مقدمة:
شهدت المنطقة العربية منذ عدة سنوات تصاعد التهديدات غير التقليدية، التي باتت لها تأثيرات أمنية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وذلك من قبيل الأمراض الوبائية، والهجرة غير النظامية ومشكلات اللاجئين والنازحين بفعل الصراعات المسلحة أو عدم الاستقرار السياسي الممتد أو الضغوط البيئية، والجريمة المنظمة والتي تمثل إحدى أهم التحديات التي تتصاعد أولوياتها بشكلٍ سريع على أجندة السياسات الأمنية لمعظم دول العالم؛ إذ اتسع نطاق الاتجار في البشر والمخدرات، وتجارة السلاح وغسيل الأموال بصورة غير مسبوقة، وذلك إلى جانب مشكلات أمن المياه وأمن الطاقة. وقد قاد انتشار مظاهر وتأثيرات هذه القضايا في المنطقة العربية من ناحية، واتساع نطاقها من ناحية أخرى، إلى إرساء مفهوم “الأمن غير التقليدي” Non-Traditional Security ضمن المفاهيم المطروحة للنقاش العام حول الأمن في المنطقة العربية، وكذلك إلى لفت الانتباه إلى حدوث تحوُّل مشكلات تقليدية إلى تهديدات غير تقليدية تمارس تأثيراتها على الأمن القومي والأمن الإقليمي([1]).
فقد ازداد الوضع سوءًا بعد اندلاع الحراك الثوري في عدة دول عربية، وسرعان ما ورثَته صراعات داخلية مسلحة تدخلت فيها قوى إقليمية على نحو ما تعكسه الأزمة (السورية، والليبية، واليمنية)، فضلًا عن ظهور تنظيم داعش، مما أدى ليس فقط إلى تزايد موجات الهجرة واللجوء إلى أوروبا بشكلٍ غير نظامي أو غير قانوني، وإنما أيضًا إلى تزايد أعداد تدفق اللاجئين من بؤر الصراعات في بعض الدول العربية إلى أراضي الدول المجاورة، فضلًا عن ممارسة بعض هؤلاء لأنماط من الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية (غير القانونية) عبر الحدود، كتجارة البشر، مما يمثل تهديدًا حقيقيًّا للمنظومة الأمنية بالدول العربية، فقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا موجات هجرة ضخمة عبر تاريخها بفعل الأزمات المتعددة التي مرت بها، ابتداءً من النزاعات، ومرورًا بحالات العنف، ووصولًا إلى الكوارث الطبيعية والتغيير المناخي، وبالتالي هذه الأحداث أجبرت العديد من الأفراد على ترك منازلهم واختراق الحدود كاللاجئين.
وازداد الأمر سوءًا مع ظهور جائحة كورونا العالمية، وعقب اضطرابات ونزاعات في منطقة الشرق الأوسط، فتركت آثارًا مدمرة على المجتمعات، وأدت إلى زيادة كبيرة في نسبة ضحايا الاتجار بالبشر. فعالم ما بعد كورونا يختلف عما قبله، ليس فقط بالنسبة لتحولات الجغرافيا، وإنما أيضًا لأوضاع الديموغرافيا، حيث تبلور اتجاه رئيسٍ في الأدبيات يركز على ما يمكن تسميته بـ”النقاط الرخوة” للجماعات أو التجمعات، في مناطق جغرافية مختلفة بالعالم بشكلٍ عام وفي الشرق الأوسط بوجهٍ خاص، والتي تأثرت بانعكاسات فيروس كورونا بدرجةٍ لا يمكن تخيلها، لاسيما أنها في الأساس مأزومة (سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وصحيًّا، وبيئيًّا)، ويعد من أبرزها الفئات الهشة اللاجئين والنازحين العابرين للحدود الرخوة. ([2])
في هذا السياق، تبحث هذه الدراسة في أهم وأبرز المشكلات التي تواجه اللاجئين في المنطقة العربية والتي تتمثل في تجارة البشر وما يتفرع عنها من أنشطة وممارسات غير قانونية كـ(تجارة الأعضاء البشرية، والاستغلال الجنسي، والعمل القسري، والاسترقاق /تجارة الرقيق،… وغيرها)، مع ازدياد الأمر سوءًا في ظل استمرار جائحة كورونا عالميًّا. ومن منطلق هذه الإشكالية، تتناول هذه الدراسة عدة نقاط رئيسة: محددات تعريف اللاجئ و”الاتجار بالبشر”، والتوزيع الجغرافي للاجئين في منطقة الشرق الأوسط، ومؤشرات وأنماط “تجارة البشر” للاجئ بالمنطقة، وتداعيات جائحة كورونا على تزايد ظاهرة “الاتجار بالبشر” للاجئ المنطقة العربية، وطبيعة المخاطر الناجمة عن تزايد الظاهرة في المنطقة، والآليات اللازمة للحد منها حاليًّا ومستقبلًا.
أولًا: محددات تعريف “اللاجئ” و”الاتجار بالبشر”:
تستخدم تعبيرات “اللاجئ” و”طالب اللجوء” و”المهاجر” و”النازح” في وصف أشخاص ارتحلوا من مكان إلى آخر، وغادروا أوطانهم واجتازوا حدودها. وكثيرًا ما يخلط البعض بين هذه التعبيرات ليعني كل منها الآخر، لكن من الأهمية بمكان التمييز بينها نظرًا للفارق القانوني لوضع كل منها، فبالنسبة للاجئ، فقط تبلور الإطار القانوني الدولي لتعريف اللاجئ مع اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، حيث احتوت الفقرة أ/2 من هذه الاتفاقية على أربعة شروط يمكن من خلالها تحديد من هو اللاجئ، وهي:
- يجب أن يكون في حالة خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد.
- إن الاضطهاد – موضع البحث – يجب أن يكون قائمًا بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة أو بسبب آرائه السياسية.
- يجب أن يكون خارج البلد الذي يحمل جنسيته، في حالة عديمي الجنسية خارج البلد الذي يحمل جنسيته السابقة.
- يجب أن لا يستطيع أو لا يرغب في حماية ذلك البلد بسبب هذا الخوف أو كل من لا جنسية له وهو خارج بلد إقامته السابقة، ولا يستطيع أو لا يرغب بسبب ذلك الخوف في العودة إلى ذلك البلد([3]).
ومن ثم يُعرَّف “اللاجئ” وفق هذه الاتفاقية على إنه: “كل شخص يوجد خارج دولة جنسيته بسبب تخوف مبرر من التعرض للاضطهاد لأسباب ترجع إلى عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه لعضوية فئة اجتماعية معينة أو آرائه السياسية، وأصبح بسبب ذلك التخوف يفتقر إلى القدرة على أن يستظل بحماية دولته أو لم تعد لديه الرغبة في ذلك”.
فيما يُعرَّف “طالب اللجوء” بأنه: “هو الشخص الذي غادر بلده سعيًا وراء الحصول على الحماية من الاضطهاد والانتهاكات الخطيرة لحقوقه الإنسانية في بلد آخر، ولكن لم يتم بعد الاعتراف به كلاجئ رسميًّا، وينتظر البت بشأن طلبه للجوء”. وطلب اللجوء حق إنساني، وهذا يعني إنه ينبغي السماح لكل شخص بدخول بلد آخر لالتماس اللجوء([4]).
و”النازح” على عكس اللاجئ، فوفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: “هو الشخص الذي لم يعبر حدود دولته بحثًا عن الأمان، ولكنه بقي داخل وطنه وفي حماية حكومته حتى وإن كانت تلك الحكومة السبب في نزوحه”، ونفهم من ذلك أن النازح يعني الشخص الذي فرَّ من دياره؛ لأنه معرض لخطر الاضطهاد أو وقع ضحية له ورغم تشابه الأسباب التي تؤدي للنزوح واللجوء، إلا أن هناك فرقًا واضحًا بين الفئتين، فاللاجئ يترك موطنه لنفس الظروف والأسباب إلا أنه يتعدى حدود دولته وينتقل إلى دولة أخرى، بينما ينتقل النازح في داخل حدود دولته([5]).
وخلافًا لحالة اللاجئين، فإن النازح لا يكتسب وصفًا قانونيًّا يوفر له الحماية القانونية لكونه نازحًا، إذ لا توجد اتفاقية تتناول مسألة النازحين تعادل اتفاقية عام 1951 المتعلقة بوضع اللاجئين، إلا أن القانون الدولي يحمي الأشخاص من النزوح ويوفر لهم الحماية عندما ينزحون بموجب مجموعة من القوانين، وهي: القانون الدولي لحقوق الإنسان، القانون الدولي الإنساني في حالة نزاع مسلح، المبادئ الإرشادية المتعلقة بالنزوح الداخلي التي تقوم على هذين القانونين، والتي توفر إرشادات مفيدة بشأن جوانب محددة للنزوح. كما ينص القانون الدولي الإنساني على حماية السكان من النزوح وفي أثنائه بصفتهم مدنيين، شريطة ألا يشاركوا مباشرة في الأعمال العدائية([6]).
ويُعرَّف “المهاجر” بأنه: “الشخص الذي يهاجر خارج حدود بلده أو البلد الذي يعيش فيه، لأسباب عديدة ومختلفة منها تحسين مستوى المعيشة من خلال البحث عن عمل، أو في بعض الحالات من أجل التعليم، أو لجمع شمل الأسرة، أو لأسباب أخرى”.
إن المهاجر – بشكلٍ عام – يسعى إلى التخطيط للإقامة في بلد آخر بخلاف الحال بالنسبة للاجئ، الذي يُكرَه على الفرار بنفسه من بلده الأصلي إلى بلد آخر، وهنا يتجلى البعد الإنساني للحق في اللجوء كحق إنساني دولي ضمنته المواثيق الدولية الحقوقية([7]).
وعلى الرغم من عدم وجود تعريف متفق عليه قانونًا بشأن المهاجر، تعرفه منظمة الأمم المتحدة بأنه “الشخص الذي عاش في بلد أجنبي لأكثر من عام، بغض النظر عن السبب، سواء كان طوعًا أو إكراهًا، وبغض النظر عن طريقة الهجرة المستخدمة نظامية أو غير نظامية”([8]).
ويتضح من هذا التعريف أن هناك نمطان من الهجرة: الهجرة النظامية، ويطلق عليها الهجرة الشرعية أو الهجرة القانونية، بمعنى أن الإنسان يترك بلده بشكل قانوني ويدخل إلى بلد آخر بشكل رسمي، وفي هذا البلد المضيف يقيم إقامة قانونية.
فيما تشير الهجرة غير النظامية (الهجرة غير الشرعية – الهجرة غير القانونية) إلى مغادرة الإنسان بلده بشكلٍ غير شرعي، ويدخل بلدًا آخرًا بشكلٍ غير قانوني، وهذا النمط من الهجرة قد تسبب في مشكلات معقدة ومتشابكة للعديد من دول العالم لا سيما الدول الأوروبية.
أما “الاتجار بالبشر”، فهو جريمة خطيرة وانتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان، يمس الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ممن يقعون فريسة في أيدي المتاجرين سواءٌ في بلدانهم وخارجها، ويتأثر كل بلد في العالم من ظاهرة الاتجار بالبشر، سواءٌ كان ذلك البلد هو المنشأ أو نقطة العبور أو المقصد للضحايا. وتتيح اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية والبروتوكولات الملحقة بها _المساعدة للدول في جهودها الرامية إلى تنفيذ بروتوكول منع الاتجار بالبشر ومعاقبة المتاجرين بالأشخاص، حيث تعرف المادة 3 الفقرة (أ) من بروتوكول الاتفاقية([9])، الاتجار بالبشر بأنه الاتجار بالأشخاص بأشكاله المختلفة، والتي من ضمنها تجنيد الأشخاص أو نقلهم وتحويلهم أو إيواؤهم بدافع الاستغلال أو حجزهم للأشخاص عن طريق التهديد أو استخدام القوة أو أي من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو الابتزاز أو إساءة استخدام السلطة أو استغلال مواقف الضعف أو إعطاء مبالغ مالية أو مزايا بدافع السيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال، ويشمل الحد الأدنى من الاستغلال، استغلال الأشخاص في شبكات الدعارة وسائر أشكال الاستغلال الجنسي أو العمالة المجانية والسخرة أو العمل كخدم أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو استبعاد الأشخاص بهدف الاستخدام الجسماني ونزع الأعضاء([10]).
وفي ضوء ما سبق، يعرف الاتجار بالبشر بأنه “تجنيد شخص أو نقله أو تنقيله أو إيواءه أو استقباله بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع لغرض الاستغلال”([11]).
ويُفهم أيضًا من تعريف بروتوكول اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الاتجار بالبشر، أن أنواع الاتجار بالبشر تتمثل في الآتي:
- الاتجار بالبشر لأغراض العمل القسري: تأتي ضحايا هذا الشكل الواسع الانتشار من الاتجار في المقام الأول من البلدان النامية، يتم استقدامهم والاتجار بهم باستخدام الخداع والإكراه ويجدون أنفسهم محتجزين في ظروف العبودية للقيام بمجموعة متنوعة من الأشغال، ويمكن أن تشارك الضحايا في أعمال زراعية أو تعدين أو صيد الأسماك أو في أعمال البناء، إلى جانب عبودية منزلية وغيرها من الوظائف الكثيفة العمالة.
- الاتجار بالبشر من أجل الأنشطة الإجرامية القسرية: يحقق هذا النوع من الاتجار للشبكات الإجرامية أرباحًا كبيرة على أثر ممارسة مجموعة أنشطة غير مشروعة مثل: (السرقة، أو زراعة المخدرات، أو بيع السلع المقلدة، أو التسول القسري، وجرائم الإرهاب، وجرائم سرقة الملكية الفكرية)، وغالبًا ما يكون للضحايا حصص نسبية من هذه الأرباح([12]).
- الاتجار بالنساء للاستغلال الجنسي: تتأثر القطاعات الضعيفة كالأطفال والنساء بهذا الشكل من الاتجار، حيث تغريهم الوعود بالعمل اللائق ومغادرة منازلهم والسفر إلى ما يعتبرونه حياة أفضل، وكثيرًا ما يتم تزويد الضحايا بوثائق سفر مزورة وتستخدم شبكة منظمة لنقلهم إلى بلد المقصد، حيث يجدون أنفسهم مجبرين على الاستغلال الجنسي ومحتجزين في ظروف غير إنسانية.
- الاتجار بالبشر لاستئصال الأعضاء: في العديد من البلدان، تكون قوائم الانتظار لعمليات زرع الأعضاء طويلة جدًا، وقد ينتهز المجرمون هذه الفرصة لاستغلال يأس المرضى والجهات المانحة المحتملة، من أجل إعطائهم أعضاء ضحايا عبر إجراء العمليات في ظروف سرية دون متابعة طبية.
- تهريب المهاجرين عبر الحدود الرخوة: ترتبط إشكالية تهريب المهاجرين بالاتجار بالبشر بشكلٍ وثيق، حيث يمكن أن يقع العديد من المهاجرين ضحية العمل القسري طوال رحلتهم، وقد يجبر المهربون المهاجرين على العمل في ظروف غير إنسانية لدفع ثمن مرورهم غير القانوني عبر الحدود([13]).
ثانيًا: التوزيع الجغرافي للاجئين في المنطقة العربية:
تأتي المنطقة العربية في مقدمة مناطق العالم من حيث تضمنها لأكبر عدد من اللاجئين وتتوزع دولها بين مصدر للجوء ومستقبل لها، وقد تحولت بعض الدول بالمنطقة من مستقبل للاجئين إلى مصدر لهم بعد أن اضطربت أوضاعها السياسية والأمنية وشملها عدم الاستقرار، وتأتي في مقدمة هذه الدول (العراق، وسوريا، وليبيا)، إذ تحولت من بلدان مستقبلة للاجئين- خصوصًا الفلسطينيين- إلى دول طاردة للسكان واللجوء. وفي المقابل فقد تحولت دول أخرى لتكون دولًا مستقبلة للاجئين مثل (لبنان، والأردن، ومصر،…. وغيرها من الدول العربية)([14])، ويمكن تتبع ظاهرة اللجوء في المنطقة العربية من خلال رصد أعداد اللاجئين في العالم العربي حسب بلد أو إقليم المنشأ، فوفقًا لإحصاءات البنك الدولي الواردة في تقرير مؤشرات التنمية العالمية لعام 2020، والمبينة في الجدول التالي:
جدول (1)
أعداد اللاجئين في العالم العربي لعام 2020 موزعين حسب بلد أو إقليم المنشأ
البلد | عدد اللاجئين | البلد | عدد اللاجئين |
الأردن | 2.489 | المملكة العربية السعودية | 2.030 |
الإمارات العربية المتحدة | 191 | تونس | 1.653 |
البحرين | 554 | جزر القمر | 793 |
الجزائر | 4.693 | جمهورية مصر العربية | 26.604 |
سوريا | 6.689.582 | جنوب السودان | 2.189.141 |
اليمن | 33.369 | جيبوتي | 2.444 |
السودان | 8 | عُمان | 52 |
الصومال | 814.551 | قطر | 38 |
الضفة الغربية وقطاع غزة | 100.317 | لبنان | 5.495 |
أريتريا | 521.949 | ليبيا | 17.595 |
العراق | 333.418 | موريتانيا | 37.941 |
الكويت | 1.442 | العالم العربي | 8.867.495 |
المغرب | 4.489 | العالم | 26353825.00 |
المصدر: البنك الدولي، تقرير مؤشرات التنمية العالمية لعام 2020، على الرابط التالي:https://www.data.albankaldawli.org/indicator/2021
ثالثاً: مؤشرات وأنماط “تجارة البشر” للاجئ في المنطقة العربية:
تجدر الإشارة في البداية إلى أن ظاهرة تجارة البشر بصفةٍ عامة تواجه إشكالية كبيرة وهي صعوبة قياس هذه الظاهرة نظرًا إلى طبيعة الاتجار السرية، وهو ما يجعل المعلومات والبيانات بشأن الاتجار بالبشر لا تزال غير دقيقة وغير مكتملة، ولكن يمكن العول في هذا الشأن على الإحصاءات والبيانات الواردة في التقارير الصادرة عن الهيئات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة والمعنية بهذا الشأن، كمكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، ومنظمة الهجرة الدولية.
وتشير الإحصاءات إلى أن أكثر من 5 ملايين لاجئ في منطقة الشرق الأوسط يتم استهدافهم في ممارسة الاتجار بالبشر والمعروفة تحت مسمى “السوق الحمراء” “red market”، إذ يستغل القائمون على هذه التجارة الظروف الاقتصادية الصعبة لهؤلاء اللاجئين؛ حيث تواجدهم في مخيمات لا تتوافر فيها أدنى المرافق والخدمات الأساسية، فضلًا عن معاناة هؤلاء لأوضاع معيشية فقيرة للغاية، مما يضطر هؤلاء إلى بيع أعضائهم البشرية أو المشاركة في الصور الأخرى للاتجار بالبشر من أجل توفير المستلزمات الحياتية لأسرهم، وذلك تحت إغراءات مادية كبيرة من قبل المنخرطين في أعمال هذه التجارة، وقد أشارت منظمة الهجرة الدولية في تقريرها الصادر 2015 إلى أن تجارة الأعضاء البشرية تزداد في منطقة الشرق الأوسط وخاصة لدى فئة اللاجئين، لا سيما في مناطق بؤر الصراعات كدولة سوريا، والتي أدرج نحو أكثر من 2 مليون لاجئ منها ضمن ضحايا الاتجار بالبشر لأغراض جنسية والعمل القسري خاصة في بعض الدول المضيفة كـ(تركيا، ولبنان، وليبيا، ومصر)، حيث تزدهر “السوق الحمراء”([15])، وتحاول حكومات هذه الدول باستثناء ليبيا وضع التدابير والإجراءات الصارمة لملاحقة هذه الأسواق والقائمين عليها.
وتجدر الإشارة إلى إنه في سوريا تنتعش تجارة الأعضاء بين السوريين الفارين من مناطق النزاع كلاجئين مشردين يضطرون لبيع أعضائهم، بينما قام تنظيم داعش ببيع أطفال سوريا الرضع بعد تهريبهم إلى تركيا إلى مافيا تتولى بيعهم للأسر المحرومة من الإنجاب، وقد كشفت بعض التقارير عن أن الوسيط في سوق بيع الأطفال بسوريا يجني أرباحًا تتراوح بين 3000 إلى 5000 دولار لكل طفل يتم بيعه، حيث يختار الوسيط ضحاياه من العائلات التي هربت بالنزوح خوفًا من المسلحين أو العمليات العسكرية، وكذلك من النساء اللائي يعانين من مشاكل عائلية كبيرة ويردن التخلص من الجنين.
وفي الوقت نفسه، كشف تقرير أصدرته “اليونيسيف” و”المنظمة الدولية للهجرة” تحت عنوان “الرحلات المرعبة” لعام 2017، حيث يضم التقرير شهادات من نحو 22 ألف لاجئ ومهاجر من منطقة الشرق الأوسط منهم حوالي 11 ألف طفل وشاب، وهؤلاء يواجهون مستويات مروعة من انتهاكات حقوق الإنسان إذ تعرض نحو 77% منهم في محاولة للوصول إلى أوروبا عبر طريق البحر المتوسط لاعتداءات واستغلال وممارسات في نطاق “الاتجار بالبشر”([16]).
وبالنسبة لأشكال “الاتجار بالبشر” بين اللاجئين في منطقة الشرق الأوسط، فقد اتخذت أشكالًا متعددة منها: الاستغلال الجنسي، والعمل القسري، والتسول الاستغلالي والزواج القسري، ونزع الأعضاء. فبحسب إحصاءات مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة لعام 2020، تُعَدُّ منطقتا شمال إفريقيا والشرق الأوسط من المناطق الحيوية في العالم لممارسة “الاتجار بالبشر” لأغراض (الاستغلال الجنسي، والعمل القسري، والتسول الاستغلالي)، حيث الثلاثة أشكال المشار إليها تمثل نحو 30% من إجمالي “الاتجار بالبشر” في هاتين المنطقتين، فطبقًا لبيانات مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، يمثل البالغين الشباب النسبة الأكبر من ضحايا هذه التجارة، بينما يمثل الأطفال أقل من 8%، أما الضحايا في دول الخليج العربي (البحرين، الكويت، عمان، قطر، السعودية، والإمارات) فهم من الذكور (بما يمثل 52% من إجمالي الضحايا)، بينما يمثل النساء نحو 69% من إجمالي الضحايا في عدد من دول منطقة الشرق الأوسط (العراق، إسرائيل، الأردن، لبنان، اليمن، سوريا) ([17]).
فاللاجئون والنازحون في هذه الدول هم فئة أكثر استضعافًا وأكثر عرضة للاتجار بهم لعدم وجود مأوى لهم، واستغلالهم من قبل المهربين عن طريق تزويج القاصرات أو العمل القسري للأطفال أو حتى عن طريق الاستغلال الجنسي للحصول على المأوى([18])، كما تجدر الإشارة إلى أن الجماعات الإرهابية والمتطرفة في المنطقة العربية في مناطق النزاعات أظهرت نوعًا جديدًا من الاتجار بالبشر عرف “بجهاد النكاح”، وهو ما يحاولون فيه أن يربطوه بأواصر لها علاقة بالدين، وقد استخدم في تحفيز واستغلال الشباب في العمليات الإرهابية عن طريقة إغرائهم بجهاد النكاح أو تزويج القاصرات فكان هذا نوعًا جديدًا في مجال الاتجار في الأشخاص في أوقات الحروب والنزاعات المسلحة لاستخدامهم في مواجهة جماعات أو دول أخرى([19]).
وقد صنفت الأمم المتحدة في تقرير لها صادر عام 2019 نحو 46 دولة حول العالم في مجال الاتجار بالبشر من حيث أوضاعها في هذا المجال، ومدى التزامها بالمعايير والتدابير العالمية في مكافحة الاتجار بالبشر من عام 2011 وحتى عام 2018، وأوضح التقرير أنه لا تزال حتى الآن الـ 46 دولة المشار إليها على مستوى العالم في وضع أسوأ للغاية في مجال استمرار تزايد الاتجار بالبشر فيها، ومن بين الدول العربية التي شملها التصنيف وتعد منطقة بؤرة للصراعات المسلحة “سوريا”، والتي قاد تدهور الأوضاع الداخلية فيها إلى اختراق مخيمات السوريين اللاجئين عبر تجارة البشر وخاصة الأطفال من خلال تزويجهم الجبري وإرغامهم على العمل القسري.
كما تعد ليبيا وجهة وبلد عبور للأشخاص الذين يتم الاتجار بهم، خاصة من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، كما أنها مصدر للأطفال الليبيين الخاضعين لميليشيات مسلحة داخل البلاد، وتقوم هذه الميليشيات المسلحة بتجنيد واستخدام الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا، كما يتعرض الأطفال للعنف الجنسي، ويتم تعزيز جرائم الاتجار بالبشر في البلاد من خلال عدم الاستقرار السياسي وغياب الرقابة الحكومية. أما اليمن، فيُعد بلدًا مصدِّرًا للأطفال والكبار الذين يتعرضون للعمل القسري والاتجار بالجنس، وقد تم الترويج للاتجار بالبشر من خلال النزاعات العنيفة وانعدام سيادة القانون([20]).
رابعًا: جائحة كورونا وتزايد “الاتجار بالبشر” للاجئ المنطقة العربية:
شهدت معدلات الإصابة بفيروس كورونا في أوساط اللاجئين والنازحين في الشرق الأوسط ارتفاعًا ملحوظًا، لاسيما بين قاطني مخيمات اللجوء في (الأردن، وسوريا، والعراق، ولبنان)، غير أنه لا توجد إحصاءات دقيقة حول معدلات الإصابات والوفيات وسط مجمل اللاجئين في المنطقة بسبب الافتقار إلى عمليات الفحص والعناية الصحية([21]). وقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية في الأول من يونيو 2021 “تقرير الاتجار بالبشر لعام 2021″، والذي رصد انعكاسات جائحة كورونا على الوضع العالمي، إذ اعتبرها “بيئة مثالية” لانتشار الاتجار بالبشر مع تحويل الحكومات مواردها لمواجهة الأزمة الصحية واستغلال المهربين حاجة الأشخاص الضعفاء.
فقد أوضح التقرير أن الحكومات في جميع أنحاء العالم وفي القلب منها منطقة الشرق الأوسط، حولت مواردها نحو الجائحة، وكان هذا على حساب جهود مكافحة الاتجار بالبشر، وأشار التقرير إلى استفادة المهربين من حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في العديد من دول المنطقة، ونزوح أعداد كبيرة من اللاجئين على الحدود المجاورة، وكذلك استفادة هؤلاء من تداعيات جائحة كورونا، حيث قامت عصابات بخطف أشخاص من مخيمات النزوح لإجبارهم على ممارسة بعض أشكال الاتجار بالبشر، ففي ليبيا على سبيل المثال، تسيطر جهات متعددة على مراكز اللاجئين، بعضها يعود لسلطة إحدى الحكومات المتنازعة على السلطة في البلاد، وبعضها الآخر يقع تحت نفوذ ميليشيات مسلحة، ويتعرض المهاجرون لضروب من الاستغلال وتجارة البشر([22]).
كما كشف التقرير الذي أصدرته منظمة “ماعت للسلام والتنمية” لعام 2020 حول تداعيات كورونا على اللاجئين والمشردين في منطقة الشرق الأوسط عن الآثار السلبية الناجمة عن تداعيات إغلاق، الذي شهدته أغلب الدول التي انتشر بها الفيروس على المواطنين في العالم، وأوضح التقرير أن مجتمعات اللاجئين كانت من بين أكثر المتضررين، نظرًا للهشاشة والضعف الذي يصيب هذه المجتمعات في أوقات الأزمات الإنسانية والكوارث -خاصة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، والتي تأوي حاليًّا أكثر من 85 في المئة من اللاجئين حول العالم. وقد أرجع التقرير الوضع السيء للاجئين في منطقة الشرق الأوسط، والذي تقدر أعدادهم بنحو 18 مليون لاجئ إلى اتجاه المساعدات الإنسانية نحو مكافحة جائحة فيروس كورونا المستجد كبديل عن تقديم المساعدات الإنسانية التي يعتمد عليها الغالبية من هؤلاء اللاجئين سواء في المناطق السكنية في الدول المضيفة أو في مخيمات النازحين([23]).
وأضاف التقرير أن تفشي وباء فيروس كورونا أدى إلى تفاقم الآثار السلبية على أوضاع اللاجئين في المنطقة، مما مثل بيئة ملائمة لنمو ظاهرة الاتجار بالبشر لدى هذه الفئة بشكلٍ كبير، ومن أبرز الآثار السلبية، الارتفاع غير المسبوق في معدلات البطالة بين اللاجئين، ففي لبنان، والتي تستضيف مليون ونصف لاجئ من الجنسيتين (السورية، والفلسطينية)، فقد نحو 50% من الرجال لوظائفهم، بجانب فقد نحو 100% من النساء للأعمال التي كانوا يشغلونها قبل فرض القيود الخاصة بفيروس كورونا وكان الغالبية العظمى من هؤلاء يعملون في وظائف متدنية ليست ضمن الاقتصاد الرسمي، كعمال بناء أو كهربائيين، أو عمال نظافة أو مزارعين([24]).
وتشير إحصاءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى استمرار العراق في مواجهة تحديات (سياسية، واقتصادية، وأمنية) تفاقمت نتيجة فيروس كورونا، وقد بقي أكثر من 1.2 مليون عراقي في عداد النازحين داخليًّا، بينما بلغ عدد العائدين في صفوف النازحين منذ عام 2014 ما مجموعه 4.8 مليون شخص. وفي سوريا، استمر الوضع في التدهور على أثر نزوح أكثر من 6.7 مليون سوري داخل البلاد، واستضافة (تركيا، ولبنان، والأردن، والعراق، ومصر) لنحو 5.5 مليون لاجئ، وقد أدى فيروس كورونا إلى تفاقم الضائقة الاقتصادية والاجتماعية للدول المضيفة لهم، حيث فقد الكثير منهم سبل عيشهم ليقعوا في المزيد من الفقر داخل سوريا، حيث احتاج أكثر من 13 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية نهاية عام 2020 (أي أكثر بمليوني شخص عن بداية عام 2020)، وعاد ما مجموعه 38.563 لاجئًا سوريًا بشكلٍ تلقائي إلى سوريا في عام 2020 بانخفاض نسبته 60% مقارنة بعام 2019 ويرجع ذلك جزئيًّا إلى قيود الحركة المرتبطة بالوباء. وبقى اليمين في عام 2020 مصنفًا على أنه أسوأ أزمة إنسانية على المستوى العالمي للعام الرابع على التوالي، حيث نتج عن استمرار الأعمال القتالية وتفشي الوباء تزايد حالات النزوح فقد نزح أكثر من 172000 يمني([25]).
وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط منذ بداية أزمة تفشي وباء كورونا المستجد إلى تزايد معدلات الاتجار بالبشر للاجئ المنطقة، وذلك بجانب الكوارث الطبيعية والحروب والنزاعات المسلحة، وهذه الظروف تسمح للقائمين بهذه التجارة على إغراء اللاجئين؛ حيث يقوم المهربون بتزويد النازحين واللاجئين بجوازات سفر أو تأشيرات مزورة، ويدعمون عملية الهجرة من خلال وسائل النقل المختلفة (البرية، والجوية، والبحرية)، على الرغم من أن الضحايا غالبًا ما يغادرون بلادهم طواعية، إلا أن الغالبية لا تدرك إنه يتم تجنيدهم في إحدى خطط الاتجار. وقد يتعرض البعض للاختطاف أو الإكراه، لكن يتم رشوة العديد منهم بفرص عمل أو جوازات سفر أو تأشيرات مزورة من قبل المتاجرين بالبشر، بعد ذلك غالبًا ما يتعرض الضحايا للاعتداء الجسدي والجنسي، ويجبر الكثير منهم على العمل أو تجارة الجنس من أجل سداد ديون الهجرة([26]).
خامسًا: مخاطر تزايد “الاتجار بالبشر” للاجئ المنطقة العربية:
تتعدد الآثار (النفسية، والصحية، والاقتصادية، والأمنية، والسياسية) التي تترتب على ظاهرة الاتجار بالبشر بصفةٍ عامة وبالنسبة للاجئين بصفةٍ خاصة، وهي كما يلي:
- الآثار النفسية :
حيث يشعر ضحايا الاتجار بالبشر بالخزي والعار وتدني مستوى تقدير الذات، لاسيما بالنسبة للنساء والأطفال باعتبارهم الحلقة الأضعف، ويعاني الكثير منهم من الاضطراب في الصحة النفسية، وقد يؤدي الحال بهم في النهاية إلى العزلة والرغبة في الانتقام، فيتحولون إلى مجرمين.
- الآثار الجسدية والصحية:
يعاني الضحايا الذين تتم المتاجرة بهم للاستغلال الجنسي ضررًا جسديًّا جراء ممارسة النشاط الجنسي، والإجبار على تعاطي المخدرات، والتعرض للأمراض الجنسية المعدية بما في ذلك فيروس الإيدز (نقص المناعة المكتسبة)، ويعاني بعض الضحايا من ضرر دائم لأعضائهم التناسلية، إضافة إلى أن العمال غير الشرعيين قد لا تتوفر لديهم الإمكانيات اللازمة للعلاج.
- الآثار الاقتصادية :
فالاتجار بالبشر يفرض تكاليف اقتصادية باهظة؛ حيث تزايد نسبة البطالة، وكذلك تزايد جرائم غسل الأموال، وانتشار المشاريع الوهمية، والإخلال بسوق العمل، وعدم التوازن بين الطلب والعرض، علاوة على ارتفاع أسعار المواد الغذائية؛ وذلك بسبب زيادة الطلب عليها، وانخفاض مستوى معيشة الفرد، وزيادة معدلات التضخم، ووقوع العمال غير الشرعيين فريسة للابتزاز والاستغلال([27]).
ويضاف إلى ذلك تغلغل المحترفين في عصابات الجريمة المنظمة للاتجار بالبشر في المجالات الاقتصادية الأكثر تأثيرًا في الدولة، وظهور عادات اقتصادية غير سليمة أهمها: تشجيع المعاملات المالية المشبوهة، وإقامة الاستثمارات سريعة الربح قصيرة الأجل، مما يضر بالاقتصادات الوطنية والعمل على زعزعة التنمية الاقتصادية، والتشكيك في قدرات الأنظمة السياسية، مما يؤثر على استقرار الأوضاع الاقتصادية وزيادة الأعباء التي تتحملها الدولة اقتصاديًّا، وتشويه هياكل العمالة، وأيضًا تشويه هياكل الدخل والوعاء الضريبي، كما يمول القائمون على الاتجار بالبشر الأنشطة غير المشروعة بينما يغذي أشكال الجريمة الأخرى، وذلك للارتباط الوثيق بين التجارة بالبشر وتجارة الأسلحة والمخدرات([28]).
- الآثار السياسية:
تتمثل في المساس بحقوق الإنسان حيث ينتهك المتاجرون بالأشخاص بصورة أساسية حقوق الإنسان المتعلقة بـ(الحياة، والحرية، والتحرر، والمساواة) مما ينتج عنه نشوء فئة من البشر تعاني من الاضطهاد والعبودية. ويُضاف إلى ذلك تآكل السلطة الحكومية، فقد تؤدي النزاعات المسلحة، والكوارث الطبيعية، والصراعات السياسية أو الأمنية إلى تهجير أعداد كبيرة من السكان من داخل البلاد، فيتعرض هؤلاء للمتاجرة بهم، وبالتالي يؤدي ذلك إلى الانتقاص من جهود الحكومة في ممارسة السلطة، مما يهدد أمن السكان المعرضين للأذى، كما تعجز حكومات كثيرة عن حماية النساء والأطفال الذين يخطفون من منازلهم ومدارسهم أو من مخيمات اللاجئين، لاسيما في ظل وجود سيطرة للميلشيات المسلحة على أجزاء من الدولة([29]).
- الآثار الأمنية:
يربط العديد من المحللين بين أنشطة الاتجار بالبشر والجماعات الإرهابية والتنظيمات المسلحة، حيث تستهدف هذه الجماعات والتنظيمات الأطفال والشباب الضعفاء، لاسيما في مخيمات اللاجئين وتقوم بتجنيدهم عبر الإنترنت بهدف استغلالهم في القتال والحروب عبر زرع المتفجرات، وتنفيذ الهجمات المسلحة والتفجيرات الانتحارية([30]).
ويفهم من ذلك أن الجماعات الإرهابية والتنظيمات المسلحة في المنطقة تعمل عبر التمويل الذاتي الذي يتخذ أشكالًا متعددة منها: الاتجار بالبشر، بجانب أنشطة الجريمة المنظمة الأخرى كـ(تهريب السلع، والخطف وطلب الفدية، والقرصنة، وبيع الآثار، وتجارة النفط، وتهريب المخدرات… وغيرها)([31]). وهناك جملة معطيات وراء اشتراك التنظيمات الإرهابية في تجارة المخدرات، التي تتخذ أشكالًا عدة، تبدأ بانخراط محدد يتمثل في تحصيل إتاوات نظير حماية قوافل التهريب التي تمر في مناطق سيطرة هذه التنظيمات، ويمتد إلى الاشتراك في خطوط التهريب الدولية، وصولًا إلى إنتاج المواد المخدرة بالتنسيق مع جماعات الجريمة المنظمة.
سادسًا: آليات مكافحة “الاتجار بالبشر” في المنطقة العربية:
تشكل جرائم الاتجار بالبشر خطرًا وتهديدًا حقيقيًّا لأمن المجتمعات واستقرارها، كما تعتبر حجر عثرة في سبيل تقدمها، إضافة إلى تأثيراتها السلبية على بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، فضلًا عن كونها تشكل تحديًّا حقيقيًّا لأجهزة الأمن، الأمر الذي دعى المجتمع الدولي إلى مواجهتها والتصدي لها بإبرام العديد من الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي ركزت اهتمامها على محاربة التجارة بالبشر، كونها تمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان وباعتبارها نموذجًا للجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية([32]).
ولمكافحة جرائم الاتجار بالبشر على كافة الأصعدة المحلية والإقليمية والعالمية بصفةٍ عامة، وفي منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي بصفةٍ خاصة، فإن الأمر يتطلب اتخاذ عدد من التدابير والإجراءات منها:
- إحكام الرقابة على الحدود بين الدول الحيلولة دون عمليات التسلل، ودعوة الجهات المختصة في الدول إلى تشديد الرقابة على الحدود واستخدام أحدث الأجهزة في إجراءات الرقابة والتشديد في رقابة الشواطئ والحدود البحرية، ودعوة الدول التي تتعدد فيها الحدود والمنافذ (البرية، والجوية، والبحرية) إلى إيجاد الآليات الكفيلة بإجراء التنسيق اللازم بين هذه الأجهزة والمؤسسات بما يسهم في تعزيز أمن وسلامة تلك المنافذ وتأمين جوازات السفر وتكثيف الجهود لتطوير جوازات ووثائق سفر مستوفية لأقصى ما يمكن من عناصر الحماية ضد التزوير، ودعوة الجهات المختصة للدول إلى فرض المزيد من الدقة في التثبت من صحة الجوازات وتأشيرات الدخول للحيلولة دون دخول الأشخاص بجوازات مزورة.
- توفير المأوى لضحايا الاتجار بالبشر، حيث تنص معظم قوانين محاربة الاتجار بالبشر على حق الضحايا في الإقامة في مكان آمنٍ مثل: مراكز الإيواء والمخيمات، وإمكانية “إيداع المجني عليهم في أحد المراكز المختصة للإيواء لدى جهة معتمدة وتتعهد بتوفير سكني لهم إذا تبين أنهم بحاجة إلى ذلك”.
- الإسراع في سن التشريعات الخاصة بمكافحة الاتجار بالبشر، وذلك في الدول التي لم تسن تشريعًا خاصًا بذلك، وذلك لعدم كفاية القوانين التقليدية السارية المفعول لمواجهة الأساليب والممارسات الحديثة التي تستخدمها عصابات الجريمة المنظمة، فضلًا عن ضرورة مراجعة التشريعات المكملة لتشريعات مكافحة الاتجار بالبشر خاصة تشريعات العمل، ومكافحة العنف ضد المرأة، وحماية الطفل.. وغيرها من التشريعات التي تتعلق بحقوق الإنسان.
- تبنِّي سياسة إعلامية رافضة لكافة أشكال الاتجار بالبشر وإعداد الكوادر الإعلامية المؤثرة في الرأي العام لإبراز الآثار السلبية لجريمة الاتجار بالبشر.
- تبادل الخبرات بين الدول في مجال مكافحة الاتجار بالبشر وحماية الضحايا، وتكثيف التعاون الدولي في دعم جهود بناء القدرات الوطنية على المستويين (الحكومي، وغير الحكومي) من خلال توفير المساعدات الفنية وتبادل الخبرات الدولية الناجحة.
أما عن آليات مكافحة ظاهرة الاتجار بالبشر للاجئ المنطقة العربية تحديدًا، فيمكن تحديد أهمها في الآتي:
- فتح طرق آمنة إلى ملاذات اللاجئين، ويعني هذا السماح بلم شمل العائلات وجمع الأشخاص بأهاليهم، ومنح اللاجئين تأشيرات دخول حتى لا ينفقوا كل ما لديهم ويتعرضوا لخطر الموت غرقًا وهم يحاولون الوصول إلى الأمان.
- إعادة توطين جميع اللاجئين الذين يحتاجون إلى ذلك، فإعادة التوطين يعد حلًّا لمعظم اللاجئين المستضعفين، بمن فيهم الناجون من التعذيب وذوو المشكلات الطبية الخطيرة.
- قيام جميع الدول بالتحقيق بشأن عصابات الاتجار بالبشر، ومقاضاة أعضائها الذين يستغلون اللاجئين والمهاجرين، وإعطاء الأولوية لسلامة الأشخاص فوق كل اعتبار([33]).
خلاصة القول: إن مكافحة الاتجار بالبشر لا سيما لدى مجتمعات اللاجئين في المنطقة العربية لا يمكن أن تؤتى ثمارها المرجوة في ظل غياب منظور شامل لمواجهة هذه الظاهرة بما في ذلك معالجة أسبابها الجذرية ومن بينها (الفقر، والبطالة، والنزعات المسلحة)، فهذه القضية شكلت تحديًّا جديدًا في الألفية الثالثة وأصبحت تستحوذ على كثير من اهتمامات الحكومات، ومنظمات المجتمع المدني، وواضعي التشريعات والسياسات، ومتخذي القرار، لما لها من انعكاسات وتداعيات خطيرة على المستوى (الأمني، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي)([34]).
([1]) إيمان رجب، “مدخل تطبيقي: المشروع الذي تحول إلى مدخل أمني”، في د. محمد عبد السلام وإيمان رجب (محرران)، “تحولات الأمن: عصر التهديدات غير التقليدية في المنطقة العربية”، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، بالأهرام، 2012)، الطبعة الأولى، ص 23.
([2]) د. محمد عز العرب، “جغرافيا الانكشاف: خرائط التجمعات الهشة في الشرق الأوسط خلال جائحة كورونا”، سلسلة دراسات خاصة، العدد 5، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 20 ابريل 2020. على الرابط:https://futureuae.com/media/Issue005_3886cb7c-e6d5-49b6-b503-7aab54c58fcf.pdf
([3]) د. مروة نظير، “آليات الحماية الدولية للاجئين”، رؤى مصرية، (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية)، العدد 56، سبتمبر 2019، ص 4.
([4]) د. خالد السيد حسن، “اللاجئون في العالم العربي”، رؤى مصرية، (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات الاجتماعية والتاريخية)، العدد 56، سبتمبر 2019، ص 9.
([5]) “النازحون داخليًا”، المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، UNHCR على الرابط التالي:https://www.unhcr.org
([6]) “اللاجئون والنازحون: نظرة عامة”، موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، 15 أبريل 2010. على الرابط التالي:https://www.icrc.org/ara/war-and-law/protected-persons/refugees-displaced-persons/overview-displaced-protected-htm.
([7]) د. محمد عبد المجيد حسين وأحمد عبد الحفيظ، “الأبعاد القانونية للهجرة غير النظامية دوليًّا ومصريًّا”، في د. عمرو هاشم ربيع “تحرير”، “الهجرة غير النظامية: دراسة الحالة المصرية” (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام، 2018)، ص 36.
([8]) لينا الصمادي، “الفرق بين اللاجئ والنازح والمهاجر في القانون الدولي”، 27 فبراير 2021 على الرابط التالي: https://www.e3arabi.com
([9]) “الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين”، مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة، على الرابط التالي:
وانظر أيضًا:”Human Trafficking”, MIGRATION DATA Portal, 6 May 2021.
([10]) “اليوم العالمي لمكافحة الإتجار بالأشخاص”، متاح على الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة:https://www.un.org
([11]) “الاتجار بالبشر”، “مؤتمر الأمم المتحدة الثالث عشر بشأن منع الجريمة والعدالة الجنائية”، 12-19 إبريل 2015 على الموقع الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة: https://www.un.org
([12]) هيلين هاروف وتافيل وأليكس نصري، “عالقون في الفخ: الاتجار بالبشر في الشرق الأوسط” (بيروت: منظمة العفو الدولية، 2013)، ص 12-13.
([13]) “أنواع الاتجار بالبشر”، متاح على الرابط الإلكتروني للإنتربول:https://www.interpol.int/19-12-2021
وانظر أيضًا: “فهم الاتجار بالبشر”، متاح على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية:
([14]) د. خالد السيد حسن، “اللاجئون في العالم العربي”، رؤى مصرية، مرجع سابق، ص11.
([15]) Mohamed Ijaz, “How Conflicts Turned the Middle East Into an Organ Trafficking Hotspot”, Website of Arab news/ 10 July 2020: https://www.arabnews.com/10-7-2020
([16]) مجدي أحمد، “الاستجابة للاتجار بالأطفال والشباب”.. شعار الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالأشخاص”، مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط، 25 يوليو 2018، على الرابط التالي:https://www.mena.org.eg
([17]) “Sexual Exploitation, Forced Labour and Exploitative Begging as the Main forms of Human: Trafficking in Middle East”, United Nations Office on Drugs and Crime, Global Report on Trafficking in Persons (2020), July 15, 2021:
([18]) “الاتجار بالبشر في المنطقة العربية.. الواقع والأسباب”، الجزيرة نت، 30 يوليو 2021. على الرابط التالي:
([19]) “تقرير أممي يدق ناقوس الخطر: عدد الأطفال ضحايا الاتجار بالبشر يرتفع ثلاثة أضعاف خلال 15 عامًا، أخبار الأمم المتحدة، 2 فبراير 2021، على الرابط التالي:
([20]) “Worst Countries for Human Trafficking Today”, World Atlas 2021:
([21]) بيل ترو، “الجائحة تضرب اللاجئين في الشرق الأوسط وتفاقم الفقر”، اندبندنت عربية، 22 سبتمبر 2020. على الرابط: https://bit.ly/34Rg6HG
([22]) “تقرير أمريكي يضع دولًا عربية ضمن “الفئة الأسوأ” في مكافحة الاتجار بالبشر”، دويتش فيله، 2 يوليو 2021، على الرابط التالي: https://www.m.dw.com/2-7-2021
([23]) محمد غريب وعاطف بدر، “تقرير: 18 مليون لاجئ في الشرق الأوسط تأثروا بانتشار الفيروس”، المصري اليوم، 22 نوفمبر 2020. https://www.almasryalyoum.com/news/details/2093868
([24]) هايدي أيمن، “ماعت” ترصد كيف تؤثر “كورونا” على 18 مليون لاجئ بالشرق الأوسط”، بوابة الأهرام الإلكترونية، 21 نوفمبر 2020. https://www.gate.ahram.org.eg/news/2532046.aspx
([25]) “الشرق الأوسط: بيئة العمل”، المفوضة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 2020:
([26]) Leonard A. Steverson, “Human Trafficking Crime”, On Website:
([27]) “ظاهرة الاتجار بالبشر.. آفة العصر”، بوابة الإنسانية، 19 يونيو 2017. على الرابط التالي:
([28]) محمد سرور الحريري، “الاتجار بالبشر وسبل مكافحته.. قراءة في الاستراتيجيات والاتفاقيات الدولية”، المركز العربي للبحوث والدراسات، 28 سبتمبر 2019. على الرابط: https://www.acrseg.org/41360
([29]) “تخزين أسلحة بمدارس ومستشفيات: جحيم الحوثي يجتاح المدنيين”، سكاي نيوز عربية، 9 فبراير 2022. على الرابط:https://bit.ly/3N29jME
([30]) “خبيرة أممية تدعوا إلى حماية ضحايا الاتجار بالبشر في سياق مكافحة الإرهاب”، الموقع الإلكتروني لمنظمة الأمم المتحدة، 27 أكتوبر 2021. على الرابط: https://www.news.un.org
([31]) محمود العمري، “عبر التهريب والاتجار بالبشر والمخدرات.. دراسة تكشف وسائل جديدة لتمويل جماعات الإرهاب”، اليوم السابع، 7 أكتوبر 2021. على الرابط:https://bit.ly/3KVDpiZ
وانظر أيضًا: خوسيه لويس مانسيا، “تجارة البشر… مصدر مهم لتمويل الإرهاب في إفريقيا”، العين الإخبارية، 1 يوليو 2021. على الرابط:https://al-ain.com/article/human-trafficking-terrorism-financing-africa
([32]) د. غادة حلمي، “المواجهة الدولية للاتجار بالبشر في إطار حماية حقوق الإنسان”، دورية دراسات في حقوق الإنسان، على الرابط الإلكتروني التالي: https://hrightsstudies.sis.gov.eg
([33]) “8 طرق لحل أزمة اللاجئين العالمية”، موقع منظمة العفو الدولية، 2015. على الرابط التالي:
([34]) “التلهوني: مكافحة الاتجار بالبشر تتطلب منظورًا شاملًا لمواجهة هذه الظاهرة”، وزارة العدل: المملكة الأردنية الهاشمية، يناير 2022: https://www.moj.gov.jo