يكاد المشروعان (التركي، والإيراني) يتشابهان في كل شيء، إن لجهة الحجم أو القدرات أو الطموحات.
تمتاز إيران بموقع جغرافي إستراتيجي بامتياز في نقطة تقاطع إقليمي ودولي تضم (الشرق الأوسط، والمشرق العربي، والمحيط الهندي، وآسيا الوسطى، ومحيط بحر قزوين، وتركيا).
وتكاد تركيا تضاهيها أهمية الموقع إذ تتوسط (أوروبا، والعالم السلافي، والبلقان، والقوقاز، وآسيا الوسطى، والشرق الأوسط، وشرق المتوسط).
وفي الأهمية الإستراتيجية المتبادلة فإن إيران بوابة تركيا الجغرافية إلى آسيا وآسيا الوسطى، فيما تركيا هي بوابة إيران البرية إلى أوروبا.
وتتشابه الدولتان لجهة عدد السكان والقدرات البشرية، فسكان كل منهما 85 مليونًا فيما يمتازان بكبر مساحتهما(مساحة إيران مليون و650 ألف كم2 ومساحة تركيا حوالي 783 ألف كم2 )، كذلك فإن المجتمعين (التركي، والايراني) يعتبران شابين حيث تزيد نسبة فئة الشباب واليد العاملة، كما تعتبر المرأة من العناصر المهمة المنتجة. أما على صعيد الموارد الطبيعية، فإن إيران تمتاز بثروات نفطية كبيرة جدًا تفتقدها تركيا التي تحاول على قدم وساق محاولات التنقيب عن النفط والغاز في مياهها الاقتصادية الخالصة في شرق المتوسط والبحر الأسود.
تتشابه الدولتان لجهة التنوع السكاني وتعدد الانتماءات (العرقية، والدينية، والمذهبية) فيما تختلفان لجهة طبيعة هذه الانتماءات. غالبية السكان في تركيا من العرق التركي مع أقليات كردية (خمس السكان) فيما الغالبية في إيران من العرق الفارسي مع أقليات وازنة من أصل أذري وأخرى من أصل كردي. ولجهة الانتماء المذهبي فإن الغالبية في تركيا من السنة مع أقلية وازنة علوية، بينما الغالبية في إيران من الشيعة مع أقلية سنيّة وازنة.
وفي السياسات الخارجية تتعارض اتجاهات كلا البلدين بين انتماء لتركيا إلى حلف شمال الأطلسي والتطلع لتكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي وبين وقوف إيران في صف معاداة الحلف الأطلسي والسياسات الغربية في المنطقة والعالم والتنسيق الممكن مع دول مشرقية مثل (روسيا، والصين)، لكن الاختلاف جذري في مسألة الاعتراف التركي بإسرائيل ووجود علاقات متقدمة معها فيما تعتبر إيران أن وجود إسرائيل باطل من أساسه ويجب اقتلاعه.
وفي محصلة عامة فإن البلدين يتوازنان تلقائيًّا لجهة (الأهمية الجغرافية، والقدرات البشرية والعسكرية، والماضي التاريخي، والتطلع خارج الحدود) بحيث شكل هذا التوازن منذ عقود طويلة ولا يزال رادعًا لأي منهما لعدم الارتطام بالآخر وجهًا لوجه مع فتح الصراع على مصراعيه في “الساحات الثالثة”.
تعتبر الحدود الحالية بين (تركيا، وإيران) جزءًا من أقدم الحدود بين بلدين في الشرق الأوسط . وبعد سنوات قليلة من اعتناق إيران القاجارية (المذهب الشيعي في عهد الشاه إسماعيل في نهاية القرن الخامس عشر)، كان السلطان العثماني “سليم الأول” يدخل في حرب استباقية ضد إيران “الجديدة” دفاعًا عن الموقع السنّي للسلطنة، ويغزوها وينتصر عليها في واحدة من أشهر المعارك بين البلدين وفي المنطقة وهي موقعة “تشالديران” في العام 1514؛ حيث احتل سليم الأول العاصمة الإيرانية “تبريز” قبل أن يضطر بعد فترة قصيرة للانسحاب منها ومن أجزاء من (كردستان، وأذربيجان، والعراق). وتبع المعركة ضد الصفويين غزو العثمانيين بقيادة سليم الأول نفسه لـ(بلاد الشام، وشمال إفريقيا) في العامين (1516 ، 1517).
لم تُنهِ معركة تشالديران الصراع بين (العثمانيين، والصفويين)، بل استمر الصراع أكثر من مئة وعشرين سنة عندما اتفق الطرفان العثماني بقيادة السلطان “مراد الرابع”، والصفوي بقيادة “الشاه عباس” في قصر بمنطقة شيرين جنوب شرق كركوك _على التصالح وتقاسم الأراضي فيما عرف باتفاقية “قصر شيرين”، وعند الإيرانيين عرفت باسم اتفاقية “ذهاب”، وذلك في العام 1639، وقد ضمت أذربيجان إلى إيران، والعراق إلى تركيا مع ترسيم للحدود بين (تركيا، وإيران) يطابق حتى الآن الجزء المتبقي من الحدود بينهما. وهذا يعتبر سابقة إذ- تبعًا لذلك- تكون الحدود الأقدم بين دولتين في منطقة الشرق الأوسط من دون أن يعني ذلك أن الاتفاقية أنهت الخلافات الحدودية بينهما.
ويسجل لتركيا وإيران أن الخلافات التي كانت تحصل بينهما في العصر الحديث حول الحدود كانت تُحل سلميًّا من دون حروب، ومن الطبيعي أن يسجل تاريخ إعلان الجمهورية في تركيا بداية مرحلة جديدة من العلاقات بينهما؛ إذ طوى البلدان، مع تأسيس الجمهورية العلمانية عام 1923 مرحلة الصراع على أساس مذهبي كما كانت في العهد العثماني، مع استمرار النزعة المذهبية حاضرة ضمنًا في العلاقات بين البلدين.
وعلى الرغم من أن السياسة الخارجية للبلدين على امتداد ما بعد الحرب الباردة كانت منسجمة إجمالًا بينهما باعتبار أنهما ينسجمان مع السياسات الغربية في المنطقة في مواجهة الشيوعية والاتحاد السوفيتي، غير أن التطلعات القومية لكل بلد والسعي لتصدر مشهد الهيمنة والنفوذ في المنطقة كانت تبرز كعوامل للتنافس بينهما على الصعيدين الثنائي وفي المنطقة.
ولا شك أن العام 1979، يعتبر محطة مفصلية أولى في تحديد طبيعة العلاقات بين البلدين؛ حيث قامت الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني، ورفعت شعار الدولة الإسلامية الدينية، لكن العمل على “تصدير الثورة” إلى الدول المجاورة من جهة واتخاذ الثورة شعار العداء للغرب وإسرائيل_ كان السبب في استنفار القوى المستعدة لمواجهة الثورة، ولا سيما العراق بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين، وكانت تركيا العلمانية – العسكرية كذلك من أبرز الدول المتوجسة من قيام الثورة فكانت حساسيات العلاقة بين (أنقرة، وطهران) تظهر من وقت لآخر، وأبرز مثال على ذلك هو أن التصدي للثورة الإسلامية كان من أبرز أسباب الانقلاب الدموي الذي قام به رئيس الأركان “كنعان إيفرين” في 12 أيلول 1980. مع ذلك وفي موازاة ذلك لم ينقطع التواصل بين البلدين، وتوقيع اتفاقيات تعاون اقتصادية ونفطية في عهود رؤساء الحكومة (طورغوت أوزال، وطانسو تشيللر، ونجم الدين أربكان).
وجاء وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا عام 2002 محطة مفصلية ثانية في العلاقات مع إيران، فلم يكن الأمر في تركيا مجرد تناوب بين أحزاب على السلطة، بل كان حزب العدالة والتنمية يحمل مشروعًا مثقلًا بالنزعة الإسلامية المذهبية الإخوانية والنزعة العثمانية، وهو ما يستظهر نموذجًا معاكسًا بل مضادًا للنموذج الإسلامي الإيراني الشيعي، وبِتنا للمرة الأولى في تاريخ البلدين وفي فترة متزامنة أمام نموذجين أيديولوجيين متضادين يحملان في الوقت نفسه أهدافًا داخلية وتطلعات خارجية: النموذج الإسلامي الشيعي الإيراني، والنموذج الإسلامي السني (الإخواني)العثماني التركي.
وهذا بخلاف المراحل السابقة لكل منهما، فعهد الشاهنشاهية كان يحمل إرثًا إمبراطوريًّا فارسيًّا ولكنه لم يكن يعمل على صياغة المجتمع على أساس عقائدي محدد. وفي الخارج كان يكتفي بالتناغم مع السياسات الغربية- الأمريكية من دون التطلع إلى نشر أيديولوجية محددة في الدول المجاورة مثلًا.
أيضًا ومع أن العهود الكمالية في تركيا كانت أكثر تشددًا في محاولة خلق نموذج كمالي قومي- علماني لدى الفرد التركي، لكن ذلك كان يواجه بتمردات واعتراضات واسعة في الداخل. وفي الخارج لم يكن يحمل الكماليون مشروعًا موحدًا ولا هدفًا محددًا لنشر الكمالية في الدول المجاورة، وكانت الكمالية تكتفي بإظهار التبعية للسياسات الغربية والأطلسية وبكونها “جندي” الناتو في معظم القضايا خلا (اليونان، وقبرص)، بل كانت علاقاتها مع معظم الدول علاقات الند للند دون التدخل السافر في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
جاءت الثورة الإسلامية في إيران بمشروع إسلامي متكامل وواضح: صوغ الفرد الإيراني وفقًا لمبادئ الإسلام الشيعي في الداخل. وفي الخارج عملت على الترويج للثورة حيثما أمكن، لكن التركيز كان بطبيعة الحال في المجتمعات التي تتواجد فيها جماعات تنتمي إلى المذهب الشيعي مثل: (العراق، ولبنان، واليمن، ونسبيًّا سوريا)، لكن ما ميز السلوك الخارجي للمشروع الإيراني أنه كان معاديًا ومعارضًا للسياسات الغربية في المنطقة، ويرفض وجود إسرائيل من أساسه ومن هنا كان الدعم الإيراني للثورة الفلسطينية وفصائلها بـ(المال، والسلاح، والتدريب، والخبرات)، وهذا بالتحديد كان عائقًا أمام تمدد الثورة في الخارج في بعض البلدان حين عملت الولايات المتحدة على توظيف البلدان والقوى التي تجد نفسها متضررة من مثل هذا المشروع لمواجهته مستخدمة النزعات المختلفة وفي رأسها النزعة المذهبية والتوجهات السياسية.
في المقابل اختلفت الظروف الداخلية التي جاء فيها حزب العدالة والتنمية إلى السلطة، فقد عمل الحزب بقيادة “رجب طيب أردوغان” على محاولة تجاوز الخطوط التي كان يرسمها الغرب لحدود الدور التركي، ورأى الحزب نفسه مولجًا بمهمة انتشار الأيديولوجيا التي يحملها عبر التركيز على كسر الهوية العلمانية – العسكرية في الداخل لصالح هوية أقل علمانية وأكثر إسلامية، وفي الخارج رفع الحزب شعارًا ضمنيًا هو العثمانية الجديدة أي عودة نشر النفوذ التركي في المناطق التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وقد التمست أنقرة في ذلك شعارًا علنيًّا هو “صفر مشكلات” الذي مكنها في السنوات الأولى من السلطة من فتح الأبواب وهدم الجدران بينها وبين معظم الدول الجارة في العالم العربي والإسلامي وحتى المسيحي مثل: (أرمينيا، واليونان، وقبرص نفسها).
كان للمسعى الانتشاري لحزب العدالة والتنمية نتائج مباشرة، وهي الاصطدام مع المشاريع التي تقف على طرفي نقيض منه مثل: الإسلام الوهابي في السعودية، والإسلام الأزهري في مصر كما الأنظمة القومية مثل سوريا.
ساحات الاشتباك:
كان الاصطدام بين المشروعين (الإيراني، والتركي) طبيعيًّا في المناطق والبلدان التي يعتبرها كل طرف ساحة نفوذ له.
- تبرز سوريا ساحة الاشتباك الأبرز بين المشروعين (التركي، والإيراني)، ولطالما كانت سوريا بقيادة الرئيس الراحل “حافظ الأسد”، ومن ثم نجله بشار الأسد_حليفًا إستراتيجيًّا لإيران بعد قيام الثورة، غير أن انفجار ما سُمي بالربيع العربي كان نقطة تحول في سياسة تركيا التي عملت على محاولة الإطاحة بالأسد، وإقامة نظام موال لها في دمشق، ودعمت تركيا المعارضة المسلحة في سوريا، ووفرت لها كل سبل الحركة. وفي العام 2016 انتقلت تركيا إلى التدخل العسكري المباشر، واحتلت أجزاءً من الشمال الغربي لسوريا، وهذا كان بالطبع تهديدًا كبيرًا للنفوذ الإيراني في سوريا، الذي يشكل حرمانها من الحلف مع سوريا ضربة خطيرة لمشاريعها الإقليمية -ولا سيما في مواجهة الغرب- ودعم حلفائها في لبنان، وكسر ما سمَّاه مرة الملك عبدالله الأردني “الهلال الشيعي” الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، وقد نجحت طهران في إفشال المخطط التركي في سوريا ومنعت النظام من السقوط وسوريا من أن تتحول إلى ساحة معادية لإيران.
مع ذلك فقد فرضت التوازنات الإقليمية والدولية في مراحل متعددة ومتأخرة من الأزمة في سوريا تعاونًا وتنسيقًا بين (تركيا، وإيران) ومنها ما سمي بـ”منصة أستانا” للحل في سوريا، التي ضمت (تركيا، وإيران، وروسيا)، من دون أن يلغي ذلك استمرارًا لتعارض الرئيس بين المشروعين.
- شكل العراق ساحة ثانية للاشتباك بين المشروعين (التركي، والإيراني)، وبدا العراق بغالبيته الشيعية ساحة “سهلة” للنفوذ الإيراني بعد إسقاط صدام واحتلال أمريكا له، لكن هذا كان مظهرًا خادعًا؛ إذ إن تفرق الفئات الشيعية ودعم الولايات المتحدة وتركيا للفئات السنية في العراق، ومن ثم دعم الولايات المتحدة لقيام فيدرالية كردية _أربك المشروعين (الإيراني، والتركي)، وحالَ دون أن يتمكن أحدهما من احتكار النفوذ مع أرجحية نسبية بسبب الثِقَل الشيعي للدور الإيراني، وعلى الرَّغم من التنافس بين (طهران، وأنقرة) فإن البلدين تجمعهما في العراق “الحساسية الكردية”، ومعارضتهما أي محاولة كردية تصل إلى حد الاستقلال عن المركز (بغداد) نظرًا لتأثير أي محاولة استقلالية في العراق على وضع الأكراد في (تركيا، وإيران)، الذين يطالبون بالانفصال عن مركزيهما.
- يشكل لبنان أيضًا ساحة لتنافس قديم لإيران من خلال الشيعة فيه وخصوصًا حزب الله ودخول مستجد مع حزب العدالة والتنمية إلى الساحة اللبنانية، غير أن تركيا تفتقد الركيزة الصلبة في لبنان في مواجهة إيران؛ نظرًا لأن الغالبية السنية في لبنان تميل إلى السعودية وليس إلى تركيا بل يمكن القول إن الساحة اللبنانية يمكن أن تكون في ظرف معين ساحة للتنافس بين المشروع التركي والدور السعودي نفسيهما.
- تعتبر منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية ساحة للصراع بين المشروعين (الإيراني، والسعودي)، ويمكن أن تشكل هذه الساحة مجالًا للتعاون أو التنافس بين تركيا والمشروعين (الإيراني، والسعودي) تبعًا لتوازنات القوى، وقد وجدنا في مرحلة الخلاف القطري مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر كيف أن التعاون الإيراني- التركي عرف تنسيقًا واضحًا لمواجهة الضغوط السعودية تحديدًا.
- يحتل دعم القضية الفلسطينية موقعًا مركزيًّا في سياسة إيران الخارجية، وقد وفرت إيران كل الدعم (المالي، والمسلح، والتدريب، والخبرات) من أجل دعم الفصائل الفلسطينية التي تؤمن بخيار المقاومة ضد إسرائيل والاحتلال الإسرائيلي، انطلاقًا من مبدئية أن إسرائيل كيان دخيل ومغتصب لحقوق الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية، في حين أن تركيا كانت أول دولة مسلمة تعترف بإسرائيل في العام 1949، وتتبادل معها السفراء وتقيم علاقات قوية على مختلف الأصعدة، ولم يتغير هذا الأمر بعد وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 إلى السلطة، حيث استمرت العلاقات قوية بل ازدادت قوة بإلقاء الرئيس الإسرائيلي “شمعون بيريز” خطابًا هو الأول لمسؤول إسرائيلي أمام البرلمان التركي في العام 2007، وقد حاولت تركيا أن “تسحب” ورقة القضية الفلسطينية من تحت أقدام إيران مع الدعم التركي لتنظيم حماس التابع لجماعات الإخوان المسلمين، غير أن إعادة التطبيع بين (تركيا، وإسرائيل) في العام 2022 دفع بالرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ليصف العمليات الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في نيسان/إبريل 2022، وفي مطلع العام 2023 بـ “الإرهابية والشنيعة” وبالرضوخ لمطالب إسرائيل بالتضييق على حركة كوادر الإخوان المسلمين في تركيا مقابل تسهيل عملية التطبيع بين البلدين. ويمكن القول إن التباين في مستوى الدعم للقضية الفلسطينية يجعل لإيران أرجحية واضحة في تعزيز نفوذها في المنطقة من البوابة الفلسطينية.
- تعتبر القوقاز -ولا سيما الجنوبي منه- واحدة من أبرز ساحات التنافس بين المشروعين (الإيراني، والتركي)، ويبدأ التباين بين (إيران، وتركيا) بعد تفكك الاتحاد السوفيتي؛ حيث استقلت جمهوريات القوقاز عن الاتحاد السوفيتي، وظهرت جمهوريات ذات مشارب دينية وقومية متصارعة مثل: (أذربيجان، وأرمينيا)، وقد تغلبت النزعة القومية التركية في أذربيجان على النزعة الشيعية التي تدين بها الغالبية الساحقة من الأذريين، كون جمهورية أذربيجان تشكل القسم الشمالي من أذربيجان التاريخية، التي يقع قسمها الجنوبي في إيران، التي كانت تسيطر أيضًا حتى أواخر القرن التاسع عشر على القسم الشمالي منها. وقد نجحت الولايات المتحدة ومعها تركيا بجذب أذربيجان في مطلع التسعينيات من القرن العشرين إلى جانب المعسكر الغربي ضد النفوذ الإيراني التي وجدت نفسها تقدم-مع روسيا الاتحادية-الدعم لجمهورية أرمينيا، وتحول جنوب القوقاز إلى ساحة تنافس شديد بين (تركيا، وإيران). وفي خريف 2020 انفجرت حرب واسعة بين أذربيجان وبين أرمينيا، وفي حين امتنعت روسيا عن دعم الأرمن؛ لخلافها مع توجهات رئيس الحكومة الأرمنية الموالية للغرب “نيكول باشينيان”، ولم تستطع إيران دعم أرمينيا عمليًّا_ كانت تركيا تقدم الدعم العسكري والخبرات للأذريين الذين انتصروا في الحرب ووقعوا اتفاقًا في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 كان بمثابة استسلام كامل لأرمينيا. ومن بين بنود الاتفاق: فتح ممر زينغيزور البري بين تركيا ونخجوان إلى أذربيجان عبر الأراضي الأرمنية، وهذا الممر يعني تجنب الشاحنات التركية المرور عبر الأراضي الإيرانية للوصول إلى أذربيجان ومنها إلى آسيا الوسطى ما يعتبر خسارة تجارية وجيوبوليتيكية لإيران لصالح تركيا. كذلك عمل الرئيس التركي “أردوغان”على إثارة الحساسيات الأذربيجانية بين (باكو، وطهران) بالتذكير إلى أن أذربيجان كانت أرضًا موحدة، الأمر الذي اعتبرته إيران لعبًا بالحساسيات القومية والأمن القومي الإيراني. وفي ظل استمرار الدعم الإيراني لأرمينيا، والتركي لأذربيجان وعدم حل الصراع الأذري- الأرمني بشكلٍ نهائي، فإن القوقاز الجنوبي سيستمر في كونه إحدى الساحات الأساسية للتنافس التركي- الإيراني.
- وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي انكشف في آسيا الوسطى وأذربيجان عالم تركي من الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي، وكانت الانتماءات (القومية، والثقافية، واللغوية) المشتركة لهذه الجمهوريات وهي (تركمانستان، وأوزبكستان، وكازاخستان، فضلًا عن أذربيجان)، مع تركيا عاملًا مرجحًا لتمدد النفوذ التركي في هذه المنطقة التي تعتبرها إيران جغرافيًّا وثقافيًّا امتدادًا طبيعيًّا لتأثيرات الثقافة الفارسية ومجالًا حيويًّا لحضورها الجيوبوليتكي. وكان عمل تركيا لإقامة اتحاد للدول الناطقة باللغة التركية بين هذه الدول مثار توجس إيران كما الاتحاد الروسي، وعلى الرغم من أن التوجهات السياسية لمعظم دول هذه الرابطة كان قريبًا من روسيا والانخراط معها في تجمعات سياسية وهو ما يقلل من مخاوف إيران، غير أن القاعدة الثقافية واللغوية المشتركة لهذه الدول مع تركيا تُبقي إيران قيد الحذر والتوجس مما قد يخبئه المستقبل من تيارات واتجاهات في المستقبل في تنافسها مع تركيا في هذه المنطقة.
خلاصات:
على الرغم من كل هذه التباينات والخلافات بين(تركيا، وإيران) يمكن ملاحظة ما يلي:
- إن تركيا وإيران اليوم ومنذ اتفاقية قصر شيرين في العام 1639 حرصتا على أن تبقى الصراعات بينهما في إطار معقول من دون أن يتحول إلى صدام واسع، كما كان في العهدين (العثماني، والصفوي) قبل الاتفاقية.
- حرَص البلدان على تسوية أي خلافات في العصر الحديث بعد تأسيس الجمهورية في تركيا عام 1923 في إطار التفاوض السلمي.
- لم تنعكس القضايا الخلافية على رغبة الطرفين مواصلة تطوير العلاقات الثنائية وعلى جميع الأصعدة واستمرار تبادل زيارات المسؤولين على أعلى مستوى.
- كان وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 فرصة للتقارب كما للتصادم بين المشروعين (التركي، والإيراني)، فقد كانت الخاصية الإسلامية المشتركة بين المشروعين (التركي، والإيراني)، واختلافهما مع المشروع الوهابي عاملًا في التقريب بين (أنقرة، وطهران)-خصوصًا أن قادة الثورة الإسلامية في إيران كانوا يكنون الإعجاب لفكر قادة الإخوان المسلمين ولا سيما سيد قطب.
- كان لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة والسياسات الخارجية التي اتبعها سواء قبل الربيع العربي أم بعده تداعيات ساعدت على تغييرات في العلاقات الدولية، ومنها المزيد من التقارب التركي مع (روسيا، وإيران) والمزيد من التباعد بين (تركيا، والولايات المتحدة)، وهذا كان عاملًا في تجاوز تركيا للعقوبات الغربية على إيران -ولا سيما في الملف النووي وتقديم المساعدة لإيران، كذلك كانت المسألة الكردية عاملًا مشتركًا للتقارب بين (إيران، وتركيا) اللتين تعارضان النزعة الانفصالية الكردية سواء في إيران أو تركيا.
وقد انعكس هذا التقارب أيضًا في وقوف إيران إلى جانب أردوغان في أثناء المحاولة الانقلابية ضده في العام 2016، كما شاع أن إيران قدمت معلومات ومساعدات-مع روسيا أيضًا-لمواجهة المحاولة الانقلابية.
أيضًا تعاونت إيران وتركيا- من خلال منصة أستانا التي ضمتهما إلى روسيا- على توفير المزيد من الظروف للتهدئة في الحرب في سوريا والتقريب بين (أنقرة، ودمشق) يحدوهما معارضة الحركة الكردية في سوريا والوجود العسكري الأمريكي في شمال شرق الفرات، والذي تعتبره تركيا تهديدًا لأمنها القومي عندما يقدم المساعدة لقوات الحماية الكردية هناك.
إن “توازن الرعب” بين تركيا وإيران عامل شديد الأهمية في تنظيم التعاون كما الخلاف بينهما؛ لأن أي صدام ثنائي يعني تدميرًا شاملًا لكل منهما، لكن هذا التوازن المرعب ليس سوى الوجه الآخر من الميدالية المتمظهرة في التعاون إلى الحد الأقصى الممكن على كل الأصعدة، وهو الذي يدفع لاختصار العلاقة بين البلدين والمشروعين بالتعاون الواسع على الصعيد الثنائي المباشر، والتنافس الواسع أيضًا في الساحات الثالثة، وهذا يشكل حالة فريدة في العلاقات بين نموذجين ومشروعين يتناقضان ويتنافسان في كل شيء، لكنهما مستعدان أيضًا للتعاون في كل شيء.