رحل جمال حمدان عن خمسة وستين عامًا وشهرين، أنتج خلالها نحو عشرين كتابًا، طاف خلالها شتى المعارف بحثًا عن روح مصر، إنه العقل الذهبي الذي لا تُؤتى مثله سوى الأمم العريقة، إذ ينبت من صلبها أعلامٌ يرسمون ملامح شخصيتها المتفردة بفرشاة التاريخ ومحبرة الدين على لوحة الفن، إنه حقًا مثل: سيريل فوكس، الذي كتب “شخصية بريطانيا” متوجًا فَهم توينبي للتاريخ من خلال دراسته الشهيرة لجميع الحضارات انطلاقًا من وطنه بريطانيا، وأيضًا فرنان بروديل، الذي كتب “هوية فرنسا” متوجًا عمل مدرسة الحوليات ومتمِّمَا أعمال سابقيه عن شخصية فرنسا الجغرافيا، فيما حاول صامويل هانتنجتون أن يصوغ شخصية أمريكا في كتابه “من نحن”، ولكن عمله جاء فقيرًا عن شخصية لا تزال في طور الصبا، ينهض تكوينها على قاعدة الفلسفة البراجماتية، لم تكتسب ضميرًا ثقافيًّا بعد.
كتب عن مصر مرارًا كُتابٌ كُثُر، أجانبٌ ومصريون، من منظورات مختلفة لكنهم جميعًا لم يبلغوا مكانته السامقة. لقد كتب صبحي وحيدة عن “أصول المسألة المصرية” منتصف القرن العشرين من منظور السياسة والتاريخ، وكتب شفيق غربال نهاية الخمسينيات موجزه “تكوين مصر عبر العصور” من منظور الدين والثقافة أساسًا، ثم كتب حسين مؤنس “مصر ورسالتها” من منظور التاريخ الثقافي، وأخيرًا لا آخرًا كتبت نعمات أحمد فؤاد عن مصر ما يشبه أنشودة بنفس غنائي شاعري، أما جمال حمدان فكتب شيئًا مختلفًا تمامًا استوعب كل هذه المنظورات، لم يكن مجرد حاصل جمع لها بل كان عصارتها، فلسفتها كلها، وكأن كُتَّابَها جميعًا وعدوا بقدومه، محض بشارة كيوحنا، فيما كان، وحده، هو المسيح.
في صياغته لهويتها يتحدث حمدان، بتكامل وشمولية مدهشين، عن الجد الفرعوني لمصر، وأيضًا عن العهد القبطي والجذر اليوناني، وكذلك عن الأب العربي، مدركًا أن كل شخصية عريقة لابد وأن تكون مركبة، فالطبقات الجيولوجية العميقة لا تترسب إلا عبر أزمنة سحيقة، وهكذا تكونت شخصية مصر الحضارية من طبقات ثقافية متعددة زادتها ثراءً، ولم تكن أبدًا مدخلًا لتناقض حقيقي أو تفكك إقليمي اللهم إلا في حالات الضعف السياسي والضياع الفكري، فعندها يتحول الاختلاف الهامشي إلى تناقض أساسي، وموارد الثراء إلى أسلحة اقتتال، فمصر العربية الإسلامية لا يمكن تخيلها بدون عنصرها القبطي وروحها الفرعونية التي تتبدَّى في جُل طقوس (الميلاد، والزواج، والموت)، كما لا يمكن تخيلها منكفئةً على نفسها منقطعة عن الغرب المعاصر وهي الجسر الذي عبرت عليه الثقافة الحديثة إلى المحيط العربي. لم يتورط الرجل في مواقف حِديَّة تمجد المكون (اليوناني، البطلمي، الروماني، الأوروبي)، كما فعل (طه حسين، ومحمد حسنين هيكل) في شبابهما قبل أن يراجعا موقفيهما نحو الاعتدال، ناهيك عن شتى أطياف التيار العلموي من(فرح أنطون، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، حتى سلامة موسى). ولم يبجِّل، في المقابل، المكون الإسلامي النازع إلى مدح الخلافة وقدح الدولة الوطنية، على النحو الذي وقع فيه مثقفون نهضويون كرشيد رضا، بل صاغ الهُوية في دوائر منفتحة ومتسعة: عربية، إسلامية، إفريقية، عالمثالثية، تقود كل منها إلى الأخرى حسب ممكنات الطاقة وعناصر القدرة. وهنا يتبدَّى أن الحديث عن التناقض الذي يزعمه البعض بين هُوية مصر الوطنية وبين دورها العربي ليس إلا افتعالًا صرفًا، فلا قوة لمصر دون حضور وانتشار في المجال العربي الذي يمثل ميزة مضافة إليها حين تمتلك حيويتها؛ فمصر الدولة لا تعدو أن تكون قوة متوسطة، أما مصر الدور والتأثير فقوة عظيمة، إن لم تكن عظمى. إنها مرة أخرى المعادلة الخطرة التي أفاض الرجل في التحذير من اختلالها بين الموقع كعلاقة هندسية غير منظورة، والموضع كإمكانية ذاتية كامنة؛ فالموقع بمثابة فرصة للحضور الطاغي عندما تتألق القوة الذاتية للموضع، ولكنه يصير خطرًا بتراجعها، دعوة للقوى الطامعة أن تتقدم نحو موقع جاذب وموضع رخو.
لم يتورط حمدان في مجرد الغناء لمصر، بل قرر أن يقرأ في كفها مثل عرافة سامقة تقبع في معبد دلفي العتيق المطل على ساحة الأكروبوليس؛ حيث ينعقد مجمع الآلهة اليوناني. ومثلما كانت العرافة ترى تفاصيل العصور القادمة، كان حمدان يدرك التناقضات في تكوين مصر ويطل منها على مصيرها، فعلى صعيد الجغرافيا ثمة تناقض بين الأخضر واليابس لا يزال يضغط عليها ويحاصرها؛ حيث الكتلة الصحراوية تحيط بجسد النيل النحيل في الصعيد وامتداداته المحدودة في الدلتا، رغم قدرة ذلك الشريط النيلي على صنع حضارة رائدة ودولة عريقة. وثمة أيضًا تناقض بين المركزية والإقليمية؛ حيث تدور أقاليمها المحلية دومًا في فلك عاصمتها “القاهرة”، التي صارت تحمل في وعي الجموع الغفيرة لقب عموم الوطن “مصر” على نحو أدى إلى فشل كل تجارب الحكم المحلي. وثمة كذلك تناقض بين الطغيان والخضوع، بين حكام أجانب محتلين أو وطنيين مستبدين، حولهم جوقة منتفعين يملكون السلطة والثروة، وبين شعب فقير يستسلم للخضوع طلبًا للسلامة، اللهم سوى في لحظات قليلة تنفجر خلالها مطالب الثورة والعدالة، فالحرية لم تصبح بعد مكوِّنًّا في شخصية مصر بل ظلت كلمة غائبة عن الإنجيل المصري، ظلت في عرف حكامها محض هرطقة سياسية.
عبر التاريخ يلاحظ حمدان مفارقة تحوّلِها من إمبراطورية فرعونية كبرى تتحكم في جل مناطق الشرق الأدنى إبان الدولة الحديثة إلى مستعمرة فارسية، ثم يونانية فرومانية قبل الفتح العربي الإسلامي الذي غير هويتها إلى اليوم ومنحها طبقة ثقافية جديدة، لكنه أبقاها ولاية فإمارة تابعة قبل أن يأتي الحكم العثماني ليستبد بها قرونًا ثلاثًا، تعود بعدها مستعمرة بريطانية تسعى للتحرر بقوة دفع الدولة الحديثة، الوليدة من رحم الحكم العلوي، ثم الدولة الوطنية الوليدة من رحم ثورة 1919، والتي لم تتحرر تمامًا ويحكمها أحد أبنائها إلا بعد 23 يوليو 1952. عبر هذا التاريخ المديد تحولت مصر من قوة عالمية إلى دولة من الشوكة الثانية ليس فقط بفعل السياسة وممارسة القوة بل أيضًا بفعل الاقتصاد ومتغيرات المعرفة؛ فسبقها الحضاري وُلِد على أرضية الزراعة، فيما يظل تخلفها رهنًا بفقرها العلمي والتكنولوجي. وهكذا يرسم جمال حمدان من رحلتيه الأفقية عبر الجغرافيا، والرأسية عبر التاريخ_ معالم طريق الخلاص الوطني عبر (التعليم، والتصنيع، والحرية السياسية، والعدالة الاجتماعية، والابتعاد عن الدولة الدينية).
تحولات مصر في عيون جمال حمدان:
واكبت أعمال حمدان جل تحولات مصر المعاصرة، حيث كان يكتب بدفق روحه وليس بحبر قلمه موجات صعود وتراجع مشروعها الوطني التحرري، وكأنه التجسيد الفكري والفلسفي لجمال عبد الناصر( البطل التاريخي والسياسي)، فكلاهما صاغ رؤية كبيرة لمصر: حمدان في الفكر، وعبد الناصر في الإستراتيجية، ولهذا يلخص حمدان شخصية مصر باعتبارها المثال لما حاوله عبد الناصر في الواقع، فالشخصية المصرية لديه هي الناصرية في أعمق تجلياتها وأنبل طموحاتها. المصرية هي المثال الفائق والناصرية هي التجسيد الواقعي، فأن تكون مصريًّا طموحًا يعني أن تكون ناصريًّا يقظًا، حتى لو لم تكن محبًا لعبد الناصر، فالناصرية هنا قدَر مصر ومصيرها التاريخي، فهل من الصدفة أن يكون كلاهما جمال؟ لا أدرى، ولكن المؤكد أن كلاهما مصري صميم وعظيم. فإبان قيادة مصر لحركة التحرر الإفريقي أخرج حمدان كتابه “إفريقيا الجديدة”، معربًا عن ثقته في قدرتها على صنع مستقبل يتجاوز حقبة التخلف والعبودية الذي سيطر خصوصًا على بلدان جنوب الصحراء، متحديًا بمنهجية علمية الادعاءات التي نسبت استعباد الإفريقيين إلى العالم العربي، ساردًا عشرات الأدلة على مركزية الدور الأوروبي في استعبادهم وتوظيفهم في بناء العالم الجديد خصوصًا في الأمريكتين؛ حيث كانت أبرز مآسيهم الإنسانية قبل القرار الشجاع للرئيس “أبراهام لنكولن” بتحرير العبيد، والذي أفضى إلى حرب أهلية في الولايات المتحدة حسمتها قوات الاتحاد الأمريكي لصالحها.
وفي مواكبة الدور المصري ضمن الدائرة الإسلامية كتب حمدان مؤلفه القيم “العالم الإسلامي المعاصر” راصدًا حركة الإسلام عبر تاريخه الطويل، مؤكدًا على أن دخول الاستعمار أثقلَ حركةَ سيرِ الإسلام لكنه لم يشُلَّها، وعلى سبيل المثال: تم التبشير الاستعماري في إفريقيا على حساب الاحتياطي الكامن للإسلام. وفي الهند عمَّق الاستعمار الصراعَ الديني بين (المسلمين، والهندوس)، حيث أدى التعصب الجديد إلى وقف زحف الإسلام. كما رسم مسارات انتشار الإسلام مميزًا بين ست حلقات جيولوجية تتباين كثافة حضوره فيها، تبدأ بالحلقة الصلبة في القلب العربي حيث ترتبط اللغة العربية بالطبعة الأكثر نقاءً من الإسلام، وتنتهي بالحلقة الأكثر هشاشة على تخوم الصين وفي سهول التركستان، حيث تختفي العربية إلا على سبيل أداء الطقوس، وتقل درجة نقاء الإسلام، وفيما بينهما تتوالى حلقات أربعة تقل كثافة الإسلام فيها تدريجيًّا من حلقة الشرق الأدنى التي تلتف حول الإقليم العربي في إيران الفارسية (شيعية المذهب)، وتركيا الطورانية (سنية المذهب)، ولكن دون اللغة العربية، ثم شبه القارة الهندية حيث الباكستان وبنجلاديش تمثلان الكتلة الصلبة لهذه الحلقة بدرجات نقاء أقل ودون اللغة العربية أيضًا ثم الحلقة الإندونيسية حول جزر الملايو، وأخيرًا الإفريقية جنوب الصحراء، حيث درجة نقاء الإسلام أقل وغياب اللغة العربية مؤكد اللهم في بعض الجيوب الإفريقية، التي أفضت حركة التجارة إلى نقل العربية مع الإسلام إليها. وهنا يكشف حمدان عن إدراك عميق لمدى تعقيد الظاهرة الإسلامية، حيث الامتداد الجغرافي الهائل، وتباين المصالح إلى درجة التناقض مع تعدد الأقاليم الإستراتيجية، على النحو الذي يجعل فكرة الجامعة الإسلامية محض خيال تاريخي، ويمنح فكرة الدولة الوطنية قيمتها جوهرية.
وفي سياق المواجهة مع إسرائيل أخرج حمدان كتاب “اليهود.. أنثروبولوجيا” كاشفًا عن تعددية جذور اليهود المعاصرين، نافيًا عنهم إحدى مزاعمهم التأسيسية القائلة بوحدة الأصل، اصطناعًا لتاريخ كليٍّ لشعب نقىٍّ ومتجانس يعلو على التواريخ الفرعية لحضورهم في جل المجتمعات والحضارات. لقد أحال اليهود ديانتهم إلى عِرق، وهو ما سعى حمدان إلى تحديه مؤكدًا على أن اليهودية ليست سوى دين، يمكن أن يتمدد في مجتمعات عديدة ولو دون تبشير مقصود به، وهنا يلاحظ- محقًا- كيف أن محاولة اصطناع ذلك التاريخ، بما يتبعه من دعاية لترويجه واستخدام العنف لفرضه، إنما يقود إلى قدر استثنائي من العدوانية الصهيونية. وفي الكتاب نفسه يقدم لنا حمدان ملاحظة بليغة عن طبيعة التحالف الشيطاني بين الأصولية الإنجيلية في الولايات المتحدة، والصهيونية اليهودية في إسرائيل على حساب الحق العربي في فلسطين، وهو ضعف جسد اليهود؛ إذ لا يعدو عددهم خمسة عشر مليونًا في العالم، وقتما كتب الرجل خمسة مليارات من البشر، يشكل المسلمون نسبة 20 % منهم قابلة للزيادة، ما يعني أنهم طرف رئيسٌ في الصراع الإستراتيجي، قادرٌ على مناوئة الغرب، سواء بحكم الكتلة العددية أو لسابق التجربة التاريخية؛ حيث قاد المسلمون العالم لأربعة قرون من الزمان، حاصروا خلالها الغرب واحتلوا أجزاءً من أرضه الحالية، فيما لم يستطع اليهود أن يلعبوا أكثر من دور وظيفي في خدمة المشروع الغربي. وفي ظني أنها ملاحظة ثاقبة تتجذر في وعي الغرب بذاته، إذ يرى نفسه ربيبًا حضاريًّا لجذرين أساسيين: اليوناني – الروماني على صعيد الفلسفة والقانون، واليهودي – المسيحي على صعيد الاعتقاد الديني، وهو الأمر الذي مكَّنه من امتصاص اليهودية وكتابها المقدس نفسه (التوراة) باعتباره مجرد عهد قديم، كل وظيفته أن يمهد للعهد الجديد المسيحي (الإنجيل). إنه الكتاب الذي مات محترقًا وهو يسعى إلى تطويره، فهل كان حقًا، وكما تثور الشكوك، ضحية له؟.
أما إنجيله الشهير “شخصية مصر” فيمثل حالة خاصة في هذا السياق، حيث بدأ في تأليفه قبيل يونيو 1967م، وعندما وقعت الهزيمة لم يكن قد انتهى منه فقرر نشر ما كتبه على الفور ليصدر في يوليو من العام نفسه بين جلدتي كتاب صغير كوسيلة لبث الثقة في نفوس المصريين الملتاعة، والتأكيد لهم على أن وطنًا بهذه العراقة لا يمكن أن يُهزَم، وكأنه يردد- بطريقة معرفية- صيحة عبد الناصر بأن ما حدث مجرد نكسة لا يجب أن تقتل الأمل في التحرر. وفي ذروة حرب الاستنزاف التي شهدت قدرًا من التكافؤ في الميزان العسكري، ونوعًا من الردع المصري للعدوانية الإسرائيلية، عاد ليصدر الطبعة المتوسطة عام 1969 توكيدًا لثقة المصريين بأنفسهم، قبل أن يعود ويصدر الموسوعة الكاملة بأجزائها الأربع مطلع الثمانينيات، والتي يبدو أنه بدأ الاشتغال عليها أعقاب انتصار أكتوبر وما رافقه من مشاعر اعتزاز وطني وقومي تحدثت عن العرب كقوة سادسة في العالم، فارتأى فيلسوف الجغرافيا أنه إزاء وطن مصري شامخ يستحق التبشير به، وأمة عربية عريقة لابد من تمجيد عودتها لحلبة التاريخ، وأنه العقل الموعود لهذه المهمة، فلولا شعور كهذا ما تمكن الرجل من إنجاز تلك الموسوعة المدهشة.
إستراتيجية الاستعمار والتحرير:
تتسم كتابات جمال حمدان بالتركيب الشديد والإفصاح الأشد، مع جزالة في اللغة وأصالة في المفاهيم، فالرجل إما أنه يشتق مصطلحات ومفاهيم جديدة أو أنه يعيد توظيف المتوافر منها في سياقات جديدة تمنحها قوة تعبيرية فائقة، ويكفي للتأكيد على ذلك ذكر بعض مصطلحات كتابه الأثير “إستراتيجية الاستعمار والتحرير” من قبيل “الصراع الإقليدي” أو “الريماني”، و “إستراتيجية السافانا” …وغيرها من مصطلحات تبدو غريبة على الآذان خارج النص الحمداني، ولكنها تبدو معبرة في سياقه مثلما تظل ملهمه حتى اليوم، ما يدفعنا للتوقف عند ذلك العمل الذي يفلسف لنا إستراتيجيات الصراع العالمي.
يرصد حمدان في مؤلفه توالي أشكال السيطرة منذ العصور الباكرة وحتى الاستعمار الأوروبي الحديث، وعلى سبيل المثال فقط نتوقف عند الإمبراطورية الرومانية التي ورثت الإمبراطورية المقدونية، وأحالت العالم المعمور آنذاك إلى ما يشبه مستعمرة كبرى قبل أن تسقط أمام ما يسميه حمدان بـ “قوة الإستبس الأسيوي”، حيث حشائش السافانا لا تسمح سوى بالرعي، الأمر الذي لعب دورًا خطيرًا في دفع برابرة (التيوتون والجرمان، ثم القوط والوندال والفرانك) للإغارة على الإمبراطورية الواسعة نهاية القرن الرابع ومطلع الخامس الميلاديين، وخلق جزرًا منعزلة داخلها أخذت تتسع حتى فتَّتها وأدت إلى سقوطها.
ويتوقف حمدان عند الحملات الصليبية مؤكدًا على أنها محض حروب اقتصادية تغذت على مساعدة كبار تجار لأوليجاركية المدن الإيطالية (البندقية، وجنوا، وبيزا)، وانتهت أقرب ما يكون إلى حرب قراصنة تستهدف النهب والسلب. أما دعوى الدفاع عن المسيحيين في الأراضي المقدسة وحماية الحجاج من اضطهاد الحكام السلاجقة المسلمين حينذاك فهو حجة ملفقة لا أكثر، بل إنه يعتبر تلك الحروب بمثابة حلقة الوصل بين الاستعمار الجزئي القديم الذي مارسته أثينا وروما وبين الاستعمار الحديث الذي ستخرج إليه أوروبا ودولها القومية في المستقبل. وتأكيدًا على ذلك المنظور، لا تتميز الإمبراطورية العثمانية لديه عن نظيرتها الرومانية؛ إذ يلاحظ أن العثمانية توسعت في أوروبا قبل أن تتوسع في آسيا وإفريقيا، وأسقطت الدولة البيزنطية قبل أن تدخل إلى الدول العربية الإسلامية، مما يؤكد على تفكير إستراتيجي نفعي لا عاطفة دينية فيه، حيث أعطتها فتوحاتها الأوروبية قاعدة أرضية ضخمة لقوة (سياسية، ومادية، وعسكرية) قبل أن تبدأ الاتجاه جنوبًا نحو الشرق العربي، ولولا تلك القاعدة ما تمكنت من اكتساح منطقتنا بهذه السهولة أو تلك السرعة.
أما الاستعمار الحديث فيبدأ لديه مع حركة الكشوف الجغرافية التي قلبت إستراتيجية العالم القديم من صميمها. فأولًا، ومع اتساع أبعاد العالم: خرج الاستعمار لأول مرة عن دائرته التقليدية المغلقة حول حوض البحر المتوسط وتخومه إلى بيئات مغايرة جدًا، ومن عالم متناهٍ إلى عالم لا متناهٍ، فبعد أن كان الصراع إقليميًّا أساسًا أصبح كوكبيًّا تمامًا. وثانيًا: بروز أهمية المحيطات وتراجع أهمية البحار الداخلية المغلقة، حيث فقد البحر المتوسط كل أهميته التاريخية، وأصبح زقاقًا مغلقًا بينما تحول المحيط الأطلسي إلى “البحر المتوسط” الجديد، فانحدرت أهمية دول وموانئ البحر المتوسط وانتقلت الزعامة البحرية إلى دول موانئ غرب أوروبا، ولعل هذا يفسر الانقلاب الجيوإستراتيجي الذي صاغ ملامح النظام العالمي الواسع للحداثة ابتداءً من القرن السادس عشر، مرورًا بالمركزية الأوروبية في القرن التاسع عشر.
وفي اتجاه نقيض لإستراتيجية الاستعمار رصد حمدان إستراتيجية تحرير انطلقت من ثورة يوليو المصرية كنموذج رائد لثورات العالم الثالث، التي يراها مختلفة عن ثورات الغرب سواء (الشيوعية السوفيتية، أو الفرنسية البرجوازية)، فالأخيرة ثورات قومية وطبقية تبحث عن سيادة طبقاتها على مجتمعها، وهيمنة مجتمعاتها على العالم، أما ثورات الشرق- خصوصًا يوليو- فتحررية وإنسانية، لا تتكتل ضد الآخرين ولا تستهدف العدوان على الغرب بل تسعى فقط إلى التحرر من سطوته. أما نقطة الذروة في تلك الإستراتيجية فتتمثل في قرار تأميم قناة السويس وما تلاه من حرب 1956، التي ولدت من رحمها قيادة مصر لحركة التحرر القومي العربي، وإسهامها البارز في تشكيل حركة عدم الانحياز، وكلتاهما أرقت الغرب الاستعماري فلم يغمض له جفن إلا بعد هزيمة 1967م، التي مثلت ضربة قوية لهما ستفضي بعد قليل – رغم نصر أكتوبر- إلى معاهدة السلام مع إسرائيل، وفرض طوق الحصار حول مصر. ومن ثم يتصور حمدان أن مستقبل مصر، التي تواجه اليوم تحديات العطش المائي من الجنوب، والضغط الصهيوني من الشرق، والعثماني من الشمال الشرقي_ يتطلب أن تكشر عن أنيابها، وأن تخرج بعمليات نوعية وحسابات دقيقة، عن حدودها الجغرافية الضيقة إلى فضاءها الإستراتيجي الواسع.
الفيلسوف جمال حمدان:
تشترك الفلسفة مع غيرها من العلوم الإنسانية في المحتوى المعرفي، إذ لكل علم محتوى أو مصفوفة من القضايا تميزه وتشغل حيز اهتمام دارسيه أو عموم المهتمين به. ففي التاريخ مثلًا، وبمعيار الزمن: يبرز التحقيب الثلاثي (القديم، والوسيط، والحديث)، وبمعيار الموضوع: يبرز التأريخ الثقافي للأفكار والفنون والآداب أو التأريخ السياسي للحكام والأُسر.. وهكذا. وعلى المنوال نفسه تنسج الفلسفة، إذ لها مصفوفة من القضايا التي تجسدها سواء القضايا النظرية التي تخاطب الوجود والمعرفة أو القضايا العملية التي تخاطب السياسة والأخلاق، لكن ما يميز الفلسفة عن باقي العلوم الإنسانية حقًا هو الرؤية الشاملة المتكاملة التي يمكن من خلالها مقاربة القضايا الكبرى كـ(الوجود والعدم، والخير والشر، والمادة والروح،… وغيرها)، ولذلك نجد في تاريخ الفلسفة أولئك الذين امتلكوا الرؤية فأتوا باجتهادات جديدة وتصورات مبتكرة من قبيل مفهوم “المونادة” عند ليبنتز، و”السبب الكافي” عند باسكال، وكذلك مفهومي “الروح المطلقة والجدل” لدى هيجل، أو “الذات الترانسندنتالية، والواجب” لدى كانط.. إلخ. كما نجد أولئك التقليديين الذين اكتفوا باستعادة وتداول الجدل حول تلك المفاهيم أو غيرها من المباحث والقضايا، مثلما يستعيد السلفيون باستسلام قاتل (مسند أحمد، وصحيح البخاري، وكلام الأشعري). الأولون امتلكوا الرؤية والمنهج والخيال فأبدعوا واستحقوا وصف الفلاسفة، والآخرون اكتفوا بالنقل والاستعارة فظللوا تقليديين، ولو ارتفعت مقاماتهم على السلم الأكاديمي.
التفلسف إذن هو فعل تأملي، ونظر نقدي، ومقاربة منهجية، يحيل صاحبه إلى “رائٍ” أو ذاتٍ عارفة، تتوسل علومًا كثيرة لتحوز تلك القدرة التفسيرية التي تمنحها رؤيتها الشاملة لـ(الكون، والتاريخ، والإنسان)، بغض النظر عن المجال المعرفي الضيق الذي انطلق منه المتفلسف، والمفترض أن تُكسبه تلك الرؤية روحًا متسامية تنظر إلى العالم بتسامح، تستطيع تفَهُّم عمق المأزق البشري، حيث قصور الوجود الإنساني وضعفه الأخلاقي يتطلبان التسامح مع نقاط ضعف البشر بديلًا عن الحنق والسخط الشديدين عليهم.
حسب هذا الفهم يمكننا اعتبار العلامة “جمال حمدان” فيلسوفًا، يسبح في فضاء فكري يكاد يميزه وحده، حيث تتداخل في نصوصه شبكة واسعة من المعارف عصية على التخصص تمتد بين التاريخ والفلسفة، ومن الأنثروبولوجيا إلى الدين، صحيح أنه غالبًا ما ينطلق فيها جميعًا من الجغرافيا لكنه في أغلب الأحيان يطوف بما يحيطها ويتجاوزها، ليعود من رحلته حولها بزاد معرفي يحيل دراسة الأمكنة إلى وعي بالأزمنة التاريخية والسياقات الثقافية. ورغم أزمة أكاديمية واجهته في جامعة القاهرة، استحالت لفرط حساسيته، أزمة وجودية، استقال بسببها من الجامعة، وانسحب من الحياة العامة عام 1963م_ فقد انطوى على نفسه كراهب فكر ليمنحنا، مثل نحلة دؤوب، عسله المعرفي المصفَّى في عشرات المؤلفات وعلى رأسها الإنجيل الوطني “شخصية مصر”.
ومن ثم تبدو المقارنة واجبة بل ومثيرة بينه ومفكر آخر احتل في التاريخ السائد للفلسفة العربية موقعًا متقدمًا، وهو د. عبد الرحمن بدوي، الذي رفض الزواج مثل حمدان واختار الرهبنة في محراب الفكر، لكنه كره مصر، خصوصًا جمال عبد الناصر، بعنف؛ لأنه اقتطع من عائلته بعض الأفدنة من الأرض الزراعية في زمن تحولات ثورية اقتضت ذلك ورغم أنه- في المقابل- عمل لسنوات في منصب رفيع بالخارج كمستشار ثقافي لحكومة مصر الثورة، وبدلًا من العودة للوطن اختار المنفى الباريسي مقرًا له طيلة ثلاثة عقود تقريبًا؛ ليهجو منه- خصوصًا في سيرته الشخصية الغاضبة- كل ما هو مصري، خصوصًا أدباءه ومفكريه، عدا أستاذه الشيخ “مصطفى عبد الرازق” والعميد “طه حسين”، الذي كان قد وصفه- أي بدوي- وهو يناقش رسالته للدكتوراه في “الزمان الوجودي” بـ “أول فيلسوف مصري”.
وفي اعتقادي الشخصي أن بدوي لم يكن فيلسوفًا حقيقيًّا، ناهيك عن أن يكون أول الفلاسفة المصريين، رغم كتاباته عن الوجودية، إذ يبدو لي شخصيًّا، ذائبًا في نص هيدجر “الوجود والزمان” إلى درجة يعجز معها قارؤه أن يدرك الحدود التي تفصله عن الفيلسوف الألماني، أو تفصل مفهومه الأثير “الإنية” عن مفهوم هيدجر الأثير “الدازين”، فكانت حياته العقلية كلها أقرب إلى مرحلة الوضعية المنطقية لدى زكي نجيب محمود. وحتى عندما حاول في أخريات عمره استدراك ذلك والخروج من شرنقته المغتربة للدفاع عن محمد والقرآن الكريم، فقد ألف عنهما كتابين فقيرين وباهتين إلى حدٍ صادم. نعم كان بدوي مترجمًا كبيرًا للفكر الغربي خصوصًا تراث المثالية الألمانية، ومحقِّقًا عظيمًا للمصنفات الكبرى في التراث العربي، ناهيك عن اشتغاله الأكاديمي الطويل بالدرس الفلسفي، لكنه لم يقدم أفكارًا خاصة اللهم عن الروح السامية وتصوره الرائق للتوحيد قياسًا إلى العقل اليوناني التركيبي، وذلك في كتاب (الإنسانية والوجودية في الفكر العربي). ولم يقدم أيضًا مشروعًا فكريًّا متماسكًا يقارب مفكرين عرب معاصرين له على منوال (زكي نجيب محمود، وحسن حنفي، ومحمد عابد الجابري)، الذين قدموا لنا مشروعات مصنفات متعددة ومتكاملة في قضية التجديد والنهضة.
يرجع تقييم طه حسين لبدوي- غالبًا- إلى عدم درايته العميقة بالفلسفة، نعم درس الرجل على يدي “إميل دوركهايم” أشهر عالم اجتماع ديني فرنسي، وتأثر به في دراسته عن ابن خلدون، ناهيك عن قيمته الاستثنائية على الصعيد (الأدبي، والفكري، والإنساني)، لكنه افتقد شرعية إصدار هذا الحكم القاطع الذي ذهب بعقل بدوي وغذَّى فيه قدرًا من النرجسية لم يستطع أن يسيطر عليه، خصوصًا مع طبيعته الحادة ومزاجه الناري. ومن ثم نؤكد على أن الجغرافي جمال حمدان، بمعيار المنهج والرؤية والتأمل النقدي، وبقدرته على التفهم والتسامح، كان أكثر تفلسفًا من بدوي، الدائر في فلك هيدجر، والمغترب في ضجر وغضب. لقد أحال حمدان الجغرافيا إلى نص فلسفي، ومصر إلى معشوقة، فكان عظيمًا في تفلسفه وكذلك في عشقه، فليرحمه الله رحمة واسعة، وينير به طريقًا يفضي إلى خلاصنا الوطني والقومي.