2022العدد 190تقارير

تقرير حول الجدل الدائر بشأن الاتجاه لتخفيف الوجود الأمريكي

تنامى السخط في العالم على سياسات الهيمنة الأمريكية ولا يقتصر ذلك على الأطراف الخارجية، بل امتد إلى تنظيمات شعبية داخل الولايات المتحدة التي أصبحت تنادي بكبح الرغبة في السيطرة على شؤون العالم، يقابل ذلك تيار آخر ينادي بفرض سيطرتها باعتبارها القطب الأوحد، وأن هناك جوهرًا ثابتًا للعلاقات الدولية يزعم وجود رسالة عالمية خالدة للولايات المتحدة لإصلاح العالم ومحاربة قوى الشر!! ولذلك فإن على الولايات المتحدة أن تسعى لتشكيل التطورات السياسية حول العالم.

وتحت نزعة السيطرة خاضت الولايات المتحدة عدة حروب غير عادلة، بل غير أخلاقية يأتي في مقدمتها حرب فيتنام التي انتهت عام 1975، وكلفت الولايات المتحدة أكثر من خمسين ألف قتيل، وسجلت أسماءهم على نصب تذكاري من الجرانيت الأسود. وتحت وطأة الإخفاق العسكري والتعثر السياسي والخسائر البشرية والمادية في أفغانستان 2001، ثم العراق 2003، وتكلفتها الباهظة، أصبحت الولايات المتحدة أكثر حذرًا وأصبحت أكثر عزوفًا عن التدخل البشري المباشر وحلت عقدة العراق محل عقدة فيتنام وانعكس ذلك في الإستراتيجيات العسكرية الأمريكية، التي زادت من استخدام سلاح الطيران والحذر من استخدام قوات المشاة في أي نزاع.

وبعد انقضاء عِقدان على الوجود العسكري (الأمريكي، والبريطاني) في أفغانستان، وقامت إدارة جو بايدن بتنفيذ قرار الانسحاب من أفغانستان – في ذات الوقت – ومعربة عن نيتها الانسحاب أو تخفيف وجودها في المنطقة العربية حتى تستطيع حشد قواتها وإمكاناتها لمواجهة التحدي الصيني، وتشكيل مضمون سياسة خارجية أمريكية جديدة لزمن أمريكي جديد؛ لترميم الوضع الداخلي الذي أرهقته الحروب، وهو ما يتطلب الاستدارة إلى الشرق أي نحو الصين وتخفيف الوجود والالتزامات الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط وفي قلبها المنطقة العربية.

وقد أشار الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى أن أولويات السياسة الخارجية ستكون محددة وواضحة فيما يخص وقف الانخراط العسكري لبلاده في مستنقع الحروب الأبدية، الذي انزلقت فيه بلاده على مدى العقدين الماضيين، لا سيما في أفغانستان والشرق الأوسط بصفةٍ عامة والمنطقة العربية بصفةٍ خاصة، كذا حرص بايدن على تأكيد إجراء مراجعات بشأن إعادة تموضع قوات الولايات المتحدة حول العالم أو تخفيف وجودها وفقًا لأولويات سياستها الخارجية وأمنها القومي بعد أن منيت بخسائر مالية وبشرية فرضت الانسحاب الأمريكي العسكري من حروب خاسرة.

وأعقب السقوط المدوي لأفغانستان تساؤلات بشأن مصداقية الولايات المتحدة، وعما إذا كان باستطاعة واشنطن متابعة تعهداتها بالدفاع عن حلفائها بعد ما سقطت أفغانستان وظهور طالبان بمظهر المنتصر وهو الأمر الذي يمثل ضربة قاصمة لسمعة واشنطن.

ولذلك، ظهرت عدة مقالات أمريكية تحذر من التفكير في الانسحاب أو تخفيف الوجود العسكري الأمريكي من المنطقة العربية، ومن أهمها مقال نشر في مجلة FOREIGN AFFAIRS الصادرة عن مجلس الشؤون الخارجية بوزارة الخارجية الأمريكية تحت عنوان “الكل ضد الكل” وهو يعني الصراع الطائفي في الشرق الأوسط في حالة انسحاب أمريكي من المنطقة([1]).

أي صراع الكل ضد الكل، وبروز الصراع الطائفي في الشرق الأوسط في حالة انسحاب أمريكي، فهو يخلق فراغًا سياسيًّا سرعان ما تملؤه الصراعات الطائفية والعنف فيصبح إقليمًا مضطربًا وأكثر عنفًا. ويستهل الكاتب مقاله بالقول: “إن إدارة بايدن تهدف لوضع حدٍ لحروب لا تنتهي، في وقت ينشغل فيه “البيت الأبيض” بإدارة التحدي الذي تفرضه الصين”.

ثم يتناول الكاتب وضع إيران الشعبي وصراعها مع الدول السنية ومؤخرًا دخول تركيا السنية في هذا الصراع، وقام الطرفان بتسليح المجموعات الدينية لخدمة أهدافهما وزيادة نفوذهما في المنطقة، ونتيجة لذلك أصبح الشرق الأوسط أشبه بصندوق قابل للاشتعال. ثم يضيف الكاتب أن إيران التي أصبح لها اليد العليا تواجه التحدي لنفوذها المتنامي في الإقليم، والسنة أُرهقوا من المتطرفين وعادت الدولة الإسلامية إلى الظهور في المنطقة، والسنة في (سوريا، ولبنان، والعراق ) ما يزالون يعانون بشكلٍ متزايد، وعاد التطرف من جديد لأفغانستان.

ثم يتناول عرض العوامل التي أدت لزيادة نفوذ إيران، فيؤكد أن احتلال الولايات المتحدة للعراق 2003 هو الذي سمح لإيران بمد نفوذها في العالم العربي، فقد قامت الولايات المتحدة بإسقاط النظام السلطوي في العراق والسماح للشيعية بحكم العراق، ولعبت طهران علي الولاءات الطائفية وأقامت شبكة تمتد من لبنان إلى (سوريا، والعراق، واليمن) مكونة ما أسماه “الملك عبد الله” ملك الأردن بـ(الهلال الشيعي)، وسرعان ما وسعت إيران من نفوذها على حساب منافسيها السنة.

وخلال ثورة الربيع العربي سارعت الأنظمة لمواجهة التغيير بمزيد من التسلح الطائفي، وقام بشار الأسد بإثارة مخاوف السنة من الإقليمية العلوية التي ينتهي إليها والتي تجد جذورها في المذهب الشيعي.

وفي الواقع أن جانبًا كبيرًا من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط مصدره السياسات الأمريكية المتناقضة وفي مقدمتها سياستها تجاه القضية الفلسطينية وانحيازها الأعمى لإسرائيل، الأمر دفع كاتبين أمريكيين مرموقين إلى مطالبة المسؤولين الأمريكيين بمراعاة المصالح الأمريكية في هذه السياسات([2]).

ومن مصلحة الجانبين(العربي، والإيراني) تحقيق التقارب بينهما بديلًا للتنافس والصراع، ويُلاحظ أنه كلما بدأت اتصالات جادة لتحقيق ذلك، تبادر الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إعادة التوتر بين هذه الدول، وزيادة مخاوفها من النظام الإيراني، والمبالغة في شيطنته؛ بهدف خلق أعداء جدد للعرب، بحيث لا تصبح إسرائيل هي العدو الوحيد للعرب.

وتجدر الإشارة إلى أن قرار مجلس الأمن رقم 598 عام 1988 والمتعلق بإنهاء الحرب العراقية / الإيرانية، كان قد تضمن في فقرته الثامنة الدعوة لبحث إمكانية إقامة بنية جديدة للأمن الإقليمي في منطقة الخليج، إلا أنه لم يجد متابعة من الدول المعنية، ولم يعقد أي اجتماع إقليمي موسع للبحث عن صيغة جديدة للأمن الخليجي حتى الآن. واستمرت ظاهرة الفرص الضائعة، وهذا لا يعني إعفاء الدول الواقعة على ضفتي الخليج وبصفةٍ خاصة إيران من مسؤولياتها عن الاستقطاب الدولي في المنطقة وأزمتها.

وحول الدور الإقليمي لتركيا، يقول الكاتب:” أن الدول العربية السنية كانت تبحث عن عمق إستراتيجي، وتركيا أردوغان تعتبر نفسها قوة إقليمية سنية ومن المدافعين عن حقوق السنة باعتبارها وريثة الدولة العثمانية، التي ظلت حتي عام 1924 تتولى الخلافة، وهي الآن تدافع عن الإخوان المسلمين، وخلال ثورات الربيع العربي كانت تقدم نفسها كنموذج يلبي متطلبات الشعوب العربية، فهي يحكمها حزب “العدالة والتنمية” وهو حزب معتدل ويتعايش مع العلمانية والحداثة ويسعى في إطار علاقات تركيا الخارجية بما في ذلك العلاقات مع إيران اعتمادًا على تعزيز الربح المتبادل (Win – Win Situalian)، وليس مفهوم التنافس ذي الطبيعة الصفرية ورغم التباين المذهبي للبلدين، فإنهما حريصان على التعايش وتجنب عدم الصدام، ويبدو أن الحديث عن تركيا كعنصر موازي إستراتيجي لإيران أمرًا مستبعد حاليًّا”.

وفي حديثه عن الدور الإقليمي لتركيا يتناسى الكاتب وعن عمد دورها في اضطراب الإقليم وعدم استقراره، وذلك بقيامها باحتلال أراضي سورية بذريعة المشكلة الكردية، وهي مشكلة داخلية تتعلق بالهوية، أراد أردوغان تصديرها للخارج، بدلًا من معالجة الأسباب الداخلية التي ساهمت في تطورها وسياسات الماضي تجاه الأقليات، والإرث التاريخي والمبادئ القومية التي تتبناها الدول التركية.

كما تناسى الكاتب أنه كان لتركيا دور رئيس في إدخال الآلاف من العناصر الإرهابية إلى الأراضي السورية عبر تحالفها مع جبهة النصرة وبتمويل قطري، ولعبت تركيا دورًا أساسيًّا في دعم الجماعات المتطرفة تدريبًا وتسليحًا، وتراجعت عن التزاماتها مع روسيا تجاه إدلب بإجلاء الجماعات الإرهابية منها.

ثم يشير الكاتب إلى أن تدخل إسرائيل في الصراعات الطائفية إلى جانب السنية يؤثر أيضًا في الاستقرار الإقليمي، وتواصل إسرائيل ضغوطها على إدارة بايدن لعدم العودة إلى الاتفاق النووي السابق، والتوصل إلى اتفاق جديد يشمل برنامجها النووي وإنتاج الصواريخ البالستية فضلًا عن أنشطتها الإقليمية في المنطقة.

وفي حالة تعثر الوصول إلى بنود اتفاق جديد، هناك حديث حول الخطة “ب” وإذ كانت التسوية الدبلوماسية لم تحقق نفس هذه الأهداف، فإن إيران والولايات المتحدة في طريقهما للتصادم، وبالتالي توقع زيادة التوترات الطائفية.

ويُلاحظ أن الخطاب السياسي الأمريكي تجاه إيران يدخل في نطاق الابتزاز السياسي، كمطالبة أمريكا إيران بعدم الثأر لعملية اغتيال سليمان، ولكن رفضت إيران ذلك.

وحينما وقعت الولايات المتحدة الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، وتجنب أوباما الحديث عن إسقاط نظام بشار الأسد، مما زاد من هيمنة إيران في الشرق الأوسط إلى أن جاء الرئيس ترامب وألغى الاتفاق النووي عام 2018، وأعلن أن هناك اتفاق جديد يتصدى للدور الإيراني وممارسة ضغوط العقوبات القصوى عليها حتى لا تستطيع تمويل أنشطتها الإقليمية.

وفي الواقع أدت السياسة الأمريكية ذات الطابع الإقصائي لإيران ومحاولات عزلها عن مجمل تفاعلات الإقليم المنتمية إليه، وغياب حوار حقيقي بينها وبين باقي دول المنطقة إلى اصطناع عداء مستحكم بين ضفتي الخليج، وأعطى المبررات لزيادة الاختراقات والتمددات الإيرانية في المنطقة العربية في ظل فراغ القوة بها، وأصبحت منطقة الخليج منطقة مأزومة ومليئة بالتوترات الأمنية كمًّا ونوعًا.

وأدى تجاهل البحث عن صيغة بديلة للأمن الإقليمي الموسع إلى تراكم الأزمات الأمنية وبروز مشاكل إقليمية جديدة، كالأزمة اليمنية التي تدار حاليًّا كمشكلة ذات أبعاد طائفية مذهبية استثمرتها تدخلات إقليمية (إيران)، رغم أنها على الأرجح تعبر عن أزمة شاملة لكل أرجاء اليمن، فجوهر الأزمة سيطرة البنية الاجتماعية التقليدية ممثلة في الأسرة والقبيلة وهناك فرص جيدة لتجاوز هذه الأزمة، إذا ما توقف التدخل الخارجي وتكاثفت الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية وحمل الفرقاء على القبول بالحلول المطروحة.

وتبدو مبادرة الأمانة العامة لمجلس التعاون الخليجي أقرب الحلول العملية لجميع أطراف النزاع- وفي مقدمتها الحوثيون- إلى الالتقاء والحوار للتوصل إلى حل لمشكلة اليمن.

لا شك أن استمرار الصراع المسلح في سوريا يصب إجمالًا في خدمة ومصلحة إسرائيل دون أن تطلق رصاصة واحدة، ومن هنا تحرص إسرائيل على عرقلة أي جهد يؤدي إلى تسوية سياسية قريبة للأزمة السورية الراهنة، لعله يتيح في النهاية تقسيمًا لسوريا على أسس مذهبية وإثنية، مما يدعم مشروعها العقائدي كدولة دينية يهودية .

شكلت الظاهرة العبرية منذ إنشائها في المنطقة العربية تهديدًا مباشرًا ومتواصلًا ابتداءً من أسلوب الاستنزاف (الحالة السورية) واستمرار اتباع سياسة اقتلاع الشعب العربي الفلسطيني، وانتهاء سياسة الاستيطان تحت ستار الادعاءات التاريخية في الأرض.

وإطالة أمد صراع الأدوار المتعددة في الساحة السورية، وما يترتب على ذلك من إضعاف لعناصر قوة النظام السوري وانشغاله بمشاكل الداخل ويعرقل مسار التسوية السياسية للأزمة.

ولقد سعت إسرائيل مؤخرًا لتكوين جهة مشتركة مع بعض الدول العربية، اجتمعت في النقب وسط مظاهر سياسية ومبالغات إعلامية أكبر حول هذا التجمع، ولكن تصريح وزير خارجية مصر “سامح شكري” في أعقاب اجتماع النقب مقولة :”إن مصر لا تنضم لأحلاف ضد أحد، وضع  هذا الحدث في حجمه الطبيعي”([3]).

وأتفق مع الكاتب أن الاحتلال الأمريكي البريطاني عام 2003 أدى إلى زيادة النفوذ الإيراني في العراق، ولكني اختلف معه لتناسيه أن سياسة الولايات التي كانت المحرك الأساسي للفوضى في العراق بتركيز المحتل الأمريكي على إعادة صياغة العلاقات بين مكونات الشعب العراقي على أساس مفهوم المحاصصة الطائفية، وليس المواطنة مما أدى إلى تغيير جذري في ميزان القوى الداخلي، وأصبح يميل لصالح الشيعة والأكراد، وتزايد معه شعور السنة بالعزلة والاستبعاد والاضطهاد، كما كانوا يدفعون ثمن أخطاء حكم صدام بحجة أنه كان سنيًّا، رغم أن السنة كانوا أيضًا بين ضحاياه. ومع الأخذ في الاعتبار مسؤولية المحتل عن إثارة الغرائز الطائفية والعرقية الثأرية، فإن ذلك لا يعني إعفاء الساسة العراقيين والحكومات العراقية المتعاقبة من مسؤولياتها، فقد كان من المفترض أن يبادروا بتصحيح المسار السياسي العراقي، إلا أن هذه القيادات غلَّبت مصالحها الشخصية واستمرت في التركيز على المحاصصة الطائفية، الأمر الذي أفرز حالة من الاستقطاب المجتمعي، وتمزيق النسيج الوطني.

كما أن حل (الجيش والبوليس) العراقيين، وعملت أمريكا على انتزاع العراق من دوره الإقليمي والعربي، وكان هدفه إزالة أحد أسباب التهديد المحتمل ضد إسرائيل. ألم يقترح جون بايدن- وقت إن كان عضوًا في الكونجرس- تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات؟! كل ذلك وغيره أسهم في تقديم العراق على طبق من فضه لإيران على حد تعبير “سعود الفيصل” وزير خارجية السعودية الراحل.

ولا ننسى إن كان سوء معاملة أجهزة الأمن الأمريكي (سجن أبو غريب) للعراقيين وغيره سببًا في بروز المقاومة العراقية الذي تحول معها العراق إلى شرك موت للجنود الأمريكية (قرابة 5000 قتيل وأكثر من 20 ألف جريح)، وحلت عقدة العراق محل عقدة فيتنام، وانعكس ذلك على الإستراتيجيات العسكرية الأمريكية فأصبحت تعزف عن التدخل البشري المباشر مقابل التوسع في استخدام الطيران في المعارك.

ثم ينتقل الكاتب إلى الحديث عن سوريا وإدارة الولايات المتحدة لأزمتها من الخلف وتجنب التورط بقوات برية ميدان القتال، وخشيتها من أن يؤدي ذلك لآثار سلبية على مشروع الاتفاق النووي مع إيران، ووصل الأمر بالإدارة الأمريكية (إدارة أوباما)  إلى حد اقتراح بايدن -وقت أن كان نائب الرئيس- اقتسام النفوذ بين إيران والسعودية ثم مجيء إدارة ترامب وانسحابه من هذا الاتفاق وتعرض إيران لأقسى أنواع الضغوط، واستخدام الطائرات المسيرة في اغتيال “قاسم مسلماني” قائد فيلق القدس.

وقد أدى قرار ترامب للانسحاب من الاتفاق النووي إلى إعطاء فرصة لإيران تطوير قدراتها النووية وزيادة نفوذها الإقليمي.

ثم يتناول الكاتب الحرب التي طالت في اليمن عن دور الحوثيين في هذه الحرب باستخدام الطائرات المسيرة التي تزودهم بها إيران واستخدمت في شن هجمات استهدفت بعض المناطق الحيوية في السعودية، ثم جهود الولايات المتحدة لإيقاف هذه الحرب دون جدوى، وقد تسبب تأخر الولايات المتحدة في تزويد السعودية بالأدوات اللازمة للدفاع عن أراضيها في أزمة علاقات، تم تداركها بتزويدها للسعودية بعددٍ كبير من صواريخ (باتريوت الاعتراضية)، وقد بذلت إدارة بايدن جهدًا كبيرًا لاستعادة الحرارة لعلاقتها مع الرياض وتم تخطي الأزمة([4]) .

الحديث عن التراجع الأمريكي:

ومن المُلاحَظ أنه بدأ الحديث عن عالم ما بعد أمريكا من ذلك قول فريد زكريا الذي جدد الحديث: ” إن أمريكا لا تنحدر بسرعة ولا هي على وشك أن تُستبدل بدولة أخرى”. فعلى المستوى العسكري السياسي يعتبر زكريا أنها لا تزال تعيش في عالم القوة الواحدة، لكن توزع القوة في جميع المستويات الأخرى (الصناعية، المالية، التعليمية، الثقافية) يتحول بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية. وهذا يعني أننا ندخل عالمًا معاديًا لأمريكا، عالم يحدد معالمه ويرسمه توجهات الكثير من الأشخاص في الكثير من الأماكن([5]).

ويقول نيقولاس تشايلان، الذي عمل لمدة ثلاث سنوات في مشروع البنتاجون، الذي يهدف إلى تعزيز الأمن في مجال الفضاء الإلكتروني، وعُيِّن كأكبر مسؤول عن البرمجيات في سلاح الجو، ومستشارًا للبنتاغون، إلا أنه استقال في سبتمبر (أيلول) الماضي احتجاجًا على بطء وتيرة التحول التكنولوجي في الجيش الأمريكي قائلًا: ” إن الفشل في الرد على تفوق الصين في معركة الذكاء الاصطناعي يعرِّض أمن الولايات المتحدة للخطر”.

تشايلان ليس وحده الذي حذر من التفوق الصيني القادم، إذ تحدث أيضًا “إيريك شميدت” المدير التنفيذي السابق لشركة “جوجل” _عن أن الصين تضخ استثمارات ضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي، متوقعًا أن المنافس في هذا المجال سيزداد ضراوة. كذلك نشرت تقارير تفيد بأن تقديرات الاستخبارات الغربية تحذر من أن الأمور لو سارت على نفس الوتيرة الراهنة، فإن الصين سوف تهيمن في غضون عقد من الزمن على العديد من التقنيات الناشئة وفي مقدمتها (الذكاء الاصطناعي، وعلم الوراثة، ومجال الأحياء الصناعية).

هل تستسلم أمريكا للهزيمة في حرب التفوق التكنولوجي والذكاء الاصطناعي التي ستحسم الريادة في العالم؟ الإجابة على هذا التساؤل متروك للأيام المقبلة .

وسياسيَّا بدأت تظهر مؤشرات التمرد على سياسة الهيمنة الأمريكية، وتمثل ذلك في القرار الذي اتخذته الجمعية العامة لإدانة روسيا لحربها على أوكرانيا، لقد صدر قرار الجمعية العامة وأظهر أن  هناك 35 دولة سواء أمتنعت عن التصويت أو صوتت ضد القرار وغالبية هذه الدول من الشرق الأوسط ويمثل نوعًا من التحدي للهيمنة الأمريكية.

ملاحظات عامة :-

  1. يلاحظ أن الكاتب أعطى  الانتماء الطائفي وزنًا مرجحًا مبالغًا فيه على غيره من العوامل التي أسهمت في عدم الاستقرار في بعض الدول العربية، بينما كان الاحتلال الأمريكي للعراق الأثر الأكبر على عدم الاستقرار. كما أنه في حالة إيران، لم تحقق توقعاتها بوقوف الشيعة العراقيين إلى جوارها في حالة الحرب الإيرانية العراقية التي استمرت ثماني سنوات؛ ذلك لأن الانتماء القومي تغلب على الانتماء الطائفي بالرغم من أن أكثر من 80 % من الجنود العراقيين، وكذلك الضباط من ذوي الرتب الأدنى كانوا من الشيعة وحارب هؤلاء بشجاعة دفاعًا عن بلدهم.
  2. أن أمريكا في عهد بايدن أصحبت تميل إلى تغليب التسيس على العسكرة، وعملت على تهدئة الصراعات القائمة وتبريد النقاط الساخنة سواء في الشرق الأوسط أو في غيرها، وسياسة أقلمة الصراعات بمعنى إعطاء دورًا أكبر في حلها للدول الإقليمية، ولكن يبدو أن هناك بداية تحول في حالة الصومال وأوكرانيا، ويبدوا أنهما في منطقة رمادية لم تتبلور أو تكتمل ملامحها بعد.
  3. في مقال لصلاح سالم بعنوان “أفول الهيمنة الأمريكية” يقول فيه: “أنه ما يحسم مستقبلها هو الأداء السياسي الذي يجعلها قوة استقرار أو عامل فوضى في النظام الدولي، وأنها صارت في العقدين الأخيرين عامل فوضى يثير الشكوك ويحفز النزاعات”([6]).

بينما يذهب بعض المفكرين الإستراتيجيين إلى الادعاء بأن الهيمنة الأمريكية في طريقها للأفول، ويميل نفر آخر إلى الاعتقاد في بقاء الهيمنة الأمريكية عقودًا أخرى مقبله؛ استنادًا منهم إلى قدرة السياسة الأمريكية على ترميم تلك الهيمنة وإطالة أمدها معتمد في ذلك على ما توفره من موارد مادية وإمكانيات بشرية لم تُتَح لسواها في هذا العقد([7]).

  • والملاحظ أنه تزامن مع ظاهرة الهيمنة ظاهرة أخرى هي “ازدواجية المعايير” التي تطبقها بعض الدول الغربية الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في قضية شائكة مثل القضية الفلسطينية، من شأنه أن يجعل الكراهية لهذه الدولة وما تمثله من قيم غريبة بالغة الحدة والعمق بين الجماهير العربية والإسلامية، وبين النخب السياسية والثقافية على السواء.

وقد حرص بايدن دائمًا على تأكيد إجراءات مراجعات بشأن إعادة تموضع قوات الولايات المتحدة حول العالم وفقًا لأولويات سياستها الخارجية وأمنها القومي، بعد أن أدركت أن ما منيت به من خسائر مالية وبشرية وما ظهر من تحديات الداخل والخارج يفرض الانسحاب الأمريكي العسكري من حروب خاسرة لا محالة. ويرى جيمس زغبي أن “أمريكا أدارت ظهرها بالفعل، وأنها رأت أن من الأفضل تقليص صورتها في الشرق الأوسط، وبدأت قوى إقليمية في استعراض عضلاتها في كثير من النزاعات التي تدول حاليًّا، تصطف بلدان ضد أخرى مشكلة مجموعات مختلفة متناحرة، باختصار لم تفقد أمريكا قدرتها على القيادة فحسب بل اضُطرت الآن إلى التراجع”.

ثم جاءت الحرب في أوكرانيا لتغيير كثيرًا من السياسات الإستراتيجية، ويبدو أن بايدن ينظر إلى هذه الحرب كمدخل لتعزيز مركزه الداخلي، ويسعى إلى إطالة أمدها على أمل استنزاف روسيا، وفي الواقع يخوض بايدن حرب بالوكالة ضد روسيا على مستويات مختلفة وفي مقدمتها سلاح العقوبات، ففرض الآلاف من العقوبات في ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ.

وكشف الاستطلاع الذي أُجري لصالح (صحيفة واشنطن بوست، وشبكة إيه بي سي) وجود تأييد قوي من قبل الأمريكيين لأوكرانيا ورضا على استجابة الولايات المتحدة؛ حيث قال: “73 في المئة أن الولايات المتحدة تقوم بالقدر الصحيح لدعم أوكراني وأيَّد 64 % إرسال المزيد من المعونات، وعارض 72% قيام الولايات المتحدة بعمل عسكري مباشر ضد القوات الروسية”.

وختامًا

 يصعب على الولايات المتحدة اتخاذ قرار بالاستغناء عن الشرق الأوسط الآن؛ لأن هذه المنطقة تمثل أهم سوق سلاح في العالم ومصدرًا لاستثمار عائدات النفط في مختلف قطاعات الاقتصاد الأمريكي، ويعتبر الشرق الأوسط مصدرًا للقوة بالنسبة للولايات المتحدة ويحقق مكسبًا وعائدًا صافيًا للولايات المتحدة، ولهذا يبدو الانسحاب الأمريكي في المستقبل المنظور أمرًا مستبعد في الوقت الحاضر.


([1]) Vali Nasr is  Majid Khadduri Professor of middle east Studies and International Affairs at the Johns Hopkins University School of International Studies

([2]) Professor john Mearsheimer and Stephen walt on the isaeli lobby stirred up a hornet`s nest in Washington and elsewhere:ww.irb.co.uk/v28/no6/mear01_html also,see www.ny mes/2006/04/19/opinion/19judt.html

([3])  رخا أحمد حسن: “سداسية وزراء الخارجية في النقب” ، صحيفة الشروق، 6/4/2022

([4])  الشرق بتاريخ 23/3/2022

([5])  د. السيد أمين شلبي، الجدل حول مستقبل القوة الأمريكية في التكتل الإستراتيجي الأمريكي، الهيئة المصرية للكتاب، القاهرة 2014، ص 65 وما بعدها.

([6])  صلاح سالم، “أفول الهيمنة الأمريكية”، الأهرام ، 15/5/2022.

([7])  بشير عبد الفتاح، تجديد الهيمنة الأمريكية ” أوراق الجزيرة 18، مركز الجزيرة للدراسات، الدوحة – قطر 2010 ص 93.

اظهر المزيد

د. مصطفى عبدالعزيز

دبلوماسي سابق وكاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى