ظلّت إسرائيل، منذ إقامتها (1948)، تحاول تطبيع علاقاتها مع العالم العربي، بيد أن استخدام مصطلح “التطبيع” بحاجة إلى توضيحين، الأول، أن إسرائيل لا ترغب، أو لا ترى مصلحتها، في أن تتحوّل إلى دولة عادية، بحدود واضحة، جغرافية، أو ديمغرافية، فهي دولة بلا حدود، ثم هي تعتبر نفسها دولة ليهود العالم، وليس لمواطنيها، أو لليهود فيها، وهو ما جدّدت التأكيد عليه في تشريعها قانون أساس يعتبر أن “إسرائيل دولة قومية لليهود” (يوليو 2018)، بمعنى أنها بمثابة حالة فريدة من نوعها بين الدول، إذ لا يوجد دولة بدون حدود معترف بها، ولا يوجد دولة تعتبر أن مواطنين دول أخرى هم بمثابة مواطنين محتملين فيها فقط بسبب انتمائهم الديني. والثاني، أن إسرائيل تركّز على التطبيع المتعلق، بشكل خاص، باعتراف الدول العربية بها، وإقامتهم علاقات دبلوماسية واقتصادية وأمنية معها، والمتضمن خلق فرص تعاون مشتركة على صعيد البنى التحتية والتجارة وقطاعات الاقتصاد، بينها وبين تلك الدول، وفقا لتبادلية تتأسّس عندها على ما تتمتع به من تفوق علمي وتكنولوجي، مقابل اليد العاملة العربية الرخيصة والثروة المالية العربية المتأتية من النفط (وهو ما عبر عنه شمعون بيريز صراحة في كتابه المشهور: “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، الصادر في أواسط تسعينيات القرن الماضي).
معلوم أن تداعيات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وضمنه سلب الشعب الفلسطيني أرضه وحقوقه (1948)، ثم احتلال إسرائيل أراض عربية في حرب يونيو (1967)، هي التي ظلت تفاقم من مشاعر العداء العربي لإسرائيل، وظلت بمثابة عقبة صلبة أمام أي محاولة من قبل إسرائيل لفك طوق المقاطعة العربية لها، إلى درجة أن قيام علاقات عادية بين مصر وإسرائيل، بعد اتفاق كامب ديفيد (1978)، واستعادة شبه جزيرة سيناء، لم يخفف من آثار تلك المقاطعة.
من الشرق الأوسط الجديد إلى صفقة القرن
وفي مراجعة لمحاولات إسرائيل لاقتناص الفرص السانحة لتعزيز جهودها للنفاذ إلى العالم العربي، يمكن رصد حقبتين، الأولى، وهي تشكلت، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، بناء على المعطيات أو التداعيات الناجمة عن انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، واختفاء عالم القطبين، وهيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وحرب الخليج الثانية، وتاليا لذلك عقد مؤتمر مدريد للسلام (أواخر 1991). ففي حينه نجم عن المؤتمر المذكور جلوس إسرائيل على طاولة واحدة مع عديد من قادة الدول العربية، مع الرعاة الدوليين (سيما الولايات المتحدة وروسيا)، كما نجم عنه فتح قناة لمفاوضات “متعددة الطرف”، تم تخصيصها لمناقشة قضايا التعاون الإقليمي بين بلدان الشرق الأوسط، في مجالات المياه والبنى التحتية والمواصلات والتجارة والتعاون الاقتصادي والبيئي، كما التعاون في مجالات الأمن، واللاجئين والقدس. بعد كل ذلك فإن توصل الفلسطينيين والإسرائيليين إلى عقد اتفاق أوسلو (1993)، قام بموجبها نوع من كيان للفلسطينيين في الأراضي المحتلة (1967)، بدا وكأنه أعطى دفعة لتشريع العلاقات العربية ـ الإسرائيلية، وهو ما نجم عنه، تطوير فكرة المفاوضات متعددة الطرف، بحيث باتت على مؤتمرات “القمة الاقتصادية للتنمية في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا”، التي أضحت تعقد سنويا، بغرض تطبيع وتعزيز علاقات إسرائيل مع الدول العربية، وإقامة منظومة علاقات اقتصادية إقليمية، بحيث تم عقد أربعة مؤتمرات من نوعها، في كل من الدار البيضاء (1994) وعمان (1995) والقاهرة (1996) والدوحة (1997). بيد أن هذه المؤتمرات، التي ظن منظموها والمشاركون بها بأنها تعد بقيام “شرق أوسط جديد”، خال من الحروب والعداوات والاحتلالات ومحمّل بالآمال الاقتصادية، باءت بالفشل، مثلها كالمفاوضات “متعددة الطرف” (ومثل المفاوضات الثنائية مع الفلسطينيين والسوريين)، وذلك لأسباب متعددة، أولها، رفض إسرائيل الالتزام بالاستحقاقات المطلوبة منها في عملية التسوية مع الفلسطينيين. وثانيا، ممانعة إسرائيل لأية مقاربة تتأسّس على ربط عملية السلام بعلاقات التعاون في المجال الاقتصادي. وثالثا، إصرار إسرائيل على رفض أي ربط بين قضية الفلسطينيين وقضية إقامة علاقات بينها وبين الدول العربية. وربما يجدر التذكير هنا أن تلك الحقبة، وانهيار الآمال التي وضعت عليها، تزامنت مع صعود بنيامين نتنياهو، كزعيم لحزب الليكود، للمرة الأولى إلى سدة السلطة في إسرائيل (1996ـ1999).
على ذلك ليس بمستغرب أن بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية) صاحب فكرة “السلام الاقتصادي”، وفك الارتباط بين موضوعي الفلسطينيين والعلاقات العربية، والذي يركز على “أمن إسرائيل أولاً”، هو ذاته الذي يدير دفة السياسة الإسرائيلية في هذه الحقبة، التي تطرح فيها خطة تسمى “صفقة القرن”.
هكذا، نحن الآن إزاء حقبة ثانية جديدة، في محاولات إسرائيل النفاذ إلى العالم العربي، على النحو الذي تحدثنا عنه، وهي حقبة تجري برعاية أمريكية، ووفقا لرؤى ومصالح إسرائيل، وبتجاوز لحقوق الفلسطينيين، وعلى أساس تمكين إسرائيل من التحول إلى فاعل رئيس بل وكشريك طبيعي في المنطقة، من مداخل عديدة سياسية وأمنية واقتصادية، ولاسيما من مدخل ما يسمى “صفقة القرن”، وتحجيم النفوذ الإيراني في المشرق العربي، مع كل ما في ذلك من شبهة مقايضة، بين تطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل، وتغيير مضامين القضية الفلسطينية وفك الارتباط بها، من جهة، ووعود التنمية الاقتصادية وتحقيق الاستقرار والأمن السياسيين، وتحجيم نفوذ إيران من العراق إلى لبنان مرورا بسوريا، من الجهة المقابلة.
العوامل الدافعة للصفقة
الفكرة أن هذه الحقبة من المحاولات الإسرائيلية، المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، للنفاذ إلى العالم العربي، أو لتطبيع إسرائيل علاقاتها معه، تحاول اقتناص مجموعة “الفرص السانحة”، المتمثلة بقوة الدفع الناجمة عن العوامل الأساسية الآتية:
أولاً: وجود رئيس للولايات المتحدة الأمريكية من نموذج دونالد ترامب مستعد لفعل أي شيء يخدم مصلحة إسرائيل، ويقويها، من دون حساب لأية معايير أو اعتبارات سياسية أو قانونية أو تاريخية. وكما شهدنا، فمنذ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض قام بخطوات دراماتيكية خطيرة، ووجه ضربات موجعة لقضية الفلسطينيين، باعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل (أواخر 2017)، وبمحاولاته تصفية قضية اللاجئين، بإعادة تعريف اللاجئ، ووقف تمويل منظمة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، في أغسطس من العام الماضي (365 مليون دولار وهو ثلث ميزانية اونروا)، بعيد قراره بوقف تمويل مشاريع اقتصادية للسلطة (200 مليون دولار)، ناهيك عن إطاحته بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، وسكوته عن الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية، وأخيرا قراره بإغلاقه مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن (سبتمبر 2018)، التي كانت وقعت اتفاق أوسلو برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون في البيت الأبيض (1993)؛ إضافة إلى اعترافه بسيادة إسرائيل على الجولان السورية (مارس 2019). وتوضّح كل تلك الخطوات أن الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد رئيسها دونالد ترامب، تتوخى تغيير معالم قضية فلسطين، معنى ومبنى، وتهميش البعد الفلسطيني في أية ترتيبات مستقبلية في المنطقة، وأن ترامب يتصرف وفقا للمبادئ التي يعتنقها نتنياهو منذ زمن، والتي تتعلق بالتركيز على أولوية أمن إسرائيل، وإقامة سلام أو علاقات تعاون اقتصادي بينها وبين الدول العربية، وفك الارتباط بين قضية فلسطين والعلاقات الإسرائيلية العربية، وتحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي.
ثانيا: انفراط عقد “النظام الرسمي العربي”، شكليا وعمليا، بوجود محاور وأجندات ومصالح عربية متضاربة، ومع غلبة مخاطر أخرى، يتمثل أهمها في انشغال أغلبية الأنظمة العربية بمواجهة التحدي الناجم عن تغول النفوذ الإيراني في المشرق العربي، لا سيما في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ومواجهة التهديد الذي تمثله إيران لدول مجلس التعاون الخليجي،
ثالثا: التطور الكبير الحاصل في علاقات إسرائيل مع القطب الدولي الآخر، المتمثل بروسيا الاتحادية، سيما في السنوات القليلة الماضية، ووجود نوع من شبكة مصالح واسعة، سياسية وأمنية واقتصادية تربط الطرفين، ويأتي في مقدمة ذلك التنسيق بشأن الترتيبات المستقبلية المتعلقة بسوريا، والتي تأخذ في الحسبان أمن إسرائيل، ما يفسر قيامها بشن غارات وتوجيه ضربات متعددة للمواقع العسكرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، أو للميلشيات اللبنانية أو العراقية التي تتبع له في سوريا.
رابعا: بيد أن ما يفترض إدراكه، إضافة إلى كل ما تقدم، أن السياسة التي تنتهجها إيران هي التي شكلت قوة الدفع الأساسية فيما يمكن اعتباره التسهيل لإسرائيل النفاذ إلى العالم العربي، وتقديم المبرر الأمني، والتغطية السياسية، المطلوبين، أو اللازمين، لمثل هذا التحول، في سلم الأولويات العربية، من اعتبار إسرائيل كالخطر الأساسي الذي يتهدد الجسم العربي، وكالمهدد الأساسي للأمن القومي العربي، إلى اعتبار أن إيران هي التي باتت تحتل هذا الموقع. وتبعا لذلك فإن العداء العربي لإيران، والتخوف من المخاطر والتهديدات التي أضحت تمثلها، إن بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي أو بالنسبة لاستقرار المشرق العربي، باتا بمثابة حجر الزاوية التي انبنت عليها فكرة “صفقة القرن”، التي تنبني على تغيير معنى ومبنى القضية الفلسطينية، وقبول إسرائيل كفاعل أساسي وطبيعي فيها، على نحو ما سبق أن ذكرنا.
مسؤولية إيران
في الواقع، وهذا ما يجب الانتباه إليه أيضا، أن إيران هي التي تتحمل مسؤولية ذلك التحول، أولاً، بسبب السياسات التي انتهجتها إزاء الخليج العربي، بمحاولاتها اللعب على الوتر الطائفي/المذهبي، وبدعمها للانقلاب الحوثي باليمن، الذي استجر حربا مستمرة منذ سنوات، استنزفت شعب اليمن. ثانيا، بسبب إنشائها ميلشيات طائفية ومذهبية مسلحة في كل من لبنان والعراق وسوريا. وثالثا، بحكم مشاركتها في الحرب على الشعب السوري، منذ سنوات، باعتبارها أن النظام القائم هو حليف لوجودها، ومساند لسياساتها في المنطقة.
هكذا، وبناء على كل ما تقدم فإن السياسات التي انتهجتها إيران في المنطقة هي التي أدت إلى تقويض أو تصدع بنى الدولة والمجتمع في آن معا، في المشرق العربي في كل من العراق وسوريا ولبنان (إضافة إلى اليمن)، وهي المسؤولة عن إثارة الانقسامات في تلك المجتمعات على أسس طائفية، الأمر الذي خدم إسرائيل، أكثر من أي طرف آخر، وجعل منها أكثر دولة مستقرة في منطقة الشرق الأوسط. والمشكلة، أو المفارقة، في هذا الأمر، أن كل ما سبق أن ذكرناه حصل باسم المقاومة والممانعة، وبدعوة محاربة إسرائيل، وعبر ميلشيات باسم “فيلق القدس” وحزب الله، وغير ذلك، وهو ما أثار مخاوف الأنظمة العربية، وجعل معظمها يحسب لكيفية تحجيم إيران، وإيجاد تقاطعات مع أية أطراف دولية أو إقليمية يمكنها أن تساهم في هذا الجهد، ما يستنتج منه أن صعود الخطر الإيراني أسهم في تراجع قضية فلسطين في سلم اهتمامات الأنظمة العربية.
وربما يجدر لفت الانتباه هنا إلى أن صعود نفوذ إيران في المنطقة، لا يعود لها وحدها فقط، إذ أن الفضل في ذلك يعود للسياسات التي انتهجتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، إذ أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي مكّنت إيران من الاستحواذ على العراق، بعد إسقاطها نظام صدام حسين (2003)، سيما أن بول بريمر، الحاكم الأمريكي في العراق، إبان إدارة بوش الابن، مكّن الميلشيات العراقية الطائفية/المذهبية، والمسلحة، والتي تشتغل كأذرع إقليمية لإيران من السيطرة على العراق، بكل مقدراته، وهو الذي سهّل لها ذلك، بحله كل أجهزة الدولة العراقية، بما في ذلك أجهزة الشرطة والأمن والجيش، وهو الذي تحكم في صوغ دستور العراق على أسس طائفية، وبتقوية جماعة طائفية على جماعات أخرى.
وكما شهدنا، بعد ذلك، فقد سكتت الإدارة الأمريكية عن تغلغل إيران في سوريا، بوجودها المسلح الذي ظل يتزايد باضطراد، كما سكتت عن تطويرها برنامجها النووي لفترة طويلة، بالقياس لردة فعلها على البرنامج النووي العراقي، أو بالقياس لتهمة حيازة العراق (في عهد صدام) على أسلحة دمار شامل، وهي الحجة التي تذرعت بها إدارة بوش لغزو العراق في حينه (2003).
وعليه، فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن بإلحاح، لماذا سهّلت أو سمحت الولايات المتحدة (ومعها إسرائيل طبعا) لإيران بتعزيز نفوذها في المنطقة، أي في العراق ولبنان وسوريا (واليمن)؟ أو لماذا سكتت عن ذلك، طوال الفترة الماضية؟
في الجواب على السؤالين السابقين، وإذا تجنّبنا تفسير ما تحدثنا عنه وفقا لعقلية المؤامرة، أي بتوافق أمريكي ـ إيراني، أو بحسب عقلية التبعية، بمعنى تبعية طهران لواشنطن، فإنه يمكن تفسيره وفق منهج التشبيك والتقاطع في المصالح السياسية الاستراتيجية، وهذا أمر معروف في العلاقات والمنافسات والصراعات الدولية، وذلك على رغم كل الادعاءات الضدية المتبادلة، كمثل ادعاء إيران مقاومة إسرائيل، ومناهضة الولايات المتحدة، واعتبارها بمثابة الشيطان الأكبر، وادعاء الولايات المتحدة بشأن اعتبار إيران كمصدر للإرهاب وعدم الاستقرار في المنطقة، إذ في المحصلة، ومن الناحية العملية، فثمة عوائد أمريكية وتاليا إسرائيلية أهم وأكبر وأعمق تأثيرا، من ضرر تلك الادعاءات أو تلك المقاومة.
المهم أنه، في المحصلة، فقد ثبت في ميدان التجربة، وليس فقط بالتحليل السياسي، أن ذلك السماح الأمريكي والإسرائيلي إنما كانت غايته استدراج إيران للتورط في البلدان المذكورة، وتاليا توظيف هذا التورط في تقويض البنى الدولتية والمجتمعية لبلدان المشرق العربي، وزعزعة الاستقرار وحفر التشققات فيها، الأمر الذي قدم خدمة كبيرة إستراتيجية لإسرائيل، كما قدمنا.
أما بخصوص ما يحدث الآن، من سعي الولايات المتحدة فرض عقوبات على إيران، وتحجيمها، وتوجيه الضربات الإسرائيلية لمواقعها في سوريا، فهو يفيد بأن المعطيات السابقة تغيرت، أي أن “المهمة” انتهت، وتاليا، فإن ذلك يستوجب إدخال تغيّرات في الاستراتيجية الأميركية إزاء إيران، بحسب ما بات يتكرر في تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وأركان إدارته، وبحسب التصريحات الإسرائيلية، ما يؤكد أن الرؤية الأمريكية لتوظيف، أو لاستثمار، الدور الإيراني في المنطقة تنطبق على إسرائيل، أيضا، أي أن الطرفين الأمريكي والإسرائيلي باتا اليوم مقتنعان بأن على إيران أن تعود إلى حجمها الطبيعي خلف حدودها، وأن على ميلشياتها أن تنزع سلاحها.
ويستنتج من ذلك أن التسهيل الأمريكي والسكوت الإسرائيلي، سابقا، على تغلغل إيران في المنطقة كان محسوبا، أولاً، لجهة عدم السماح لها بخلخلة أمن إسرائيل، وإبقائه عند حدود خلخلة أمن المنطقة، فقط، أي دولها ومجتمعاتها، وهو ما حصل عمليا. وثانيا، إبقاء كلفة مقاومة إسرائيل عبر “حزب الله”، وادعاء مناهضة إيران للولايات المتحدة ولإسرائيل أقل ضررا، أو كلفة، عليهما، بحيث إن العوائد الإيجابية التي نجمت عن ذلك أكثر من السلبية، أو أن فائدتها أكثر من ضررها، بالنسبة للولايات المتحدة وإسرائيل، من النواحي السياسية والعسكرية والأمنية، مع علمنا بتوقف مقاومة حزب الله منذ العام 2000، أي منذ 17 عاما، باستثناء لحظة خطف جنديين إسرائيليين (2006)، التي استجرت حربا على لبنان.
هكذا نحن نشهد الآن، أن كل الزخم الذي تستند إليه “صفقة القرن”، ومحاولة فك عزلة إسرائيل، وشرعنة وجودها، واعتبارها شريكا فاعلا في المنطقة، وإزاحة قضية فلسطين عن جدول الأعمال، إلى تحجيم إيران، وإرجاع نفوذها إلى داخل حدودها، كما تستند إلى وعود السلام الاقتصادي، وتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
والمغزى من كل ذلك أنه ليس مسموحا لإيران، وفق الأجندة الأمريكية والإسرائيلية أن تستثمر في وجودها في المشرق العربي، على شكل عوائد او استثمارات سياسية وأمنية واقتصادية، وكتعزيز للمكانة إقليميا ودوليا، بل إن هذا الوجود بات بمثابة عبء سياسي وأمني واقتصادي على إيران، بواقع العقوبات الأمريكية والدولية المفروضة عليها، ومنع تصديرها النفط، وانخفاض قيمة العملة، وأيضا بواقع الضربات الإسرائيلية التي توجه لها في سوريا، من دون أن تقوم بأي رد عليها.
وفي أية حال فإن تورط إيران في المشرق العربي أضحى من العمق بحيث بات يصعب عليها الخروج منه، ومن التداخل بحيث بات يصعب انفكاكها عنه بالوسائل الناعمة، أو بالوسائل العادية، سيما إذا كانت هي لا تدرك عمق المأزق الذي باتت غارقة فيها، وبخاصة إذا كان ثمة طبقة سياسية فيها، تتمركز حول “الولي الفقيه”، أو المرشد، وحول ميلشيات الحرس الثوري الإيراني.
وقصارى القول، فإن السياسات الإيرانية أخفقت في عدة مجالات، أولها، في تعزيز مكانتها، إذ أنها جعلت نفسها في دائرة التهديد، أكثر من أي مرة منذ قيام الجمهورية الإسلامية (أواخر السبعينيات). وثانيها، أنها عوض إضعاف إسرائيل فإنها أسهمت بتقويتها وشرعنة وجودها في المنطقة. وثالثها، أنها لم تستطع بناء نفوذ لها في العالم العربي، ولا في المشرق العربي، إذ أنها انكشفت تماما في ادعاءاتها بمقاومة إسرائيل وبمناهضة الولايات المتحدة، بعد كل ما فعلته في تلك المنطقة.
لا يوجد مخرج من هذا الوضع الذي يسير نحو التدهور ما لم يدرك قادة إيران المعطيات الصعبة والمعقدة التي باتت تحيط بدولتهم، والتي جعلتها في دائرة التهديدات والمخاطر، على نحو ما نشهد هذه الأيام، ولا أحد يعرف إن كانت تلك القيادات ستفهم ذلك بالطريقة السهلة أم بالطريقة الصعبة، أو إن كان ذلك سيحصل في أوانه أم بعد فوات الأوان، إذ أن كل المعطيات تفيد بأنه لم يعد من المقبول، دوليا وعربيا، استمرار نفوذ إيران على النحو الذي هو عليه، وأنه لم يعد مسموحا لها بتجاوز الحدود، والسؤال بات يتعلق بكسر النفوذ الإيراني في المشرق العربي، أم مجرد تحجيمه فقط؟