العناوين الكبيرة والصور الضخمة الملونة ليست دائمًا أسهل وأسرع الطرق للوصول للحقيقة أو اكتشافها ورؤيتها أو فهمها وتفسيرها، ولن يكون كريستيانو رونالدو وبقية المشاهير من زملائه نجوم الكرة العالميين أو المدربون والمسؤولون الرياضيون الكبار، هو أنسب الطرق لفهم وتحليل التجربة السعودية الرياضية الحالية وأسبابها ودوافعها وأهدافها وتفاصيلها أيضًا، فالطريق الصحيح يمكن أن يبدأ مثلًا في منطقة الجوف شمال المملكة السعودية، وبالتحديد في جامعة الجوف الحكومية بين مدينتي (دومة الجندل، وسكاكا)، وفي أكتوبر 2023، بدأت هذه الجامعة مبادرة حقيقية بهدف إقناع ودعوة كل (الطلبة، والأساتذة، والموظفين، والعمال) لممارسة الرياضة بشكل دائم، ولم تكن خطوة دعائية أو استعراضية، فالجامعة ليست من الجامعات السعودية الكبرى ولا يلاحق الإعلام أخبارها ومشروعاتها، ولم تحرص الجامعة نفسها على نشر هذا الأمر خارج أسوارها، إنما كان اقتناعًا حقيقيًّا من مسؤوليها بأهمية الرياضة واحترامهم لها، فكرًا لم يكن سائدًا قبل سنوات قليلة ومبادرة كان من الممكن والمتوقع قبل ما يحدث الآن أن تَلقى التهكم والسخرية وعدم الاقتناع، لكنها الآن حظيت بالتقدير والاحترام والالتزام.
وقبل انطلاق الدورة الثانية للألعاب السعودية في نوفمبر 2023، لم يقتصر الاهتمام والاستعداد الحكومي السعودي رياضيًّا وإعلاميًّا على 8000 لاعبة ولاعب جاؤوا من 200 نادٍ في المملكة للمشاركة في 53 لعبة منها 6 ألعاب بارالمبية، و5 ألعاب جديدة تمت إضافتها، إنما كان هناك اهتمام له قيمته ومعناه بأن تطوف شعلة هذه الدورة كل أرجاء المملكة ومدنها ومعالمها التاريخية والتراثية والسياحية في مشوار يزيد عن الثلاثة آلاف وخمسمئة كيلومتر، ويتناوب حملها رياضيون ومسؤولون ونجوم من مختلف المجالات، وكانت خطوة لا تحدث في الماضي، وأصبح القصد منها هو لفت انتباه الناس بما يجري رياضيًّا في المملكة حاليًا وتأكيد ونشر صورة جديدة للرياضة السعودية، التي لن تبقى بعد الآن مجرد ألعاب ولاعبين ومسابقات وبطولات تنتهي بإطفاء أنوار ملاعبها، إنما رياضة جديدة وحقيقية وضرورية يمتزج فيها اللعب بـ(الثقافة، والتاريخ، والفنون، والآداب، والمستقبل، والاقتصاد، وشواغل الناس وحياتهم).
وعلى الرغم من أحاديث كثيرة دارت ولا تزال تدور عربيًّا ودوليًّا عن استضافة السعودية للمونديال الكروي 2034، إلا أن أحدًا لم ينتبه بالشكل الكافي واللائق للملف الذي تقدمت به السعودية في أكتوبر الماضي لاستضافة مونديال السيدات الكروي 2035، ومهما كانت استضافة السعودية لمونديال الرجال الكروي مهمة للسعوديين والعرب بكل ما تحمله من معانٍ ودلالات خاصة أنها تأتي بعد استضافة قطر لمونديال 2022، ومشاركة المغرب في استضافة مونديال 2030، إلا أن مجرد الطلب السعودي لاستضافة مونديال النساء في 2035 يعني الكثير جدًا الذي يستدعي ويستحق إطالة التوقف أمامه، فحتى سنوات قليلة مضت لم يكن مسموحًا للمرأة السعودية بمشاهدة مباريات كرة القدم أو ممارستها، وتغير كل ذلك سنة بعد أخرى؛ فلم تعد المرأة السعودية تمتلك فقط حق الفرجة واللعب، إنما أصبحت السعودية أيضًا أول دولة عربية تطلب استضافة مونديال النساء بكل ما يعنيه ذلك من تغيير حقيقي جرى في هدوء واكتمل دون صخب وضجيج، مثل: تغييرات رياضية كثيرة بدأت ولا تزال تشهدها السعودية بعيدًا عن أضواء وزحام نجوم الكرة في الدوري والملاعب السعودية.
وبمثل هذه الحكايات ومعانيها يمكن أن يستقيم ويدور أي حديث عن السعودية وتجربتها الرياضية بعيدًا عن الاستخفاف والتسطيح والتكرار، واختصارها في مجرد إنفاق الكثير من المال هنا وهناك، وأيضًا كل تلك الاتهامات المعتادة سابقة التجهيز، وهو ما يعني ضرورة التوقف أمام التجربة عن طريق أربعة محاور رئيسة: الفريق الذي تولى المسؤولية ويدير هذا التحول الرياضي الهائل الذي لفت انتباه العالم كله، وأهداف هذه التجربة سواء بنتائجها السريعة والقريبة أو على المدى البعيد (رياضيًّا، وسياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا)، وكان الكاتب والباحث الدانماركي “ستانيس إيلسبورج” أحد القليلين جدًا الذين انتبهوا لفريق العمل السعودي الذي كلفه الأمير “محمد بن سلمان” ولي العهد السعودي بالقيام بهذا التغيير الرياضي وتنفيذ تجربة التحول والتغيير الرياضي في المملكة وعن المملكة في العالم، وقد أعد إيلسبورج دراسة طويلة وعميقة أثبتت أولًا أن التجربة ليست عشوائية أو صندوق ضخم يجري بَعْثَرَة ما فيه من نقود في الهواء، واكتشف الباحث الدانماركي أن فريق التحول الرياضي السعودي يضم 795 وظيفة يشغلها: أمراء، وأميرات، ووزراء، وشباب، وفتيات درسوا الاقتصاد والإدارة في هارفارد، وخبراء عالميون في (الرياضة، والسياسة، والاقتصاد، والإدارة، والتجارة، والسياحة، والإعلام، والإعلان)، وأجمل ما في هذا الفريق أنه يعمل في هدوء تام وبعيدًا عن أي أضواء، ولا يهتم كل أفراده بأن يراهم أو يعرفهم أو يتحدث عنهم أحد، يديرون الأمر كله بمنهج علمي ولا يحفلون بكل تلك الاتهامات والشائعات التي تلاحق التجربة الرياضية السعودية طول الوقت.
وكان أهم وأكبر وأقدم هذه الاتهامات، هو استخدام السعودية للرياضة لتحسين صورتها في العالم والرد على أي اتهامات- سواء تخص حقوق الإنسان أو الحرية والعدالة الاجتماعية- وفوجئ كثيرون جدًا بتصريح صادم للباحثة الكبيرة “ماري هارفي” الرئيسة التنفيذية لمركز الرياضة وحقوق الإنسان، أكدت فيه أن غسيل السمعة أصبح اتهامًا فقد قيمته من كثرة استخدامه طول الوقت بحق أو غير حق ولسبب أو بدون سبب، وأصبح يردده كل من لا يرضى عما يحدث أو لا يعجبه أي تغيير فيلجأ لهذا الاتهام، وقال أساتذة أمريكيون آخرون: “أن اختصار التجربة الرياضية السعودية في حكاية غسيل السمعة، والرد على اتهامات تخص حقوق الإنسان هو تبسيط ساذج للتجربة واختصار مخلٌّ وفاضح لما يجري بالفعل على الأرض، فالتجربة الرياضية السعودية أكبر وأعمق من ذلك، وأن السعوديين يستخدمون الرياضة لتحقيق أهداف كثيرة وحقيقية، قد يكون من بينهم تحسين صورة عالمية لبلادهم، لكن ليس هذا هو الهدف الأول أو الأكبر أو الأهم مقارنة بأهداف كثيرة للحكاية كلها” .
وقد سبق أن أكد باحثون رياضيون وسياسيون كثيرون -سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا- أنه لا يزال من المبكر جدًا إصدار أحكام نهائية قاطعة على التجربة الرياضية السعودية، وأنها ليست تجربة مؤقتة أو خاطفة، إنما تتزامن مع رؤية المملكة 2030، التي تلعب فيها الرياضة دورًا مهمًّا وضروريًّا في إطار هدف تحويل المملكة إلى مركز دولي للأعمال، ومزار سياحي عالمي، وتنويع الاقتصاد، وتغيير جذري في صورة المملكة كدولة لا تملك سوى البترول.
وقد أصبحت الرياضة في عالم اليوم -بالفعل- من أكثر المجالات الاقتصادية تطورًا بإيقاع سريع، وتتحقق معها نتائج إيجابية ملموسة جعلت بلدانًا كثيرة في العالم تنفق في كل يوم المزيد من المال رياضيًّا لتحقيق عوائد (اقتصادية، وسياسية، ودعائية)، وأكد “سيمون شادويك” الأستاذ الفرنسي في مجال الرياضة والاقتصاد السياسي والجغرافي، أن الرياضة في عالم اليوم أصبحت الوسيلة أو الأداة الأقوى التي يمكن أن تستخدمها أي دولة لترسم صورة جديدة لها ولتمتلك قوة التأثير، وقال شادويك أيضًا: “أنه لم يعد هناك اليوم أقوى وأسرع من الرياضة لتنشيط السياحة في أي دولة، والمحافظة على الصحة العامة، وتحسين الصورة العامة للبلد، وامتلاك فرصة التحاور مع العالم بأكبر قدر ممكن من التكافؤ والمساواة ، وأنه إذا كانت الرياضة قد بدأت تقوم بذلك في سنين ماضية، فقد أصبحت اليوم تقوم بذلك بشكل أسرع وأقوى وأكثر تأثيرًا ووضوحًا؛ نتيجة كثافة المشاهدة الرياضية التي تتزايد يومًا بعد يوم وتعلُّق الكثيرين جدًا بالألعاب وبطولاتها ونجومها”.
وقبل استكمال الحديث عن التجربة الرياضية السعودية، لابد من التوقف أولًا أمام عبارة قصيرة قيلت أكثر من مرة دون شروحات وتفاصيل ووضوح، عبارة تؤكد أن الغرب بدأ يندم على منح الصين حق تنظيم دورة أولمبية في 2008، فالاستعداد لاستضافة هذه الدورة رياضيًّا وسياسيًّا أدى لتغيير هائل في الثقافة الرياضية الصينية، ولم تكن الحكاية مجرد ميداليات أولمبية تضاعفت أعدادها لدرجة أن تصبح الصين في دورة طوكيو الماضية هي المنافس الرياضي الأول للصين وليست روسيا أو أي من دول غرب أوروبا، إنما أدركت الصين هذه القوة التي يمكن أن تأتي بها الرياضة، وأدرك الرئيس الصيني “شي جين بينج”، الذي تولى منصبه في 2013، أن الرياضة ممكن جدًا أن تصبح سلاحًا يحقق انتصارات سياسية واقتصادية هائلة. وبالفعل، نجحت الصين في أن تستخدم الرياضة وكرة القدم بالتحديد؛ لتجد لنفسها مكانًا لائقًا في إفريقيا التي ظلت سنينًا طويلة حكرًا على (الفرنسيين، والأمريكيين، والإنجليز)، وهذا هو التفسير الحقيقي الأقرب للصواب لعبارة إن ” إهداء دورة أولمبية للصين في 2008″، كان خطأً فادحًا للغرب ولم يتوقع نتائجه أو خسائره بسبب ذلك، ويرى كثيرون في الغرب اليوم أن السعودية قد تكرر التجربة الصينية، وهو الأمر الذي يصعب قبوله وأن تصبح الرياضة سلاحًا يضيفه السعوديون إلى ترسانتهم إلى جانب ما يملكونه من بترول ومال. والمثير في الأمر، أن الاتهامات التي يستخدمها الغرب حاليًا لإجهاض التجربة الرياضية السعودية هي نفسها الاتهامات التي سبق أن استخدمها نفس الغرب حين بدأت التجربة الرياضية الصينية.
ومع اختلافات كثيرة بين التجربتين (الصينية، والسعودية) -سواء نتيجة العالم الذي تغير من 2008 حتى 2023، والتكوين الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي يختلف تمامًا في الصين عنه في السعودية- إلا أن خبراء السياسة في الغرب يرون تشابهًا وحيدًا بين التجربتين هو أن الرياضة تصبح قاطرة تجر المجتمع كله (سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا) إلى محطات كان يصعب جدًا توقُّع الوصول إليها. والثابت تاريخيًّا أن الرياضة الصينية إلى جانب المكاسب السياسية المؤكدة كانت هي التي أسهمت بشكل حقيقي في تغيير صورة الصين كما يراها العالم، وكانت أحد عوامل ازدهار التجارة الصينية وبلوغ حتى السينما الصينية لمكانتها العالمية، وهو أمر بالتأكيد لا يريد الكثيرون تكراره في السعودية، وقد يكون ذلك تفسيرًا حقيقيًّا وواقعيًّا لكثير من الصخب والصراخ الرافض للتجربة الرياضية السعودية من الأساس.
وكل هذه الحقائق إما يجهلها أو يتجاهلها الذين لا يستوقفهم في التجربة الرياضية السعودية الحالية إلا هذا المال الكثير الذي يجري إنفاقه يومًا بعد يوم، ولا يتمهل كثيرون من هؤلاء لمراجعة حجم ما أنفقته كل من (الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي) منذ بداية الحرب العالمية الرياضية، وبعدهما بلدان غرب وشرق أوروبا ثم العالم كله. وبالتأكيد مقابل تجارب كثيرة ناجحة يحفل بها التاريخ الرياضي العالمي تم فيها إنفاق الكثير جدًا من المال لاستخدام الرياضة في بناء صورة جديدة للدولة أو لإكمال وجاهتها السياسية والاجتماعية. هناك أيضًا تجارب تم فيها إنفاق المزيد من المال لكنها انتهت بالفشل، ومقياس النجاح والفشل هنا هو الأهداف التي من أجلها أنفقت كل دولة هذا المال، وهل تحققت أم لا؟ كما أن معظم هؤلاء المنتقدين أو الساخرين لا يبنون أحكامهم إلا على ما يُقال طول الوقت في كل مكان عن نجوم الكرة الكبار الذين هاجروا من أوروبا إلى السعودية ليلعبوا مع أنديتها، ولم ينتبه هؤلاء إلى أن التجربة السعودية ليست فقط نجم كروي كبير يلعب في الدوري السعودي، فهناك الاستثمار أيضًا في ألعاب أخرى كثيرة جدًا، وكان الذين تحدثوا وكتبوا عن نجاح السعودية في عقد صفقة مع أكبر كيانين للجولف في العالم أكثر ممن تحدثوا وكتبوا عن رونالدو وبنزيما والدوري السعودي كله، ولم يكن فقط الذين توقفوا أمام صفقة الجولف أكبر ممن استوقفتهم صفقة رونالدو، إنما كان الفارق في هوية وطبيعة من تحدثوا وكتبوا، فالذين تحدثوا عن رونالدو وبنزيما كانوا أهل كرة القدم وهو أمر طبيعي ومتوقع، أما الذين تحدثوا وكتبوا عن الجولف فكانوا من أهل السياسة والاقتصاد، وشعر كثيرون منهم أنهم أمام تجربة سعودية تماثل التجربة الهندية؛ فالهند اختارت الجولف لتبدأ مع العالم ومؤسساته وشركاته الكبرى حوارًا جديدًا ومختلفًا، وكانت ملاعب الجولف في الهند أساسًا لكتاب شهير بعنوان “العالم مسطح”، قام بكتابته الصحفي الأمريكي الكبير “توماس فريدمان”، شرح فيه كيف نجحت الهند بكرة ومضرب جولف في اقتحام عالم التكنولوجيا لتصبح بعد سنوات قليلة من أهم لاعبيه لدرجة أن يدير الهنود وادي السليكون الأمريكي نفسه، وإذا كانت بلدان كثيرة في (إفريقيا، وآسيا، وشرق أوروبا، وأمريكا اللاتينية) بدأت الاهتمام بالجولف كبوابة للاقتصاد والسياحة، فالسعودية لم تكتفِ بتنظيم بطولة أو استضافة بعض نجوم اللعبة لكنها أصبحت الآن هي التي ستدير اللعبة الأرقى في العالم بكل ما يعنيه ذلك (سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وإعلاميًّا أيضًا)، ولم يبالغ الإعلام الأمريكي حين أطال الحديث والتحليل عن صفقة الجولف السعودية؛ فنجوم كرة القدم في النهاية سيجذبون الانتباه للدوري السعودي لكرة القدم، لكن الجولف سيفتح أبوابًا أخرى أهم وأكبر.
ولم يكن الجولف فقط هو اللعبة التي اهتمت بها السعودية مع كرة القدم، فهناك أيضًا (الملاكمة، والفورميولا 1، وسباقات الفروسية، والمصارعة)، واستضافت السعودية بطولة العالم لملاكمة الوزن الثقيل، وأيضًا أكبر وأقوى سباق للخيول في عالم الفروسية، واشترت السعودية حصة في فريق آستون مارتين لسباق سيارات الفورميولا 1؛ لتصبح ثاني أكبر مستثمر في تلك اللعبة بعد الملياردير الكندي “لورانس سترول”، وباتت السيارات تحمل اسم (أرامكو) كأحد الرعاة الكبار للسباقات، وتوقعت بلومبرج في أحد تقاريرها أن تمتلك السعودية السباق كله وتشتريه من مجموعة ليبرتي ميديا، وقيل في الإعلام الأمريكي أيضًا إن دوري كرة السلة الأمريكي “إن بي إيه” قام بتغيير بعض قوانينه ليسمح بالاستثمار السعودي، ورغم أن كرة القدم الأمريكية لا تسمح قوانينها بمثل هذا الاستثمار، إلا أن هناك توقعات بإمكانية تغيير ذلك. وهناك تعليقات أخرى أشارت إلى التنس أيضًا، كما أعلن المجلس الدولي لرياضة الكريكيت عن شراكة جديدة ضخمة مع شركة أرامكو، والتأكيد على أن هذه الشراكة سيتغير بها ومعها شكل اللعبة في العالم، وكل ألعاب العالم تتبدل طول الوقت أهميتها وضرورتها وكيف يمكن الاستفادة منها.
وإذا كانت السعودية ستنتظر 11 عامًا حتى يأتي أوان مونديال الكرة في 2034، فإنها بعد أشهر قليلة ستشارك في دورة باريس الأولمبية 2024، ولم تصبح هذه الدورة مجرد دورة أولمبية أخرى ستشارك فيها السعودية- التي بدأت مشوارها الأولمبي بدورة ميونيخ 1972- إنما ستغدو للمشاركة السعودية في باريس أكثر من معنى وأكثر من هدف، فهي أول دورة أولمبية بعد أن تغيرت الصورة الرياضية للسعودية في العالم وأهله وإعلامه، وبعد كل ما قيل وكتب عن السعودية في العامين الأخيرين، سيتابع كثيرون بمن فيهم السعوديون أنفسهم مشاركة البعثة السعودية في دورة باريس، فالكل يريد أن يعرف هل ستكتفي السعودية بإنفاقها المالي لتطوير مسابقاتها ومؤسساتها والتعاقد مع نجوم عالميين كبار والتخطيط لاستضافة بطولات ودورات عالمية، أم أن التطوير والتغيير سيلحق أيضًا بلاعباتها ولاعبيها في أي سباق أوليمبي، وأي ميدالية للسعودية في دورة باريس المقبلة ستختلف كل معانيها ودلالاتها عن الأربع ميداليات التي فازت بها السعودية من قبل؟
ومن المؤكد، أن هذا التحول الرياضي الذي بدأ بالفعل في السعودية، وفق خطة تم إعدادها بعناية وعلى أسس (علمية، ورياضية، واقتصادية)، ولا يمكن الجزم بنتائج هذا التحول سواء كانت (رياضية، أو سياسية، أو اقتصادية) إلا بعد اكتمال المشروع في 2030، لكن بدأت تظهر مؤشرات تستحق التوقف أمامها مثل: حجم إسهام الرياضة في الناتج المحلي للسعودية، الذي تشير دراسات حديثة إلى أنه سيتجاوز في 2024 حاجز المليار وثلاثمائة مليون دولار، ولا أحد يستطيع الآن توقع حجم إسهام الرياضة في الناتج المحلي السعودي بعد اكتمال المشروع في 2030؛ فالرياضة عالميًّا باتت إحدى أسس ومقومات وعوامل زيادة الناتج المحلي لأي بلد، فإنتاج الرياضة في ألمانيا على سبيل المثال بلغ 50 مليار يورو، وفي الصين 326 مليار دولار، وباتت الرياضة تسهم في الناتج المحلي للولايات المتحدة بأرقام أصبحت ضعف إسهام صناعة السيارات في ديترويت وسبعة أضعاف إسهام صناعة السينما وأفلامها في هوليوود. وغير ذلك بدأت تتضاعف بمعدلات سريعة ملحوظة أعداد ممارسي الرياضة في السعودية، الذين لم يعودوا يكتفون فقط بمشاهدة مبارياتها وبطولاتها، فزاد عدد الألعاب الرياضية وممارسوها في الأندية السعودية بنسبة اقتربت من 800%، وهو أمر ستكون له بعد سنوات نتائجه الطبية والنفسية. ومن المؤكد أيضًا، أن نجاح التجربة واكتمال هذا المشروع لن تقتصر نتائجه على السعودية فقط، لكن ستتغير أيضًا صورة الرياضة وضرورتها وقيمتها وأهدافها ليس في الخليج العربي فقط، إنما في المجتمع العربي بكل بلدانه أيضًا، فلن يكتفي عرب كثيرون بعد اليوم بدور المشاهدين أو الضيوف في الساحات الرياضية العالمية، إنما سيحاولون وسينجحون على الأرجح في أن يكونوا ضمن اللاعبين الأساسيين والمهمين أيضًا، وبالتالي سيختلف تمامًا شكل وواقع الرياضة في العالم العربي خلال سنوات قليلة مقبلة.