2022العدد 192ملف عربي

التصعيد الإسرائيلي في العمق السوري وتأثيراته على المعادلة العربية والإقليمية

تستفيد الهجمات الإسرائيلية على سوريا، والتي زادت حدة وتيرتها في الآونة الأخيرة، من تقاطع مصالح كثيرة لأطراف إقليمية عدة في معادلة التخوف من التمدد الإيراني في منطقة الشرق الأوسط بـالفكر، والثقافة، والهوى وتصديرًا للثورة الإيرانية- خاصة وأن هذا التمدد صار على الأرض عبر أذرع وميليشيات في (العراق، واليمن، وقبلهما لبنان، وبالطبع بشكلٍ أو بآخر في سوريا)، لذا تباينت المواقف من مئات الهجمات الإسرائيلية على العمق السوري، التي شهدت في الشهور الأخيرة تحولًا نوعيًّا من حيث النمط والمعدل، حيث تم ضرب محيط دمشق ثلاث مرات في أسبوعٍ واحد في شهر أكتوبر المنصرم، واستهداف بُنى تحتية سورية وليس أهدافًا عسكرية. مما يستوجب منا مراقبة وتحليل طبيعة مسار المواجهة الإسرائيلية الإيرانية على الأرض السورية، ومدى قدرة دمشق على التصدي أو الرد في ظل المتغيرات الدولية، وكذلك استخلاص ضوابط ومحددات تلك الهجمات، سعيًا لاستشراف توجهها المستقبلي والاستعداد له. 

طبيعة التصعيد الإسرائيلي ودلالة توقيته:

يتوجس صانع القرار الإسرائيلي من التمدد الإيراني العسكري في سوريا عبر هلال شيعي بري يصل من إيران للعراق، ثم سوريا، ولبنان فإسرائيل. هذا بجانب ممرات بحرية، وجوية تخدم استمرارية الدعم بالعتاد والسلاح لسوريا- خاصة وأن لإيران بالفعل مليشيات وفصائل مسلحة متمركزة بالفعل في جنوب لبنان متمثلة في (حزب الله، وحركة أمل)، وقطاع غزة متمثلة في (الجهاد، وحماس بشكلٍ خاص)، فضلًا عن نشاط يمكن وصفه بالتبشيري لنشر المذهب الشيعي على الأقل بين شخصيات مؤثرة في المجتمع وفي صنع القرار.

من حيث التوقيت، ترى تل أبيب أن الفرصة سانحة للتصعيد نظرًا لانشغال إيران في كبح وقمع المظاهرات الداخلية لديها، وعدم رغبتها في الرد وفتح جبهات خارجية قد تؤجج الشارع الإيراني بشكلٍ أكبر وأخطر. هذا مع مراعاة أن تل أبيب غير راغبة في ضرب الداخل الإيراني نفسه؛ لأن إجراء مثل هذا سيشوِّه المظاهرات والاحتجاجات والداعين لها، وربما يوحد صفوف المترددين والمحايدين داخل إيران، ويدفعهم لمساندة حكومتهم ضد الخطر الخارجي، في حين أن التصعيد في سوريا يبرز أن الحكومة الإيرانية انغمست في مغامرات خارجية تهدر الموارد.

التوقيت يرتبط أيضًا برؤية إسرائيلية مفادها أن الدب الروسي بعد تحقق أغلب أهدافه في سوريا، ودحر الإرهاب في معظم مناطق سوريا بات غير راغب في مزاحمة طهران له في حصد الأرباح.   

وقد اختارت تل أبيب أن تتصدى لتمدد إيران وميليشياتها في سوريا بمحددات ومحاذير:

أولًا: عدم الإعلان رسميًّا عن تحملها مسؤولية تلك الضربات في العمق السوري، حتى لا تتحمل تبعات سياسية وقانونية، وهو ما تتبعه إسرائيل وإيران في المقابل فيما يمكن تسميته “حرب الناقلات”([1]) التي هدأت وتيرتها، ودخلت لمرحلة هدنة غير مكتوبة. والرسالة هنا هي التأكيد على أن تل أبيب لا تسعى لمواجهة شاملة، ولكن الحديث عن ضربات محدودة، وإشارات ورسائل للتعبير عن عدم الرضا أو الارتياح لبعض الإجراءات الإيرانية في الداخل السوري، في تأكيد على قدرة الجيش الإسرائيلي على (ملء الفراغ) الذي ظهر على الساحة السورية، بعد انشغال الولايات المتحدة وروسيا بمعارك أوكرانيا، ولذلك وصلت الضربات إلى أقصى شرق سوريا، حيث تم شن هجوم على الحدود العراقية السورية أسفر عن مقتل عشرة من بينهم إيرانيين، وفي نفس الوقت عدم التوجه أو التورط في حرب شاملة ضد إيران على أرض سوريا يعد بمثابة رسائل تطمين للرأي العام الإسرائيلي.  

 ثانيًا: إعطاء أولوية لاستمرار التنسيق مع روسيا بشأن الهجمات على العمق السوري؛ خشية تكرار إسقاط إحدى المقاتلات الإسرائيلية ببطاريات دفاع جوي روسية، أو حتى من خلال مقاتلات روسية، أو قطع الذراع الطولي، وإنهاء التنسيق بشكلٍ نهائي. وفي هذا السياق يفيد عدم الإعلان عن تحمل مسؤولية الهجمات التي تقع، وتعلن عنها دمشق ووكالات الأنباء العالمية موجهة أصبع اتهام صريح لتل أبيب التي لا تعلن، ولا تنفي قيامها بشن أية هجمات؛ خشية استفزاز موسكو بشكلٍ مبالغ فيه، حيث تخشى روسيا من تدهور معدلات بيع أسلحتها في العالم لصالح السلاح الصيني، طالما أن الأسلحة الروسية لا تستطيع التصدي للسلاح الغربي، بجانب أن برود العلاقات الروسية الإسرائيلية سوف يحد من إمكانيات التصعيد؛ نظرًا لأن تل أبيب تعي جيدًا أن موسكو تربط بين مواقف إسرائيل السلبية من الحرب الروسية الأوكرانية، وبين مستوى التنسيق بين روسيا وإسرائيل في سوريا، وتتوجس من تكرار سيناريو التضييق، وأن يكون مصير التنسيق المستمر لسنوات في الأجواء السورية، وأتاح لها حرية التحليق في الأجواء السورية هو التجميد التدريجي؛ كما حدث مع نشاط وكالة الهجرة اليهودية في روسيا. (تنظر المحاكم الروسية منذ شهور قرارًا يستهدف إغلاقها بشكلٍ نهائي، وترى صحيفة “يسرائيل هيوم” الداعمة لنتنياهو في تقرير لها نشرته في أغسطس الماضي أن الوكالة “لا طائل من ورائها، وأن إغلاقها لن يكون موجعًا”، لكن في المقابل اهتم كل المسؤولين في إسرائيل بالسعي لدى موسكو لإبقائها؛ لأنها تحقق مصالح إسرائيلية متعددة منها جلب العلماء لإسرائيل). وبكل تأكيد فإن تل أبيب غير معنية باستدراجها لكمائن أو شراك، وتدرك أن تشغيل الرادار السوري كان محظورًا لسنوات تجاه المقاتلات المهاجمة، لكن الوضع تغير منذ 4 سنوات، حيث تم استهداف الطائرات الإسرائيلية بنحو 1600 صاروخ دفاع جوي. وإذا كانت تل أبيب قد اختارت أن تكون جبهة الاشتباك وتوصيل الرسائل التحذيرية لفترة خارج سوريا (جبهة بحرية)، فإن ذلك السيناريو لم يتصاعد، وتم احتواء إيقاعه ووتيرته، وهو ما تم إنجازه في الأغلب بضغط وتدخل من أطراف عربية ودولية مؤثرة؛ يهمها وقف الضرر الواقع عليها من جراء تهديد المسارات البحرية للتجارة العالمية، وهو نفس السبب الذي يمنع إيران من استخدام طائرات مسيرة يمكنها أن تصل لإيلات انطلاقًا من مناطق تسيطر عليها ميليشيات الحوثي في اليمن. وربما كان وقف “حرب الناقلات” من أحد أسباب عودة تل أبيب لتركيز جل جهودها على قصف جوي يستهدف مخازن أسلحة، وقواعد تابعة للجيش السوري بجانب استهداف مطار دمشق الدولي ومطارات أخرى منها (حلب، واللاذقية)، ولأول مرة بُنى تحتية سورية. هذا مع ملاحظة أن أغلب الهجمات تتم من خارج المجال الجوي السوري بصواريخ من الجولان، أو بصواريخ من أجواء شمال لبنان تطلقها مقاتلات إسرائيلية.

ثالثًا: تدرك تل أبيب أن المواجهة الشاملة الناجمة التي من المحتمل أن تحدث كنتيجة لتعليق أو إلغاء التنسيق مع روسيا في أجواء سوريا أو استفزاز موسكو على الساحة الأوكرانية من شأنه الزج بالجيش الإسرائيلي في حرب استنزاف لا يرغب فيها، وربما يكون أيضًا غير مؤهل لخوضها على أكثر من جبهة- خاصة وقد اعترفت إسرائيل مؤخرًا بسهولة استهداف قواعدها قرب الحدود مع سوريا في هضبة الجولان، حيث يتمركز على مسافات غير بعيدة عناصر من ميليشيات ذات انتماءات متباينة. حيث أقر جيش الاحتلال -في منتصف نوفمبر الماضي- بأن أحد معسكراته للتدريب تم اختراقها، وتم إبلاغ الشاباك (الاستخبارات الداخلية)، والشرطة المدنية والعسكرية، للتحقيق في سرقة عشرات الآلاف من الطلقات والقنابل!! مع ملاحظة عدم استبعادنا أن يكون السيناريو تم على طريقة “غض البصر” لصالح ميليشيات داعش؛ حتى يتم تبرير ظهور أسلحة إسرائيلية معها أو مع جبهة النصرة لإنهاك دمشق من جديد. ومن الأدلة أيضًا على عدم جاهزية جيش الاحتلال لحرب عصابات انطلاقًا من أراضي سوريا، وبالتالي كارثية فتح جبهة شاملة ضد ميليشيات ما حدث في إبريل 2021، والمتمثل في مرور صاروخ من طراز “إس إيه 5” القديم المتهالك -انطلق من سوريا- على أجواء إسرائيل بالكامل حتى انفجاره على بعد 30 كيلو متر من مفاعل ديمونة دون إسقاطه! كما سقط في سبتمبر 2021 صاروخ سوري آخر موجه للأراضي الإسرائيلية أمام شاطئ حيفا. وفي فبراير 2022 دوت صفارات الإنذار، وتم إسقاط صاروخ بعد تخطيه الأجواء الإسرائيلية، وهي حالات أقر المتحدث باسم جيش الاحتلال بوقوعها، وتنم عن قدرة -يمكن تطويرها-على الإزعاج، وقض المضاجع الإسرائيلية، وفي المقابل أقر فقط بمسؤولية جيش الاحتلال عن بعض الهجمات، بل ونشر مقاطع فيديو توثقها حين تم استهداف بطاريات دفاع جوي سوريا، معتبرًا أن النظام هو المسؤول عن أية صواريخ تستهدف إسرائيل، حتى ولو كان الذي أطلقها تابع لمليشيات غير نظامية. مع ملاحظة السعي الإماراتي لعودة الدور العربي في الملف السوري وما تمت ترجمته للقاء غير مسبوق منذ عام 2011 وبين قيادة عربية في مارس 2022، حين زار بشار الأسد الإمارات، والتقى الشيخ “محمد بن زايد آل نهيان” رئيس الدولة وولي العهد آنذاك.

أثر تصعيد الهجمات على الأطراف العربية والدولية المؤثرة في المشهد:

لبنان: هي المتضرر الأكبر والجبهة المرشحة للاشتعال، رغم الهدنة الطويلة والمستقرة لسنوات. ويلاحظ المراقبون أنه فيما يتعلق بالهجمات الإسرائيلية ضد العمق السوري، فإنه قد تم منح الأولوية لإبرام اتفاق تعيين الحدود البحرية -في نهاية أكتوبر 2022- وبالتالي إتاحة المجال لاستخراج الغاز من حقلي (قانا، وكاريش)، بمباركة حزب الله الذي اعتبر الاتفاق انتصارًا شخصيًّا له، مقابل 5 أسابيع من الهدوء وعدم استهداف العمق السوري، وهو ما أعقبه هدوء نسبي، لكن سرعان ما عاد التصعيد الإسرائيلي وبدرجة أكبر؛ في ظل مزايدات أمام الرأي العام بين حكومة لابيد المنتهية ولايتها، وحكومة نتنياهو الفائز-هو ومعسكره من المتشددين- في الانتخابات الخامسة، ووفقًا لدراسة أعدها “أودي ديقل”، و”آساف أوريون” لصالح معهد الأمن القومي الإسرائيلي، فإن التحسب لحزب الله وتأثيره السياسي والعسكري في لبنان يفوق التخوف من الجيش السوري المرهق. على الرغم من الهدوء الظاهر وعدم حدوث أي هجمات من الأراضي اللبنانية لسنوات- خاصة وأن التغيير في الأوضاع على الأرض قد يكون بسبب تغير سياسة الولايات المتحدة تجاه إيران، وهو ما يجعل بالضرورة ميليشيات حزب الله في سوريا أيضًا في موضع اشتباك مع إسرائيل. ونلاحظ في هذا الصدد حرص تل أبيب على شن بعض الهجمات على سوريا من الأجواء اللبنانية؛ تجنبًا للدفاعات الجوية الروسية أو احتمالية الاشتباك ولو عن طريق الخطأ مع مقاتلات روسية، لكن مع هدف استهداف مواقع لبنانية.

مصر: أعلنت وكررت رؤيتها بشأن الملف السوري على لسان وزير خارجيتها وكبار معاونيه مؤكدة أنها لن تنخرط في الصراع في سوريا، وترى أن حل الأزمة يكمن في إنهاء التدخلات الخارجية هناك، متضمنًا الاحتلال التركي لشمال سوريا. والقاهرة لا ترى ضرورة لتعليق رسمي على الهجمات طالما لم يتم الإعلان رسميًّا عن الجهة المسؤولة عنها، لكنها على خطوط تماس مع الأجهزة الأمنية السورية للتنسيق والتشاور منذ عام 2020، في محاولة للتوصل لمقاربة لإدارة الملفات محل الاهتمام المشترك، وهو ما يمكن بلورته في تصريح للوزير سامح شكري في مطلع  2022 عبر فيه عن تطلعات مصر لقيام الرئيس بشار الأسد بإجراءات تسهّل عودة سوريا إلى الجامعة العربية.

الخليج العربي: رغم إبرام الإمارات والبحرين اتفاقات مع إسرائيل إلا أن سياساتها التصويتية في المحافل الدولية لم تختلف، وهي راغبة بشكلٍ حقيقي في تصفير المشاكل ومن بينها: كبح إيران بطرق سلمية، وتثبيت استقرار المنطقة. في المقابل ونظرًا لأنه لا يُوجد توافق ولو ضمنيًّا حتى الآن على عودة سوريا لجامعة الدول، انعكس ذلك وتم التعبير عنه في قمة الجزائر الأخيرة التي فضلت أن يتم التركيز على القضية الفلسطينية باعتبارها محل توافق، وجرى بشأنها مباحثات بناءة استبقت القمة ومهدت لها، وتعطي العواصم العربية أولوية للتصدي لبسط النفوذ الإيراني على الأرض العربية، وترفض تهديد أمنها ومصالحها الاقتصادية المستمر من ميليشيات إيران، وبشكلٍ عام تتعامل مع الملف السوري بتعقيداته بشكلٍ واقعي وتغليب مصلحة الشعب السوري ورفع معاناته، ولذا من الصعوبة أن تستمر إسرائيل في تصعيدها الذي طال البنى التحتية السورية وليس فقط الميليشيات الإيرانية.

إيران: تسعى للتمدد الثقافي بنشر المدارس التابعة لها، ونشر الفكر الشيعي، وهو ما يجابه صعوبات في ظل شخصية ثقافية سورية تميل لليبرالية. وقد ردت الميليشيات التابعة لإيران في سوريا على هجمات إسرائيل بإطلاق صواريخ قصيرة المدى صوب إسرائيل بلغت ذروتها في عام 2018، لكنها ظلت هجمات رمزية وغير مؤثرة ولم تستمر وتيرتها، بل خفتت في الأغلب بتدخل روسي قلَّص من حرية حركة الطيران الإسرائيلي في سوريا مقابل إبعاد الإيرانيين عن الحدود مع الجولان. وبكل تأكيد تشوشت وارتبكت المخططات الإيرانية في سوريا كثيرًا في ظل سقوط النموذج الإيراني داخل إيران نفسها أو على الأقل اهتزازه بشدة، بعد تنامي الاحتجاجات الشعبية داخل المدن الإيرانية على خلفية مقتل ناشطة خلعت الحجاب. ومع ملاحظة فتور روسي إزاء رغبة طهران في التمدد في سوريا تواجه صعوبات. هذا ومن شأن الهجمات الإسرائيلية المتصاعدة أن تفاقم مشاكل إيران الداخلية.

تركيا: تحتل شريطًا حدوديًّا من شمال سوريا بعمق، بحجة مجابهة حزب العمال الكردي، وسعيًا لنيل حصتها من معادلة ملء الفراغ تصعد هي بدورها من القصف شبه اليومي بالمدفعية أو الطائرات المسيرات لقرى سورية -بعضها غرب الفرات. وهي غير معنية بالتصدي حتى من خلال حملات إعلامية، أو شجب سياسي للتصعيد الإسرائيلي ضد سوريا، خاصة وأن العلاقات عادت لسابق عهدها بين تل أبيب وأنقرة. بالإضافة إلى أن تركيا ذاتها متهمة بـ(قصف كيماوي) لقرى سورية لأهداف في شمال شرق سوريا، حيث تسيطر على نحو 1000 بلدة، وهو ما يمكن إبرازه في المحافل الدولية وقت الحاجة.

الولايات المتحدة: أصبح تواجدها في الساحة السورية رمزيًّا، وهي لا تجد أي غضاضة في التصعيد الإسرائيلي، كما أن قدرتها على التدخل ومد يد العون المباشر لأحد الأطراف صارت محدودة، وهو ما ظهر حين تجاهلت التدخل لمنع تركيا من استهداف حلفاء الولايات المتحدة في شمال شرق سوريا. ويمكن القول إن الخلاف الإسرائيلي الأمريكي حول جدوى الاتفاق النووي يتم استثماره أحيانًا في الضغط على طهران في المفاوضات، فإذا كانت تل أبيب تردد أن أكبر مكاسب الاتفاق -بين الغرب وإيران- هو فقط تأخير البرنامج النووي العسكري الإيراني لبضعة سنوات، فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تدعم موقف المفاوض الأمريكي بربط الهجمات في العمق السوري بمنسوب التقدم في المفاوضات النووية بين (إيران، والغرب)، قبل أن يكبل حرية حركتها التوجه الغربي نحو شطب الحرس الثوري من قائمة الإرهاب.

روسيا: تعهدت بإبعاد الإيرانيين لمسافة 80 كيلو متر عن الجولان، ولديها تحفظات على استمرار التواجد الإيراني في سوريا في ظل تحقق الهدف الرئيس، والانتصار على (داعش)، وجبهة النصرة(جفش)، وبالطبع تعطي الأولوية القصوى للجبهة مع أوكرانيا. نجحت موسكو من خلال التلويح بالورقة السورية، ونفوذها هناك في بث الهواجس لدى تل أبيب؛ فبعد أن قدمت إسرائيل نفسها في دور الوسيط، أظهرت تخبطًا سياسيًّا إزاء الحرب الأوكرانية، تم التعبير عنه في السياسة التصويتية في المنظمات الدولية، وفي حجم ونوعية التسليح والعتاد الذي يطلب الجانب الأوكراني من الغرب إمداده بها؛ حيث اكتفت تل أبيب بمد أوكرانيا بخوذ، وتجهيزات بسيطة لفرق الإنقاذ الأوكرانية غير القتالية، ونفت بشدة أنها سلمت الجيش الأوكراني مدرعات، زاعمة أنه ربما حصل عليها من خلال دولة أوروبية دون موافقة إسرائيل.

التوجس الإسرائيلي تجاه الغضب الروسي وعواقبه في سوريا ظهر جليًّا حينما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة منتصف نوفمبر 2022، قرارًا -غير ملزم- يقضي بآلية تعويض لأوكرانيا نظير خسائر من العمليات الروسية على أراضيها وهو قرار أيدته 94 دولة، ليس من بينهم إسرائيل التي (امتنعت عن التصويت)، بل وكانت الدولة الغربية الوحيدة التي اتخذت هذا الموقف. وهو فسره ايتمار ايخنار-محلل صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية- بأنه جاء ردًا على تأييد أوكرانيا لقرار أممي لإحالة ملف الاحتلال الإسرائيلي إلى محكمة العدل الدولية.  وإن كان من غير المستبعد في تقديرنا نحن أن الهدف كان: السعي لتهدئة غضب روسيا ومحاولة التودد إليها- خاصة وأن الدبلوماسية الروسية أبرزت مرارًا في أعقاب شن عمليتها في أوكرانيا، حقيقة كيل الغرب بميكالين، وغضه الطرف عن الاحتلال الإسرائيلي المستمر.   

الخلاصة:

  • من الأهداف الإسرائيلية للتصعيد ضرب الاقتصاد السوري وإحراج النظام، ولذلك تم استهداف مطار دمشق الدولي وتعطيله لأسبوعين وبجانب الأهداف العسكرية والسياسية تسعى تل أبيب إلى دق أسفين بين (الأسد، وحلفائه في موسكو، وطهران)، وإظهار أن الأوليات في كل عاصمة من العواصم الثلاثة باتت متباينة مما سمح بإحراج نظام الأسد.
  • تعمد تل أبيب إلى اتباع سياسة الإلهاء، حيث تُغرق دمشق في تفاصيل تهربًا من استحقاقات القضية الرئيسة، وهي الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان، وبالتالي تتملص من قرارات الشرعية الدولية ووديعة رابين، وأن تصبح المعادلة الجديدة هي الأمن مقابل الأمن، بدلًا من الأرض مقابل السلام.

في ظل انشغال موسكو في إيران، وإيران في قمع الاحتجاجات الداخلية، سيكون نظام الرئيس الأسد والجيش السوري محل اختبار حقيقي حول قدرته على التصدي بمفرده أو ردع الهجمات أو تقليص وتيرتها.

  • بعد حل العقدة اللبنانية والتوصل لاتفاق الغاز، والسعي الحثيث نحو إبرام اتفاق مماثل لحقل غزة -المجمد منذ عام 2000 – لن يستقيم الاستثمار في الغاز مع وجود صراعات إقليمية؛ لذا ستظل الهجمات ضد العمق السوري على نفس وتيرتها أي مكثفة وموجعة، لكن دون رغبة في الانزلاق لمواجهة شاملة ترفضها جميع الأطراف، أي أنه من المستبعد انزلاق الهجمات الإسرائيلية خارج سوريا نظرًا لتعقيدات تلك الاشتباكات، ولتحسب عواصم كثيرة لكل ما هو من شأنه زعزعة استقرار المنطقة.

تركيا تنظر بعين الرضا للهجمات الإسرائيلية؛ نظرًا لتحسن العلاقات بين (تل أبيب، وأنقرة) مؤخرًا، وأيضًا لأنها تصرف الأنظار عن هجمات تركيا على الشمال السوري، والذي تصاعد بدوره بعد حادث تفجير تقسيم في إسطنبول، والمنسوب لامرأة سورية تلقت تدريبًا كرديًّا.

تل أبيب تحرص على عدم إعلان مسؤوليتها عن أغلب الهجمات في سوريا؛ لأنها تستهدف الإيرانيين، لكنها تضع في الحسبان أن لطهران تعاونًا واسع المدى مع موسكو يضاف للتعاون على الساحة السورية في أوكرانيا على صعيدين: صعيد تزويد الروس بالمسيرات، وأيضًا التعاون والتنسيق بشأن الإفلات من العقوبات والحصار.

  • هاجس إسرائيل الكبير الذي يدفعها لضرب العمق السوري باستمرار هو نقل إيران أسلحة دقيقة التوجيه للبنان مما يغير التوازنات الحالية.
  • من المرجح وجود تنسيق بين(واشنطن، وتل أبيب) بشأن الهجمات في العمق السوري، سعيًا للضغط على مسار المفاوضات النووية بين (الغرب، وإيران)، وحلحلة جمودها، وهو ما يفسر وعد مقربين من نتنياهو قبيل الانتخابات الأخيرة للكنيست بضرب المشروع النووي الإيراني خلال عام.
  • يمكن لإيران عبر ميلشياتها الرد على الهجمات الإسرائيلية بالهاون، أو بالطائرات المسيرة، لكن سيعيقها الكبح السوري، وقلة تجهيزات القوات الإيرانية التي تكاد تقتصر على خبراء، وعلى هذا سيكون الجهد الأكبر موجها لتحصين مواقعها أو نقلها من مكان لآخر بشكلٍ دوري سعيًا لتجنب القصف أو تقليل آثاره.

([1]) المقصود هجمات متبادلة في الخليج العربي أو بحر العرب أو البحر الأحمر تستهدف سفنًا إيرانية أو إسرائيلية،  لم تسفر عن غرق سفينة واحدة، وتكاد تكون بلا خسائر بشرية مع استثناءات منها استهداف لسفينة واحدة قيل أنها تابعة للاستخبارات الإيرانية، وهجوم على ناقلة أحد المساهمين في ملكيتها إسرائيلي يوم 16 نوفمبر 2022، ولم تسفر عن خسائر بشرية أو مادية.

اظهر المزيد

د.أحمد فؤاد أنور

عضو هيئة تدريس جامعة الإسكندرية -عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى