2019العدد 178ملف عربي

الانتفاضات السلمية العربية بين عدالة المطلب ومتطلبات الاستقرار

بعد تسع سنوات على انطلاق الانتفاضات السلمية العربية، ما زال الخلاف قائما حول أولوية الثورة على الاستقرار، أم أولوية الاستقرار على المطالب الاجتماعية حتى لو كانت محقة وعادلة، وعلى مدار تلك السنوات تداول أنصار هذين الرأيين الغلبة وأرجحية الرأي تبعا لتطورات الأحداث والسياقات التي احتضنتها، في البداية سيطرت الثورة على الوجدان والعقل العربيين حتى بدا أن كل العالم العربي، باستثناءات قليلة، ذاهب للثورة، وكانت الحجة أن الثورة هي المخرج الوحيد من حال الاستعصاء الذي علق به العالم العربي عقودا طويلة، وأن الأثمان التي ستدفعها الشعوب العربية، مهما كانت كبيرة تبقى أقل من الخسائر التي تدفعها ثمنا للفساد والعطالة، ثم إن للثورة فرصا معتبرة للنجاح في ظل مناخ ثوري عربي شامل وتفهم دولي عبرت عنه غالبية القوى الفاعلة في العالم.

لكن ما أن بدأت الأحداث تتطور باتجاه العنف، وضرب الانقسام بعض المجتمعات العربية بعنف، حتى برزت بقوّة تيارات متعدّدة تتهم الثورة بأخذ البلاد العربية صوب المجهول، وأن مطالب الثورات من الحرية والكرامة تبقى أقل قيمة من تهديد مصائر البلدان، وأن هذه المطالب يمكن تحقيقها بالتدريج وعبر أدوات غير الثورة العنيفة.

وفي السنوات الأخيرة؛ برزت غلبة هذا المنطق وأرجحيته، مع ارتفاع منسوب الحرب ومناظر الدمار الهائلة، وما رافقها من عمليات لجوء وتشريد، واعتقد الكثير من مراقبي التحولات في العالم العربي أن الشعوب العربية أجلت طموحاتها في التغيير، إن لم تكن قد ألغتها نهائيا؛ بعد أن جربت حظوظها مع الثورة والنتائج الصادمة التي وصلت لها.

لكن عودة الثورة إلى الجزائر والسودان أعادت من جديد الغلبة لأصحاب الرأي القائل أن الثورة هي الحل، شرط أن تكون الانتفاضات الجديدة قد استوعبت الدرس جيدا وامتلكت القدرة على التفاوض مع الأنظمة الحاكمة والنجاة من تكتيكاتها في حرف الثورات عن سياقاتها المطلبية.

الانتفاضات والسياق العربي

عشية اندلاع الانتفاضات العربية كانت قوائم المؤشرات المختلفة ترزح تحت عبء ثقيل من الأرقام السالبة على مختلف الصعد والمستويات، وبدا أن العالم العربي يدخل إلى زمن الألفية الثالثة وهو مجرد من أدوات القوّة ومن أي رصيد يستطيع من خلاله الإعلان أنه موجود وحاضر على قوائم المنافسة للولوج إلى العصر الحديث، حيث أجرت شعوب الأرض تحديثات هائلة على بطاقاتها التعريفية؛ تضمنت في الغالب قيما جديدة وأنماطًا معرفية تتناسب مع التحوّلات الهائلة والتغيرات المتسارعة في السياق العولمي.

البارز في ذلك؛ أن عناصر القوّة السابقة، من نفط وجغرافية وسوق استهلاكية واسعة، تراجعت بشكل كبير في حسابات قوّة الأمم وضعفها، بل إنها أصبحت أرجح للحساب ضمن خانة الضعف ما لم يتم تدعيمها بالقيم الجديدة لقوّة الأمم، المرتكزة بالأساس على التطوّر المعرفي والتقاني، والأرجح أن هذا السبب هو الذي أسهم بدرجة بارزة في إضعاف القيمة الاستراتيجية، ليس للعالم العربي، ولكن لأنظمة الحكم العربية التي طالما تمترست خلف عناصر قوتها السابقة وفاوضت القوى الفاعلة على مسرح السياسة الدولية بهذه الأوراق.

مقابل ذلك، ظهر العالم العربي، بموقف ضعف هزيل، بسبب قوّته البشرية التي يشكّل الشباب النسب الأكبر من تركيبته السكانية، 65-70 بالمئة، وللمفارقة فإن فقدان هذه القوّة شكّل أحد أسباب تراجع أوروبا على مسرح التأثير الدولي مقابل صعود الصين والهند والبرازيل، في حين أنه في العالم العربي بدت هذه القوّة أحد المخاطر التي يتعين التعامل معها بسياسات جديدة، وقد عبر الرئيس الأميركي باراك أوباما عن هذا الأمر أثناء اللقاء الذي جمعه بزعماء دول الخليج، حين أكد لهم أن الخطر الحقيقي على أمن دولهم ونظمهم يكمن في الداخل، وأشار إلى فئة الشباب بالتحديد.

وهكذا، دخل العالم العربي الألفية الثالثة وهو يحمل صواعق تفجير أوضاعه الهشة داخل أحشائه، تمثلت بكتلة شبابية ضخمة ليس لديها فقط طاقات وأحلام وطموحات كبيرة، بل أيضا اطلاع واسع على أنماط الحياة وطرق ممارسة السياسة في الطرف الآخر من العالم، تأتيه بشكل يومي عبر قنوات البث الفضائي ووسائل التواصل الاجتماعي، ولدى مقارنة هذه المحتويات الوافدة بما هو عليه الواقع العربي، فإن النتيجة ستكون مزيدا من الاحتقان والغضب على الأوضاع السائدة، والبحث عن السبل الكفيلة بكسر هذه المعادلة الجهنمية التي تحكم على العالم العربي بالتخلف الأزلي، والتي تشكل سياسات الأنظمة السياسية العربية أحد أضلاعها.

وما زاد من بؤس هذه الأوضاع، أن النخب العربية بدلاً من أن تبدأ رحلة البحث عن مخارج وحلول للتردي العربي على مختلف المستويات، ذهبت باتجاه تعزيز الأوضاع السائدة وتكريسها، عبر ميل هذه الأنظمة إلى توريث السلطات ومحاباة الطبقات الغنية ومنحها المزيد من الامتيازات؛ فضلاً عن النهب العلني لموارد الدولة، والاستهتار بمشاعر الشعب من خلال استعراض البذخ ” الفاجر” كما سماه المفكر العربي غسان سلامة.

في ظل هذا التردي كان لا بد من التساؤل عما إذا كانت الأنظمة العربية، بنسخاتها الأخيرة، تهتم باستقرار وأمن المجتمعات والبلدان العربية، وتخطط فعلاً لتحقيق هذا الاستقرار، أم أنها تمارس اللعبة السياسية وكأن ليس في الساحة سواها من لاعبين آخرين، كالشعوب والاستخبارات الإقليمية والدولية؟، وهل لدى نظم الحكم هذه جهات تقدير تبصّرها بالمخاطر وباتجاهات الرأي ومعطيات الواقع؟، أم أنهم يكيفون تقديراتهم وفق رغبات أصحاب المصالح وأهوائهم؟، وهل كانت ثمّة خيارات أخرى لتجنب الهزات التي واجهتها البيئة العربية؟.

هل كانت الانتفاضات حاجة زائدة؟

الثورات عمل حتمي تُدفع لها الشعوب دفعا ولا تختارها. وخاصة إذا أغلقت أمامها كل طرق التغيير السلمي والتدريجي، وفي ظل فشل أنظمة ما بعد الاستقلال العربي في تحقيق أي من مطالب هذه الشعوب وطموحاتها، سواء ما تعلق منها بتحرير الأرض المحتلة، أو بتحقيق التنمية والعدالة.

جاءت الانتفاضات العربية ضمن تطورات سياسية واجتماعية واقتصادية ارتبطت بسعي شعوب العالم العربي لعلاقة مختلفة مع أنظمتها السياسية. فعوضا عن شعور التبعية والتهميش أرادت الشعوب أن تكون العنصر الأساسي في المعادلة وذلك عبر انتخابات شفافة تؤدي لمساءلة حقة وحقوق واضحة.

انتظمت مطالب الانتفاضات العربية ضمن منظومة الحرية والكرامة، وإذا كانت الحرية تعني الحق في المشاركة السياسية والانتخابات النزيهة، وما يلي ذلك من حرية تأسيس أحزاب سياسية وإعلام حر، فإن مطلب الكرامة، يدرج في مضامينه التوزيع العادل للثروة ومحاربة الهدر والفساد والحق في العمل.

وليست هذه المطالب في نظر الشعوب المنتفضة شيئا زائدا عن الحاجة، بقدر ما تقع في صلب أساسيات الحياة الاجتماعية والسياسية الحديثة، وعدم تحقّقها يعني وضع العوائق أمام المجتمعات العربية للوصول إلى الحداثة والعصرنة، واتساع الفجوة التي تفصل الشعوب العربية عن بقية شعوب العالم، وليست مشكلة العالم العربي في الأشخاص أنفسهم الذين جرت الانتفاضات ضدهم، بقدر ما أن القضية قضية استحقاقات داهمة لم يعد ممكنا تأجيلها في ظل التطورات المتسارعة التي يعيشها العالم فيما لا تزال البلدان العربية ترزح تحت أعباء أنماط من الأزمات والمشاكل تخطتها البشرية من عقود، بما فيها ما كان يسمى بدول العالم الثالث، وبقيت الشعوب العربية، مع بعض الشعوب في قارة أفريقيا، هي الاستثناء في هذا الواقع المتخلف.

مخاطر عدم الاستقرار

شكّل عامل الاستقرار الهاجس الأساس لدى الكثير من الشرائح والفئات العربية وهي تراقب التطورات الساخنة في العالم العربي، وكانت هذه الشرائح تفاضل الاستقرار على مطالب الشعوب، حتى لو كانت تراها محقة، وقد استثمرت النخب الحاكمة في مخاوف هؤلاء وسعت إلى تعميم هذا المنطق، حتى أنه كان شعار ما سمي الثورات المضادة، وخاصة في الدول التي انزلقت فيها الأحداث إلى صراعات حربية” سورية وليبيا واليمن”.

وبنفس المقدار، استثمرت الأنظمة العربية، في الدول التي كانت تتوجس من وصول الانتفاضات لها، أو تلك التي حصلت فيها حراكات مطلبية، استثمرت في هذا الهاجس، وكان منظر الدمار في سورية وقوافل اللاجئين والمشردين يعزّز من موقف أصحاب نظرية أولوية الاستقرار والأمن على المطالب الاجتماعية، على اعتبار أن المطالب يمكن تأجيلها إلى وقت آخر ويمكن تحصيلها بطرائق كثيرة، أما الأوطان إذا ضاعت وذهبت للتقسيم فسيصبح من الصعب إعادتها، كما يغدو الحصول على المطالب أمرا شبه مستحيل، فضلاً عن الفوضى ستأتي ببدائل سلطوية أسوأ بكثير من الأنظمة الحاكمة، وخاصة في ظل انتشار تنظيمات مثل داعش والنصرة والميليشيات الإيرانية.

المنطق في هذه المعادلة يميل لصالح نظرية الاستقرار تحت أي ظرف وتفضيلها على ما عداها من فوضى وخراب، لكن هذا الوضع دفع الكثير من النخب العربية إلى التساؤل عن أسباب اختزال المعادلة العربية السياسية في العالم العربي بين الفوضى المنفلتة والخضوع للسياسات الجائرة لأنظمة الحكم، ولماذا لا يوجد خيار ثالث يتمثل بتحقيق مطالب الشعوب العربية في ظل بيئة آمنة ومستقرة؟. ثم ما هي أسباب الفوضى ومحركاتها ولماذا ابتليت انتفاضات الشعوب العربية بهذه المشكلة؟.

محركات عدم الاستقرار

دخل عامل الاستقرار ضمن لعبة الصراع بين السلطات والمعارضات، وذلك لإدراك الطرفين مدى حساسية هذا العامل بالنسبة لجميع البيئات، التي تؤيد الانتفاضات أو تلك المؤيدة للسلطة.

لقد وفرت جهات سلطوية عديدة في دول الانتفاضات المناخ المناسب للعبث بالاستقرار العام، واستخدمت هذا الوضع لقمع الانتفاضات ودحرها وتجريدها من التعاطف الشعبي معها، كما أنها شرعنت للسلطات استخدام العنف إلى أقصى درجة بذريعة الحفاظ على الأمن والاستقرار.

بالإضافة لذلك، عملت الأجهزة الاستخباراتية، التي ثبت أنها صمّمت هذه الأحداث، أسلوب العبث بالاستقرار، لدفع الجيوش لمواجهة الانتفاضات؛ وضمان عدم توحد الجيش مع الشعب في مواجهة الدوائر التي ترفض التعامل بجدية مع مطالب الشعوب، وكان أفضل طريق للالتفاف على هذه المطالب هو خلق مناخ من الفوضى يثبت أن الانتفاضات ليست على حق، أو حتى إذا كانت كذلك، فإن هناك جهات خارجة عن القوانين استغلتها لتقوم بأعمال منافية للقانون وتهدّد أمن واستقرار الدول.

وكان في تقدير أجهزة المخابرات أن حالة عدم الاستقرار ستكون مضبوطة وتحت سقوف معينة، الهدف منها فقط دعائي، ويمكن تحمل الخسائر التي ستنتجها مرحلة الفوضى هذه، وقد استخدمت هذه الاستراتيجية بوضوح في كل من العراق وسورية، حيث عمدت حكومات البلدين إلى إخراج مئات المساجين الخطرين ليجري لاحقا حقنهم في الحراك وتشويهه، وفي مصر جرت مهاجمة السجون في محاولة لدفع البلاد إلى فوضى عارمة، ضمن لعبة العبث بالاستقرار.

في تجارب الحراكات الجديدة” الجزائر والسودان”، يبدو أن الطرفين أدركا خطورة هذه اللعبة، والمآلات التي وصلت لها في بعض الدول العربية، لذا كان الحراكان أكثر حذرا من السماح لأصحاب الرؤوس الحامية في قيادة الحراك وتحوير أهدافه ومساراته، كما أن سلطات المرحلة الانتقالية تجنبت تجريب هذه الأساليب خوفا من خروج الأوضاع من تحت سيطرتها، وربما أيضا لإدراكها خطورة هذا النهج على أمن واستقرار الدول.

الثورات المضادة

تلعب الثورات المضادة، دورا خطيرا في صناعة حالة عدم الاستقرار، وهي في بلاد الانتفاضات العربية شكّلت الرافد الأساسي في مواجهات السلطات مع الانتفاضات.

وتكونت الثورات المضادة من خليط من الدولة العميقة وأصحاب الامتيازات والمصالح والفئات المتوجسة من الانتفاضات، والذين يعتقدون أن فرصهم في الإثراء ستكون منخفضة إذا تغيّر النظام السياسي الحالي.

ولعلّ من أخطاء الانتفاضات سوء تقدير قوّة الفئات المنضوية تحت لواء الثورات المضادة وحجمهم، ذلك أن الأنظمة التي استقرت في الحكم على مدار عقود طويلة أوجدت فئات وبيئات مرتبطة بها مصلحيا وأيديولوجيا، وقد أبدت هذه الفئات الاستعداد للقتال إلى جانب الأنظمة للدفاع عن مصالحها وامتيازاتها.

كما أنه في البلاد التي تعاني من انقسامات طائفية وإثنية، تميل كفّة الأقليات باتجاه أنظمة الحكم للحفاظ على مكتسباتها، ولخوفها من الفئات الصاعدة، أو البدائل الأخرى، وخاصة إذا استطاعت مكائن الأنظمة الإعلامية التأشير إلى وجود بعد طائفي في الحراك ودفع الأقليات إلى الالتصاق بالنظام الحاكم، كما حصل في سورية.

مشكلة الثورات المضادة أنها تضع الجميع في مأزق سياسي خطير، صحيح أنها في البداية تكون نتيجة دفع الأنظمة وتحريكها، لكنها لا تلبث أن تشكّل عائقا أمام أي تفاوض محتمل بين السلطات والانتفاضات؛ ما يضعف التيارات السلطوية التي لها تقديرات مختلفة، ويجعل الكلمة الفصل لاتخاذ سياسات متشدّدة كنوع من مكافأة الثورة المضادة على إنقاذها للنظام وسحق الانتفاضة.

التخلف الاجتماعي

شكّل عامل التخلف الاجتماعي أحد مصادر تهديد الاستقرار في الدول العربية بعد قيام الانتفاضات، وهذه حقيقة حاولت أدبيات الانتفاضات عدم الإشارة أو التطرق لها باعتبارها أحد المعوقات للعمل الجماعي الثوري لتحقيق المطالب الاجتماعية وانتزاع الحقوق من السلطات التي ترفض الاعتراف بالثورات وتعتبرها أعمال شغب وتخريب.

يتمثّل الخطر الكامن في التخلف الاجتماعي من سهولة تحريف الحراك ودفعه للفوضى، نتيجة عدم خبرة المجتمعات المحلية بإدارة الصراعات السياسية مع السلطات المدرّبة والخبيرة في هذا النمط من الصراعات، حيث يصبح اللجوء للتطرف الوسيلة الأكثر إمكانية في ظل عدم الخبرة في أنماط الاحتجاج الأخرى.

ولعل ما هو أخطر في مسألة التخلف الاجتماعي، الانكفاء إلى المرجعيات الضيقة، القبلية والطائفية، وعدم الالتزام بمرجعية عامة بذريعة أنها لا تعبر عن قيم ومعتقدات الجميع، وأن الاحتماء بالانتماءات القبلية والعائلية والطائفية تقوّي هذه الجهات في مطالبها من السلطات السياسية القادمة، على اعتبار أن الثقة معدومة بأي تيار سياسي مهما رفع من شعارات وتبنى من مطالب.

يضعف التخلف الاجتماعي من قدرات الثورات التساومية في مواجهة السلطات، ذلك أنه يحوّل الحراك إلى حراكات منفصلة وبمطالب مختلفة، وينزع عنها الصفة الوطنية والسياسية، كما أنه يضع الانتفاضة بمجملها في خانة التمردات المحلية أكثر من كونها ثورة وطنية عامة.

ولا يفيد هنا القول أن التخلف الاجتماعي هو استثمار الأنظمة السياسية في المجتمعات العربية، نتيجة سلوكيات مقصودة رسخت من خلالها حالة التخلف الاجتماعي ودعمت هياكله، فبمقدار صدق هذه الحقيقة، إلا أنها يجب أن تكون في صلب تفكير قيادات الحراك كمعطى يتوجب التعامل معه بخصوصية، سواء لجهة عدم تحميل البيئات الاجتماعية ما يفوق قدراتها وطاقاتها، أو لجهة تكييف الشعارات والمطالب بما يتناسب وهذا المعطى الاجتماعي.

عدم بلورة أهداف الثورات

من سمات الانتفاضات العربية، عدم تبلور أشكال نهائية لبنى سياسية أو حزبية تؤطر حراك شباب الثورات، بمعنى عدم وضوح توجهات هذه الثورات في بداية انطلاقها، وتخبطها بحثا عن طريق سياسي تسلكه، ما يفتح الطريق معبدا أمام سطوة الأحزاب الإسلامية التي عملت تحت الأرض، ونظمت نفسها طوال عقود من مواجهتها قمع الأنظمة الشمولية في المنطقة.

إن الطبيعة الشبابية الغالبة على الحراك السياسي العربي، سواء في الانتفاضات الأولى أم الثانية، والاعتماد بشكل رئيس على تكنولوجيا الاتصال ووسائل التواصل الاجتماعي في الحشد والتعبئة خلف شعارات عامة فضفاضة مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة ومحاربة الفساد، من دون وجود برامج سياسية واضحة ومتفق عليها، تتعلق بشكل ومضمون التغيير المطلوب وطبيعته الأيديولوجية، أدى إلى ارتكاب شباب الثورة في الربيع الأول أخطاء كثيرة في التعامل مع قوى الثورة المضادة، ثم مع الجيش ومؤسسات الدولة، إذ تصورت قوى الثورة أنه يمكن تحقيق التغيير والديموقراطية في ضربة واحدة وفي أشهر عدة، وهو الأمر المستحيل نظريا وعمليا، وأقحمهم في صراعات سياسية وأيديولوجية لا طائل منها.

ورغم الشكل الليبرالي لهذه الثورات، إلا أن هذا الشكل لم يتبلور بشكل واضح بعد، إذ أن كل الاحتجاجات حصلت على التفاف جماهيري حولها من كل أطياف المجتمع، ورغم أن مطالب الثوار انصبت على إصلاح النظم السياسية، من خلال تبني منظومات المفاهيم الديمقراطية بشكلها الغربي، من حيث المطالبة بانتخابات تمتاز بالشفافية ومراقبة القضاء لها، وأن الوصول للحكم لن يكون إلا عبر صناديق الاقتراع، إلا أن ذلك لم يبعد التيارات الإسلامية عنها، وكانت خطوة تكتيكية لاستثمار فورة الثورة من قبل هذه الأحزاب في مجتمعاتها المتزلزلة.

التحديات الواقعة

لا شك أن التغيير الثوري بعد عقود من الاستبداد عملية صعبة ومعقّدة، ذلك أن الانتقال لحالة جديدة يحتاج إلى تطوير في أدوات التفكير والحكم ويحتاج إلى بناء مؤسسات كما أنه يحتاج لتضحيات وخسائر أيضا، ويكمن التحدي الأكبر في معضلة بناء المؤسسات، وترسيخ التقاليد الديمقراطية، وتطوير المجتمع نحو المسار الديمقراطي دون خسائر كبيرة أو دون الدخول في صراعات جديدة.

و بنفس الوقت أرادت الشعوب أن تخوض تجربة واضحة مع الإصلاح السياسي في جميع الأنظمة العربية بما يأخذها نحو ضمانات حقوقية وحريات وعدالة اجتماعية، لكن الظروف الموضوعية والتجربة المكتنزة في صفوف قوى الإصلاح لم تكن مهيأة لهذا التحول مما أدى بالحالة العربية نحو المراوحة والتراجع.

ما الحل؟.

تعزيز اهتمام الحكومات والأحزاب والمجتمع المدني بالعدالة الاجتماعية بحيث يجب أن يكون اهتمامها جميعا انطلاقا من نظرتها إلى العدالة الاجتماعية باعتبارها الغاية القصوى من الثورة لأنها تعني التغيير الأساسي في أنماط حياة الشعب ومستوى معيشته. وهي هدف الثورات الأهم والأعظم الذي يضمن إزالة الأسباب المولدة للاحتجاجات والانتفاضات المستمرة وإقامة واقع ثوري تستند إليه جماهير الشعب في أدائها لأعمالها على النحو الذي يضمن الاستقرار. ومن بين شروط الاستقرار تحقق المساواة في أكثر أشكالها عدالة. وبدون هذا الاستقرار الذي تكفله عدالة اجتماعية يبقى الوطن في حالة الغليان التي تسبق الثورة وتجعلها حتمية مع مرور الوقت .

ومن مصلحة النخب السياسية في العالم العربي أن تعي المعادلة التالية، فرض الخضوع ليس حلا ولا يعني زوال الخطر، الاستقرار على هذه الشاكلة هو نوع من تمرير الوقت وإطالة الأزمة وتضخيم الأثمان.

اظهر المزيد

غازي دحمان

كــاتب ســـوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى