أولاً- مدخل عام
العلاقات بين إسرائيل وروسيا قديمة ومركبة ومعقدة، منذ تأسيس دولة إسرائيل والاعتراف المبكر بها من قبل الاتحاد السوفيتي السابق بعد اعتراف الولايات المتحدة مباشرة عام 1948، وإبان مرحلة الحرب الباردة ومرحلة الاستقطاب الحادة بين المعسكرين السوفيتي والغربي، وبينهما مصر وإسرائيل والعالم العربي، وقد اجتازت هذه العلاقات بين البلدين من حيث طبيعتها في الأزمات السياسية وفي الحروب المتتالية كثيرًا من المراحل والتقلبات، لكن نقطة التحول الكبرى في تلك الأطوار تجلت في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 واستئناف العلاقات الدبلوماسية بين موسكو والقدس، كما تعرضت لفترات توتر وعدم الاستقرار والاضطراب متأثرة في الأساس بالأحداث الداخلية في روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي وأحداث الشرق الأوسط وبالقضية الفلسطينية وتطورات عملية السلام ما بعد مؤتمر مدريد 1991 والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية المتعثرة، وبمعنى آخر تأثير الثوابت المتغيرة أو بعبارة أدق المتغيرات الإقليمية على تلك العلاقات بين روسيا وإسرائيل التي كانت قد عادت إلى طبيعتها تقريبًا منذ عام 1991.
وإذا كانت نقطة التحول الكبرى في علاقات الدولتين تؤرخ بعام 1991 واستعادة إسرائيل لعلاقاتها الواسعة مع موسكو بعد سقوط الحاجز الأيديولوجي والنظام الشيوعي، وسقوط الاتحاد السوفيتي بسياساته المعروفة المناهضة لإسرائيل، فإن الطفرة الحقيقيةـ بلغت أعلى مستوياتها منذ سبتمبر 2015 حين تدخلت روسيا عسكريًا في سوريا حيث رأت إسرائيل في روسيا لاعبًا أساسيًا وفاعلاً من حيث قدرتها في التأثير على مصالحها الأمنية، ومع أنه نادرًا ما تتطابق المصالح الأمنية لإسرائيل مع المصالح الأمنية لموسكو، لكن أرضية مشتركة غالبًا ما تجمع بينهما، حيث تتناغم وتتلاقى المصالح، وحتى لو تناقضت، تدرك كل من روسيا وإسرائيل أهمية الطرف الأخر، وتسعى كل منهما لبذل الجهد للحيلولة دون الصدام مع الآخر، ذلك أن إسرائيل بوصفها لاعبًا إقليميًا هاما لديها القدرة على التأثير سلبًا في مخططات روسيا ومشروعاتها في الشرق الأوسط، كما أن روسيا، في المقابل، تستطيع أن تؤثر سلبًا في إسرائيل بتحالفاتها مع أكبر خصومها، أي مع إيران وسوريا، بل إن روسيا تشارك إسرائيل من حيث الواقع في حدودها على مرتفعات الجولان، ذلك أن وجود القوى الروسية يفرض قيودًا وكوابح كثيرة على نشاط إسرائيل في تلك المنطقة.
المدقق لمسار علاقات الدولتين عبر سنوات الرئيس بوتين، يتبين أن مساحات التناغم والتوافق تتسع، بينما تتقلص مساحات التنافر والتباعد سواء في القضايا الخلافية (إيران وسوريا، والقضية الفلسطينية، وقضايا العقوبات المفروضة على روسيا، والوجود الروسي في أوكرانيا وغيرها) يضاف إلى ذلك عامل هام يستوجب الإشارة إليه وهو تأثير العامل الشخصي أو الكيمياء الشخصية بين الرئيس بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، والدور البارز لشخصيات إسرائيلية من أصول روسية خاصة وزير الدفاع الإسرائيلي ليبرمان وهو وزير الخارجية لسنوات سابقة 2009–2012، 2013-2015 الذي استطاع أن يجعل الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإسرائيل إحدى أولويات إسرائيل.
ومع أن علاقاتهما الثنائية تجاريًا وسياحيًا واقتصاديا (الغاز الطبيعي) من أهم مجالات التعاون، فإن تعاونهما العسكري في شكل إنشاء آلية للتنسيق وعدم التصعيد منذ عام 2015 لتجنب الصدام بين إسرائيل وروسيا في المجال الجوي السوري، أتاح الفرصة لتفاعل نظام المخابرات والقيادات العسكرية ورؤساء الأركان بين روسيا وإسرائيل وشملت الولايات المتحدة لحل المعضلات في القضايا الخلافية (سوريا وإيران).
لكن تظل إيران أخطر القضايا الخلافية بين إسرائيل وروسيا، بعد أن بلغت علاقة روسيا وإيران درجة التحالف، ومن التحديات أو الإشكاليات المعقدة التي تواجه روسيا في علاقاتها مع إسرائيل إدارة علاقاتها مع إيران، ويرى بعض الخبراء أن روسيا لا تتحمس كثيرًا لمطالب إسرائيل وطروحاتها عن خطر الوجود الإيراني ويرون ذلك نوعًا من الهواجس الإسرائيلية المفرطة، لكن الموقف بالنسبة لسوريا قد تطور في أن إسرائيل أصبحت لا ترى بأسًا من استمرار النظام السوري المدعوم من روسيا، لكنها تشترط إبعاد النفوذ أو الوجود الإيراني عن حدودها الشمالية، وبشكل عام تحرص روسيا قدر الإمكان على تحقيق درجة من التوازن في علاقاتها بإيران وإسرائيل على الصعيد السوري.
تتبقى قضية خلافية ثالثة هامة (بعد إيران وسوريا) وهي القضية الفلسطينية، والتي تعود أصولها وتاريخها إلى العهد السوفيتي السابق، بيد أن روسيا اليوم بعد مؤتمر مدريد ولعضويتها في مجلس الأمن، ثم اللجنة الدولية الرباعية الخاصة بالشرق الأوسط وعلاقاتها بالسلطة الفلسطينية ثم استئناف علاقاتها مع إسرائيل منذ عام 1991 لم تزل تتطلع روسيا إلى القيام بدور الوسيط بين الأطراف للتوصل لاتفاق سلام بين إسرائيل وفلسطين وقد تجلى هذا الموقف في بداية عام 2018 فيما صرح به لافروف وزير الخارجية الروسي بأن روسيا تسعى لإحياء المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية إذ أنه لا سبيل إلى التسوية إلا من خلال الحوار .
ثانياً- إشكاليات العلاقات الروسية-الإسرائيلية(في سياق الأزمة السورية)
قد يظن البعض أن روسيا لم تذهب في علاقاتها مع إسرائيل إلى مدى بعيد، ذلك أنه كما سعت إيران لتوطيد أو إقامة قواعدها بشكل دائم سوريا، تسارع إسرائيل بتوجيه ضربتها لها حتى إنه عشية الاحتفال بيوم النصر في التاسع من مايو 2018 في موسكو، شنت إسرائيل ضرباتها الجوية على القوات الإيرانية إبان زيارة نتنياهو لموسكو في تلك المناسبة، وكان واقفًا إلى جوار الرئيس الروسي بوتين لكن الدفاعات الجوية الروسية لم تكن تتصدى للطائرات الإسرائيلية بل ويذهب البعض إلى الشك في أن الرئيس بوتين ربما كان قد أخطر رئيس وزراء إسرائيل بإحداثيات القواعد الإيرانية، لكن الخبير الروسي والدبلوماسي السابق في إيران نيكولاي كوجانوف ممن يرون محدودية التأثير الروسي على إيران، على الرغم من أن الرئيس بوتين نفسه كان قد دعا إلى رحيل كل القوات الأجنبية عن سوريا.
وفي واقع الأمر، كانت المصالح الروسية /الإسرائيلية تتجه فيما يبدو إلى التلاقي، إذ أن إسرائيل أضحت تدرك أنها، كما يقدر خبراؤها، أصبحت قادرة بتعاونها مع روسيا على الحيلولة دون نشوب أزمة حادة بشأن سوريا، ذلك أن إسرائيل لم تعد تبالي بأن يستمر نظام الأسد في الحكم.
والواضح أنه طول سنوات الحرب الأهلية في سوريا ظلت المقاربة الإسرائيلية تجاه روسيا تسير في اتجاهين: الاتجاه الأول هو تجنب الصدام أو المواجهة مع روسيا جوًا أو برًا، خاصة المناطق الحدودية. أما الاتجاه الثاني فهو محاولة اجتذاب موسكو لصف إسرائيل في قضية مكافحة الإرهاب والتطرف الإسلامي، بالإضافة إلى حرص إسرائيل الدائم في الدفاع عن مصالحها الحيوية على نحو ما أفصح عنه الرئيس الإسرائيلي (ريفلين) في زيارته لموسكو في الخامس عشر من مارس 2016 بعد أقل من 6 شهور من التدخل الروسي العسكري المباشر عن سوريا. حين حدد شواغل إسرائيل الاستراتيجية بأنها تكمن في الحيلولة دون حزب الله والحرس الثوري الإيراني وبين إقامة وجود دائم على الأرض السورية في الجولان، وإن كانت الإشكالية الأكبر التي سوف تظل تواجه إسرائيل هي مصير سوريا ومستقبلها السياسي.
ثالثاً- التنسيق الروسي وآليات الخروج من الإشكاليات
ولمحاولة الخروج من هذا المأزق أو تلك الإشكالية من الوقوع في التناقض في علاقات روسيا بإيران مع علاقاتها بإسرائيل لجأت الدولتان وخاصة إسرائيل إلى نوع من التنسيق الوثيق والتعاون والحوار تجنبًا للصدام بين روسيا وبين إجراءات إسرائيل والمصالح الروسية في سوريا وقد أكد صناع السياسة في إسرائيل في أكثر من مناسبة منذ ديسمبر 2015 بعد التدخل العسكري الروسي، أنهم حريصون على التنسيق مع روسيا، واستبعاد احتمال التصعيد بين روسيا وإسرائيل، ومثلما حدث بين تركيا وروسيا في حادث إسقاط الطائرة الروسية في 24 نوفمبر 2015، ويكشف أحد كبار مسئولي وزارة الدفاع الإسرائيلية أن كثيرًا ما عبرت الطائرات الروسية الأجواء الإسرائيلية خلال عمليات القصف جنوب سوريا دون تدخل من إسرائيل.
وبرغم ذلك يظل هناك عاملان يؤثران سلبًا في العلاقات بين روسيا وإسرائيل: أولها محاولات إيران توسيع وجودها في مرتفعات الجولان ومنطقة الجنوب والقنيطرة وغرب درعا بما يمثل تهديدًا لإسرائيل، ويحد من قدرة إسرائيل على رد الفعل، أما العامل الثاني فهو تعميق العلاقات بين إيران وحزب الله مع روسيا. وقد ينطوي ذلك على رؤية روسية أن علاقتها مع إيران وحزب الله تفوق أهمية علاقاتها مع إسرائيل، وعندئذ يواجه الطيارون الإسرائيليون تهديدات من وسائل الدفاع الروسية المتقدمة لدى إيران وحزب الله، ولم يكن أمام إسرائيل تجاه هذه الإشكاليات إلا تعزيز “آلية التنسيق” مع روسيا، وهذا التنسيق حتى نهاية عام 2015 لم يكن قد ارتقى بعد إلى مستوى التنسيق والتعاون الاستراتيجي.
ومن منظور أشمل وأوسع، فإذا نظرنا إلى المصالح الروسية الإسرائيلية في المنطقة يبدو أن المأثورة العبرية القديمة التي تقول “ابدأ بالاحترام أولاً تجاه الآخر” ولكن لابد من التشكيك في نوايا هذه المأثورة العبرية التي تشكل أساس الموقف الإسرائيلي الحالي تجاه روسيا (الاحترام مع الشك)، ومن ثم فقد التزمت إسرائيل أقصى درجات الحذر فيما يتصل بالمصالح الجوهرية لروسيا (خاصة في موقف إسرائيل من غزو شبه جزيرة القرم، فامتنعت عن النقد، وكذلك لم تنتقد تصويت روسيا ضد إسرائيل في مجلس الأمن والأمم المتحدة والتزمت عدم الانفعال، ولعل وجود عنصر بشري هام في إسرائيل (المواطنون الإسرائيليون من أصول روسية تعدادهم أكثر من مليون نسمة) يؤكد ما يكرره بوتين دائمًا أنه يستبعد أي إجراء سلبي يؤثر في هؤلاء المواطنين (منح بوتين المواطنين الروس من أصل روسي معاشًا استثنائيًا رمزيًا).
وربما ليس من المبالغة في التوقع القول بأن المسار القادم في علاقات روسيا وإسرائيل يبدو واضح المعالم في الحفاظ على الشكل الخارجي من التعامل الودي على أساس من المصالح المتبادلة بينهما استنادًٍا إلى الحقيقتين التاليتين:
الحقيقة الأولى: أنه في خضم الحرب الدائرة في سوريا بأطرافها الداخلية والإقليمية والدولية فقد اكتسبت علاقات إسرائيل مع روسيا أبعادًا متعددة ومتجددة، ذلك أن أي عمل عسكري تقدم عليه إسرائيل ضد أعدائها الإقليميين (إيران وحزب الله) لابد أن يأخذ في اعتباره بالضرورة الوجود العسكري الروسي في سوريا، ذلك أن الحفاظ على علاقات طيبة مع موسكو يمثل هدفًا من أهداف إسرائيل الرئيسية، كما تتوخاها روسيا أيضًا حتى وإن ظلت مصالحها الاستراتيجية على مستوى المنطقة كلها مليئة بالتناقضات.
الحقيقة الثانية: أنه من زاوية التدخل العسكري الروسي في سوريا وتأثيره على إسرائيل، فأولويات إسرائيل في سوريا الحيلولة دون دعم القدرات العسكرية لحزب الله ثم الحد من النشاط العسكري لإيران، كما تشمل أولويات إسرائيل ضرب وسائل النقل وأماكن تخزين الأسلحة لحزب الله ثم الرد على حوادث الحدود بالإضافة إلى حرية الحركة أمام إسرائيل في مرتفعات الجولان السورية.
وطبقًا للتقارير الإسرائيلية فمن الواضح أن روسيا قد حققت فيما يبدو مغانم كثيرة من السياسة الإسرائيلية وتدخلاتها العسكرية في سوريا، ففي تقديرات كثير من الخبراء فإن الطريق أمام بوتين لترسيخ إنجازاته في سوريا إنما أصبح يكمن في التوصل لاتفاق مع إسرائيل بما يعزز مكانة روسيا ووجودها في الأراضي السورية، ذلك أن الرئيس الروسي قد رسخ مكانته كنتيجة مباشرة للغارات الجوية الكاسحة التي كانت إسرائيل قد قامت بها ضد القوات الإيرانية وضد الدفاعات الجوية السورية معًا التي لم تكن أكثر من بيت من ورق كما أطلق عليه خبراء إسرائيل، ويبدو واضحًا أن إيران قد تكبدت نكسة كبرى مدوية من جراء تلك الغارة الإسرائيلية لكنها عززت مكانة بوتين الذي لم يكن بحاجة إلا أن يوافق على ما يراه رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ضد إيران من وجودها في سوريا.
ومثل هذا الموقف (المهادن) من جانب موسكو تجاه إسرائيل، وعدم توجيه النقد لها يمثل تطورًا هامًا وجديدًا، وقد قوبل بارتياح بالغ في الرأي العام الإسرائيلي، وهو ما استوجب من نتنياهو الالتزام بدبلوماسية حذرة وبارعة للتوصل إلى تفاهم مع روسيا حول حدود الدور الإسرائيلي وإدارة آلية عدم الصدام وتجنب أي حسابات خاطئة، وإن لم يكونا قد توصلا بعد الاتفاق حول وضعية إيران وتأثيرها في المستقبل السوري.
وبالإضافة لذلك يرى بوتين طبقًا للتقارير الأمريكية، أن قرارًا بالدخول في مواجهة مع إسرائيل لتدخلها عسكريًا ضد إيران لا يخدم المصالح الروسية، ولعل العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة ضد المواقع الإيرانية (مايو 2017) قد كشفت عن أن الإنجازات الإيرانية في سوريا لا تعدو أن تكون مجرد (بيت من ورق) سرعان ما ينهار أمام الضربات الإسرائيلية باتجاه جنوب سوريا.
ودلالات هذا كله أنه إذا كان للتدخل العسكري الروسي في سوريا آثاره على الموقف الإسرائيلي من الحرب في سوريا، فإنه كان للتدخلات العسكرية الإسرائيلية بدورها انعكاساتها على الموقف الروسي وعلى تقديرات الرئيس بوتين نفسه.
ويبقى مع ذلك حقيقة ثابتة أنه بالتوازي مع تفاعل الدولتين في سياق الصدام المسلح في سوريا، هي نمو علاقاتهما الثنائية برغم استمرار بعض التناقضات الاستراتيجية.
رابعاً- العلاقات الروسية الإسرائيلية .. المحفزات والمثبطات
ويتمثل هذا في علاقات صحيحة تقيمها إسرائيل مع روسيا، وذلك هدف من أهداف سياستها الخارجية الثابتة برغم بعض التوتر، لكنه منذ التدخل الروسي في سوريا جرت بين الدولتين عشرات اللقاءات والمشاورات، أما الرئيس بوتين فهو عادة ما يؤكد في تصريحاته على الرابطة الأيديولوجية والتاريخية بين روسيا وإسرائيل إبان الحرب العالمية الثانية في الحرب ضد الفاشية، وحربها في الوقت الحاضر ضد الإرهاب الإسلامي، وسياستها الحالية تقوم على أساس من التعاون “البراجماتى” التي تتبعها إسرائيل مع دول خارج المعسكر الغربي مثل الصين والهند ومثل إعادة صياغة علاقاتها مع تركيا، وعلى الصعيد الاقتصادي مثلاً تظل روسيا شريكًا تجاريًا هامًا لإسرائيل حيث تجاوز الميزان التجاري بينهما 3.5 بليون دولار، ولم تزل إسرائيل تسعى “لاتفاق انتساب” (أو منطقة تجارة حرة) مع الاتحاد اليورو أسيوي، كما أن التعاون في المجال العلمي والنانوتكنولوجي يتقدم بسرعة في مجال أبحاث الفضاء، وأهم صادرات روسيا لإسرائيل هي النفط والاهتمام بالاستثمار في سوق الغاز الطبيعي وفي قطاع السياحة الدينية لارتفاع عدد السائحين الروس في إسرائيل لأكثر من 285000 سائح سنويًا (من الحجاج الأرثوذوكس) كما يصل عدد سكان إسرائيل من أصول روسية حاليًا إلى 1.3 مليون نسمة كما سبقت الإشارة.
ومن المنظور الاستراتيجي الأوسع، لازالت مع ذلك هناك فجوات في الأهداف السياسية للدولتين، فهدف روسيا توسع دائرة نفوذها وزعزعة مكانة الولايات المتحدة إقليميًا وهو ما يتناقض مع أهداف إسرائيل، الأمر الذي تحقق مع تقلبات علاقات روسيا بإسرائيل، بسبب تعاون روسيا (مع أعداء إسرائيل) إيران وحزب الله، وموقفها من الاتفاق النووي مع إيران، وهو ما تعارضه إسرائيل بقوة، فضلاً عن دعم روسيا للوجود الإيراني في سوريا (حتى منتصف عام 2018) وتصدي إسرائيل لهذا الوجود، وإن كان استمرار نظام الأسد الذي تحرص عليه روسيا، لم يعد يمثل تأثيرًا أمنيًا يذكر على إسرائيل، ولم تعد توليه أي اهتمام اللهم إلا إذا كان يسمح باستمرار قوات لإيران أو لحزب الله.
وحتى في السياق الإسرائيلي الفلسطيني، فروسيا تؤيد فعليًا إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية (اعترفت روسيا بالقدس الغربية عاصمة لإسرائيل) ولم تزل تدعو لتنظيم مباحثات إسرائيلية فلسطينية برعاية روسية، وان لم يلق هذا الاقتراح ترحيبًا إسرائيليًا لكن مع هذا المنظور متعدد الأبعاد ومن العلاقات الثنائية السياسية والاقتصادية والفنية وحتى من منظور التنسيق العسكري العملياتي لتجنب الصدام في سوريا فقد تبلورت مع اقتراب الحرب في سوريا حقائق جديدة.
خامساً- إعادة ترتيب الأوضاع جنوب سوريا على الحدود الإسرائيلية السورية بين روسيا وإسرائيل
بعد جولات ثمانية أو تسعة (العاشرة في نهاية يوليو 2018) في الأستانة بمشاركة إيران وتركيا، نستطيع القول إن دورًا روسيًا حاسمًا بدأ يتضح في الإعداد لمسرح جديد على الساحة السورية خاصة في أجزائها الجنوبية، أي على الحدود الشمالية لإسرائيل، ومرتفعات الجولان والقنيطرة ـ هذا الدور الروسي الحاسم هو دور مزدوج يهدف لتحقيق هدفين أولهما الحيلولة دون ترسيخ الوجود الإيراني جنوب سوريا، بالتنسيق مع إسرائيل مقابل الإبقاء على نظام الأسد وضمان حرية الحركة لإسرائيل ضد إيران، والحفاظ على مرتفعات الجولان منطقة عازلة منزوعة السلاح بين سوريا وإسرائيل (ولم تحسم الجولة العاشرة في الآستانة كل الخلافات). وكانت التقارير الإسرائيلية تشير إلى أن كبار المسئولين الإسرائيليين يصرحون أن روسيا تعمل على منع التمركز الإيراني العسكري على طول الحدود الشمالية لإسرائيل وذلك كجزء من الاتفاق بين روسيا وإسرائيل على عدم تعرض إسرائيل للنظام السوري وزعزعة مكانة رئيسه على نحو ما روت صحيفة هآرتس وذلك كله مقابل التزام سوريا باتفاق فصل القوات عام 1974 لكن ما كان أهم هو قبول روسيا للعمليات التي تقوم بها إسرائيل لمنع تمركز القوات الإيرانية وحلفائها على الأرض السورية، وكانت التصريحات الروسية تؤكد ما سبق أن صرح بها رئيس وزراء إسرائيل ناتانياهو للرئيس الروسي (بوتين) بأن إسرائيل تلتزم بألا تتعرض لنظام الأسد على أن يتولى الروس إخراج الإيرانيين من سوريا، وليس هذا في الحقيقة إلا امتدادًا لموقف واشنطن، المنفتحة على استمرار الأسد واستعادته كل المناطق، وربما كان لقاء القمة في هلسنكي (16 يوليو 2018) بين الرئيس ترامب وبوتين قد توصل لصيغة من تقليص مساحة الاختلاف حول الأزمة السورية للحد من المخاوف الإسرائيلية، وإن كان هذا الاتفاق لا يقضي على الوجود الإيراني تمامًا.
سادساً- آفاق المستقبل في علاقات روسيا وإسرائيل في ضوء ثمار قمة هلسنكي
مجمل التقديرات لحصاد أو ثمار القمة بين بوتين وترامب بالنسبة لأهم قضايا علاقات روسيا وإسرائيل بالنسبة (لسوريا وإيران والقضية الفلسطينية) أن مجرد انعقاد تلك القمة يمثل في المقام الأول تطورًا إيجابيًا، كما يرى إيجور إيفانوف وزير خارجية روسيا الأسبق ورئيس المجلس الروسي للشئون الخارجية، كما أنه مجرد بداية بعد أن تمكنت روسيا والولايات المتحدة تجاوز الحاجز النفسي وبدء حوار طبيعي وخلق قوة دفع في كثير من القضايا وخاصة بالنسبة لسوريا بعد أن كانت الولايات المتحدة قد تقبلت في النهاية استمرار الأسد في السلطة، ولم تعد واشنطن تلعب دورًا مركزيًا في عملية السلام وإن لم تتضح نواياها بعد في سحب قوتها والانسحاب من المنطقة، ولعل الأهم بالنسبة لموسكو وواشنطن في الوقت الحاضر أنه مع استمرار الأزمة العمل على تجنب الصدام بين العناصر العسكرية في سوريا، واستمرار تبادل الرأي للتوافق على صيغة جنيف منذ عام 2012، وقد يكون هو نفس التقدير الذي خلص إليه خبراء إسرائيل حين استخلصوا من قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين من زاوية تأثير هذا على العلاقات بين روسيا وإسرائيل وسوريا وإيران، أن الأمر الأهم في هذا المناخ هو إجراء الحوار ذاته بين موسكو وواشنطن بإقرار ما تحقق من نتائج بالنسبة لسوريا، يرى خبراء إسرائيليون أن بوتين قد صرح بأنه قد اتفق مع ترامب “على ضمان أمن إسرائيل” وحدودها طبقًا لاتفاق فصل القوات عام 1974، وإن كان من المشكوك فيه أن يُحدث لقاء القمة تغيرات في موازين التطورات في سوريا أي بما يحقق هدف إسرائيل الاستراتيجي ألا وهو إزاحة الوجود الإيراني من سوريا بالكامل، ويبقى بعد ذلك أن التحدي الذي يواجه إسرائيل إنما يكمن في أن مصالحها أصبحت في قلب وجوهر الحوار الدائر بين القوتين العظيمتين روسيا والولايات المتحدة، وهو حوار لم تزل تحيط به الشكوك.
وبالنسبة لإيران ووجودها العسكري في سوريا، فالثابت من القمة أن روسيا قد أبدت استعدادًا أكبر للتوصل لتفاهمات حول كثير من القضايا التي تهم الولايات المتحدة بما في ذلك المسألة الإيرانية، وذلك أن بوتين كان يدرك أنه دون التوصل لمثل هذه التفاهمات، فإن روسيا بتورطها في سوريا لثلاث سنوات منذ عام 2015 قد تزداد انزلاقًا في مثل هذا المستنقع دون أن تتمكن من استثمار وجودها في سوريا في تحقيق المزيد من الإنجازات على الصعيد العالمي، ومن ثم فلابد وأن تستمر إسرائيل في مناوراتها مع روسيا، وكذلك مع الولايات المتحدة فيما يتصل بأمرين، أولهما إرجاء انسحاب القوات الأمريكية من سوريا حتى الاطمئنان لخروج القوات الإيرانية، وعمومًا فإن كافة التفاهمات بين الولايات المتحدة وروسيا حول الوجود الإيراني في سوريا ثم مستقبل التسوية السياسية (بما في ذلك انعكاساتها على إسرائيل) سوف تكون هي جوهر الجهد الأكبر والأهم لموسكو لتحقيق ما يوصف بالمساومة أو بالصفقة الكبرى بين القوتين العظميين لصالح إسرائيل ولمصالحهما أيضًا. أما إذا ما فشلت الصفقة فإن روسيا قد تعلن أنها لن تفي بما كانت قد التزمت به من تعهدات كان يطالب بها ناتانياهو من مبعوث الرئيس بوتين لافرنتيف ونائب وزير الخارجية الروسي سيرجي فبرشينين، بعدم الموافقة على أي وجود إيراني في أي مكان في سوريا والالتزام بدقة باتفاق فصل القوات وتأكيد الدور الروسي في وساطته بين إسرائيل وإيران (كان الرئيس بوتين قد استقبل في نفس الوقت تقريبًا قبل قمة بوتين وترامب مبعوث الزعيم الإيراني ومستشاره الخاص للشئون الخارجية علي أكبر ولاياتي) بعد لقاءات بوتين مع ناتانياهو الذي أكد ضرورة رحيل القوات الإيرانية عن سوريا وكانت روسيا قد وافقت فعلاً على مطالب إسرائيل ومطالب الولايات المتحدة عن إجلاء القوات الأجنبية جنوب سوريا المدعومة من إيران وهو أساس اتفاق بوتين وترامب في قمة هلسنكي التي أصبحت تشكل فرصة حقيقية لإخراج إيران من سوريا ولكن برغم كل ذلك تظل شكوك إسرائيل مستمرة تجاه إيران في خططها لإقامة بنية أساسية عسكرية في جنوب سوريا أو غيرها وهو ما يفرض تحديات على إسرائيل.
سابعاً- الخلاصة
يمكن النظر إلى تفاعل العلاقات بين روسيا وإسرائيل من منظورين مختلفين اختلافًا جذريًا أولهما المنظور الأيديولوجي الذي كان يحكم علاقات السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي السابق بدول الشرق الأوسط بصفة خاصة في ظل الحرب الباردة والصراع مع الولايات المتحدة، لاسيما في سياق الحرب العربية الإسرائيلية منذ عام 1948 حتى 1973 ثم الصدام العسكري والسياسي بين الفلسطينيين قبل وبعد إنشاء السلطة الفلسطينية حتى عام 1991. ثانيهما المنظور البراجماتى-الجيوسياسي الذي أحدث تحولاً حادًا في سياسات ومواقف روسيا الاتحادية في ظل قيادتها السابقة (الرئيس السابق بوريس يلتسين) ثم الرئيس الحالي منذ عام 2000 فلاديمير بوتين حتى اليوم وبلورة عقيدة استراتيجية سياسيًا وعسكريًا أعلنتها القيادة مرارًا قوامها الاعتبارات الواقعية والمصالح القومية والأمن الروسي في الجوار المباشر وفي الإقليم المحيط بدول الاتحاد السوفيتي السابق، ثم المحاولات الدؤوبة لاستعادة مكانة روسيا العالمية، وبالتحديد دورها ومواقعها في الشرق الأوسط وشرق المتوسط بما يخدم المصالح الروسية ونفوذها في المقام الأول فوق كل اعتبار، وكانت تلك السمات والخصائص تميز علاقات روسيا بإسرائيل ما قبل الأزمة السورية، وحتى ما بعد تلك الأزمة.
أما المنظور الثالث هو ما حدث من تطور بالغ الأهمية بعد الأزمة السورية في علاقات روسيا الإقليمية بدول الشرق الأوسط، سوريا، وإسرائيل، وإيران وتركيا بل وبعض الدول العربية (مصر – السعودية خاصة) بتدخلها العسكري المباشر في سوريا في سبتمبر 2015 بعد أن كان نظام الأسد يواجه احتمال السقوط لولا التدخل وكان لهذا التدخل آثاره ودلالاته الاستراتيجية بعيدة المدى على كل الأطراف في علاقة روسيا بإسرائيل وإيران وتركيا وبالطبع بمستقبل النظام السوري ثم بعلاقاتها مع الولايات المتحدة، حتى أصبحت سوريا جزءًا من الحوار بينهما، بل وجزءًا من الحوار بين روسيا وإسرائيل وربما بداية للتفاهم الأبعد على المستوى الاستراتيجي.
ولم يزل الحوار مفتوحًا بين الدولتين والزعيمين بوتين ونتنياهو، ثنائيًا وإقليميًا وهو مرشح للارتقاء لمراحل أعلى في المستقبل المنظور.