تكتسب أهمية هذا الكتاب في تناوله لمجموعة من الدراسات عن الصحافة الساخرة في الوطن العربي من عدة زوايا مختلفة، فمنها من تطرق لتاريخ الصحافة الساخرة ومنها تناول دراسة تحليلية لبعض النماذج الساخرة في الصحافة، بالإضافة إلى بعض النماذج العربية الأخرى مثل القضية الفلسطينية من خلال كاريكاتير ناجي العلي، وأيضًا دور وسائل الاتصال المتعددة في حضور الصحافة الساخرة في المشهد الإعلامي.
فمن ضمن الدراسات العديدة والمتنوعة الموجودة في الكتاب هناك دراسة مميزة جدًا بعنوان: الصحافة الساخرة في الوطن العربي – القضية الفلسطينية من خلال كاريكاتير ناجي العلي للدكتورة محراز سعاد ” أستاذ محاضر جامعة عبد الحميد بن باديس – مستغانم”.
حيث تشير إلى أهمية الكاريكاتير فهو فن من فنون الرسم، وهو أيضًا فن الكلام بالصور ويصنف هذا القالب ضمن الصحافة الساخرة؛ وذلك لأنه يحمل أبعادًا تستهدف النقد الاجتماعي أو السياسي أو الفني، ويعتبر الفلسطيني “ناجي حسين العلي” المعروف بناجي العلي من أشهر رسامي الفن الكاريكاتيري العربي؛ حيث تميز بالنقد اللاذع من خلال رسوماته الكاريكاتيرية وعرضه للقضية الفلسطينية في أثناء الفترة التي عاش فيها.
وتعتبر شخصية (حنظلة) من أهم الشخصيات التي ابتدعها ناجي العلي وتمثل صبيًا في العاشرة من عمره وفى تلك السن غادر وطنه فلسطين وعمره سيتوقف وسيظل سنه عشرة أعوام، ما دام مهاجرًا من فلسطين ولا يبدأ في الكبر إلا عندما يعود إليها.
فناجي العلي كان همه وشغله الشاغل هو القضية الفلسطينية ويحاكي من خلالها بالرسوم الكاريكاتيرية بنحو أصدق، مبديًا اهتمامًا خاص بها، انطلاقًا من أنه فلسطيني الجنسية فكان يقدم ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في رسومات بسيطة ولكن بشكلٍ عميق ليوصل ما في جوهره، ما يؤدي بالمشاهد أو القارئ أن يفهم المعاني الجوهرية لتلك الرسومات الكاريكاتيرية، فالموضوع الذي عالجه ناجي العلي من خلال هذه الرسومات ليس موضوعًا آنيًّا- كان خاصًا بفترة معينة وانقضى- وإنما لو شاهد أي شخص هذه الرسومات الآن لبدا له أنها رسمت في وقتنا الراهن وتفاعل معها؛ ذلك لأن انتهاك فلسطين واحتلالها ومعاناة شعبها لا زالت قائمة إلى اليوم، إضافة إلى أن المواقف العاطفية والانتماءات القومية العربية تجاه هذه القضية لم تتغير بل تعززت من قبل المواطن العربي.
وعليه فكان ناجي العلي يطرح القضية الفلسطينية من خلال الكاريكاتير ويركز على مجموعة من القيم الإنسانية وعرضها بريشته ودافع أيضًا بكل جَرأة عن موضوعات هامة أخرى مثل: الوحدة العربية والإنسانية، والتضامن، والتضحية، والاعتراف بفلسطين للفلسطينيين .
أما الدراسة الثانية التي أذكرها فهي بعنوان : المواطن الساخر بين الاستهزاء وإبداء الآراء- قراءة لنماذج عربية ساخرة في الفيسبوك كتب الدراسة د. عزام أبو الحمام ” أستاذ وباحث بالجامعة العربية المفتوحة – الأردن”.
ويرى الكاتب أن السخرية تقف على رأس الأساليب الفنية الصعبة، غير أنها تتطلب التلاعب بمقاييس الأشياء تضخيمًا أو تصغيرًا ، أو تطويلًا أو تقزيمًا، هذا التلاعب يتم ضمن معايير فنية مثل تقديم النقد اللاذع في جوٍ من الفكاهة والإمتاع ، غير أن أسلوب السخرية يختلف من عصرٍ إلى عصر ويتفاوت من كاتبٍ إلى كاتب ، وتاريخيًّا فقد كان للأدب الساخر في التراث العربي أو في الصحافة الحديثة دورًا في إشاعة فن السخرية الحديث، فاحتل حيزًا واسعًا في الصحافة وقام بتصوير الأوجاع والمشاكل في قالب ساخر يرسم البسمة على وجه القارئ والمتلقي وتكون السخرية سلاحًا حادًا في التنبيه على النقائض، ويسعى الأدب الساخر بوصفه انتقاديًّا إلى السخرية من الظواهر المدانة ونقدها من خلال أفراد بعينهم أو جماعة بعينها أو تقليد بعينه سواء أكانت هذه الظواهر الموجه إليها النقد أو المسخور بها (اجتماعية أو سياسية أو أدبية أو سلوكية) .
ومما يشهد علية تطور ظاهرة السخرية الصحفية أو سخرية مواقع التواصل الاجتماعي، هو زيادة أعداد المتابعين والمهتمين، وانتقال بعض هؤلاء المبدعين من الفضاء الإلكتروني إلى قنوات فضائية، وقد سجل بعضهم نجاحات كبيرة واستقطبوا نسبة مشاهدة عالية، وهذا اللون من البرامج أثار زوبعة من ردود والانتقادات والملاحقات القانونية، واتهم أنه لا يميز بين السب والنقد، وأنه حاد في معظم الأحيان عن تقاليد المهنة، فاصطدم بالقوانين والأعراف الراسخة ليظل تفسير ذلك حائرًا بين مدى تقبل الثقافة العربية لهذا القالب التعبيري الجديد وفهمه واستيعابه .
هذا فوسائل التواصل الاجتماعي هيأت للمواطن العربي بمستوياته التعليمية المختلفة الوسائل السهلة للتعبير عن أفكاره الساخرة الناقدة، وهو بذلك يحاكي الشعراء الساخرين عبر الشعر الفصيح أو اللغة العامية الدارجة، وذلك بهدف أن تقترب السخرية من ثقافة الجماعة .
وعلى العموم تسعى الدراسة لتكون إطلالة ترصد المنشورات الساخرة للمواطن المستخدم لوسائل التواصل الاجتماعي ويمكن أن يُسمى بالمواطن الساخر لتميزه عن السخرية التي يمارسها الكتاب المحترفون والمتفرغون .
وهناك دراسة أيضًا في الكتاب ومن الدراسات الهامة التي تهم القارئ العربي عنوانها آليات الكتابة الساخرة ودوافعها في الوطن العربي للعبدي خيرة “جامعة وهران – الجزائر”.
ويتناول فيها الكاتب موضوع الكتابة الساخرة في الوطن العربي من حيث تميزها بإيماءات على سوء الأوضاع الاجتماعية والسياسية والتي لها واقع مؤلم ولكن بأسلوب ساخر والسخرية هنا لا تكون اعتباطية بل تدعو إلى التأمل وإعادة النظر .
ويهدف هذا الفن الساخر إلى تحريك الضمائر ونشر الوعى عن طريق التقيد بالنقد المتفتح البنَّاء الإيجابي الذي يستند إلى الحكمة والعقل في محاولة لفتح آفاق جديدة للمستقبل والواقع .
فالسخرية مثلًا لسان المجتمع العربي في مواجهة القمع إذا وقع وهو المتنفس أمام قضايا المواطن العربي المثقل كاهله بالهموم والمعاناة؛ لتصبح فنًّا قائمًا بذاته وأسلوبًا تعبيريًّا يعبر عن واقع الحياة والعلاقات البشرية ومعبرًا عن الأزمات في المجتمع العربي ، فكل هذا الوضع كان الدافع الأكبر لبروز فن السخرية، أي أنها وليدة الأزمة وما يسود الواقع من تناقضات ومفارقات تتنامى وآمال المواطن العربي، فقد عانى هذا الأخير من مشاكل عديدة نابعة عن تكوين المجتمع العربي، الذي تسوده المفارقات والصراعات السياسية والاجتماعية مما جعل الأسلوب الساخر مفيدًا للرفض بطريقة تهكمية تعالج قضايا الأمة .
على العموم فالكتابة الساخرة كما يقول الكاتب هي تمرد فكري ضد الظواهر السلبية التي تجتاح المجتمعات العربية وتشكل مكونًا مهما من مكونات مادة الرأي كونها تفسح المجال للتعبير ومقاومة الاحتلال وإيصال أصوات رافضة للأوضاع الغير سوية؛ فغدت مشروعًا نقديًّا يهدف إلى تقويم الواقع وانتشاله مما هو فيه من مظاهر سلبية .
وهناك موضوع آخر في الكتاب بعنوان السخرية في العمل الإعلامي بين متطلبات النجاح ومعوقات الممارسة للدكتور ناجح مخلوف ” جامعة مسيلة الجزائر “.
تحاول هذه الدراسة أن تنوِّه إلى المسؤولية التي تنتظر الإعلامي الذي يستعمل السخرية في طرح مواضيعه، كما تُنبِّه لأهمية هذا الفن في إصلاح المجتمع بمختلف ظواهره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالسخرية فن له ضوابطه وأساليبه وقوانينه والسخرية ليست بالفن الجديد على مجتمعاتنا العربية فلقد ظهرت في أكثر من مكان (فني أو أدبي أو إعلامي) .
ورغم أن ممارسة السخرية في الإعلام لها ما يكبلها من قيود خاصة في مجتمعنا العربي (القيود القانونية والسياسية … وغيرها)، إلا أن مسؤولية الساخر تبقى فاصلًا في فرض أسلوبه من خلال التزامه بمتطلبات النجاح في هذا الفن، فالإعلام الساخر يجب أن يبقى وسيلة وليس هدفًا وإلا تحول إلى ابتذال حال أصبح موضة دارجة يحاول كل من يعمل في الإعلام تقليدها والتأكيد على أهمية البقاء تحت سقف معين ، وهو الاحترام ، وعدم التجريح وعدم السخرية من الأشخاص أنفسهم، بل من الواقع والسلوك، وتناول قضايا محددة ، ومواقف معينة، حتى لا تخرج السخرية عن إطارها .
إذ إن نجاح وتقبل البرامج الساخرة مرتبطة بدرجة كبيرة من درجات الاحترام الإعلامي لخصوصية البلد من خلال عدم المساس بالمعتقدات الدينية وتحييد أصحاب مقامات الدين، وأيضًا احترام قيم وعادات وتقاليد هذه المجتمعات .
الموضوع الأخير الذي اخترته في ذلك الكتاب فهو بعنوان واقع الكاريكاتير في المجتمعات العربية لبلحاج حسنية ” أستاذ محاضر قسم الاجتماع – جامعة وهران” .
ويشير في دراسته إلى اهتمام البعض في الصحافة العربية بالرسم الكاريكاتيري، مما جعل بعض الصحف في عدد من الدول العربية مثل: (مصر وتونس) تعتمد كليًّا عليه؛ باعتباره أفضل وسيلة تعليمية وتثقيفية لتوصيل الأفكار وغيرها من المفاهيم لعامة الناس، خاصة وأن أغلبية التعليقات على هذا النوع من الرسومات تتم صياغتها من مفردات اللغة العامية التي يتحدث بها غالبية الناس، في أثناء مزاولة نشاطاتهم اليومية المعتادة، فالصورة الكاريكاتيرية يتم التقاطها من وسط الحياة اليومية لتكون معبرة عن ما يعرف المجتمع؛ لتمزج لاحقًا بعنصر السخرية النابض بالحيوية فهو بذلك صرخة الحقيقة بأسلوب ساخر لاذع .
إلا أن الكاريكاتير العربي إلى الآن لم يتمكن من الظهور في صورة جمالية وتعبيرية تلبي اهتمامات وانشغالات الجماهير العربية وهذا على غرار باقي شعوب العــــــــــالم، خاصة في الدول الأوروبية المتقدمة التي تعوِّل على هذا النوع من الرسائل لفعاليته وقدرته على الإقناع ، فهو اليوم يجاري كبريات الصحف والعناوين الإخبارية ، فطرحه بسيط ولكن جوهره عميق قد يحمل بين طياته مضامين وخطابات سياسية مشفرة ليس بإمكان أي حد أن يفهمها ويستوعبها .
أما عن الكاريكاتير في الدول العربية فلم يتمكن رساميه من الوصول إلى ما تنتظره الجماهير من تقدم أدائه للتعبير عنهم وعن مطالبهم وما شابه ذلك كما كان في النموذج الأوروبي المتقدم، والدليل على ذلك اقتصار الكاريكاتير العربي على مواضيع ليست هامة رغم الثراء الكبير الذي تعرفه الساحة العربية من أحداث، فهذا الفن بإمكانه إحداث التغيير، لذلك ينبغي أن يفرض نفسه ويكون الواجهة ويأخذ على عاتقه مسؤولية ترجمة اهتمامات وانشغالات المجتمع .
وعلى هذا فالكاركاتير في الدول العربية لم يتمكن من تحقيق نهضة، والتعبير عن هموم الشعوب العربية رغم المشاكل الكبيرة والمتفاقمة التي تتخبط فيها، مركزًا على عموميات ومسائل سطحية لا تهم معظم الناس .
وأخيرًا فإننا نرى أنه من الضروري أن تحافظ الكتابه الساخرة على وجودها والرقي بها لما لها من دور فاعل في تنوير الرأي العام بطريقة وأسلوب يصل إلى الجماهير العربية بشكلٍ خفيف وراقي يستمتع به ويفهمه بسهولة دون الدخول في عبارات وأسلوب المثقفين المعقد البعيد عن فهم وإدراك رجل الشارع العربي البسيط ، بالإضافة إلى إعادة توظيف الحاسة النقدية للكتابة الساخرة باعتمادها على الرموز المشفرة مثلًا، والتوليف ما بين المتناقضات والصور والمعاني بكيفية تهكمية ومتوقدة، وهي آليات من شأنها أن توصل الرسائل المراد إيصالها بفاعلية وكفاءة أكثر مما تفعل الصحافة التقليدية والمباشرة، كما أنها الوسيلة التعبيرية والفنية الأكثر نجاحًا للتواصل مع جميع فئات المجتمع ومكوناته .