للتكلم عن تطور أي نشاط من النشاطات الإنسانية لابد أن نبدأ الكلام عن تطور كل هذه النشاطات وربطها بالتطور العام للمجتمعات الإنسانية وارتباطها ببعضها، وهذا التطور الذي وصلنا إليه في وقتنا الحالي حصل بشكلٍ بطيء جدًا ونتيجة تراكم بطيء جدًا للمجتمعات الإنسانية منذ فجر التاريخ لغاية بلوغ أعماق الكون بواسطة الوسائل العلمية الحديثة، والتي سوف تصبح قريبًا قديمة؛ بسبب وتيرة السرعة المخيفة لتراكم التقدم الحديث. ولا ننسى أن عملية إنزال رجل الفضاء “نيل أرمسترونج” على سطح القمر في صيف 1969، قد تمت بأحدث معدات وكمبيوترات تلك الحقبة وكانت قوتها تُقاس بالكيلوبايت فقط، وأن التيرابايت سيصبح في يومٍ قريب ضعيفًا؛ نظرًا للاحتياجات الإلكترونية المستقبلية، فالاكتشافات الجديدة المدهشة للكون بدأت عندما صنع الإنسان البدائي النار بضربه حجرين ببعضهما صانعًا بذلك الشرارة الأولى؛ لذلك أقول أن تطور أي نشاط من أي نوع يأتي نتيجة تراكم الإنجازات البشرية ككل والتي تتسارع وتيرتها مع مرور الوقت بشكلٍ هائل مما جعل العلماء يقولون في بداية القرن العشرين: ” بأن تقدم البشرية في العشر سنوات الأخيرة من القرن العشرين (1990-2000) يعادل تطورها من بداية نشأتها لغاية 1990، وإن التطور الذي حدث في أول سنة من القرن الحادي والعشرين يعادل تلك السنين العشرة من القرن المنصرم”. ماذا نقول الآن ونحن في العشرة الثالثة من سنين هذا القرن وماذا بعد ذلك؟
والموسيقى كعنصر من عناصر الحضارة الإنسانية تخضع لنفس آليات تطور باقي عناصر الحضارة، وأهم هذه الآليات وتيرة سرعة تراكم الخبرات الإنسانية وازدياد سرعة هذه الوتيرة مع تقدم الزمن والتقدم العام، فكما أن الحضارة العامة بدأت عندما صنع الإنسان أول شرارة فإن الموسيقى بدأت بهذا المستوى من البدائية: فقد اكتشف العلماء في فرنسا في إحدى مغاور ما قبل التاريخ قصبة مجوفه وعليها ثقب، وعمر هذه القصبة 15 مليون سنة هذا يعني أننا أمام أول آلة موسيقية معروفة صنعها الإنسان، ولهذا الاكتشاف دلالة أخرى إنسانية هذه المرة عظيمة الشأن، وهو أن الإنسان احتاج للموسيقى للتعبير عن نفسه ومشاعره قبل احتياجه للغناء والكلام -الظاهرتين اللتين لم تكونا موجودتين من 15 مليون سنة. من هذه الناي تطورت الموسيقى وصناعة آلاتها لغاية المستوى الذي وصلته في المجتمعات الحالية، مارةً من حقبة إلى أخرى، وخاضعة أيضًا لوتيرة التقدم البطيئة جدًا شأنها شأن كل عناصر الحضارة.
صانع العنصر الأساسي في تراكم وتزايد وتيرة السرعة في ما يخص تقدم الحضارة هو الإنسان نفسه والأجيال المتلاحقة المهتمة بموضوع معين، وتخصص الإنسان في موضوع معين من مجموعة النشاطات التي تشكل الحضارة هو ما نسميه بالموهبة التي أُضيف لها- بعد أجيال وأجيال وقرون بعد قرون- العلم الذي يستخلصه المهتمون بهذا الموضوع بالذات من تراكم التجارب في كل مجال بحد ذاته، هذا التراكم في العطاء الإنساني الحضاري هو ما نطلق عليه اسم “التطور”: فهو لإضافة كل جيل من الأجيال على ما توصل إليه الجيل الذي سبقه، لذلك ولكي يحدث هذا التطور لابد من أن يعرف كل جيل إنجازات الجيل الذي سبقه؛ كي يستطيع الإضافة إليه، وإلا كيف يضيف إلى شيء لا يعرفه؟ سيكون كمن ابتدأ من الصفر، وستنقطع سلسلة التطور. أن حلقات التطور الإنساني يجب أن تكون متصلة ببعضها في سلسلة واحدة، فإذا انقطعت هذه السلسلة انقطع التطور، وفي هذه الحالة ولعودة التطور إلى حالته الطبيعية وجبت العودة إلى آخر حلقة من هذه السلسلة والانطلاق منها مجددًا بإضافة كل جيل حلقته الخاصة إليها.
وهذا يذكر بما كتبه المؤرخ الكبير “فريزير” في موسوعته عن تاريخ الأديان “الغصن الذهبي”: أن هناك قبيلة إفريقية لا تسمي أبناءها بأسماء سبق لأسلافهم استعمالها وذلك لأسباب دينية عقائدية؛ لذلك فهذه القبيلة لا تاريخ لها ولا تراكم خبرات متوارثة عن الأسلاف، وبالتالي لا مستقبل لها أنها تبدأ كل يوم من الصفر بعيدة عن محرك التطور الذي هو تراكم النشاطات والخبرات المتوارثة.
وفي حقبة استقرار الإنسان على ضفاف الأنهر، بدأت المجتمعات في التجمع فتحولت إلى قرى ثم مدن ثم دول وحضارات، فظهرت التخصصات التي تضم فئات مختلفة من الناس كـ(فئة الحدادين والنجارين والجنود… وغيرها) من الفئات حسب النشاطات التي يحتاجها هذا المجتمع ومع الاستقرار المادي والأمني والمعنوي أحسن الإنسان باحتياجات أخرى غير مادية: الاحتياجات الروحية ووسائل للتعبير عنها فكانت بداية ابتداع الفنون وغيرها من النشاطات الروحانية المتعلقة بظاهرة واحدة اسمها “الفن” فعبّر بالرسوم في المغاور بنقله واقعة إلى الجدران، ثم جاء التطور الذي ظهر في الفنون، فظهرت المنحوتات الصغيرة والكبيرة والمنحوتات الضخمة كمنحوتات جزيرة الفصح: وجوه إنسانية حجرية ضخمة متوجهة إلى السماء، والتماثيل بشكل الإنسان والأهرامات والمعابد التي تملأ مصر مع رسومها المذهلة، وفي جنوب أمريكا في أماكن وجود حضارات (الأنكا والمايا والأستيك). إذا كانت الفنون التي تعتمد على الحجر باقيه لغاية الآن، فإن النشاطات الموسيقية كانت تموت مع مرور الوقت ومرور الأجيال المتعاقبة، ذلك أن الموسيقى مرتبطة بظاهرة الصوت الذي لم يستطع التطور المادي والتقني للإنسان تسجيله إلا في القرن التاسع عشر باختراع آلة التسجيل ثم اختراع أسطوانة الكوب ثم الأسطوانة المسطحة، التي ظهرت في مصر سنة 1903. لذلك فإن معرفة تطور الموسيقى العربية كموسيقى وليس كوصف لها في المراجع يعود إلى تاريخ ظهور الأسطوانة الكوب ثم المسطحة، فوصل إلينا على الأسطوانة الكوب تسجيلات نادرة لصوت عبده الحامولي ومنها قصيدته “أراك عصي الدمع” (نظم أبي فراس الحمداني) ومنها عرفنا أنها من ألحانه وليس من ألحان أبي العلا محمد، الذي لقنها لأم كلثوم وسجلتها سنة 1918، وكان السائد أنها من ألحان الشيخ أبي العلا. وقد نقل مطربو بداية القرن العشرين على الأسطوانات المسطحة كلّ التراث الذي حفظوه من ملحنين القرن التاسع عشر (عبده الحامولي تُوفي 1901، محمد عثمان توفي 1900) وغيرهم فقد كانوا يغنون في فرقهم الموسيقية كمذهبجية أي كمرددين للمذاهب في الأغنيات، وكانوا حافظين لكل هذا التراث. هذا ما نعرفه من التراث القريب الذي سجل على الأسطوانات، لكننا لا نعرف متى لحنت هذه الأعمال؟ ومن لحنها؟ (فيما عدا أعمال الحامولي وعثمان)، لكن هناك إلى جانب هذه التسجيلات، المراجع التاريخية المطبوعة في كتب والتي تجمع كلمات الموشحات والأدوار والقصائد القديمة والإشارة إلى مقاماتها وإيقاعاتها، ولكن كل هذا الوصف المفصل لا يغني عن جوع فنحن لا نعرف الأهم (الموسيقى نفسها)، أهم هذه المراجع الأدبية الموسيقية كان “سفينة شهاب” للشيخ الأزهري شهاب الدين محمد إسماعيل الذي ظهر في الربع الأول من القرن التاسع عشر، والذي شكل سدًا منيعًا في وجه تدهور مستوى الموسيقى في تلك الحقبة باحتوائه كل الموشحات القديمة المعروفة آنذاك، والتي كادت تندثر وجاء كل هذا مثبتًا في موسوعة وصف مصر التي وضعها الخبراء الفرنسيون إبان حملة نابليون على مصر وعلى رأسهم العالم “فيوتو” وفيها ورد وصف “للكمان الرومي”، ومن هنا نعرف أن النشاط الموسيقي في مصر كان يعتمد على آلة الكمان قبل ظهور الموسوعة. وفي نفس الحقبة (الربع الأول من القرن التاسع عشر) كان هناك نشاط موسيقي موازٍ لنشاط شهاب الدين وكتابه سفينة شهاب، كان هناك نشاط غنائي تلحيني مهم جدًا ترجمه زهير الشايب، عرفناه من المراجع التاريخية وصاحب هذا النشاط كان الشيخ الأزهري “محمد عبدالرحيم المسلوب”، الذي كان بارعًا في تلحين الموشحات إلى جانب أنه أول من ابتدع ” الدور” الغنائي الذي وصل إلى ذروة تطوره وكماله الفني مع محمد عثمان وعبده الحامولي أي بعد توالي أجيال من الملحنين المطربين المبدعين على صناعة هذا الفن الجميل منذ صياغته البدائية عند عبدالرحيم المسلوب وتطوره مع الأجيال لمده 75 عامًا؛ كي يصل إلى ذروة هذا التطور في بداية القرن العشرين مع زكريا أحمد ومحمد عبدالوهاب آخر من لحّنوا الدور، وقد تكون معرفتنا للكثير من النشاط الفني للمسلوب هو بسبب أنه عاش 137 عامًا، فقد توفي سنة 1934 ونقل بنفسه فنه إلى الأجيال المتعاقبة.
وقبل كل هذه المراجع هناك المرجع الأكبر في تاريخ الحضارة العربية وهو “كتاب الأغاني” لأبي الفرج الأصفهاني، الذي يصف فيه مجالس الطرب التي كان يشارك فيها أعداد ضخمه من المغنين والعازفين كان يصل عددهم إلى 300 فنان، ويُقرأ في هذا الكتاب محاولات تدوين الموسيقى بوصف وضعية أصابع العازف على أوتار آلته، وقد حاول بعض علماء الموسيقى العرب في القرن الماضي ترجمة هذا الوصف إلى نوتة موسيقية ولا يبدو أنهم وصلوا إلى نتيجة مقنعة في هذا الشأن.
نصل إلى القول إنه قبل اختراع الأسطوانة كان الغناء خاضعًا لشرط أساسي ومنطقي في الأداء وهو طريقة الارتجال الغنائي في الغناء؛ وذلك لعدم وجود فن التدوين الذي من شأنه تحديد اللحن والتزام المؤدي به وسبب آخر وهو الأهم أن الغناء العربي في مصر تطور من التجويد القرآني -وأهم شروطه تحريم التلحين- فأصبح الارتجال هو الطريقة الوحيدة للتجويد، ثم الغناء خاصة الغناء على المسرح فهو غير الغناء في الأستوديو، الذي يسمح بالاحتفاظ بما سجل وكان هذا نوعًا من أنواع التدوين، لكنه تدوين صوتي سمعي لا كتابي. هناك أمثلة كثيرة على أهمية الارتجال في الغناء العربي من جيل إلى جيل ففي الكتب الجامعة لنصوص الموشحات والأدوار القديمة نجد قبل نص الأغنية العبارة التالية “المذهب من ألحان فلان”، وهذا يعني أن الغناء يبدأ معتمدًا على الجملة الملحنة، أما الباقي فيعمد على ارتجالات المغني كلٌ بطريقته وبحرية مطلقة في تغيير مقام اللحن، وهذا ما يفسر وجود تسجيلات أدوار تنطلق من جملة واحدة وتختلف بعد ذلك في اللحن والمقام وهذا نجده في بعض أعمال الحامولي وعثمان، أي عشية ظهور الأسطوانة في مصر. نجد هذا التعبير في الأغنيات المسجلة، فأنا أملك ثلاثة تسجيلات لقصيدة “أراك عصي الدمع” أحدها لأم كلثوم، الذي لقنها إياها أبو العلا محمد والتسجيلات الثلاث فيها اختلافات كبيرة وكثيرة وإن وجدنا فيها عناصر مشتركة، فالمقام هو نفسه (البياتي)، والنص هو نفسه والإيقاع هو نفسه(إيقاع الوحدة الكبيرة)، والبداية هي نفسها، إذ لا يجوز الارتجال قبل عرض وأداء اللحن الأساسي. من هنا نصل إلى استنتاج منطقي قاطع، أن مراحل الموسيقى العربية وانتقالها من جيلٍ إلى جيل قبل ظهور الأسطوانة قد عرَّضها بشكلٍ لا يقبل الشك إلى تغيرات في مادتها اللحنية في مراحل انتقالها من جيل إلى جيل، كما هو الحال في الموسيقى الشعبية الفلكلورية ومن أهم عناصرها تغيير اللحن مع توالي الأجيال وإضافة كل جيل تغييرات عبر السنين؛ وهذا بسبب إننا لا نعرف من هو ملحن الألحان الفلكلورية المعروفة؛ لأنه في هذه الحال مجموعة ملحنين تعاقبوا جيلًا بعد جيل مضيفين كل منهم شيئًا من عنده، وأذكر هنا تجربة خضتها عندما طُلب مني دراسة في الفلكلور الفلسطيني -ظهرت في الموسوعة الفلسطينية- فقد اكتشفت أولًا أن هذا الفلكلور مشترك بين جميع الدول العربية المعروفة ببلاد الشام (سوريا، لبنان، فلسطين، الأردن)، والأهم من ذلك اكتشفت أن اللحن الفلكلوري المعروف “على دلعونا” له ثلاثة ألحان مختلفة وإن اشتركت بثلاثة عناصر: (النص، المقام، الإيقاع).
وإذا كان النشاط العربي الموسيقي قد حُفظ وقُنن بالتسجيل مع إلغاء إمكانية تغييره أو المساس به، فإن أوروبا سبقتنا بحفظ تراثها وذلك باختراعها فن التدوين على يد الراهب الموسيقي “جويدو دارتسو” في القرن الحادي عشر، هذه الطريقة الموجودة لغاية الآن حُفظت الأعمال الفنية منذ ذلك التاريخ من التغييرات والتطوير والإضافات فلا ارتجالات على اللحن ولا تغيير لنوته واحدة من النص، وظلت هذه الصفة هي الوحيدة لغاية الآن في التعامل مع نصوص الموسيقى الأوروبية في كل العالم.
إن تراكم النشاط الموسيقي في القرن التاسع عشر وانتقاله من جيل إلى جيل أدى إلى ظهور مرحلة تاريخية كبيرة في نهاية القرن، ظهور مجموعة من المواهب التاريخية في فترة زمنية قصيرة ومتقاربة جدًا بالنسبة لحجم هذه القامات: سيد درويش(1892-1921) ،محمد القصبجي (1892-1966)، زكريا أحمد(1896 -1961)، محمد عبدالوهاب (1898-1991)، رياض السنباطي(1906-1981). وكان لوجود دار الأوبرا وتوالي عروضها يوميًّا بتقديم روائع الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية_ الأثر الكبير في تكوين شخصية ثلاثة من هذا الجيل من الملحنين الشباب (سيد درويش ومحمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب) خاصة وأنهم كانوا من روادها الدائمين، فكان لهم الدور الكبير والمركزي في إسراع وتيرة تطور الموسيقى العربية؛ سيد درويش باستيعابه الفن الأوبرالي كاملًا ولبعض عناصرها بعمق دخلت في تطوير الموسيقى العربية، ولابد من ذكر تفاصيل تأثر القصبجي بالأوبرا التي استلهم منها الكثير في تكوين فكرهِ الموسيقي وكان من بعض تأثره أنه أوصل فن المونولوج إلى تطوره النهائي 1928 في مونولوج “إن كنت أسامح” من غناء أم كلثوم مطورًا بذلك هذا القالب الموسيقي من أغنية سيد درويش” والله تستاهل يا قلبي”، التي كانت بمثابة جنين لقالب المونولوج الذي استلهمه الشيخ سيد بدوره من شكل الأريا الأوبرالية. ومن أهم ثمار تردده على الأوبرا تعرف محمد القصبجي على فن التوزيع الموسيقي الذي نراه واضحًا في الكثير من أعماله لأم كلثوم خاصة المونولوجات التي وردت في فيلم نشيد الأمل 1937، وفي أغاني أفلام أسمهان وليلى مراد. هنا ملاحظة تاريخية، فبالرغم من أن (سيد درويش ومحمد القصبجي) ولدا في نفس السنة 1892، وأن شهرًا واحدًا فقط يفصل بين ميلادهما فإن سيد درويش كان أقرب من القصبجي إلى تراث القرن التاسع عشر، وأبدع في فنون القرن الرئيسة بمجموعة كبيرة من الأدوار والموشحات التاريخية ما لم يفعله محمد القصبجي والسبب في ذلك أن محمد القصبجي لم يبدأ التلحين إلا بعد وفاة سيد درويش 1923، وهذا يعني وكأنه كان من جيل مختلف أقرب من القرن العشرين منه إلى القرن التاسع عشر.
يأتي ثالث المتأثرين، ثالث تلميذ للمدرسة الموسيقية الجديدة التي اسمها دار الأوبرا (محمد عبدالوهاب)، فإلى جانب تأثره الكبير بها واستعيابه لكل الفنون الموسيقية الأوروبية (الأوبرا والسمفونية) من خلالها، فقد كان محمد عبدالوهاب متأثرًا جدًا بفن سيد درويش، وكان أكثر الكبار تأثرًا بتجديداته في الموسيقى العربية خاصة في أوبريتاته الثلاثين، مما جعل محمد عبدالوهاب يقول: “تريدون معرفة ما فعله سيد درويش في الموسيقى استمعوا كيف كان غيره يلحن في زمانه”.
أما عن درجة تأثره بفن سيد درويش فاختصره بقوله: “أنا درويشي حتى العظام” هذا القول صحيح بالمطلق، بل إنه مختصر مركز لمسيره محمد عبدالوهاب الفنية؛ فقد بقي محمد عبدالوهاب لآخر لحن لحنه يغبُّ من تجديدات سيد درويش ومرتكزًا على هذه التجديدات، التي تركها في مرحلة الجنين لسبب وفاته المبكرة جدًا، فجاء محمد عبدالوهاب وطورها وكأنه وضعها تحت مجهر إلكتروني عملاق.
اسم آخر من هذه الكوكبة من جيل كبار ملحنين هذه المرحلة هو “الشيخ زكريا أحمد”، الذي ظل وفيًّا لمدرسة التلحين القديمة وطريقة أدائها المرتبطة بشكلٍ وثيق بالتجويد القرآني وبفن الارتجال، وقد دعم وفاءه لهذه المدرسة ارتباط ألحانه بصوت تاريخي كان يمثل مدرسه التجويد في القرن التاسع عشر” أم كلثوم”، فقد ظل على وفائه وولائه لهذه المدرسة حتى آخر لحن لحنه لأم كلثوم (هو صحيح الهوى غلاب)، وللدلالة على عمق ارتباطه بهذه المدرسة سوف نقارن هذه الأغنية التي لحنها سنة 1960، أي قبل وفاته بسنه واحدة بأغنية محمد عبدالوهاب (الصبا والجمال)، والمسمع الأوبرالي قيس وليلي1939، ويتضح من هذه المقارنة أن أغنيات محمد عبدالوهاب تبدو وكأنها لحنت بعد أغنية زكريا بعشرات السنين.
آخر اسم من هذه الكوكبة هو “رياض السنباطي”، فقد كانت سنة ميلاده (1906) سببًا في جعله إلى جانب انتمائه للقرن التاسع عشر، تلميذًا للمدرسة الجديدة المتمثلة بـ(محمد القصبجي ومحمد عبدالوهاب) ما يجعله تراثيًّا متطورًا وهذه الشخصية المزدوجة تبدو واضحة جدًا في مسيرته الفنية، فشخصيته التراثية ارتبطت بصوت أم كلثوم بما يمكن تسميته بـ”رياض السنباطي الكلثومي”، أما صفاته التجديدية التطويرية فظهرت في أغانيه للمطربين الآخرين في أغاني الأفلام أو خارجها بما يمكن تسميته بـ”رياض السنباطي غير الكلثومي”. وإذا جمعنا هذه الكوكبة الكبيرة وفحصناها بعين ثاقبة نرى كل واحد منهم يمثل مدرسة بحد ذاتها وكأنهم ليسوا أشخاصًا ينتمون لمرحلة واحدة بل أجيال متعاقبة تفصلهم عشرات السنين.
ونصل إلى جيل النصف الثاني من القرن العشرين فنرى مدرسة متكاملة تظهر وانتماؤها الأكبر لمحمد عبدالوهاب وتأثره الخلاق بالموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، وكان عنوان هذه المرحلة أغنية “صافيني مرة ” لمحمد الموجي وحملها الصوت الجديد عبدالحليم حافظ الذي أصبح حامل لواء هذه المرحلة، أصبحت هذه الأغنية بداية مدرسة جديدة اسمها المدرسة الموسيقية الكلاسيكية الحديثة، وظهر الموجي في البداية مع توأمه كمال الطويل ثم ثالثهما بليغ حمدي لكن هذا الكلام لا يجعلنا ننسي كوكبة كبيرة من الملحنين الرائعة الذين ظهروا قبل رواد المدرسة الجديدة – أعلام المدرسة الموسيقية الاستعراضية- وأولهم (فريد الأطرش ثم محمد فوزي ومنير مراد، إلى جانب محمود الشريف وأحمد صدقي وسيد مكاوي… وغيرهم)، وإذا أضفنا إلى هؤلاء الأسماء التي لم تذكر نرى أن هذه الحقبة تضم عشرات الأسماء الكبيرة يكفي كل واحد منهم أن يمثل جيلًا بكامله كل هذا جاء نتيجة سرعة وتيرة التطور الموسيقي، نتيجة لوتيرة تطور المجتمع المتسارعة في تلك الحقبة.
ننتقل هنا إلى منطقة جغرافية أخرى إلى المشرق لنراقب مدرسة موسيقية هامة تظهر في لبنان في بداية النصف الثاني من القرن العشرين والتي مع تطورها، أصبحت تمثل المدرسة المشرقية للموسيقى العربية بعد التطور الكبير الذي عرفته الموسيقى العربية المشرقية بوجود مركزًا موسيقيًّا مهم امتد إلى قرون (مدرسة حلب للتراث القديم)، التي كانت المركز الذي لا يقل عن مصر في صناعة الموشحات والقدور الحلبية المعروفة لغاية الآن، هذه الموشحات التي سُميت خطأً بالأندلسية مع أنها حلبية الأصل، ولابد أن نذكر أن سيد درويش تعلَّم على أرباب هذه المدرسة وعلى رأسهم “عثمان الموصلي”، الذي لقَّنه كل موشحات وأغاني هذه المدرسة وتراثها وقد رجع سيد درويش بهذا الكنز واستعمله في أعماله الموسيقية خاصة في أوبريتاته الثلاثين جامعًا بذلك المدرستين معًا.
بعد هذه الحقبة انتقل مركز ثقل صناعة الموسيقى العربية المشرقية إلى لبنان، ومع تلاحق الأجيال في تلك المنطقة ظهرت فئة من الملحنين الموهوبين في لبنان مستلهمين التراث الموسيقي الشعبي بـ(مقاماته وإيقاعاته وأشعاره)؛ ليبدؤا ببناء مدرسة موسيقية وليدة تحولت مع تراكم التطور إلى بداية لمدرسة موسيقية جديدة كونت القاعدة الصلبة للمدرسة الموسيقية المشرقية، والتي مع تراكم تطورها أصبحت تشكل مركز التكامل الموسيقي مع المدرسة المصرية من الشرق. هذه المدرسة بدأت مع أسماء أصبحوا مع الأيام يمثلون القاعدة التي انطلقت منها الأجيال الجديدة، وأذكر منهم (سامي الصداوي، نقولا المنسي وكبيرهم فيلمون وهبي). ومع التراكم السريع المتعاقب على لبنان بسبب التأثر الكبير الآتي من الغرب من مصر؛ وبسبب التطور العام كدولة حديثة شابة ظهرت المدرسة الكلاسيكية الجديدة في بداية الخمسينيات من القرن المنصرم، وظهرت أسماء لامعة: (الأخوان عاصي ومنصور رحباني) وإنجازها التاريخي الأهم المتمثل بمسرحها الغنائي الذي جاء استمرارًا تاريخيًّا لمسرح سيد درويش في بداية القرن ولمن جاء بعده. حمل هذا الإنجاز التاريخي صوت فيروز التاريخي.
ونذكر هنا الأخ الرحباني الثالث “إلياس”، الذي كان إنتاجه أقرب إلى الموسيقى الترفيهية الخفيفة الغربية. مع الأخوة رحباني لابد من ذكر اسمين كبيرين “زكي ناصيف” الذي حول الفلكلور اللبناني إلى مدرسة كلاسيكية موسيقية، و”توفيق الباشا” الذي ساهم في التوزيع الكلاسيكي الأوركسترالي للفلكلور اللبناني القروي قام الاثنان بمهمة تاريخية وهي “تمدين” الموسيقى القروية.
من الجيل الجديد بعد كوكبة الرواد هذه يأتي اسم زياد رحباني ويمكن القول إنه الاسم الأكبر في الجيل الجديد وقد تابع مسيرة الرحبانيَيْن الكبيرَين (عاصي ومنصور) خاصة في المسرح الغنائي الذي ظهر معه في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، وقد شرَّح زياد في هذه المسرحيات المجتمع اللبناني سياسيًّا واجتماعيًّا في أثناء الحرب إلى جانب برنامج إذاعي تاريخي اسمه “بعدنا طيبين قول الله!” إنه مسرح مرتجل من وراء الميكروفون كان يرتجل فيه موضوع كل حلقة وهو ذاهب لتسجيلها، إلى جانب شريط “أنا مش كافر”. انطلقت هذه الأسماء من سابقين لهم كان لهم الإسهام الكبير في ظهور هذه المدرسة : خالد أبو النصر، الذي أطلق أعماله الغنائية الكلاسيكية المتطورة بواسطة أهم صوت في تلك الحقبة “زكية حمدان”، اسم ثاني آخر كبير مثل المدرسة الكلاسيكية المتطورة: حليم الرومي خريج معهد الموسيقى العربية في القاهرة سنة 1939 إلى جانب كوكبة الملحنين هذه أسماء المطربين قبل هذه المرحلة ظهرت أصوات جديدة تاريخية لامعة نقلت هذا الفن الجديد إلى أطراف العالم العربي شرقًا وغربًا: (فيروز ووديع الصافي)، ويلاحظ القارئ استنادي في بحثي هذا إلى مدرستي الموسيقى المصرية واللبنانية دون غيرها وهذا ليس تعصبًا مني بل لأسباب تاريخية أولها: عدم وجود مراجع تؤرخ لمدارس الموسيقى في المغرب العربي وفي دول الخليج، ثانيًا: وهذا الأهم أن انقطاع التواصل الحضاري والثقافي والفني بين المشارق العربية ومغاربها جعل الموسيقى المغاربية غير معروفة في المشرق، ومدارس المشرق الموسيقية غير معروفة في المغرب العربي، مما جعلني أركز علي المدرستين المعروفتين في كل أنحاء العالم العربي شرقًا وغربًا وأقصد المدرستين (المصرية واللبنانية)، واللتين انتقلتا إلى جميع أنحاء العالم العربي بواسطة أصوات تاريخية وعلى رأسهم (محمد عبدالوهاب وأم كلثوم وأسمهان وفريد الأطرش وعبدالحليم حافظ لاحقًا)، ومعه الأسماء المصرية والتي جاءت من مختلف العالم العربي واستقرت وانطلقت فنيًّا من مصر: ليلى مراد (مصرية)، فايزة أحمد (لبنانية)، سعاد محمد (لبنانية من أصول مصرية واسمها بالكامل سعاد محمد المصري)، وردة الجزائرية، سمية قيصر المغربية، نجاة الصغيرة (سورية)، علية التونسية نادرة ( من أصول شامية سورية)…وغيرهم ،أما من لبنان فكما ذكرنا( فيروز ووديع الصافي).
وتمر الأيام والأجيال وتظهر أجيال جديدة ومع هذه الأجيال الجديدة نلاحظ منعطفًا خطيرًا جدًا وهو تحول هذه الأجيال إلى التأثر بالموسيقى الغربية الترفيهية الخفيفة، إن هذا التأثر مع انقطاع هذه الأجيال عن جذورها التاريخية العربية المصرية اللبنانية يؤدي إلى انقطاع سلسلة التطور الطبيعي والتاريخي للموسيقى العربية وهذا ما قصدته بمرحلة العودة إلى الصفر. إن مراحل الهبوط في تاريخ تطور الفنون موجوده حتى في التاريخ الأوروبي، وأهم مرحلة من انقطاع سلسلة التطور التاريخي في الموسيقى في أوروبا كانت مرحلة الروكوكو التي جاءت بعد مرحلة الباروك العظيمة موسيقيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا. مرحلة الروكوكو كانت مرحلة تراجع في تاريخ تطور الفنون الأوروبية، وقد استمرت حوالي أربعين عامًا لغاية الوصول إلى المرحلة الكلاسيكية في كل الفنون والعطاءات الإنسانية التي أعادت الارتباط بآخر حلقة من سلسلة التطور الفني الأوروبي (مدرسة الباروك)، وانطلقت من جيل إلى جيل كل يضيف إلى هذه السلسلة حلقته الخاصة لغاية الوصول إلى قمة المرحلة الكلاسيكية الموسيقية: (هايدن، موتسارت، بيتهوفن). إن مرحلة التدهور والتقهقر والتراجع هذه في تاريخ الفنون الأوروبية نذكرها الآن كمرحلة تاريخية مر عليها مئات السنين تلاها مراحل نهوض شامخة وعطاءات عظيمة موسيقية وفكرية وفنية وإنسانية في مجال (الموسيقى والإعمار والرسم والنحت والفلسفة والفكر… وغيرها) من أنواع العطاء الإنساني. أما صعوبة التعايش مع المرحلة الحالية في ثقافتنا العربية فيكمن في أننا نعيشها يومًا بيوم وساعة بساعة وكل ما نتمناه ألا يطول انتظارنا للمرحلة التي تعود فيها الأجيال المقبلة للارتباط بسلسلة التطور الفني العربي التي امتدت من ظهور الأسطوانة المسطحة كوسيلة للتأريخ لغاية السبعينيات من القرن العشرين.