يسّتل المأزق الفلسطيني الرّاهن أبعادّه الثقيلة من مدَاميكَ تحديات داخلية وخارجية مضادّة لمسّار التقدّم المنشود في معركة نيّل الحقوق الوطنية المشروعة، ولكنها موازّية لمفاعيل التأيّيد العربيّ الوازّن والتفهم الدوليّ العابرّ لفضاءات ممتدّة ومناصرّة للقضية الفلسطينية، ما يخلق معادلة صعبة حول سبل التعاطي والمعالجة، في ظل انسّداد الأفق السياسيّ، وتدهور الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتجدّ التحديات المعتبرّة مواطنها السلبيّة في تراجع موقف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن مواقف أميركية رسميّة باتت تقليدية بالنسبة للقضية الفلسطينية، وفي التعنت الإسرائيلي من عملية السلام، مصحوباً بانتهاكات صارخة لقرارات الشرعية الدولية ودأبٍ متواتّر لفرض وقائع مغايرة في الأراضي المحتلة، تماهياً مع مساعي صياغة ترتيبات إقليمية ودولية مرتبطة باشتراطات “عملية التسوية السلمية”، عبر نسختها المستحدثة باسم “صفقة القرن”، فيما يكمن التحدي الداخلي الأبرز في استمرار الانقسام الفلسطيني، الممتدّ منذ العام 2007، وتعثّر خطوات تحقيق الوحدة الوطنيّة القادرّة على صدّ محاولات تصفيّة القضية الفلسطينية.
وبالرغم من انتحّاء القيادة الفلسطينية لجانب قرارات سياسية وقانونية ودبلوماسية مهمة، صدرت مؤخراً، بغية الخروج من الأزمة الحالية، وسط انتقادات قوى وفصائل وطنية لناصيتيّ المماطلة وغياب الاجماع، إلا أن مسألة الموازنة بين مواجهة التحديات من جهة، واستثمار العوامل الإيجابية من جهة أخرى، تتطلب إعمال المراجعة الشاملة وفق استراتيجية وطنيّة موحدّة، غير موجودة حالياً.
التحديات المضادّة للقضية الفلسطينية
أولاً: موقف الإدارة الأمريكية من القضية الفلسطينية
تشهد العلاقات الفلسطينية – الأمريكية توتراً غير مسبوق، بلغ حدّ القطيعة، نظير القرارات التي اتخذها الرئيس ترامب، منذ وصوله سدّة رئاسة البيت الأبيض، حول قضايا أساسيّة مُدّرجة في إطار مفاوضات الوضع النهائي، ما شكل انحيازاً أمريكياً للاحتلال الإسرائيلي على حساب الحقوق الوطنية الفلسطينية، وذلك عند إعلانه، في 6 ديسمبر 2017، اعتراف إدارته “بالقدس عاصمة لإسرائيل”، بجانبيّها الشرقيّ والغربيّ، ونقل سفارة بلاده إليها، عشية ذكرى “النكبة” الفلسطينية في 15 مايو 2018، بما عدَّ قطيعة مع سبعة عقود من السياسة الأميركية التقليدية نحو القدس المحتلة، ومن ثم استخدمت الولايات المتحدة، في ديسمبر 2017، حق النقض “الفيتو” ضدّ مشروع قرار لمجلس الأمن، تقدمت به مصر، لحماية وضع القدس ووقف قرار ترامب، الذي جوبّه برفض اقليمي ودولي، حينما تم تأييده من 14 عضواً، مما يشيّ بموقف واشنطن الإنعزالي من طريقة إدارتها للصراع العربي- الإسرائيلي.
واستكملت الإدارة الأمريكية موقفها المضادّ؛ عبر وقف تمويل ميزانية وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، في 30 أغسطس 2018، والمقدّرة بنحو 360 مليون دولار سنوياً والمّمثلة لثلثيّ ميزانيتها السنوّية، وحجّب 20 مليون دولار عن مشافي القدس المحتلة، في 8 سبتمبر 2018، بما شكل تهديداً لاستمرار عمل القسم ألأكبر منها، وتجميد 10 ملايين دولار من أموال مساعداتها المخصّصة لدعم مشاريع فلسطينية شبابية، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، في 10 سبتمبر 2018، على خلفية تنديدها بجهود السلطة الفلسطينية ضمن المسار القانوني في المحكمة الجنائية الدولية، منذ مايو الماضي، بطلب فتح تحقيق شامل في الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بالأراضي المحتلة.
إن قرارات ترامب تستهدف استبعاد قضيتيّ القدس واللاجئين الفلسطينيين عن طاولة المفاوضات، تماهياً مع محاولات تجفيف موارد “الأونروا” تمهيداً لتصفيتها أو تسليم مهامها إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والضغط على الفلسطينيين لاستئناف المفاوضات، إزاء موقفهم الرافض لاستئنافها بدون توفر مرجعية دولية واضحة وسقف زمني محدد لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية وفق حدود عام 1967 وعاصمتها القدس المحتلة، التي تحظى بدعم دولي، وحق العودة وفق القرار الدولي 194، فضلاً عن مناهضة التفرد الأميركي بملف عملية السلام.
ووسط تلك الأجواء القاتمة؛ تتواترّ المحاولات الأمريكية – الإسرائيلية لفرّض ما يسمى “صفقة القرن”، التي تستهدف إقامة حكم فلسطيني ذاتي محدود في أقل من 20% من حجم المساحة الإجمالية المتبقية في الضفة الغربية، بالإضافة إلى قطاع غزة، معنيّ بالشؤون الحياتية للسكان، بإستثناء الأمن والسيادة الموكلتين لسلطات الاحتلال، وضّم المستوطنات إليها، وإبقاء منطقة الأغوار تحت سيطرتها، لما تشكله من أهمية استراتيجية وازّنة في المنظور الإسرائيلي، وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين، مع إمكانية السماح بعودة بضعة آلاف منهم وفق إطار ما يُعرف “لم شمّل العائلات”، عدا استبعاد قضية القدس عن طاولة مفاوضات المرحلة النهائية.
ثانياً: الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة
إن انتهاكات سلطات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، عبر الاستيطان والتهويد والقتل ومصادرة الأراضي وهدم المنازل، لجهة حرمان الفلسطينيين من إقامة دولتهم المنشودة، من شأنها أن تخلق تحديات حقيقية أمام الإنسان الفلسطيني، وتساهم في تدهور الأوضاع بالأراضي الفلسطينية، وإضعاف السلطة الفلسطينية، مثلما تؤدي إلى الآتي:
- إن التعنت الإسرائيلي من عملية السلام، مع محاولة إثبات عدم وجود شريك فلسطيني حقيقي للمفاوضات، والسعي لتوظيف حالة الفراغ الدبلوماسي الناجم عن غياب محادثات سلام جادّة في ترسيخ الوقائع المغايرة والمنتهكة لقرارات الشرعية الدولية وللقانون الدولي، لن يدفع باتجاه أي حلّ عادل يحفظ الأمن ويؤدي إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ولكنه يسّهم في تجميد الوضع الراهن.
- إن “حل الدولتين” لم يعد ممكناً اليوم؛ فبالرغم من دعم المجتمع الدولي لإقامة الدولة الفلسطينية، إلا أن الواقع الميداني يجعل من إقامتها أمراً مستحيلاً، في ظل سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تقضي على امكانية قيام دولة فلسطينية، إزاء قضمّ نحو 80% من مساحة الضفة الغربية، وترك نحو 20% فقط منها، وأقل من 13% من القدس المحتلة، بيدّ الفلسطينيين، والتي تمتد ضمن ثمانية “كانتونات” غير متصلة جغرافياً، بينما يحكم الاحتلال السيطرة على المناطق المسماة “ج”، وفق تصنيف “أوسلو”، والتي تشكل 62% من مساحة الضفة الغربية، بما تحويه من إمكانيات استثمارية وطبيعية واقتصادية، يقع 90% من غور الأردن ضمنها، وتضم أقل من 150 ألف فلسطيني مقابل 310 آلاف مستوطن ضمن 124 مستوطنة و100 موقع استيطاني.
وإذا أضفنا لذلك أن 23% من الضفة الغربية تُعد مناطق عسكرية مقفلة أو محميات طبيعية، وأن 44% منها داخل منطقة “ج” غير مسموح بالبناء فيها للفلسطينيين، لأدركنا قتامة الصورة.
- إن بديل “حل الدولتين” في الواقع الحالي ليس حلا بالضرورة، بل واقع سياسي يتمثل في استمرار الاستيطان وضم أجزاء من المنطقة “ج” للجانب الإسرائيلي، والحفاظ على سلطةٍ منقوصة السيادة في الضفة الغربية، وأخرى محاصرة في غزة. أما “حل الدولة الواحدة” فإنه يعدّ نقيضاً لركائز فكر المشروع الصهيوني، وهاجساً للمنظور الإسرائيلي، لاسيما البعد الديمغرافي منه وتحسباً لإحتمال أن تدفع السياسة الفلسطينية في هذا الإتجاه، فأن سلطات تسعي الاحتلال لإبعاد شبحه عن طريق الاستيطان، ومصادرة الأراضي، وطرح مشروع ضمّ الضفة الغربية للسيادة الإسرائيلية.
- إن حل السلطة الفلسطينية ليس مطروحاً، من الفلسطينيين ومن المجتمع الدولي، بسبب تبعاته السلبية، إلا أن الإجراءات الأمريكية والإسرائيلية قد تدفع بانهيارها، وسط مساعي الاحتلال الإسرائيلي لأن تكون نواة للحكم الذاتي المحدود وليس تمهيداً للدولة الفلسطينية، إزاء انخراط زهاء 172 ألف موظف من مدنيين وعسكريين ضمن إطارها، وفي ظل عقيدة أمنية استثنائية لسلطة لا تملك جيشاً ومقيدّة أمنياً، وفق اتفاق “أوسلو”، عام 1993، وتقع تحت الاحتلال، تشمل تأمين مستلزمات التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال.
ثالثاً: الانقسام الفلسطيني
ألقى الإنقسام بتبعاته القاتمة على مفاصل المشهد الفلسطيني، فأحدث نقطة تحوّل وازنة في بنيوية النظام السياسي، تبعاً لإشكاليات نشأته وفق “أوسلو” وليس تتويجا لنجاح المشروع الوطني في بلوغ غايته بإقامة الدولة.
وقد حضر المأزق الفلسطيني في اتفاقيات المصالحة المتوالية؛ وما تخللها من لقاءات ممتدّة تستضيفها الساحة المصرية، بوصف مصر الراعية الأساس لملف المصالحة، إلا إن الخلافات بين حركتيّ “فتح” و”حماس” لا تزال قائمة، في ظل ملفات شائكة؛ مثل تمكين الحكومة من أداء مهامها في قطاع غزة، وإنهاء، ما تسميه “حماس” وبعض الفصائل، إجراءات السلطة العقابية ضد القطاع، وإجراء الانتخابات، وسلاح المقاومة، والبرنامج السياسي، وإعادة بناء منظمة التحرير، فضلاً عن قضية التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال التي تطلّ برأسها الثقيل على أفق خطوات إنجاز المصالحة، في ظل ضعف الإرادة الحقيقية للتغيير، وتأثير المتغيرات الخارجية في ثنايا الإنقسام.
ولم تسّهم وثيقة “المبادئ والسياسات العامة” الرسّمية لحركة “حماس”، التي أعلنتها في مايو عام 2017 بالدوحة، في تشكيل الأرضية السياسية المناسبة لتذليل العقبات أمام تحقيق المصالحة مع “فتح”، رغم غلبة اللغة السياسيّة الأقل تشدداً على خطابها العقيديّ الأيديولوجيّ، مع الحفاظ على الثوابت المحتكمة إلى محددات المرجعية الإسلامية، بعيداً عن ضغط اللحظة وحراجتها.
فيما يلعب العامل الإسرائيلي دوراً مهماً في تغذية الإنقسام وتعميقه، إزاء سيطرته على ثلاثة ملفات على الأقل من تلك المطروحة على طاولة الحوار الفلسطيني، وهي الحكومة، والانتخابات، والأمن، وقدرته على تعطيلها وإفشالها، لصالح مشروعه الاستيطاني بالأراضي المحتلة.
العوامل الإيجابية للقضية الفلسطينية
تجدّ القضية الفلسطينية في التأييد العربيّ مصدّر قوتها، بوصفها القضية العربية المركزية، ضمن نطاق السياسات الوطنية للدول العربية فرادى، وعلى مستوى العمل العربيّ الجمعيّ أو التنظيميّ، فضلاً عن الدعم الشعبيّ العربي الحاشدّ لنصرّة القضية الفلسطينية، والرافض للاحتلال الإسرائيلي والمطالب بإنهائه، والذي يتجسّد عبر المواقف التضامنيّة وتنظيم المسيرات والتظاهرات الممتدّة عبر الساحات العربيّة لإسناد الشعب الفلسطيني ضدّ الاحتلال، أسوّة بمفاصل تاريخية زاخرّة.
ويتجسّد الدعم العربيّ الوازّن للقضية والشعب الفلسطيني عبر القمّم العربية المتوالية، والتي تؤكد في قراراتها ومنهجيّة عملها، منذ تأسيس الجامعة العربية عام 1945 حتى اليوم، وكان آخرها القمة العربية في المملكة العربية السعودية في 15 إبريل 2018، أولوية القضية الفلسطينية التي شكلت، بجوانبها المتعددة، أساس معظم مؤتمرات القمة العربية، ودعم الحق الفلسطيني في إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة المستقلة وفق حدود عام 1967 وعاصمتها القدس المحتلة، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار الدوليّ 194، والأخذ بالمبادرة العربية للسلام، الصادرة عام 2002 في بيروت، كأساس للحل، فضلاً عن رفض أي محاولة لتصفية القضية الفلسطينية، على غرار الرفض العربي لقرار الرئيس ترامب بشأن القدس المحتلة.
فيما أولى العمل العربي المشترك اهتماماً خاصاً لقضية القدس، نسبة لأهميتها ومكانتها الدينية والتاريخية للعرب والمسلمين جميعاً، حيث شكلت أحد البنود الأساسية والدائمة في اجتماعات الجامعة المتعاقبة، عبر تقديم الدعم المالي لتثبيت صمود أهالي المدينة المحتلة، وتأكيد هويتها العربية، ورفض تهويدها ومناهضة أي وضع من شأنه المسّاس بالسيادة العربية الكاملة عليها.
ويستقيم ذلك في الساحة الدولية الأشمل؛ عبر اتساع قاعدة التضامن الدولي لعدالة القضية الفلسطينية ضدّ عدوان الاحتلال، بأشكال مختلفة، ومنها التظاهرات والوقفات الاحتجاجية التي تسود عدداً من الدول الغربية، لاسيما الأوروبية منها، لمساندة الشعب الفلسطيني، ومقاطعة منتجات المستوطنات، أسوّة بقرار الاتحاد الأوروبي، وتزايد وتيرة المقاطعة الأكاديمية والثقافية الغربية لنظيرتها الإسرائيلية، عبر “الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل” “BDS”، بما يقود إلى زعزعة الصورة الإسرائيلية في الرأي العام الدولي، إزاء تراجع نسبة التأييد لدى أغلب شعوب العالم، بما فيها الولايات المتحدة، عدا عن اتساع قاعدة الاعتراف الدولي، لاسيما الأوروبي منها، بدولة فلسطين، ونصرة القضية الفلسطينية في المؤسسات الأمميّة.
المعادلة الصعبة: خيارات مضادّة للمأزق الفلسطيني الحادّ
اسّتلت القيادة الفلسطينية، مؤخراً، جمّلة قرارات وازّنة للخروج من الأزمة الرّاهنة، في محاولة منها لاستثمار التأييد العربي والتفهم الدولي المعتبريّن للقضية الفلسطينية ضمن مساعي صدّ ثقل التحديات الحادّة التي تواجهها؛ وذلك عبر تعزيز أواصّر التنسيق والتعاون المشترك مع الدول العربية، لاسيما مصر والسعودية والأردن، وتكثيف التحرك الدبلوماسي عبر ساحات الدول الغربية “الصديقة” لتوسيع قاعدة الاعتراف بدولة فلسطين، مقابل “تعليق الاعتراف بإسرائيل” و”وقف التنسيق الأمني بكافة أشكاله” و”الانفكاك الاقتصادي معها”، و”إنهاء التزامات منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية تجاه اتفاقياتها معها”، و”استكمال المسّار القانوني الأممّي لمحاكمتها على الجرائم التي ارتكبتها ضدّ الشعب الفلسطيني”، و”استمرار القطيعة مع الولايات المتحدة”، تزامناً مع تأكيد ضرورة إنجاز المصالحة الفلسطينية وتحقيق الوحدة الوطنية.
بيدّ أن “حزمّة” القرارات، التي صدرت عن المجلس المركزي الفلسطيني في ختام دورته الثلاثين المنعّقدة يوميّ 28 و29 من شهر أكتوبر 2018، لم تحظَ بتأييد وطنيّ، في ظل مقاطعة “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”، التي تشكل الفصيل الثاني الوازّن بعد حركة “فتح” في منظمة التحرير، و”الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين”، و”المبادرة الوطنية الفلسطينية”، وتحالف قوى المقاومة الفلسطينية، لأعماله، ومعارضة حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” لنواتجه، نظير غياب الإجماع الوطنيّ، والافتقاد لآليات عمل محددة، و”تفرّد حزب واحد، أيّ “فتح”، بالقرار الفلسطيني”، بحسبها.
ويُلاحظ أن تلك القرارات، في شقّها المضادّ للتحديات، تعدّ استراتيجيات آخذة بمنطوق التهديد، وليس تكتيكاً سياسياً لاستراتيجية واضحة المعالم، حيث جاءت تكراراً لقرارات سابقة تم اتخاذها خلال دورات المجلس المركزي المتتالية؛ في مارس 2015 وفي شهريّ يناير وأغسطس من عام 2018، والدورة الأخيرة للمجلس الوطني، في 30 ابريل 2018، والتي لم تجدّ طريقها للنفاذ حتى اليوم، فضلاً عن أن إيكال مهام التنفيذ إلى الرئيس محمود عباس واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير قد يشيّ بثيمة المماطلة بعيداً عن جدية التطبيق.
ويتزامن ذلك مع بطء التحرك الفلسطيني ضمن المسار القانونيّ الأممّي، “المحكمة الجنائية الدولية”، مما قد يجلبّ الشكوك الوطنية حول مدى جدّيته، تماثلاً مع معطى استكمال الخطوة الأمميّة، “الاعتراف بدولة فلسطين”، رغم أهميتها السياسية والدبلوماسية وزخّم التأييد الدولي بشأنها، إلا أن الاحتلال لن يلتزم بنواتجها التي لن تغيّر موازين القوى ولا الوقائع المترسخّة على الأرض إزاء الاستيطان القاضّم للمساحة الأكبر منها.
وبالرغم من حالة الإجماع الدولي على “حل الدولتين”، والذي لا يتضمن أي آلية لفرضه على الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن القيادة الفلسطينية لا تتبنى موقفاً نضالياً مثابراً في استثماره على الساحة الدولية، أو ساحة المؤسسات الدولية، لربما بسبب تجنب الدخول في مواجهة مفتوحة مع الاحتلال، ومن ورائه الولايات المتحدة.
بيدّ أن الانشغال الفلسطيني بالصراع الداخلي بين الفصائل يضيّع فرصة تحقيق الوحدة الوطنية القادرة على مواجهة التحديات وصدّ عدوان الاحتلال ضدّ الشعب الفلسطيني، واستثمار العوامل الايجابية الداعمة لهذا المسّار.
إن هذا يتطلب تغييراً في الإستراتيجية التي قادت إلى المأزق؛ عبر تحصين الجبهة الداخلية بإنجاز المصالحة، من خلال الوساطة المصرية، سبيلاً لإنهاء الانقسام وإعادة بناء الوحدة الوطنية. ويشكل أسّ الشراكة الوطنية الكاملة دعامة لمتطلب الوحدة؛ ضمن آليات محددة تضمن نجاحها، وذلك عبر استعداد حركة “حماس”، فعلياً، للتخلي عن سيطرتها على قطاع غزة، وتمكين حكومة الوحدة الوطنية، المنشودة، من أداء عملها على كامل أراضي الضفة الغربية والقطاع، مقابل قبول حركة “فتح” بالشراكة الحقيقية في منظمة التحرير، مع كافة القوى والفصائل، بما فيها حركتيّ “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ما يستدعي إعادة تفعيل وبناء مؤسسات المنظمة لضمان انضواء مختلف التوجهات السياسية تحت مظلتها، وفق أسس وطنية وديمقراطية توافقية، والاتفاق على برنامج سياسي موحد تكون مرجعيته المنظمة، لتحقيق أهداف الاستقلال وتقرير المصير وحق العودة.
ويتصل بذلك ضرورة التوافق الوطني، في إطار الشراكة المتكاملة، على قرار السلم والحرب، باعتباره مسؤولية جمعّية مشتركة، وتوحيد الأجهزة الأمنية، وتهيئة المناخ المناسب لإجراء الانتخابات العامة، في ظل وحدة وطنية، ووفق قيم الديمقراطية والشفافية والمساواة وضمان الحريات الأساسية، فضلاً عن حيويّة تنفيذ قرارات “المركزي الفلسطيني” في دورته الأخيرة، لاسيما وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، وتعزيز المقاومة الشعبيّة السلميّة ضدّ الاحتلال.
كما يستلزم توجيه الجهود في مواجهة الاحتلال حول محور قضية الأرض، مثل الاستيطان وتهويد القدس ومناهضة الاحتلال وغيره، حيث لم تُطرّح آلية لمقاومة الاستيطان سوى المفاوضات، أو مقاطعتها، وهي معطلة أصلاً، إذ ليس لدى الفلسطينيين وسيلة في إطار اتفاقيات السلام تجُبر الاحتلال الإسرائيلي على فعل شيء حياله، بينما مصير الوساطة الأميركيّة معروفاً، لاسيما في ظل مواقف الرئيس ترامب الأخيرة، التي تشهد تغيراً وتآكلاً للمواقف الأميركية التقليدية، حيث لم يعد يعبر عن موقف ضدّ الاستيطان، ولا عن دعم لحل الدولتين، ويوافق على أي حلٍ يقبل به الطرفان، ما يمنح الحكومة الإسرائيلية حق “الفيتو” عملياً عليها.
فيما تقف مسألة تعزيز التعاون والتنسيق مع الدول العربية، على كافة الأصعدة ومختلف المستويات، كأولوية فلسطينية لاستثمار التأييد العربي تجاه القضية الفلسطينية، لجهة إسناد استكمال المسار القانوني الأممي، “المحكمة الجنائية الدولية”، وصدّ تبعات قرارات الرئيس ترامب بشأن القدس، وحول “الأونروا”، عبر حشد الدعم الدولي اللازم لضمان استمرار عملها وتقديم خدماتها للاجئين الفلسطينيين وفتح منافذ إضافية للتمويل، فضلاً عن الدفع تجاه تخصيص ميزانية دائمة وثابتة للوكالة، ضمن موازنة الأمم المتحدة، لا تعتمد على التبرعات والهبات.
ويستقيم ذلك مع حيوّية توسيع قاعدة المناصرّة الدولية للقضية الفلسطينية، والاستفادة من حالة الاجماع الدولي حول “حل الدولتين” لجهة الدفع لتنفيذه، وعدم الارتهان على الإدارة الأمريكية وحدها، والذي لن يقود في النهاية إلى ضمان الحقوق الفلسطينية العربية، وذلك عبر تعزيز مشاركة قوى دولية أخرى، إضافة إلى الولايات المتحدة، مثل الاتحاد الأوروبي والصين واليابان وروسيا، بوصفه مطلباً ضرورياً لموازنة الانحياز الأميريكي المطلق لصالح الجانب الإسرائيلي.
الخاتمة
لا تسمّح موازين القوى السائدة للدولة الفلسطينية بالتحقق الفعلي، حيث سيكون الحل النهائي مواجهة بين موقف دولي ينادي بإقامة دولة فلسطينية من ناحية، وواقع ميداني يجعل تنفيذ ذلك مستحيلاً، حيث سيضغط الجانب الإسرائيلي تدريجياً، مدعوماً بالإدارة الأمريكية، تجاه جعل حلّ القضية الفلسطينية على حساب الدول المجاورة، لاسيما الأردن، وعبر خنق اقتصادي في الداخل، وتوطين اللاجئين حيث هم، وهو الأكثر احتمالاً في المدى القصير أو المتوسط على الأقل.
إن إفشال المخطط الأمريكي – الإسرائيلي مرهون بمدى استثمار التأييد العربيّ والتفهم الدولي لعدالة القضية الفلسطينية في التصدّي له، كما يستدعي فلسطينياً؛ وضع استراتيجية وطنية موحدة تأخذ بناصية تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، وترتيب البيت الداخلي بإعادة تفعيل منظمة التحرير، مثلما يستدعي، أيضاً، دعماً عربياً إسلامياً خارج إطار المواقف التضامنية لنصرّة الشعب الفلسطيني في مواجهة عدوان الاحتلال الإسرائيلي.