يشير مصطلح القطبية “polarity” إلى عدد القوى العظمى في النظام الدولي، بمعنى تلك التي تتمتع بالقوة (الاقتصادية، والعسكرية، والنفوذ العالمي)، ويقدر خبراء الإستراتيجية أن القطبية تقدم وصفًا لتوزيع القوة في النظام الدولي، وكيف يتغير بمرور الوقت، وتعد هذه التغيرات المفتاح لفهم سبب تنافس الدول، أو تعاونها مع بعضها البعض.
ومن حيث الأشكال، تتخذ القطبية – عادة – أشكالًا ثلاث هي: الأحادية القطبية “Unipolarity”، حيث تكون دولة واحدة هي الأقوى إلى حد بعيد، والقطبية الثنائية “bipolarity”، حيث تكون الدولتان متساويتين في القوة تقريبًا، والتعددية القطبية multipolarity، عندما تكون القوة أكثر انتشارًا بين عدة دول.
ويؤكد الخبراء في هذا السياق، أنه من المفاهيم الخاطئة الشائعة القول بأن التعددية القطبية يجب أن تشمل العديد من الدول ذات القدرات المتساوية تقريبًا، بمعنى وجوب أن تكون متوازنة؛ فالواقع يشهد أن الأنظمة المتعددة الأقطاب، غالبًا ما تكون غير متوازنة؛ حيث تتنافس قوتان أو ثلاث قوى كبرى، بجانب العديد من القوى المتوسطة، على المكانة.
وفي السياق عاليه، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وبدء عصر الحرب الباردة، عرف النظام الدولي ثنائية قطبية تمثلت أساسًا في كل من (الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي السابق).
وقد أدى سقوط الاتحاد السوفيتي إلى صعود القطبية الأحادية ممثلة في الولايات المتحدة الأمريكية بعناصر قوتها الشاملة، واليوم هناك انقسام واضح حول كون الولايات المتحدة الزعيم العالمي بلا منازع، فعلى حين يجادل البعض بأنها ستظل القوة العالمية المهيمنة في المستقبل المنظور، يؤكد البعض الآخر أن العالم يتجه نحو منافسة ثنائية القطب جديدة مع الصين، بينما لا يزال البعض الثالث يعتقد بأن حقبة تعددية الأقطاب قد بزغت بالفعل، وأن النظام المتعدد الأقطاب لا يتطلب ثلاث قوى متساوية الحجم، وإنما يكفي فقط أن تتركز قوة كبيرة في أكثر من دولتين. ويشار في ذلك إلى الصين كمركز للنمو الاقتصادي العالمي، وظهور الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية كبرى متكاملة، لا سيما بعد إطلاق العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) في الأول من يناير عام 1999، وروسيا والهند وصعود ما يسمى بــ “الجنوب العالمي”.
ويتناول هذا المقال الجدل الدائر حول ما إذا كان النظام الدولي الراهن أحادي القطب أو ثنائي أو متعدد الأقطاب، والأسباب التي تؤسس كل وجهة نظر موقفها عليها (أولًا) وتداعيات ذلك على الأوضاع الدولية والإقليمية (ثانيًا):
أولًا: الجدل حول ثنائية أو تعددية الأقطاب:
في مقال له في دورية الشؤون الخارجية، في سبتمبر 2023، تحت عنوان: “لا، العالم ليس متعدد الأقطاب”، ذكر “Jo Inge Bekkevold”، أن الادعاء بأن عالم اليوم متعدد الأقطاب، أو حتى قريب من ذلك، هو مجرد أسطورة، مشيرًا في ذلك إلى عدد من الأسباب أبرزها: أنه لكي يكون العالم متعدد الأقطاب، يجب أن تكون هناك ثلاث قوى أو أكثر، واليوم لا يوجد سوى دولتين تتمتعان بـ(الوزن الاقتصادي، والقوة العسكرية، والنفوذ العالمي)، القادرتين على تشكيل قطب (الولايات المتحدة، والصين). ويضيف أن القوى العظمى الأخرى ليست موجودة ببساطة، ولن تكون في أي وقت قريب، مؤكدًا: “أن مجرد وجود قوى متوسطة صاعدة ودول غير منحازة ذات عدد كبير من السكان، واقتصادات متنامية لا تجعل العالم متعدد الأقطاب”. ويعرض جو انج بيكيفولد لمواقف بعض القوى الكبرى، مثل: (روسيا، والهند، واليابان، وأيضًا الاتحاد الأوروبي)، موضحًا أن منها ما تزال تفتقد إلى بعض مقومات القوة العظمى، وبالتالي تفتقد القدرة على التنافس مع (الولايات المتحدة، والصين)، دون أن يستبعد إمكانية أن يتحقق ذلك، ولكن في الأمد البعيد. ويخلص من كل ذلك إلى تأكيد أن (الولايات المتحدة، والصين) هما فقط قطبا النظام الدولي الراهن؛ حيث يمثلان نصف إجمالي الإنفاق الدفاعي في العالم، وأن الناتج المحلي الإجمالي للبلدين يساوي تقريبًا اقتصادات الدول الـــ 33 التالية الأكبر مجتمعة.
ومع ذلك، يبدو هذا الرأي منعزلًا؛ حيث يذهب الاتجاه الغالب لدى المحللين السياسيين والمراقبين للعلاقات الدولية، بل وحتى بعض كبار القادة السياسيين بما فيهم الولايات المتحدة_ إلى التأكيد على أننا نشهد اليوم مرحلة انتقالية نتجه فيها إلى نظام دولي متعدد الأقطاب، طبقًا لمعايير القوة الشاملة من (قدرة اقتصادية، وعسكرية، ومعرفة تكنولوجية)، بحيث أصبحت بنية النظام العالمي الجديد على شكل هرمي تتبوأ قمته الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمتلك أبعادًا عِدة للقوة الشاملة، وقوى تليها في الترتيب وتحاول منافستها مثل: (الصين، وروسيا، والهند، والاتحاد الأوروبي). ويؤرخ “جوزيب بوريل” مفوض السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي لظهور هذه الحالة من “التعددية القطبية المعقدة”، منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، كما أصبحت الفكرة شائعة أيضًا في عالم الأعمال؛ حيث أصدر بنك الاستثمار “مورجان ستانلي” ورقة إستراتيجية في سبتمبر2023، تحت عنوان “الإبحار في عالم متعدد الأقطاب”.
وبمعنى آخر، فإن وجهة النظر الغالبة اليوم ترى أنه مع التسليم بانفراد الولايات المتحدة كقطب أوحد خلال الفترة الحالية، إلا أن الأمر يتعلق بفترة انتقالية بدأت بوادر نهايتها، وأن العالم يتجه نحو تعدد الأقطاب بظهور قوى دولية أخرى هي الآن في مرحلة ما يمكن تسميته قوى عظمى محتملة مثل: (الصين، وروسيا، والهند، والاتحاد الأوروبي)، وتضيف وجهة النظر هذه أن شكل النظام الدولي الوليد سيتوقف على قدرة تلك القوى ورغبتها في لعب دور في النظام الدولي الجديد من ناحية، وعلى استجابة الولايات المتحدة ومرونتها في التعامل مع التهديدات والتحديات القادمة من تلك القوى من ناحية أخرى.
في السياق عاليه، يشير أنصار ما يُسمى بـــ “تعددية الأقطاب البازغة”، إلى ما يلاحظ بوضوح من تبدل ملامح الموقف الأمريكي من مصير النظام العالمي الحالي ومصير مؤسساته، والتحضير العملي – منذ منتصف عهد أوباما – لمراجعة النظام العالمي، بما يضمن استعادة الولايات المتحدة لدورها العالمي كدولة وحيدة عظمى تعمل في إطار عالم متعدد الأقطاب من دول كبرى. وفي هذا الصدد، باتت الولايات المتحدة أكثر تركيزًا على مصالح تتنافسها مع الصين من جهة، وصراعها مع روسيا من جهة أخرى، ومع تصاعد ميلها للتركيز على مهام إدارة الصراع مع كل من: الصين كمنافس، وروسيا كخصم، حاولت الولايات المتحدة- وماتزال- بناء منظومات إقليمية متعددة الأقطاب، تستند إلى ركائز إستراتيجية إقليمية؛ لتلعب دورها في إدارة منظمات سلم وأمن إقليمي. ويعكس هذا التوجه الأمريكي الرغبة في استبدال مجمل هندسة النظام العالمي، من نظام “هرمي مركزي”- كما كان فيما بعد الحرب العالمية الثانية- إلى نظام “شبكي عنقودي” تكون فيه الولايات المتحدة هي المركز المهيمن، وتفترض هذه الهندسة أن تقوم كل منظومة إقليمية بضبط، والموازنة بين، قوى إستراتيجية إقليمية لتدير إقليمها في إطار صراعاتها. ووفقًا لهذا التحليل، فإن تلك الهندسة الأمريكية للعلاقات الدولية تفترض- بالتوازي- أن تنشئ دوائر لتوازن المصالح تقوم فيها بعض الدول الإقليمية بدور طليعي في إدارة نظام العلاقات، وتعمل – بالتعاون مع دول الإقليم الأخرى – على ردع القوى المارقة على النظام الإقليمي والدولي، والعمل على ضبط الصراعات الإقليمية.
وعلى حين تدافع روسيا والصين عن عالم متعدد الأقطاب، بل ويؤكد الرئيس الروسي “بوتين” أن عالم اليوم بالفعل هو عالم متعدد الأقطاب (حديث بوتين بمناسبة الذكرى العشرين لتأسيس “منتدى فالداي” في أوائل أكتوبر 2023)، يؤكد كُتاب أمريكيون أن الثنائية القطبية والأحادية القطبية هي أكثر أمانًا للولايات المتحدة من تعددية الأقطاب. ويدلل هؤلاء على صحة مقولتهم بأن الحرب الباردة انتهت بسلام، ومن ثم يجب على الولايات المتحدة أن تقاوم عالم متعدد الأقطاب، الذي قد يكون أكثر فوضوية، وقد يشهد المزيد من الحروب، إلا أنه لا خوف وجودي من منافسة القوى العظمى التي ميزت التنافس بين (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفيتي). وفي هذا الصدد، يرى بعض المحللين “إيما أشفورد”، و”إيفان كوبر” (الباحثان في برنامج إعادة تصور الإستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة في مركز ستيمسون “Stimson Center” الأمريكي ) أن إدارة بايدن- مدفوعة جزئيًّا بمخاوفها الخاصة بشأن التعددية القطبية- تتّبع ما يمكن وصفه بإستراتيجية قائمة على الكتل، بمعنى أنها تأمل في التعامل مع تحول ميزان القوى العالمي في غير صالحها، من خلال بناء تحالف مناهض للصين، والتأكيد على تعاون عسكري وتقني أوثق بين الحلفاء في جميع أنحاء أوروبا وآسيا، ومحاولة بناء كتلة عالمية من الديمقراطيات – أو على الأقل من الدول “ذات التفكير المماثل”– الموجهة ضد “الخصوم الاستبداديين”، وتقرن الولايات المتحدة هذا النهج بفن “الحكم الاقتصادي”؛ لتقويض وصول الصين إلى الأسواق العالمية الرئيسة وتقييد نقل التكنولوجيا المتقدمة.
وتخلص وجهة النظر عاليه إلى القول بأنه، في عهد بايدن، تخطط الولايات المتحدة لإعادة تشغيل قواعد اللعبة في الحرب الباردة، في محاولة لاحتواء صعود الصين، وتأمل واشنطن أن تعوض قوة الحلفاء والشركاء عن تراجع القوة الأمريكية. غير أنه، في عالم متعدد الأقطاب، يبدو هذا النهج مليئًا بالمخاطر؛ ذلك أنه من خلال محاولة تنظيم مجموعة من أكبر عدد من الدول في معارضة الصين، تخاطر إدارة بايدن بشراكات ضعيفة مبنية على مصالح القاسم المشترك الأدنى.
ومع ذلك، تدحض وجهة نظر أخرى مثل هذا الافتراض الذي تعتبره مضللًا، حيث تظهر (المؤشرات العسكرية، والاقتصادية، والمقاييس التكنولوجية)، بجانب مقاييس أخرى للقوة تبلغ اثني عشر مقياسًا، أشارت إليها ورقة نشرها مؤخرًا مركز ستيمسون، تظهر أن (الولايات المتحدة، والصين) في طليعة القوى العظمى. غير أن هذه المقاييس تظهر أيضًا أن القوة الاقتصادية والعسكرية تتراكم في أماكن أخرى من فرنسا إلى أستراليا. ويشار في ذلك إلى أنه ربما تكون النقطة الأكثر أهمية هنا هي أنه، على عكس الحرب الباردة، عندما سيطرت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على حصة الأسد من القوة الاقتصادية والعسكرية – بل وأكثر من ذلك إذا تم احتساب كتلة التحالف الخاصة بكل منهما – تسيطر الصين والولايات المتحدة معًا اليوم على حصة أصغر. وعلى سبيل المثال، يشير أحد مؤشرات القوة العسكرية والاقتصادية إلى أن هذه الحصة تقلصت من حوالي 40% في عام 1946 إلى حوالي 30% فقط اليوم.
وتضيف أشفورد وكوبر أن الولايات المتحدة لم تعد تمتلك القوة الاقتصادية الضخمة لإقناع الدول بعزل الصين اقتصاديًّا مقابل وعود بالوصول إلى السوق الأمريكية، وبدلًا من عزل الصين عن الاقتصاد العالمي، فإن النهج التجاري الجديد لإدارة بايدن، الذي تميز بالتعريفات الجمركية وضوابط التصدير، أزعج الحلفاء المقربين مثل: (كوريا الجنوبية، وهولندا)، وقد تسفر الإجراءات العسكرية مثل العقوبات وضوابط التصدير عن نتائج الآن، ولكنها تخاطر بتقلص القوة الاقتصادية الأمريكية على المدى الطويل؛ حيث تبحث الدول عن بدائل.
ثانيًا: التداعيات الدولية والإقليمية:
لا يستطيع المراقب للعلاقات الدولية- منذ عقود وحتى الآن- تجاهل التشابك والتداخل التدريجي بين الفاعلين الدوليين، وهو ما لعبت فيه الثورات التكنولوجية والعولمة دورًا كبيرًا، الأمر الذي تمخض عنه مستوى كبير من الاعتماد المتبادل بين القوى الكبرى المختلفة، وتمدد الاستثمارات والشركات المتعددة الجنسيات العابرة للحدود والساعية دائمًا للربح في مختلف بلدان العالم. ويتبدى هذا الاعتماد المتبادل بوضوح في علاقات الولايات المتحدة بالصين، وعلاقات الاتحاد الأوروبي بهذه الأخيرة وعلاقات الهند بكل من (الصين، وروسيا)، ويظهر سلوك كل من هذه القوى تجاه الآخر، مدى حالة الاعتماد المتبادل والقيود التي تفرضها ارتباطًا بهذا السلوك، حفاظًا على مصالحها وتجنبًا للمخاطر.
وتسلط الحرب في أوكرانيا الضوء على هذه الديناميكية في الممارسة العملية: فالدول الراغبة، بل والمتلهفة، للعمل مع الولايات المتحدة ضد الصين، غالبًا ما كانت أقل استعدادًا للالتزام بدعم موقف الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا. وعلى سبيل المثال، ورغم كونها جزءًا متزايدًا من الإستراتيجية الأمريكية في منطقة المحيطين (الهندي، والهادئ)، إلا أن الهند تواصل استيراد الطاقة والسلاح من روسيا. في الوقت نفسه، في أوروبا، لا تزال ألمانيا شريكًا تجاريًّا وثيقًا لبكين، بينما تتعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا. ومن غير المرجح أن تندمج مجموعة من القوى المتوسطة، ذات المصالح المتباينة، في كتلة عالمية متماسكة، بغض النظر عما تريده واشنطن.
وهكذا يمكن القول بأنه في عصر التعددية القطبية المتزايدة، جلب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا إلى السطح الديناميات التي كانت جارية بالفعل في السنوات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويشير محللون كُثر إلى أن ما جعلته الحرب في أوكرانيا أكثر وضوحًا، في المقام الأول، هو التنويع المتزايد لشراكات بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الصعيدين (الإقليمي، والدولي)، فضلًا عن توطيد علاقاتها مع اللاعبين العالميين مثل: (روسيا، والصين). وفي مواجهة حرب تعتبرها بعيدة، اختار العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عدم الانحياز إلى جانب أو آخر في المواجهة بين الغرب وروسيا، والحفاظ على علاقات سليمة مع الولايات المتحدة وأوروبا دون استعداء روسيا. وفضلًا عن ذلك، وانعكاسًا للتحولات في النظام الدولي، تشهد المنطقة اتجاهًا كبيرًا نحو التنظيم الذاتي، وهو ما يتضح من الاستقلالية الأكبر لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في خيارات سياستها الخارجية، إلى جانب نهج أكثر عملية وبراجماتية تجاه الشؤون الإقليمية والعالمية. ويجمع الخبراء على أن دول المنطقة تبدو أكثر اهتمامًا بالاستفادة من الموازنة بين مختلف الجهات الفاعلة، وإبقاء خياراتهم مفتوحة. وبالمثل، بدت حريصة أيضًا على الانضمام إلى المجموعات والمنظمات الدولية التي يمكن أن توفر خيارات بجانب المؤسسات التي يقودها الغرب. وفي هذا السياق، يمكن قراءة تمتع مصر وعدد من بلدان الخليج العربية بوضعية “شريك حوار” لدى منظمة شنغهاي للتعاون، بقيادة (الصين، وروسيا)، ودعوة كل من: (مصر، والمملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، وإيران)، بجانب كل من: (الأرجنتين، وإثيوبيا) للانضمام إلى مجموعة بريكس للاقتصادات الصاعدة، اعتبارًا من أول يناير 2024، وذلك وفقًا لما قررته قمة المجموعة الخامسة عشرة التي عُقدت في مدينة جوهانسبرج في 22/24 أغسطس 2023.
وقد فهمت واشنطن حدود نفوذها في المنطقة نتيجة لموقف شركائها في هذا الشأن. ويقدر محللون غربيون أنه وإن كانت بصمة الصين المتنامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ليست بالأمر الجديد، إلا أن نفوذ بكين تعزز منذ الحرب في أوكرانيا؛ فقد استفادت الصين من الصراع من خلال وضع نفسها كلاعب ثالث بين (روسيا، والولايات المتحدة)، وبالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية القوية، أظهرت الصين أيضًا طموحًا للعب دور الوسيط في العديد من النزاعات الإقليمية. وفي الوقت نفسه، اجتذبت منتديات مثل: (منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس) اهتمامًا أكبر في المنطقة.
ولقد كان لافتًا في هذا السياق، أن يتحدث الرئيس بايدن في خطابه أمام الدورة السنوية الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2023، عن دعمه اشتراك الدول النامية بشكل أكبر في معالجة المخاوف (الاقتصادية، والاجتماعية، والمناخية)، وكرر بايدن عبارة “نحن نعلم أن مستقبلنا مرتبط بمستقبلكم”، وأقر بضرورة “تحديث” المؤسسات الدولية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، والاستجابة لـــ “الأقاليم التي لم يتم إدراجها بشكل كامل”، مضيفًا أن دور مجموعة العشرين تعزز بانضمام الاتحاد الإفريقي إليها كعضو خلال قمة المجموعة في نيودلهي في 10 سبتمبر 2023. وبدا واضحًا من خطاب بايدن إدراكه لحقيقة أن التحديات والمشاكل المدرجة على الأجندة العالمية تتسم بالتعقيد والتشابك، ولا يمكن لقوة واحدة معالجتها.
وهكذا، يستخلص الكتّاب القائلين بأن النظام الدولي المتعدد الأقطاب السائد الآن، وعلى العكس من النظام الدولي أحادي القطب الذي ساد في العقود الثلاث الماضية، يشير إلى أن تناقص القوة النسبية لن يجعل حكومة الولايات المتحدة قادرة على فرض إرادتها في كل منطقة من مناطق العالم، وخاصة في وقت واحد، ويضيف هؤلاء أن الاستمرار في تقديم الولايات المتحدة باعتبارها “الأمة التي لا غنى عنها، من المرجح أن يقود إلى “الفشل والإرهاق”.
في هذا السياق، يؤكد بعض الكتّاب من البلدان الصاعدة أن قمة مجموعة البريكس الخامسة عشرة، أرسلت إشارة قوية مفادها أن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، يجب أن يتقبل الواقع المتعدد الأقطاب وأن يتغير مع مرور الوقت. ويشار في ذلك إلى أن العدد الكبير من طلبات الانضمام إلى هذه المجموعة، والمقدر بنحو 40 طلب، هو أحد أعراض الشعور الأعمق بالضيق؛ ذلك أن ميل الغرب إلى فرض عقوبات مالية أحادية، وإساءة استخدام آليات الدفع الدولية، والتراجع عن التزامات تمويل المناخ، وتجاهل متطلبات الأمن الغذائي والضرورات الصحية لجنوب العالم خلال الوباء، هي كلها عناصر مسؤولة عن خيبة الأمل المتزايدة تجاه النظام الدولي السائد.
من ناحية أخرى، يؤكد هذا البعض أن رفض الانجرار إلى منافسة بين القوة العالمية المتنافسة هو تصور عام في الجنوب العالمي لا ينبغي الاستهانة به، ويتعين على الدول الغربية أن تفهم أن مجموعة “البريكس+” سوف تستمر كتجمع فضفاض غير متجانس في عضويته، ولكن بأبعاد طموحة عالمية تسعى إلى توسيع قدرتها العملية لبلدان أخرى في جميع أنحاء العالم.
وتطمح المجموعة إلى إعادة تشكيل الحوكمة العالمية من خلال زيادة التجارة بالعملات المحلية، وإصلاح الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي من أجل استيعاب تطلعات الاقتصادات الناشئة بشكل أفضل، ومواءمة المواقف بشأن القضايا العالمية مثل: القضايا المتعلقة بالزراعة، والصحة، والتنمية المستدامة، واستكمال وإصلاح المؤسسات الدولية القائمة التي تعتبر غير مستجيبة لمصالحها.
وختامًا، تشير التحليلات المعمقة للعديد من مقاييس القوة والمعايير الأخرى للقوة الشاملة، إلى أن القطبية الراهنة، وإن كانت واضحة في حالتي (الولايات المتحدة، والصين) إلا أنه لا ينبغي استبعاد (منطقة اليورو، وألمانيا، والهند، وروسيا) من هذه القوى. ويشار في هذا السياق إلى أن حالة الاعتماد المتبادل فيما بين هذه القوى تمثل قيودًا على سلوك كل منها تجاه الآخر، خاصة في حالة (بكين، وواشنطن)، الأمر الذي يستبعد إمكانية وقوع حرب بين الجانبين بسبب تايوان؛ لأنها ستكون مكلفة جدًا. ومما لا شك فيه أن تعددية الأقطاب توفر للدول الأخرى خيارات ومساحة أكبر للحركة بما يتفق ومصالح تلك الدول خاصة النامية منها، كذلك تخفف تعددية الأقطاب من الإملاءات والقيود التي باتت سمة واضحة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، دفعت الدول الأخرى إلى السعي نحو شراكات وخيارات إستراتيجية مع قوى أخرى مثل: (الصين، وروسيا)، والتحول نحو مؤسسات أخرى متعددة الأطراف تتبنى مبادئ حوكمة اقتصادية وسياسية تناسب أوضاعها السياسية والاقتصادية، بعيدًا عن الرؤية الغربية بقيادة الولايات المتحدة. ولا شك أن هذه الأخيرة تعمل بكل قوتها على تعزيز هيمنتها وتجنب أن يصبح العالم متعدد المراكز، وتحقيقًا لهذا الهدف تعمل واشنطن على استفزاز (روسيا، والصين)، والحد من النمو الاقتصادي للبلدين وإجبارهما على الخضوع لمعاييرها، وقد تبدى ذلك بوضوح في إستراتيجية الأمن القومي لإدارة بايدن، التي صدرت في 12 أكتوبر 2022، بهدف رئيس هو “التغلب على الصين، وكبح جماح روسيا”، كما تدعو الإستراتيجية إلى تقليص الاعتماد على “الخصوم” وتعديل العولمة.