بشرية إلى أيديولوجيا كفاحية تبرر تضحياتها في مواجهة آخر متمايز جذريًّا، ولا سبيل إلى مقارعته إلا بهذا النوع من العنف، وبينما كان ممكنًا للمتطرفين الإسلاميين أن يشجبوا ثقافة الغرب المنحلة وإعلامه الماجن وسياساته الإمبريالية كوسائل للحشد ضده، فإن الأصوليين الغربيين الذين يحيون في مجتمع قوي ومتفوق يرتاد أفق الحضارة الإنسانية، وليست لديه عقد نفسية إزاء آخرين متفوقين عليه (الآن) _افتقدوا دوافع للحشد تقارب نظيرتها لدى الإسلاميين، بينما كانت لديهم قنوات لتفريغ الغضب أكثر كثيرًا من هؤلاء الإسلاميين. 

أما على صعيد الهوية: فقد وقع اشتباك بدئي بين البيوريتانيين الذين هاجروا إلى العالم الجديد وبين  الكنيسة الإنجليكانية في بريطانيا، كان بمثابة تتمة للانفصال بين الكنائس البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية، والذي جرى في سياقه إعادة اكتشاف الجذور اليهودية للمسيحية، وإعطاء جل الكنائس الإنجيلية أولوية خاصة للعلاقة مع اليهود ورؤيتهم لخطة الخلاص الإلهي التي تدور حول العقيدة الألفية.

 انطلق هذا التلاقي التاريخي من نبوءة خلاص تدور حول ” نهاية الزمان بعودة السيد المسيح لقيادة العالم ألف عام”، جرى اقتباسها من سفر الرؤيا في العهد القديم، وجوهرها أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد وبناء الهيكل الثالث، يمثل بشارة لعودة المسيح وبداية المعركة الفاصلة (هرمجدون) مع الشر. من ثَمَّ وُلدت مسيحية صهيونية تتلاقى مع الصهيونية اليهودية في تأييد العنف الإسرائيلي الراهن باعتباره جزء من صيرورة الخلاص، وخطة الرب لنهاية التاريخ، والحقيقة أن تلك العدوانية الكامنة في المسيحية الصهيونية لا تَمُتُّ بصلة إلى روح التبشير الذي قام به السيد المسيح – خصوصًا في موعظة الجبل- بل إلى المبدأ الانتقائي المؤسس للوعي الأصولي والنزعة الاختزالية لدى الأصولية (الإنجيلية)، التي لا يمكن فهمها إلا في سياق رد الفعل على الكنيسة الكاثوليكية التي كانت اتخذت موقفًا مناوئًا من اليهود.

ففي بداية تاريخ الكنيسة كان ثمة اعتقاد بعودة وشيكة للسيد المسيح، استمر طيلة القرن الأول الميلادي؛ ولأن فكرة نهاية الزمان كانت تمثل تهديدًا لأمن الكنيسة، فقد حاربها القساوسة الأوائل الذين رفضوا التفسير الحرفي للتوراة وفضَّلوا عليه التفسير المجازي، وعندما أصبحت المسيحية ديانة رسمية للدولة منذ عام 380م، فقد أخذت الدولة نفسها تحارب هذه العقيدة المهدِّدة لأمن الإمبراطورية الرومانية حتى نجح القديس “أوغسطين” في وضع حد لهذه العقيدة في كتابه “مدينة الله” عندما فسرها مجازيًّا معتبرًا أن “عودة المسيح روحية وليست زمنية”.

 وعلى هذا، لم يكن الفكر الكاثوليكي يعتقد في ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين، المفترض أن تلي عودة المسيح، حيث ساد الاعتقاد بأنهم قد اقترفوا إثمًا عظيمًا طردهم الله بسببه من فلسطين إلى منفاهم في بابل، وعندما أنكروا أن عيسى هو المسيح المنتظر نفاهم ثانيةً، وبذلك انتهى وجود ما يسمى “الأمة اليهودية” إلى الأبد؛ وإن ظلّوا كأفراد قادرين على تحقيق الخلاص الروحي من خلال اعتناق المسيحية.

 أما نبوءات عودة اليهود فكانت تُؤَوّل على أنها عودة من المنفى في بابل، وقد تحقق ذلك في القرن السادس قبل الميلاد حين أعادهم القائد الفارسي” قورش” إلى فلسطين، أما الفقرات الأخرى التي تتنبأ بمستقبل مشرق لإسرائيل، فكانت تُحمل على “إسرائيل الجديدة”؛ أي الكنيسة المسيحية التي كانت تُعتبر بمثابة “إسرائيل الحقيقية” التي ورثت اليهودية آنذاك،  لم تكن القدس توصف بأنها صهيون اليهودية، بل “مدينة العهد الجديد”، ولم تتضاءل أهميتها كمدينة مقدسة “مسيحية” إلا بعد عام 590م، حين أصبح عرش البابا “جريجورى” العظيم في روما مركزًا للسلطة المسيحية يليه أسقف القسطنطينية، ثم الإسكندرية، ثم أنطاكية، فيما أصبح أسقف القدس في المرتبة الخامسة من التسلسل الهرمي لهيئة الكهنوت الكاثوليكي _رغم أنه كان الوريث الشرعي للقديس “جيمس” شقيق “يسوع”.

حتى ذلك الوقت، كانت الكنيسة الكاثوليكية تنظر إلى دراسة العبرية كبدعة يهودية أو تسلية للهراطقة، اتخذت خطوات عنيفة لاجتثاثها طوال القرون الوسطى، لكن الأمر تغير منذ عصر النهضة؛ فأصبح طلاب العلم يتقنون العبرية مع اللاتينية واليونانية، وسرعان ما أصبحت معرفة العبرية جزءًا من الثقافة الأوروبية العامة. أما حركة الإصلاح الديني (البروتستانتية) فجعلتها جزءًا من منهج الدراسات اللاهوتية، وعندما تُرجم الكتاب المقدس إلى اللغات القومية المختلفة- أعقاب قيام مارتن لوثر بترجمته إلى الألمانية- أصبح ما ورد في العهد القديم من (تاريخ، ومعتقدات، وقوانين العبرانيين، وشخصيات العهد القديم وأرض الميعاد)، أمورًا مألوفة على الفكر الأوروبي بل عاد يسوع نفسه إلى مكانه في المخيلة المسيحية باعتباره نهاية سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين ك( إبراهيم وإسحاق ويعقوب)، الذين صاروا محلًا للتبجيل بديلًا عن القديسين الكاثوليك، ولما كان التعليم الذي يتلقاه معظم الناس آنذاك يتكون أساسًا من قراءة الأدب التوراتي، فقد أخذت الأجيال اللاحقة تعتبر فلسطين بمثابة الوطن اليهودي، فلا هجرة سوى هجرة إبراهيم، ولا وجود لمملكة غير مملكة داود، التي سبقتها وتلتها ممالك كثيرة، ولم يعد الناس يذكرون من الثورات إلا ثورة المكابيين ( يهود انتفضوا على حكم الرومان قبيل بعث المسيح )، ولا وجود للشعوب العربية التي عاشت في فلسطين قبل اليهود- خصوصًا الكنعانيين، مع أن معظمها عاش فترات أطول من اليهود.

كان مستحيلًا أن يتشرب المرء تاريخ العهد القديم، وأن يسترجعه كوحي سماوي، ولا يحترم الشعب الذي دار في فلكه، ومن ثَمَّ أخذت فكرة الشعب المختار تحتل بؤرة الفكر البيوريتاني، والبيوريتانيون هم البروتستانتيون الأتقياء الداعون إلى التمسك الصارم بأهداب الدين والأخلاق الفاضلة، نشَؤوا في بريطانيا أساسًا، ودعموا ثورة كرومويل، وبرحيله عانوا اضطهادًا دفعهم للهجرة (أولًا إلى هولندا ثم العالم الجديد)، حيث جرى تأسيس الاتحاد الأمريكي بعد الاستقلال عن الوطن الأم، ومثلما أصبحت البيوريتانية في مركز القوة داخل العالم المسيحي، صارت فكرة البعث اليهودي تجد قبولًا على نطاقٍ واسع، وبعد أن كان هناك فصل واضح بين شعب العهد القديم العبري- الذي كان يعتبر مثاليًّا-، واليهود المعاصرين -الذين كان يُنظر إليهم بازدراء- فقد تلاشى هذا الفصل؛ ليصبح العبرانيون التوراتيون أسلافًا حقيقيين لأبناء دينهم المعاصرين، وساد الاعتقاد بين البروتستانت أن اليهود المشتتين حاليًا سيُجمعون من جديد في فلسطين للإعداد لعودة المسيح، وتطور الاهتمام بالتوراة باعتبارها كلمة الله، وأصبح العهد القديم هو المرجع الأعلى للسلوك والاعتقاد، باعتباره مصدر المسيحية النقية، والطريق إلى فهم النصوص بمعناها الواضح البسيط وليس اللاهوتي المعقد.

هكذا أفضت حركة الإصلاح البروتستانتي إلى إعادة اكتشاف / إحياء الجذر اليهودي للاعتقاد المسيحي على نحو جعل من التوراة بمثابة العهد القديم من الكتاب المقدس، بينما صار الإنجيل هو العهد الجديد من الكتاب نفسه، وقد انتقل ذلك الإحياء من أوروبا إلى العالم الجديد عبر حركة الكشوف الجغرافية، ففي رحلته إلى أمريكا كان كريستوفر كولومبس على ثقة في أن النبوءة المتعلقة بنشر الإنجيل في كل بقاع الأرض ستتحقق قبل نهاية العالم، وأن تلك النهاية سوف يسبقها اعتناق الوثنيين المسيحية والقضاء على المسيح الدجال، كما كان يعتقد أن اكتشافه سيقود في النهاية إلى تحرير القدس من المسلمين وإعادة بناء المعبد، وأنه سوف يستخدم الذهب الذي يجده في العالم الجديد؛ لإعادة بناء الهيكل كمركز للعالم وحلمة للكرة الأرضية.

كان أول كتاب يُطبع في أمريكا هو “مزامير داود” عام 1640م، ثم كتاب “النحو العبري” ابتداءً من عام 1735م، كما كانت العبرية تدرس مع بداية التعليم العالي في كل المستعمرات الأمريكية، حتى صارت رائجة بين البيوريتانيين أكثر من رواجها بين اليهود من معاصريهم في أوروبا، وعندما تأسست جامعة هارفارد في سنة 1636م، كانت العبرية لغة رسمية، وهكذا اصطبغت البيوريتانية مع قدوم المهاجرين الأوائل إلى أمريكا بصبغة يهودية أو بمعنى آخر، كانت “مسيحية يهودية” ارتكزت على مقولتي “أرض الميعاد” و”الشعب المختار” وهما المقولتان اللتان مثلتا أساس “استعمار أمريكا” و”استعمار فلسطين”. فالمهاجرون البيوريتانيون اعتبروا أن “المصير المبين” الذي قدَّره لهم الرب هو استعمار أمريكا لـ”إسرائيل الجديدة”؛ ولأنهم يؤمنون بنهاية العالم مع المجيء الثاني للمسيح فلابد من جمع شتات اليهود في فلسطين (إسرائيل القديمة)، كخطوة قبل أخيرة للمجيء الثاني للمسيح .

كانت أوروبا، في نظر المستعمرين الأوائل الذين حطوا الرحال في الأمريكتين، تمثل عالمًا منحطًّا وجحيمًا على النقيض من فردوس العالم الجديد وكان القول الشائع آنذاك: “إما السماء وإما أوروبا” يعني بالضبط إما السماء وإما الجحيم، وبانتصاف القرن السابع عشر بدأ التوتر يتصاعد بين المستعمرين ووطنهم الأم، حيث رأى البيوريتانيون أن الإصلاح الديني الإنجليكاني كان ناقصًا، بل ذهب البعض إلى أن الممارسات الدينية المتبعة في إنجلترا من صنع المسيح الدجال على نحو أحل إنجلترا منهم موقعًا يشبه موقع روما من المسيحيين الأوائل، ومن ثَمَّ شرع المستعمرون الأوائل بوصفهم شعبًا مختارًا، ينظرون إلى رسالتهم في العالم الجديد باعتبارها مرحلة جديدة من التاريخ سوف تشهد بزوغ فجر الإنجيل، إن لم يكن شروق شمسه في إنجلترا الجديدة التي كانت تعتبر نفسها -حينذاك- دولة حرة وليست مجرد مستعمرة إنجليزية، ومع أن العقيدة الألفية لم تُسدِ في أوساط البروتستانتية الرئيسة، فإنها تسربت إلى أوساط الجماهير، واستمرت في استقطاب الأنصار حتى بلغت ذروتها مطلع القرن العشرين في مذهب العصمة الحرفية للكتاب المقدس بين المسيحيين الإنجيليين الذين يؤمنون بـ(سفري دانيال، وحزقيال في العهد القديم، ورؤيا يوحنا في العهد الجديد)، وجميعها تبشر بالعودة الثانية للمسيح، غير أن ثمة فَهمان مختلفان لمغزى عودة المسيح بين (اليهودية والمسيحية الإنجيلية).

حسب الفهم اليهودي، تقبع إسرائيل في قلب خطة الرب لنهاية التاريخ، وتعني عودة المسيح ثانية (رجوع الشعب المختار بعد فاصل طويل من الاحتقار والشتات إلى موقعه مرة أخرى مختارًا من الله وإلى أرض الميعاد؛ ليقوم ببناء الهيكل بشارة العصر الألفي السعيد)، فإذا كان الله منذ خراب أورشليم وتدمير الهيكل عام 70م، قد اتجه إلى الأمم الأغيار؛ ليقيم علاقة مباشرة معها، فمع المجيء الثاني للمسيح ينتهي زمن الأمم، ويعود الله مرة ثانية إلى إسرائيل وحدها، ورغم أن المسيح قد رفض تأسيس مُلك أرضي، وهو ما دعى اليهود إلى رفض نبوته فى مجيئه الأول، فإن مجيأه الثاني سيكون تلبية لحلم اليهود القديم في مسيا مسلح / ماشيح للقوة والعنف، وبهذا تعود المسيحية إلى الشجرة الأم (اليهودية), ما يعني أن المسيحية ليست إلا مرحلة وسطى تنتهي بانتهاء مهمتها مع عودة المسيح لمواجهة كل قوى الشر في العالم، وهزيمتها لصالح الشعب المختار في موقعة دموية قاسية يُقتل فيها ثلثا العالم قبل أن يقوم بحكم العالم لألف عام.

أما المسيحيون الإنجيليون- على عكس ذلك الفهم- فيرون أن عودة اليهود إلى أرض الميعاد ليست انتصارًا لليهودية، بل مجرد حدث تدشيني يمهد لعودة المسيح وتحول اليهود أنفسهم إلى المسيحية كهدف نهائي، ومن ثَمَّ فإن الحب الذي يظهره البيوريتانيون لليهود ليس نابعًا من القلق عليهم، بل من دورهم المرسوم في خطة الخلاص، وبينما كانت وصية المسيح الأخيرة للتلاميذ: “اذهبوا إلى العالم أجمع وأكرزوا بالإنجيل” (مرقص، 16: 15)، فإن الأصوليين الإنجيليين يضربون هذه الوصية في الصميم، ويستبدلونها بتعليم “تعضيد إسرائيل” أي تمكينهم ولو مؤقتًا من أرض الميعاد، باعتبارها نقطة انطلاق خطة الرب نحو الخلاص التاريخي ونظام السعادة الألفي، وهنا يبدو جوهر العلاقة بين (المسيحية الإنجيلية والصهيونية اليهودية) كعلاقة لصوص، مودتهم مؤقتة ومحبتهم عارضة، تنتظر لحظة الصدام ونقطة الافتراق.

ولأن الهيكل لم يُبنَ بعد، والمسيح لم يعد حتى الآن، فإن لحظة الصدام تبدو مؤجلة، كما يبدو تعليم “تعضيد إسرائيل” وكأنه لاهوت أخلاقي ينعكس سياسيًّا في بنية النظام الأمريكي، حيث نسجت العلاقات الأمريكية – الإسرائيلية على منوال غريب، يكاد لا يُضاهى في العلاقات الدولية مع أي دولة أخرى، حتى بريطانيا نفسها المفترض أنها الدولة الأم، إذ جرى النظر إلى إسرائيل باعتبارها ولاية أمريكية، واُعتبر أمنها جزءًا من الأمن القومي الأمريكي، وحمايتها هدفًا أساسيًّا لكل استراتيجيات التحرك في المنطقة العربية والشرق الأوسط، بل إن جميع السلوكيات العدوانية التي قامت بها إسرائيل من حروب هجومية، وتوسعات استيطانية، واغتيالات دائمة_ لاقت تأييدًا لا يمكن تفسيره إلا على تلك الأسس العاطفية والدينية من قبل عموم الإنجيليين الأمريكيين، ناهيك عن مصدر أساس سياسي حديث يتمثل في الإعجاب بإسرائيل المعاصرة، التي ينظر إليها العقل الأمريكي باعتبارها تجسيد لأمريكا الحديثة، فكلتاهما دولة مهاجرين- بوتقة صهر لنوع من الشتات- وإن كان الوعد التوراتي هو بوتقة الصهر هنا في مقابل الحلم الأمريكي كبوتقة صهر هناك.

 في هذا السياق يبدو الخلاص من الاستثنائية الإسرائيلية تمامًا- أي وقوع الطلاق بين إسرائيل والولايات المتحدة- أمرًا غير مُتخيَّل ولكن ثمة هدف واقعي ممكن وهو قصر زواجهما على العلاقة الشرعية التي تؤكد على وجود إسرائيل بقوة القانون الدولي داخل حدود 4 يونيو 1967، ونزع أشواك العلاقة الآثمة التي تمنح إسرائيل وظيفة استراتيجية تفوق حجمها الطبيعي، أو تغذي لدى متطرفيها من أرباب الصهيونية الدينية أوهام التمدد بين النهر والبحر، لكن ما الذي يدفع الولايات المتحدة إلى تحول كهذا؟

إنه الوعي البرجماتي، الذي يقيس الأشياء والمواقف بمعيار نتائجها العملية وليس انطلاقًا من مبادئ حاكمة؛ حيث يكون معيار الحكم على المواقف والخيارات هو ما تمثله من فرص لتحقيق الوفرة والتفوق، هذا الوعي يمثل لباب العقل الأمريكي الذي تشكًّل في سياق البحث عن السعادة في أرض الفرص الكبرى، ولذا يستمر وعيًا قلقًا إزاء المخاطر الجسيمة، يرفض الخيارات التي تتطلب تضحيات كبرى تبدو له غير مبررة طالما تزيد من شعوره بالشقاء، وتُنقص من إحساسه بالسعادة وتُقلل من بريق “الحلم الأمريكي”. وعلى هذا تعاني الولايات المتحدة كثيرًا رغم قدراتها العسكرية والتكنولوجية والاقتصادية عندما تواجه أُممًا ذات وعي نضالي، تتكاثف في شخصيتها الحضارية تقاليد تاريخية عريقة، وروح قومية ناجزه، ومفاهيم اعتقاديه تؤكد على التضحية، تدفعها إلى الاستماتة في الدفاع عن كرامتها ولو كانت أقل قدرة من خصمها، وذلك بالسحب من مخزونها النفسي والحضاري من دون حدود لما يمكن أن تتحمله من دماء وأموال، وفي حال كهذه لا يكون أمام الطرف الأقل قدرة على تحمل الألم إلا الانسحاب من الصراع؛ لأنه وإن كانت الهزيمة الكاملة غير وارده فإن الانتصار الحاسم غير ممكن. 

يعني ذلك أن الولايات المتحدة لن تأخذ موقفًا معتدلًا من الصراع العربي – الإسرائيلي إلا إذا شعرت بإصرار العرب والفلسطينيين على الدفاع عن قضيتهم، وبأنها ستدفع ثمنًا حقيقيًّا لتحيزها ضدهم، فهنا فقط يثور العقل البراجماتي على العاطفة الدينية، يتحداها ويرسم لها خطوطًا حمراء لا تتعداها، الأمر الذي يعيد العلاقة بين أمريكا وإسرائيل إلى دائرة المعقول السياسي ويضع لحيويتها مقياسًا جديدًا هو مدى قدرة إسرائيل على مساعدة الولايات المتحدة في تطبيق استراتيجياتها داخل الإقليم أو في ممارسة دورها العالمي، في مقابل قدرة العرب على أداء ذلك الدور. وعلى هذا الطريق ثمة طرفان يمكن أن يكونا حليفين مفترضين:-

الأول: يقع داخل الولايات المتحدة نفسها ويتمثل في التيار التقدمي الذي يدور في فلك الحزب الديمقراطي، وينهض على الطبقة الوسطى المتعلمة وأصحاب النزعة الإنسانية المؤمنين بالدور العالمي لأمريكا، ويعبر عن نفسه في وسائل الإعلام الليبرالية وعلى رأسها صحيفتا “والنيويورك تايمز” و”الواشنطون بوست”، والقنوات التليفزيونية التي تنسج على منوالهما، وأيضًا المؤسسة الفنية الأمريكية ومعقلها في لوس إنجلوس خصوصًا الممثلين الكبار الذين طالما عبَّروا عن وجهات نظر إنسانية في الصراع. نعم يدعم هذا التيار إسرائيل مبدئيًّا، ولكن كدولة يفترض أن تكون ديمقراطية، وليس كدولة استيطانية ذات أهداف خلاصية كما يؤمن المسيحيون الصهاينة الذين باتوا ركيزةً سياسية للحزب الجمهوري.

أما الثاني: فيقع داخل إسرائيل ويتمثل في تيار “ما بعد الصهيونية”، الذي يستند إلى حركة “المؤرخين الجدد”، ويقدم رواية للوجود الإسرائيلي تعارض الرواية الرسمية، التي صاغت سرديات مفتعلة حول الشعب الإسرائيلي الواحد، والتاريخ اليهودي المشترك، بهدف اختلاق هوية تتسم بالتجانس والاستمرارية.

 يوفق هذا التيار بين روايتين متناقضتين للتاريخ: الأولى فلسطينية تملك الصدق وتفتقر للقوة، والثانية: صهيونية تمتلك القوة وتفتقر للصدق، يسعى إلى تقدير الرواية الفلسطينية، ولكن من دون تكذيب الرواية الإسرائيلية، وبهذا المعنى يبقى هذا التيار داخل إطار الصهيونية، بل يعترف بإنجازاتها وجهودها في ترسيخ الدولة الإسرائيلية، ولكنه يوصف بـ “المابعد”؛ لأنه يعترف بوجود الآخر العربي كما ذهب رموز هذا التيار مثل “آفي شلايم” و”بني موريس”، وخصوصًا “إيلان بابيه” الأكثر شجاعة في التحذير من مخاطر الصهيونية الدينية القائمة على تحالف قلق بين الحاخامات الأرثوذكس والمستوطنين المتعصبين.

غير أن كل ما يمكن لهذين التيارين أن يقدمانه من اعتراف رمزي ودعم على مستوى الضمير الثقافي، لن ينتج واقعًا جديدًا طالما استمر الانقسام الفلسطيني وتأكد الغياب العربي عن معادلة الصراع.

وهنا نقترح تفكيك السلطة الوطنية القائمة في رام الله كونها تزيِّف الصراع وتشي بوجود هيكل سياسي يقابل دولة إسرائيل رغم اختلال الموازين، ويجري خطابة وتفاعل معه، بل والاختفاء خلفه، سواءً من قبل إسرائيل أو حتى العرب أنفسهم سيسهم تفكيك السلطة الوطنية والعودة إلى مظلة جامعة كمنظمة التحرير مثلًا: في تجاوز واقع الانقسام ,وإعادة صياغة الصراع مع إسرائيل باعتباره محنة وكفاح شعب أعزل مقهور تعداده ثمانية ملايين نسمة، في مواجه دولة احتلال عنصري، يتعين عليها الاضطلاع بمسؤوليتها الكاملة تجاهه، ما يغرقها في وحل قوتها المتوهمة، كما يعيد تشغيل المواثيق الدولية، ويحفز الضمير الإنساني بما يثير آلامه، وهو أمر بات ممكنًا الآن أكثر من أي وقتٍ مضى بعد أن تأكد العالم من أن إسرائيل لا تبتغي سلمًا وأمنًا بل احتلالًا وتوسعًا، وتنامي رفض الخطاب الصهيوني لدى دوائر ثقافية وأكاديمية غربية عديدة إلى درجة بلغت حد الإدانة والمقاطعة، وهو تطور لافت يمكن، بل لابد، من البناء عليه.

اظهر المزيد

صلاح سالم

كــاتب ومفــكر بجريدة الأهرام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى