في عام 1901 كتب الروائي الإنجليزي الشهير (ه.ج. ويلز) روايته البديعة “أول من وصل إلى القمر)، وكانت هناك تجارب روائية عديدة لهذا الكاتب في الخيال العلمي، استطاع من خلالها أن يثير عددا من القضايا التي يثيرها العقل البشرى، والتي تطرح سلسلة تساؤلات مركبة، تساؤلات حول مستقبل العلم وضروبه، وفى هذه الرواية، تخيل ويلز صعود الإنسان إلى القمر بالفعل، والصدمة التي لاقاها هناك، وراح ويلز يضرب في أشكال عديدة من الخيال العلمي المشروع والأدبي، وكانت فكرة صعود الإنسان إلى القمر، تكاد تكون مستحيلة، ولكن الخيال الأدبي الممزوج بالبعد العلمي _عند ويلز_، استطاع أن يخترق الحواجز الواقعية المضروبة حول السرد الأدبي، والخيال الشعرى، ليسرد بعض وقائع خيالية، مستندة إلى بعض وقائع واقعية مقبولة.
ولم تكن تلك التجربة الأدبية الجريئة التي أجراها ويلز جديدة كل الجدة على الحياة الإبداعية، لأن كاتبا يونانيا كان قد سبق ويلز بعدة قرون، كتب ما يشبه رواية ، وأسماها “السفر إلى القمر”، وتخيّل أن هناك مركبة ما، تجرّها بجعات، وسوف تصل هذه المركبة إلى القمر، وبالطبع لم تكن سردية اليوناني القديم تنطوي على التقنيات الفنيّة التي تحملها رواية الخيال العلمي المتقدمة، وبالتالي لم تكن تحمل فنيّات روائية ذات شأن متقدم كما حدث فيما بعد، ولكنها على الأقل كانت تحمل “أضغاث رواية الخيال العلمي”، تلك الرواية التي راحت تتطور بشكل لافت في القرن العشرين، ووجدت كتّابا لها ومبدعين، استطاعوا أن يصلوا بها إلى ذروات عديدة.
وفى عام 1969 هبط “نيل أرمسترونج” ، و”أدوين الدرين” على سطح القمر بالفعل، وبدأت تبدو في الآفاق علامات عصر جديد في الحياة البشرية، وفي تاريخ الإنسان عموما، وكانت كلمات “أرمسترونج” المدويّة التي هتف بها بعد أن وضع أقدامه على سطح القمر، بداية للانتباه الجاد إلى ما يكتبه الأدباء في مضمار العلم، إذ هتف قائلا: “إنها مجرد خطوة قصيرة للإنسان، ولكنها وثبة عملاقة بالنسبة له”، ولم ينس كل المتابعين من الباحثين والنقاد والأدباء والمبدعين التجربة العملاقة التي خطتها موهبة ويلز في أوائل القرن.
وفي سبتمبر 1969أجرت مجلة “الهلال” المصرية، تحقيقا مثيرا حول هذه الخطوة العملاقة في تاريخ البشرية، واسترشدت المجلة بالمقولة التي أطلقها رواد الفضاء عندما قالوا :”جئنا من أجل سلام البشرية جمعاء”، ووجهت المجلة سؤالا يقول :”هل يتحقق هذا السلام بالفعل في المستقبل، وماذا تعني تلك الخطوة في العالم والتاريخ الإنساني العام؟”، وجاءت الإجابات مختلفة ومتنوعة، وكذلك مثيرة، وقال نجيب محفوظ :”إنني أتمنى أن أصعد إلى القمر.. هذه رغبة حقيقية عندي.. ولهذا فقد كان صعود الإنسان إلى القمر حدثا أصابني بكثير من الدهشة والانبهار، ومع هذا فأنا أديب وفنان أقع في مأزق_أو قل في تناقض_ وأنا أفكر في علاقة الأدب بالعلم بعد أن بلغ العلم هذه الذروة العالية من التقدم.. ترى ماذا سيكون موقف الفن في المستقبل في ظل هذا العصر العلمي الخطير الذي تم فيه غزو كوكب آخر بعيدا عن الأرض..”([1]).
ويعبّر نجيب محفوظ في المقال نفسه عن تخوفه من أن يكون دور الأدب والفن قد توقف، فبعد أن كان القمر مجالا للسطوع والغزل والشفافية، أصبح حقيقة علمية تقبل التحليل المادي، والذي يبتعد كثيرا عن العواطف والرومانسيات التي كانت تتغزل في القمر، وكانت تلك الغراميات الرومانسية تتخذ من القمر قرينا أعلى للمحبوب دون أدنى جدال، وها هو القمر يصبح حقيقة مادية، وبالتالي ستتحول هذه الحقيقة التي ظلّت قرونا طويلة جوهرية، إلى حقيقة أخرى نقيضة.
ورغم أن نجيب محفوظ وضع عدة محاذير حول تطور علاقة العلم بالأدب والفن، نجد الكاتب والأديب إحسان عبد القدوس يذهب مذهبا آخر تماما، ويضع عنوانا لمقاله “حتى بعد الوصول للقمر.. سيبقى دائما كشمعة الليل في السماء للمحبين”، ويستطرد : “كان للقمر علاقته الوثيقة _دائما_ بوجدان الناس وعواطفهم بشكل عام، وبعاطفة الحب عندهم على نحو خاص.. وعلاقة القمر بالحب علاقة قديمة لعلها وجدت منذ عرف الناس القمر وعرفوا الحب وأعتقد أن هذه العلاقة ستبقى مستقبلا كما بقيت أبدا حتى بعد غزو القمر واكتشافه كحقيقة علمية مجردة”([2]).
وذهب إحسان عبد القدوس_على عكس محفوظ_ إلى أن الحقيقة العلمية للأشياء، لن تلغى قيمتها الجمالية وسحرها الخاص، والتقدم الصناعي لا يتعارض مع الإحساس العاطفي للإنسان ، وهذا يدفعنا بالتالي إلى أن العلم وحقائقه المتواترة على الحياة البشرية، تعطي أبعادا جديدة للحياة، ربما لا نجد تفسيرات وجدانية لها إلا في الأدب بشكل عام، وفي الأدب الذي يستعين بالعلم بشكل خاص.
ونحن لا نتخذ موضوعة “القمر” هنا إلا نموذجا حيا وواضحا قد جعل البشر_على مدى التاريخ_ يضعون له حسابات وخيالات وتقديرات وصفات مختلفة، حتى أتى الأدباء والمبدعون _قبل العلماء_ لتحويله إلى مساحة أخرى للتفسير، ولم يكن ويلز الذي وضع في القمر روايته البديعة مجرد سارد أو شاعر أو فنان، ولكنه كان صحافيا أريبا، وكان ذلك الصحفي يمزج بين العلم والفن والسرد عموما، ولم يكن يكتب إبداعا مجردا عن رسالته الإنسانية التي حملها على عاتقه، فإلى جانب دراسته للصحافة، درس قواعد البلاغة القديمة، والعلوم الفيزيقية وغير الفيزيقية، ويقول سلامة موسى المنحاز للعلم دائما : “..حياة ويلز الأدبية منذ شرع يكتب حوالي عام 1895 إلى وفاته في عام 1945، هي تاريخ نصف قرن من التطور الذهني لكاتب عظيم إزاء التطورات والانقلابات العلمية والاقتصادية والسياسية، ومؤلفاته الأولى كلها تفاؤل واستبشار، العلوم تسود المعارف وتغربلها، تزويد سلطة الإنسان على الأرض والسماء، الأمراض تنهزم وتنمحي، المحصولات الزراعية تزيد وتلغي الجوع..”([3])، هذه كانت حياة ويلز، وهكذا جاءت موضوعاته لخدمة البشرية، وكانت رواياته تستلهم العلوم الوضعية، منذ مرحلة مبكرة، لذلك اعتبره الباحثون “أبو روايات الخيال العلمي”.
وظلّت مجهودات ه.ج.ويلز تلعب الدور الأعظم في إرشاد كل الخيال العلمي، وبالطبع تجاوز الكتّاب مسألة القمر، والصعود إلى سطحه، ولكن الأمر اتخذ وضعا شبيها جدا، وهو موضوع الذهاب إلى كواكب أخرى، وكثير من الكتّاب عالجوا فكرة ازدحام الكرة الأرضية بالبشر، ولا بد أن تكون هناك حلول لتلك المشكلة التي يمكن أن تتعرض لها البشرية، فكانت عقول الأدباء تتخيل كيفية اقتحام الكواكب الأخرى، وهذا الأمر كان يستتبع تخيل تلك الكواكب والكائنات التي عليها، وكيف ستستقبل كائنات الكواكب الأخرى الكائنات الأرضية، مما يدفع الكتّاب لإعمال آلة الخيال العلمي الجبّارة، لوضع مواصفات وحكايات عديدة حول طبيعة إنسان الكواكب الأخرى.
ومن خلال ما سبق، ندرك أن كتابة روايات الخيال العلمي، تأتي وفقا لوجود مشاكل مستعصية في الحياة، مثل ازدحام الكرة الأرضية، أو انتشار أمراض معينة وأصبحت شبه مستعصية على العلاج، ومن هنا يجد الخيال العلمي دوره، وينشط الأدباء في وضع المشكلة في سلسلة حكايات، وبالتالي يحاولون وضع حلول شبه خيالية، ومع تقدم كتابات الخيال العلمي، لا بد أن يحصل الأديب على قدر كبير من المعلومات المفيدة، تلك المعلومات التي يضعها الأديب في معملها، ثم يطورها في خياله، لتصبح فيما بعد مادة ثرية وخام في تجارب العلماء الحقيقيين.
ووجدت كتابات الخيال العلمي جهودا نقدية بالفعل، كما أن أبحاثا فكرية راحت تعمل لتطوير ذلك المجال وتفعيله، وبالتالي توالت الدراسات والمدارس، وراح من يضع فروقا بين الروايات العلمية، وهي الروايات التي تحاول تبسيط العلوم وتوصيله عبر روايات وحكايات سلسة، كبديل للمعلومات الجافة التي يطرحها الباحثون في دراسات مركبة وخشنة، ثم هناك روايات الخيال العلمي، تلك الروايات التي تحاول حلّ الألغاز التي تستعصي على الحل في الأطر الواقعية، ثم هناك نوع ثالث، وهو روايات أو سرود الخرافة العلمية، وهذه تتوافر كثيرا في الكتب التراثية، خاصة في ما يشبه “ألف ليلة وليلة”، وبالطبع هناك تناقضات واضحة بين الخرافة والعلم، ولكن النقاد استطاعوا أن يتجاوزا دقة المصطلح إلى روحه.
وهناك من النقاد والباحثين الذين وضعوا مواصفات وشروطا لكتابات الخيال العلمي، وذلك بعد الإقبال على ذلك النوع من الكتابة، وهناك دراسة رصينة وضعها الباحث عبد المجيد شكري، وعنوانها “الخيال العلمي في الأدب والفن”، وتطرق الكاتب إلى مناحٍ شتى في مواصفات وتنوع تلك الكتابات، وحاول أن يلخّص الشروط الواجب توافرها في كتابات الخيال العلمي، أو الاقتضاء بها على الأقل، ورصدها في تسلسل منهجي، وأجملها هكذا:
“إن أول ما يميز أي عمل من أعمال الخيال العلمي هو الغرابة، أي أننا نكون أمام شيء غير مألوف ، سواء أكان ذلك شخصيات أو عوالم أو ظواهر.
إنه شيء محتمل الحدوث في الحاضر، ويمكن أن يحدث في المستقبل، أو قد يكون قد حدث في الماضي ولم نعرف عنه شيئا، وجاء العمل الجديد ليكشف لنا عن ذلك الذي حدث.
إنه عمل لا تقدم فيه الصور الرمادية، فالأسود أسود، والأبيض أبيض، أي الخير خير كله، والشر شر كله، وبذلك يكون العمل منطقيا مع طبيعة العلم ذاته”([4]).
ويسترسل الباحث في وضع شروط كتابات الخيال العلمي التي استقاها من دراسات عديدة في ذلك المجال، ولأن هذه الكتابات وجدت طريقها إلى الرواج بين القرّاء، فانكب الباحثون على تجديد رؤاهم ونظراتهم حول هذه الكتابات، وذلك لأنها :”تقدم في كثير من الأحيان (يوتوبيا) أو مدينة فاضلة، أو عالما جديدا يمكن أن يلجأ إليه”([5]).
ولا يسعنا هنا سوى رصد أشهر الروايات التي كتبت في هذا المجال، وصارت شبه عيون أدب الخيال العلمي، ومن هذه الروايات “دكتور جيكل ومستر هايد” ، وهي للكاتب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون، وقد نشرت عام 1886، واعتمدت بشكل لافت على علم النفس ، وإبراز جانب الخير وجانب الشر في الإنسان، وهذه الجوانب هي إحدى المجالات التي تخوض فيها روايات الخيال العلمي، ويستطيع المؤلف أن يتيه بحثا عن أحداث تنظّم عملية الشر والخير المتخيلة، حتى ينتصر الخير أساسا.
ثم رواية “الانسان الآلي”، للكاتب مارتين كايدين، والتي نتج عنها مسلسل “رجل يساوي ستة ملايين دولار”، وبطل الرواية شخصية غرائبية، استطاع أن يستبدل بعض أجزاء جسمه بأجزاء صناعية لتمنحه قوة خارقة في الإبصار والسمع والحركة، ومن خلال تلك الإمكانيات التي أتيحت له، استطاع تقديم موضوعات سياسية تخوض في الصراع الدولي وأسرار الجاسوسية في العالم، واستطاع أن يجنّد قواه الخارقة في تذليل أي عقبات تقف في وجهه لتسهيل كل المهمات التي يقوم بها.
وهناك بالطبع روايات راجت بشكل عالمي في الماضي القريب، وظلّت تطبع بشكل كثيف على مستوى العالم، وعلى رأسها “رحلات جليفر”، و”إنسان روسوم الآلي، وكوكب القردة ، وكثير من الروايات التي ترجمت إلى عشرات اللغات، وصارت بمثابة “روائع” من الأدب العالمي، وكلها روايات تتخذ من العلم في كل صوره الواقعية أو المتخيلة ويمكن حدوثها، أو خرافية ولا يمكن حدوثها على الإطلاق، ولكن كل هذه الروايات التي راجت وترجمت وجدت صدى طيبا عند الناس، وذلك ليس من باب التسلية فقط، أو تمضية الوقت في قراءة كتابات فائضة عن الحاجة، ولكنها كتابات بحثت عن مواطن إنسانية ما عند القارئ، ولاقت قبولا منقطع النظير في روايات أدبية بشكل محض.
وبالإضافة إلى أن تلك الروايا التي سبق ذكرها اعتمدت على العلم بكافة صوره الواقعية والمتخيلة والخرافية، تبحث عن مساحات خير بشكل محض، إلا أن هناك روايات اعتمدت على تلك الصور السابقة الذكر، ولكن لأسباب سياسية واضحة ومؤثرة، ومن أشهر كتّاب ذلك المجال، الكاتب الإنجليزي المعروف جورج أورويل، والذي قدم روايتين في هذا المجال، وهما “مزرعة الحيوانات”، و “1984”، وفي الرواية الأولى يهاجم الكاتب النظرية الشيوعية، وانتقد كافة الثغرات التي ظهرت في أداءاتها المختلفة، وراح الكاتب يسرد وقائع متخيّلة تماما أثناء حكم ستالين في الحرب العالمية الثانية، واستثمر الكاتب سرده ليبين الثقوب التي سقط فيها النظام الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، وكانت الشخصيات التي ساقها أورويل في روايته، مجرد حيوانات، واستطاع أن ينفذ إلى سيكولوجية الحيوانات المختلفة، وذلك عبر معرفته الفيزيقية والنفسية بطبيعة الحيوان، وحاول أورويل أن يضع الحيوانات في مقام البشر، ونجده يدير شئونهم على أنهم ينتمون للعالم الآدمي، فيقول مثلا: “خصص الخنازير غرفة العدة كمقر لهم في قيادة الحقل، وهنا في المساء، كانوا يدرسون الحدادة والنجارة وبقية الأعمال المهمة الأخرى من الكتب التي جلبوها من المنزل”([6]).
أما روايته الأخرى “1984”، فهي استشراف للمستقبل، وتحذير مفرط للمستقبل المعتم، وكما يكتب د رمسيس عوض على غلاف الطبعة القاهرية، فهي “صرخة يائسة أطلقها أورويل حتى يتنبه العالم إلى المستقبل الحالك الظلمة الذي ينتظره، والأمل يحود بنا أن تنتصر قوى النور على قوى الظلام والديمقراطية على الديكتاتورية، فقد نذر أورويل حياته للدفاع عن مبادئ العدل وقيم الحرية والإخاء الإنساني”([7]).
وبالطبع فإن لعبة السياسة وظلالها الكثيفة، تبدو ظاهرة وواضحة في أعمال أورويل المتقلب أيديولوجيا، ولكنها كذلك تمد بظلالها في أعمال أدبية ذات طابع علمي استشرافي، ولكن بشكل أقل مما تظهر فيه عند أورويل، وذلك لأن أورويل كان متورطا في العمل السياسي بشكل عملي، وكان ينتمي إلى اليسار في مرحلة الثلاثينات، وعندما انكسرت أعواد الديمقراطية على صخرة ستالين الصلبة، بدأت ميول أورويل تختلف، ولم يعد يساريا، على عكس الروح التي أتى بها من إسبانيا، “ففي الفترة التي كتب فيها مزرعة الحيوانات في 1943_1944 لم يكن يُعد يساريا، إنه بين 1937_1943 تحولت وجهات نظر أورويل بصورة ملحوظة نحو اليمين_ وباختصار ، إنه كان قد باع نفسه وصار محاربا_ عن وعي فى الحرب الباردة”([8]).
وفى الوقت الذي كتب ه.ج. ويلز، والأجيال التي جاءت بعده، كتابة خيال علمي شبه صافية نقية، ولا تنشد سوى الخير العميم للبشرية، نجد جورج أورويل، يجنّد كل طاقاته الاستشرافية والخيالية والعلمية في استكناه المستقبل، للدخول في حرب باردة كانت تدار من الخلف وفي الصدارة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
وبالطبع تركت تلك الروايات قدرا كبيرا من الأثر على أدبنا العربي، وفي العقود الأولى من القرن العشرين، تخصصت بعض دور نشر مستقلة، في إصدار ذلك النوع من الروايات، وكان حافظ نجيب ونقولا حداد يتصدران ذلك النوع من الكتابة، وكان الخيال العلمي يمتزج مع الخيال البوليسي، فنجد بعض الروايات البوليسية، تستند إلى خطط بوليسية تستند إلى أجهزة علمية حديثة للكشف عن المجرمين، وبالطبع كانت بعض الروايات مؤلفة، ولكن كاتبها يزعم أنها مترجمة، لأن الأدب المترجم والعالمي كان رائجا بامتياز في مصر، وكانت بعض المجلات تساهم في ترويج ذلك النوع من الكتابة، مثل مجلات “اللطائف المصورة”، و”المقتطف”، ثم تطورت تلك الكتابات في مجلة “الرواية” التي صدرت عن دار الرسالة في عام 1936.
ونستطيع أن نقفز بسهولة _استقرت فيها كتابات الخيال العلمي بشكل واضح_ حتى نصل إلى عقد الستينات، عندما بدأ الدكتور مصطفى محمود، وأصدر روايته الأولى “المستحيل”، وقد استطاع أن يقدم لأدبنا العربي لونا جديدا من ألوان الرواية _كما يكتب د نعيم عطية_ ، “وربما كان أهم ما في روايته (المستحيل) ، هو قدرة هذا الطبيب على تشخيص مرض العصر الحاضر، ذلك المرض الروحي الذي يراه في الإحساس بالاغتراب، والغريب الذي يصوره مصطفى محمود ، هو الإنسان الذي يبحث لحياته عن معنى ، ويؤمن بأن الحياة لها معنى، ويرى أن بطولته في أن يجد هذا المعنى”([9]).
وتعتبر رواية “المستحيل” محاولة أولى لتحطيم العلاقات المألوفة بين الأشخاص، وهدم النظام الزمني التتابعي للأحداث، “ولا يصور العالم الخارجي ، بل الواقع الداخلي، كما ينساب في الشعور وتيار الوعي، ولكنه استثارته للذكرى والتداعي لا يعتمد على أسلوب السرد الدقيق المسهب كما فعل بروست في (البحث عن الزمن المفقود) ولا على أسلوب الرمز الدافق المتواتر كما فعل جيمس جويس في (عوليس)، ولا على أسلوب المونولوج الداخلي”([10]).
ويعتبر الدكتور مصطفى محمود أحد الكتّاب المصريين والعرب الذين فتحوا مجالا واسعا وخصبا في الرواية العلمية، خاصة في جانبها النفسي، فأصدر بعد روايته الأولى “المستحيل” التي صدرت عام 1960، سلسلة روايات أخرى على التتابع، منها روايات (الأفيون، العنكبوت، رجل تحت الصفر، الخروج من التابوت..)، وغيرها من مجموعات قصصية ومسرحيات، يعتمد كثير منها على المجال العلمي، وبالطبع فمصطفى محمود كان يتخذ مادة العلم في سرده ومسرحه ودراساته الفكرية والدينية، بعيدا عن برنامج “العلم والإيمان” الذي كان يقدمه في التلفزيون منذ العام 1974، واستخدم العلم لتمرير بضعة تفسيرات دينية أحدثت لغطا وجدلا شديدين، لكن يبقى لمصطفى محمود أنه أول من أسس لمساحة واسعة وعميقة لرواية الخيال العلمي، والتي وجدت مجالا كبيرا بين قرّاء مصطفى محمود ومتابعيه، وربما خاض في مجال رواية الخيال العلمي فرسان آخرون، ولكنهم كانوا على شاكلة أخرى.
ويعتبر الكاتبان رؤوف وصفي ونهاد شريف، من الكتّاب المهمين وقد شقّا طريقا وعرا في مجال رواية الخيال العلمي، وأسسا لها بالفعل، وخدما المشروع الروائي في هذا الجانب بامتياز ، ومن أبرز روايات نهاد شريف رواية “قاهر الزمن”، والشيء”، ونالت الروايتان قدرا وافرا من المتابعة النقدية من كتّاب كبار، ويكتب يوسف الشاروني عن رواية “قاهر الزمن” قائلا :”ميزة هذه الرواية الأولى أنها عودة إلى البساطة والوضوح في الأسلوب، ولا شك أن لموضوعها علاقة وثيقة بذلك، فهي ليست جولة في سراديب النفس يقدمها لنا صاحبها وهو نصف واع كما يحدث في معظم ما يقدم اليوم..”([11]).
ويتطرق الشاروني في هذه الدراسة للنقص الذي كانت تعاني منه روايات الخيال العلمي، ويعتبر أن رواية نهاد شريف، بمثابة سد بعض النقص الذي تعاني منه في عالمنا العربي، ويقتبس الشاروني فقرة يتحدث فيها نهاد شريف عن الأثر الذي تركه أسلافه من الساردين في هذا المجال فيقول :”..وأقرأ لجول فيرن وويلز وكونان دويل وبيير بنوا وهكسلي وغيرهم، وأعيش معهم في عوالمهم الغامضة فأرحل إلى عالم مفقود ، وأشهد حربا بين الكواكب، وأعثر على قارة الأطلنطيد المفقودة، ثم أهبط إلى باطن الكرة الأرضية، وأتذوق طعام الآلهة..” (12)، ويسترسل نهاد شرف في الفقرة التي اقتبسها الشاروني، ليخبرنا عن كل أسلافه الأماجد الذين حفروا طريقا شاقا ووعرا وقويا في مجال رواية الخيال العلمي، ولكي يؤكد لنا بأن الرواية المصرية والعربية، امتداد للرواية العالمية في الخيال العلمي.
وبهذه المناسبة سنلاحظ أن يوسف إدريس لم يترك هذا المجال فارغا، بل كتب فيه أجمل قصصه وهي قصة “مسحوق الهمس”، كما كتب الكاتب صبري موسى روايته العظيمة “السيد في حقل السبانخ”، وكتبت أسما حليم روايتها “معجزة القدر”، وكلها روايات خيال علمي، يواجه القاص مشكلة ما، ويبدأ في إبداع طرق علمية متخيلة لحلها، ويستخدم الكتّاب خبراتهم العديدة في معارفهم العلمية، لصناعة سرد خاص وأحداث خاصة.
ولا بد أن ننوّه على أن هذا النوع من الكتابة، يفرض أساليب معينة، تلك الأساليب التي تفترض الدقة اللغوية، والتي لا تسمح بأي ترهلات ما على جسد النص، والمفاجأة أن الكاتب والأديب الكبير صنع الله إبراهيم، له ست روايات علمية يقدم فيها قصصا وحكايات وأشخاصا، وتقدّم الروايات سيلا من المعلومات الغزيرة العلمية الفيزيقية، وتلك الروايات هي :”زعنفة الظهر يقابل الفك المفترس، والحياة والموت في بحر ملون، وإنه عالم البحر الأحمر الرائع، واليرقات في دائرة مستقرة، ويوم عادت الملكة القديمة، وعندما جلست العنكبوت تنتظر”، وفي هذه الروايات يجنّد صنع الله إبراهيم حكاياته لتقديم معلومات معروفة ومستقرة، وهذه تعتبر روايات واقعية علمية في آن واحد.
وبعيدا عن كل هذا ، هناك شغف بكتابة رواية
الخيال العلمي في الأجيال الجديدة، ويجد هؤلاء الكتاب رواجا كبيرا بين الشباب الذي
يقبل على تلك الروايات بنهم شديد، ويعتبر الدكتور والكاتب الراحل أحمد خالد توفيق
أيقونة الشباب في هذا المجال، رغم أن بعض تلك الروايات تطرح عوالم شبه سوداوية،
إلا أنها كثيرا ما تحرك بعضا من خيال هذا الشباب، ليجد نفسه مرتبطا ارتباطا فكريا
وخياليا وأدبيا بهذا النوع من الكتابة، وهذا الرواج يثبت بأن هناك مستقبلا حافلا
بالنسبة لرواية الخيال العلمي التي تأسست عبر مراحل وأجيال عديدة، منذ حافظ نجيب،
ثم مصطفى محمود، ثم نهاد شريف ورؤوف وصفي، حتى نصل إلى د أحمد خالد توفيق، الذي
استطاع أن يخلب عقولا شابة وطازجة ويقظة، وبالتأكيد فرواياته لا تعتمد فقط على
تقديم معلومات متخيلة فحسب، بل الأكيد أن خالد توفيق قد اكتشف خلطة سحرية أتاحت
لهذا النوع من الكتابة أن يبقى، ويفتح مجالا لا نهاية له في جدار الزمن.
([1])نجيب محفوظ، مجلة الهلال، القاهرة، سبتمبر 1969، ص 163
([2]) إحسان عبد القدوس، المصدر السابق ص 165
([3]) سلامة موسى، هؤلاء علموني، دار المعارف، سلسلة اقرأ، القاهرة، يناير 1972، ص 221
([4]) عبد المجيد شكري، مجلة الثقافة، تصدر عن وزارة الثقافة، القاهرة، يونيو 1980 ص 67
([5])عبد المجيد شكري، مجلة الثقافة، تصدر عن وزارة الثقافة، القاهرة، يونيو 1980 ص 67
([6]) جورج أورويل، حقل الحيوان، ترجمة كريم ناصف، دار نشر المكتبة العالمية، د.ت ص 29
([7]) جورج أورويل، 1984، ترجمة آمال رضوان، أحمد صديق، أيمن الجمل، محمود عبد الحليم، تقديم د رمسيس عوض، مكتبة الجهاد الكبرى بالفجالة، 1984طبعة أولى ، كلمة الغلاف.
([8]) جون مولينيه، زيارة جديدة لمزرعة الحيوانات، ترجمة خليل كلفت، مجلة القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، أكتوبر 1994 ص 19
([9]) د نعيم عطية، لحظات أدبية، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، 1992، ص 151
([10]) جلال العشري، مصطفى محمود شاهد على عصره، دار المعارف، طبعة ثالثة 1978، ص 130
([11]) ،و12)يوسف الشاروني، الرواية المصرية المعاصرة، كتاب الهلال، القاهرة، إبريل 1973ص 122، 123