2023العدد 194ملف دولى

سابقة توقيف رئيس دولة كبرى من قبل المحكمة الجنائية الدولية قانونيًّا وسياسيًّا

مقدمة:

منذ بدء الحرب في أوكرانيا، كان واضحًا تصميم الولايات المتحدة وحلفائها على استخدام المحكمة الجنائية الدولية – التي تجسّد أحد تناقضات ومساوئ النظام الدولي الراهن – كأداة سياسية في إطار الرد الغربي على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. ففي زمن قياسي، أعلن المدعي العام للمحكمة، البريطاني “كريم خان”، في 28 فبراير 2022 عزمه فتح تحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت في أوكرانيا. ومن جانبها، كانت محكمة العدل الدولية أصدرت حكمًا في 16 مارس 2022 يأمر روسيا بوقف عمليتها العسكرية في أوكرانيا فورًا، في استجابة سريعة لدعوى رفعتها كييف في 27 فبراير 2022، تطلب فيها من المحكمة تصنيف الهجوم الروسي كجريمة “إبادة جماعية”؛ استنادًا إلى اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري والمعاقبة عليها، التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1948.

وفي إطار مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، وبعد أن تم تجميد عضوية روسيا فيه بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في أبريل 2022، نشط المجلس من أجل توثيق الجرائم المدعى عليه ارتكابها في أوكرانيا. فبعد مرور عشرة أيام على التدخل الروسي، اعتمد المجلس القرار (1/49)، الذي تم بموجبه إنشاء “لجنة تحقيق دولية مستقلة”؛ للتحقيق في جميع انتهاكات حقوق الإنسان، في سياق” العدوان الروسي في أوكرانيا”. وفي مايو 2022، وسّع المجلس من ولاية اللجنة باعتماده القرار S/1-34 القاضي بإجراء تحقيق في “الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي ارتكبتها القوات الروسية في مناطق: كييف، وتشرنيهييف، وخاركيف، وسومي؛ بهدف محاسبة المسؤولين عنها”، كذلك كثّف المجلس عمل بعثة الأمم المتحدة لرصد أوضاع حقوق الإنسان في أوكرانيا، التابعة للمفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان؛ حيث قامت بعشرات الزيارات الميدانية وآلاف المقابلات مع ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان ومع شهود عيان …إلخ. والملاحظ هنا أن المتحدثة باسم المفوضية “رافينا شامداساني” أعلنت في 22 أبريل 2022، أنها “لا تملك معلومات تؤكد ارتكاب “إبادة جماعية” من قبل روسيا خلال عمليتها العسكرية في أوكرانيا.

وقد أثارت كل هذه الأنشطة غير المسبوقة انتقادات واسعة للأمم المتحدة ووكالاتها، جوهرها انتقائية عدالتها وازدواجية معاييرها تجاه ضحايا جرائم العدوان من غير الغربيين، خاصة العرب والمسلمين، لا سيما الفلسطينيين تحت الاحتلال.

أولًا: مذكرة المحكمة بتوقيف الرئيس بوتين وردود الفعل عليها:

في 18 مارس 2023، أصدرت الدائرة التمهيدية للمحكمة “مذكرة توقيف” بحق كلٍّ من: الرئيس “فلاديمير بوتين”، والمفوضة الرئاسية الروسية لحقوق الأطفال “ماريا لفوفابيلوفا”؛ وذلك بدعوى دورهما المفترض والمباشر في الترحيل غير القانوني لآلاف الأطفال من الأراضي الأوكرانية- التي تحتلها القوات الروسية- إلى الداخل الروسي، مشيرة إلى أن “هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن بوتين يتحمل المسؤولية الجنائية الفردية عن عمليات اختطاف الأطفال”.

وجاءت مذكرة التوقيف في أعقاب مناشدات من الرئيس الأوكراني “زيلينسكي” – الذي كان أول من استخدم مصطلح “إبادة جماعية”، متهمًا الرئيس بوتين بارتكابها وتبعه الرئيس بايدن – ومسؤولين آخرين كبار في الغرب.

وردًا على مذكرة التوقيف، نقلت وكالة “تاس” الروسية عن “ديميتري بيسكوف” الناطق الرسمي باسم الكرملين، في 17 مارس 2023، أن روسيا” لا تعترف بالاختصاص القضائي للمحكمة، وتعتبر أن قراراتها باطلة ومرفوضة قانونيًّا”. ومن جانبها، علقت “ماريا زاخاروفا” الناطقة باسم وزارة الخارجية بأن قرارات المحكمة “لا معنى لها بالنسبة لبلدنا، بما في ذلك من وجهة نظر قانونية”.  وفي تصريحات مماثلة، نقلتها تاس، شدد “فاسيلي نيبينزيا” المندوب الدائم لروسيا لدى الأمم المتحدة على أن “المحكمة المنحازة والمسيّسة وعديمة الكفاءة، والمستعدة لممارسة العدالة الزائفة؛ لكونها دمية في يد الغرب، أثبتت دونيتها”، مضيفًا إنه: “من المثير للسخرية أن القرارات غير القانونية (في إشارة إلى مذكرة توقيف الرئيس بوتين)، أعلنت عشية الذكري العشرين للغزو الأمريكي غير القانوني للعراق”، وإنه: “كان للمحكمة الجنائية الدولية الاختصاص القضائي، ولكنها لم تفعل شيئًا لتقديم الجناة المسؤولين إلى العدالة”.

ومن جانبه، حذر الرئيس السابق “ديميتري ميدفيدف” نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، من أن قيام أي دولة أجنبية بتوقيف بوتين- في ضوء مذكرة المحكمة- سيكون بمثابة “إعلان حرب” على موسكو. وفي 20 مارس 2023، أعلنت موسكو أنها فتحت تحقيقًا جنائيًّا بحق المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “كريم خان”، وعدد من القضاة بشأن القرار “غير القانوني” الهادف إلى توقيف بوتين.

وقد جاء رد الفعل الأمريكي وعدد من الحلفاء الغربيين مرحِّبًا بقرار المحكمة؛ فقد ذكر الرئيس بايدن أن نظيرة الروسي “ارتكب بوضوح جرائم حرب، وأن قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحقه له ما يبرره”.

وأبدت كلٌّ من: ألمانيا على لسان مستشارها “أولاف شولتز”، والنمسا على لسان وزير خارجيتها “ألكسندر شالينبرج”، ترحيبًا بقرار المحكمة إصدار مذكرة التوقيف.

أما المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، فقد علق على قرار المحكمة بالقول بأنه: ” على المحكمة تجنب ازدواجية المعايير وتسييس عملها، فضلًا عن احترام الحصانة التي يتمتع بها رؤساء الدول”. وجاءت زيارة الرئيس الصيني لموسكو في 20/22 مارس 2023، بعد أيام من صدور مذكرة التوقيف؛ لتؤكد الدعم السياسي الصيني لروسيا.

ثانيًا: الاستخدام السياسي الواضح للمحكمة ارتباطًا بالحرب في أوكرانيا:

  1. مع بدء العملية العسكرية الروسية، بدأ كريم خان (المدعي العام للمحكمة) في إعطاء دفعة للتحقيق في “الانتهاكات والجرائم” المدعي بارتكاب روسيا لها، وذلك في سياق إجراءين: العمليات العسكرية لروسيا في جورجيا في أغسطس 2008 من ناحية، والعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا منذ عام 2014 من ناحية أخرى. وسعى المدعي العام إلى الربط بين التحقيقين بصورة أو بأخرى، مشيرًا إلى أنه وجد “أنماطًا متماثلة من تصرفات الجيش الروسي في الجبهتين”. وكان لافتًا بالنسبة للمتخصصين وخبراء قانون العقوبات الدولي- بما فيهم غربيون- السرعة الكبيرة التي جرت عليها، وما تزال، تحقيقات خان، وهو أمر غير معتاد.
  2. مما يفضح سلوك المحكمة في هذا الشأن أنه، وبعد فترة وجيزة من التدخل العسكري الروسي في فبراير 2022، صرح خان بأنه يراقب التطورات على الأرض، وأنه سيكون من الممكن التنازل عن الحاجة إلى الحصول على موافقة الدائرة التمهيدية لفتح تحقيق، وهو مقتضى مطلوب بالنظر إلى أن الدولتين (روسيا، وأوكرانيا) ليستا أعضاء في النظام الأساسي المنشئ للمحكمة، وذلك إذا ورد طلب من الدول الأعضاء للتحقيق في الوضع. وردًا على ذلك، وفي غضون أيام معدودة طلبت (41) دولة عضو من خان  في مارس 2022، فتح التحقيق رسميًّا، وكان لافتًا انضمام اليابان إلى هذه الدول، الأمر الذي دفع خان إلى القول بأن “هذه هي أول دولة آسيوية تحيل قضية إلى المحكمة، وأن هذا دليل على الدعم الممتد إلى منطقة جغرافية أخرى”.
  3. اتخذ خان نفسه عددًا من الخطوات غير المعتادة والمثيرة للجدل، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار جرائم إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة والمحالة للمحكمة منذ أكثر من 12 عامًا، والجرائم المدعى عليه ارتكابها ضد شعب “الروهينجا” من قبل جيش ميانمار_ فقد أوفد فرق تحقيق إلى أوكرانيا بهدف جمع الأدلة، بالرغم من القتال المستمر، بل إن خان سافر مرارًا إلى أوكرانيا وبولندا “لتعزيز التعاون مع سلطات البلدين” في هذا الشأن. وأنشأت المحكمة بوابة إلكترونية على موقعها على شبكة الإنترنت تتيح لمن لديه معلومات ذات صلة الاتصال بالمحققين بمكتب المدعي العام، وبمجرد أن ذكر خان أن المحكمة تعاني من نقص الموارد، عاود التصريح، بعد أيام، بأنه تلقى دعمًا من 14 دولة عضوًا، كما أفاد بأنه في ضوء تعدد الأدلة الرقمية، فإنه يعتزم تخصيص موارد لإنشاء أدوات تكنولوجية متقدمة، من شأنها تحسين جمع الأدلة وتحليلها ومعالجتها. وفي هذا السياق بدا الأمر وكأنه سباق غربي على دعم المدعي العام والمحكمة؛ فقد ذكر وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” أن: “الإدارة ستواصل تبادل المعلومات المتعلقة بارتكاب جرائم حرب من قبل القوات الروسية، بما في ذلك مع المؤسسات الدولية”. وفي 24 مارس 2022، أعلنت المملكة المتحدة أنه بالإضافة إلى الدعم المالي الذي قدمته للمحكمة، فإنها ستجعل أفراد الجيش والشرطة متاحين للمساعدة في التحقيق، وبعد بضعة أيام ذكرت أنها عينت محاميًّا بريطانيًّا، عمل حتى عام 2021 قاضيًا في المحكمة، مستشارًا مستقلًّا للمدعي العام في أوكرانيا.

وكلَّل خان جهوده المكثفة وغير المعتادة بالتوقيع، في 23 مارس 2023، على اتفاق مع الحكومة الأوكرانية في لاهاي بإنشاء مكتب للمحكمة في كييف.

  • ارتباطًا بما تقدم، لوحظ الحماس الغربي الواضح لتعبئة موارد إضافية لدعم تحقيق المحكمة حول جرائم الحرب المدعي بارتكابها في أوكرانيا؛ حيث عقد مؤتمر في لندن – بتنظيم مشترك من المملكة المتحدة وهولندا- في 20 مارس 2023، لهذا الغرض بمشاركة 40 دولة. ووفقًا للتقرير السنوي للمدعي العام للمحكمة، تضاعفت ميزانيتها ثلاث مرات هذا العام بالمقارنة بميزانية 2022.

وتقود بريطانيا 38 دولة تدعم تحقيقات المحكمة، أبرزها: ألمانيا، وكل دول الاتحاد الأوروبي تقريبًا، إضافة إلى كندا ونيوزيلاند وكوستاريكا. وكانت وزيرة الخارجية ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة “ليزتروس” الأشد حماسًا في هذا الشأن، داعية مواطنها كريم خان لــ “إجراء تحقيقات شاملة فورًا، ولا حاجة لفحص ما يُسمى بالدائرة التمهيدية”، مضيفة أن: “التحقيق في الأعمال البربرية لروسيا ضروري ويجب محاكمة المسؤولين عنها”. أما هولندا فقد أعارت عشرات المحققين لمكتب المدعي العام. ووفقًا للتقرير السنوي لهذا الأخير، والصادر في 5 ديسمبر 2022، تحت عنوان “نحو عالم أكثر عدلًا”، وهو التقرير الأول الذي ينشره خان منذ تعيينه في هذا المنصب عام 2021، لقي المدعي العام تعاونًا واسع النطاق، وصل إلى حد إنشاء فريق تحقيق مشارك، ضم محققين من كل من: (أوكرانيا، وجمهوريات البلطيق الثلاثة، وبولندا، وسلوفاكيا، ورومانيا)، تحت رعاية وكالة الاتحاد الأوروبي للتعاون في مجال العدالة الجنائية. وفي 16 ديسمبر 2022، أعلن خان نهاية مرحلة التحقيق في جورجيا، والذي يتعامل مع جرائم محتملة لروسيا هناك.

ثالثًا: التداعيات “القانونية” المحتملة لقرار المحكمة “توقيف الرئيس بوتين”:

  1. بموجب نظامها الأساسي، تعتمد المحكمة كليًّا على تعاون الدول الأطراف لتنفيذ الأوامر والأعمال القانونية الصادرة عنها، وبالتالي فإنه من الناحية النظرية: يمكن اعتقال الرئيس بوتين متى وطأت قدماه أيًّا من الدول المصدقة على النظام الأساسي المنشئ للمحكمة. ومع ذلك، لا تملك المحكمة، شأنها شأن المحاكم الدولية الدائمة، مثل: محكمة العدل الدولية، لا تملك شرطة خاصة بها لتنفيذ أوامرها.

ومن الناحية العملية: نادرًا ما تقوم الدول الأعضاء بتنفيذ مذكرات التوقيف، خاصة عندما يتعلق الأمر برئيس دولة، وعلى سبيل المثال: ورغم مذكرة توقيف الرئيس السوداني السابق “عمر البشير”، إلا أنه زار عددًا من الدول الأطراف في المحكمة، بما فيها (جنوب إفريقيا، والأردن) دون عقاب. ومن ثم يعتقد كتاب غربيون كُثر أن احتمالات توقيف الرئيس بوتين تظل ضئيلة، على أساس أن روسيا مثل الولايات المتحدة والصين، ليست طرفًا في النظام الأساسي المنشئ للمحكمة.

والملفت للانتباه هنا أنه بالرغم من أن المحكمة بموجب نظامها الأساسي لا تملك محاكمة المشتبه بهم غيابيًّا، إلا أن خان أوضح أن لدى المحكمة وسائل أخرى للمضي قدمًا في بعض القضايا، بما فيها الحالة الراهنة “المتعلقة ببوتين”. ولم يشأ خان الإفصاح عن ماهية هذه الوسائل.

  • والحال على ما تقدم، يبدو أن مذكرة توقيف الرئيس بوتين لن تصنع نهاية لحملة التصعيد السياسي الغربي ومحاولة محاصرة القيادة الروسية تحديدًا. وهكذا، وبعد أيام من إصدار مذكرة التوقيف، ذكر المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية في 28 مارس 2023، أن “الولايات المتحدة تؤيد إنشاء محكمة خاصة لجريمة العدوان ضد أوكرانيا كمحكمة دولية متجذرة في النظام القضائي الأوكراني وتتضمن عناصر دولية”. وأضاف أن واشنطن ترغب في الحصول على “دعم دولي كبير، خصوصًا من شركائنا الأوروبيين”، وأن يكون مقر المحكمة “في بلد آخر في أوروبا”، (وليس هولندا مقر المحكمة الجنائية الدولية).

وفي 27 مارس 2023، قالت المبعوثة الأمريكية للعدالة الدولية “بيث فان تشاك: “نعتقد أن مثل هذه المحكمة الدولية ستوفر أفضل فرصة لإحلال العدالة”. وفي تصريحات لوكالة أنباء “كيودو” اليابانية، نشرتها في 8 أبريل 2023، أعرب مفوض العدالة وسيادة القانون في الاتحاد الأوروبي “ديدييه رايندرز” عن أمله في أن يناقش وزراء عدل مجموعة الدول الصناعية السبع خططًا لإنشاء محكمة خاصة لمحاكمة روسيا عن “جرائمها في أوكرانيا”، وذلك قبل اجتماعهم في طوكيو في 7 يوليو 2023. وأضاف رايندرز أن “الاتحاد الأوروبي يسعى إلى التعاون مع السلطات القضائية الأوكرانية والمحكمة الجنائية الدولية؛ لإنشاء محكمة خاصة أو مختلطة تضم قضاة أوكرانيين ودوليين لمحاسبة روسيا”.

وهناك ما يشبه الإجماع على استحالة إنشاء مثل هذه المحكمة الخاصة أو المختلطة؛ حيث يستوجب الأمر قرارًا من مجلس الأمن سترفضه روسيا، كما أن فرص إنشاء مثل هذه المحكمة بقرار من الجمعية العامة تبدو معدومة.

رابعًا: التداعيات السياسية لمذكرة التوقيف على فرض تسوية الصراع في أوكرانيا وعلى النظام الدولي:

  1. تدرك روسيا أن الخطوة الغربية تتسم بالانتقائية، وأنها مجرد ورقة للمساومة لن تأتي بالنتائج المرجوة، ويضاف إلى هذه الورقة أوراق أخرى عديمة الأثر من الناحية القانونية، منها قرار البرلمان الأوروبي في 23 نوفمبر 2022، بتصنيف روسيا كدولة “راعية للإرهاب”، وذلك بجانب برلمانات دول البلطيق الثلاثة وبولندا، وهي دول تتبنى مواقف شديدة العداء لروسيا. وفضلًا عن ذلك، اعتمدت الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا – الذي حرم روسيا من العضوية فيه منذ بداية الأزمة – قرار في 28 أبريل 2023، يعتبر نقل روسيا أطفالًا أوكرانيين عنوة يرقى إلى مستوى جريمة “إبادة جماعية”.

وبجانب ذلك قامت بعض الدول الأوروبية – وآخرها بولندا – بمصادرة أموال من حسابات السفارات الروسية المعتمدة لديها، معللة ذلك بأنها تُستخدم “لغسل الأموال أو تمويل الإرهاب”. وقد وصلت الحرب القانونية القضائية الغربية إلى حد تسييس المساعدة القانونية المتبادلة كممارسة دولية متعارف عليها في مجال التعاون القضائي بين الدول، فقد أعلن مكتب المدعي العام الروسي، في 4 أبريل 2023، أنه في الربع الأول من عام 2023، تلقت روسيا (15) رفضًا من الدول الغربية لطلبات مساعدة قانونية في المسائل الجنائية، منها: 12 لأسباب سياسية عبارة عن 10 طلبات رفضتها سويسرا، وطلبًا من قبل كل من (لاتفيا، وليشتنشتاين). ووفقًا لوكالة “نوفوستي” الحكومية للأنباء، تعلقت طلبات روسيا بقضايا سرقة ممتلكات من أحد البنوك الروسية (بروبزنس بنك).

  • 2.      لعل النقطة الرئيسة الأكثر إثارة للقلق هنا هي أن الرئيس بوتين ينظر إلى مذكرة التوقيف هذه على أنها دعوة علنية إلى تغيير النظام الحاكم في روسيا، وأن واشنطن تستخدم في ذلك كل الأسلحة في ترسانتها غير العسكرية لمعاقبة موسكو على تدخلها في أوكرانيا. في الوقت ذاته، فإن هذه الخطوة- وفقًا لمراقبين غربيين محايدين- تعطي الرئيس بوتين شيئًا ملموسًا يغذي شعوره بالظلم وازدواجية المعايير الغربية، وتمسّك الولايات المتحدة بتوظيف ما يسمى بــ “النظام الدولي القائم على القواعد” لخدمة مصالحها الخاصة، وهو ما يبرر دفاعه عن ضرورة خلق عالم متعدد الأقطاب يتحرر من الهيمنة الغربية بقيادة الولايات المتحدة. وقد انعكس ذلك بوضوح في “المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية” الذي اعتمده الرئيس بوتين في 31 مارس 2023، حيث وضع العلاقات مع الولايات المتحدة في آخر أولويات هذا المفهوم.

من ناحية أخرى، يعتقد هؤلاء المحللون – بحق – أن خطوة توقيف الرئيس بوتين من شأنها إعاقة إمكانية استجابة روسيا لأي جهود تستهدف التفاوض على حل سلمي للأزمة الأوكرانية بصفة خاصة، وإعاقة التعاون الدولي بشأن إدارة الصراعات والأزمات العالمية عامة، في ظل حقيقة تمتع موسكو بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن، باعتباره الجهاز المعني بحفظ السلم والأمن الدوليين.

  • أخيرًا فيما يتعلق بالتداعيات السياسية لمذكرة التوقيف على النظام الدولي الراهن، فإنه ما لا شك فيه أن مواصلة الغرب – في الحالة الأوكرانية – انتهاك قواعد النظام القانوني الدولي، بما في ذلك قواعد العدالة الجنائية، والذي كان هو نفسه وراء إنشائها، تؤدي إلى المزيد من تقويض النظام الدولي المتعدد الأطراف واتساع الفجوة وهوة عدم الثقة بين الغرب وبقية العالم، والسبب هنا لا يتعلق بالحرب في ذاتها، وإنما الإحباط العميق من قبل الدول غير الغربية نتيجة الانتقائية الصارخة وازدواجية المعايير التي يتسم بها السلوك الغربي منذ نهاية الحرب الباردة وحتى الآن. وفي هذا السياق، كثيرًا ما تغاضت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عن جرائم وحشية ارتكبت – وما تزال – في أماكن كثيرة من العالم، منتهكة ذات القواعد الدولية التي تدعو المجتمع الدولي إلى احترامها. وعلى سبيل المثال، وبجانب الموقف الأمريكي المعروف من المحكمة الجنائية الدولية – والقضاء الدولي بصفة عامة – والرافض لأي تعاون معها بدعوي مساسها بسيادة العدالة الجنائية للولايات المتحدة، طغت الاعتبارات السياسية على أداء المحكمة منذ البداية؛ حيث جاءت محصلة عملها على مدى عشرين عامًا مخيبة للآمال، مما دعى الاتحاد الإفريقي إلى اتهام المحكمة بالنزعة “الاستعمارية”، وممارسة مطاردات “عنصرية” بسبب ملاحقتها الحصرية لجرائم في إفريقيا، رافضًا التعاون مع المحكمة ومهددًا بالانسحاب الجماعي منها. وإزاء ذلك، اضطرت المحكمة إلى توسيع دائرة تحقيقاتها لتشمل جرائم يشتبه في أنها ارتكبت من قبل القوات الأمريكية في أفغانستان وجنود وقادة إسرائيليين في فلسطين، وقوات ميانمار ضد أقلية الروهينجا المسلمة، مما أغضب الدول المعنية وبعض حلفائها داخل جمعية الدول الأطراف في المحكمة. والملفت هنا أن الدول شديدة الحماس لمحاسبة روسيا أمام المحكمة، عارضت بشدة التحقيق في جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية مدعي بارتكابها من قبل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لا سيما (المملكة المتحدة، وكندا، وألمانيا، وأستراليا، والتشيك، والمجر، وبولندا).

وفضلًا عن ذلك، وفي الوقت الذي تضاعفت فيه موازنة المحكمة ثلاث مرات خلال عام واحد ارتباطًا بالحالة الأوكرانية، عمدت الدول المانحة للمحكمة إصابتها بالشلل من خلال رفض تمويل توجهاتها الجديدة بالتحقيق في جرائم إسرائيل. وقد تبنت كتلة غربية تضم أهم الدول المانحة (ألمانيا، اليابان، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا وكندا) هذا التوجه، وبلغت ضغوط واعتراضات بريطانيا والحلفاء الغربيين على المحكمة في هذا الشأن، مستويات غير مسبوقة، بلغت حد فرض إدارة الرئيس السابق “دونالد ترامب” عقوبات على المدعية العامة السابقة للمحكمة “فاتوبنسودا”، ومسؤول رفيع آخر في المحكمة، بعد فتح تحقيق على خلفية أدلة متعلقة بارتكاب عسكريين أمريكيين جرائم حرب في أفغانستان. والطريف، في هذا السياق، أن المدعي العام الحالي أعلن مؤخرًا أن تحقيقاته في أفغانستان ستركز فقط على الجرائم التي ارتكبتها طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، وهو ما يعني امتناعه فعليًّا عن التحقيق في جرائم مدعي بارتكابها من قبل القوات الأمريكية في أفغانستان.

 وختامًا يمكن القول بأن خطوة المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة توقيف ضد الرئيس بوتين ومفوضته لحقوق الأطفال، تقف وراءها أسباب سياسية؛ حيث كان واضحًا منذ بدء الحرب في أوكرانيا عزم الولايات المتحدة وحلفائها استخدام كل الأدوات التي تجسد تناقضات ومساوئ النظام الدولي الراهن، ومنها المحكمة الجنائية الدولية، كأدوات سياسية في إطار الرد الغربي المنسق على التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.

وفي تقدير الكثيرين أن الأمر الأكثر إثارة للقلق أن الرئيس بوتين ينظر إلى مذكرة التوقيف هذه على أنها دعوة علنية إلى تغيير النظام الحاكم في روسيا. ومن الطبيعي، والحال كذلك، أن تؤدي تلك الخطوة إلى عزوف روسيا عن بذل أي جهود تستهدف التفاوض على حل سلمي للأزمة الأوكرانية، وعرقلة التعاون الدولي بشأن الصراعات والأزمات الدولية، كون روسيا عضوًا دائمًا في مجلس الأمن. في الوقت ذاته، وبالنظر إلى ما عرف عن المحكمة الجنائية الدولية كجهاز مُسيس من واقع مسيرته العملية، تساهم هذه الخطوة في المزيد من فجوة عدم الثقة بين الغرب والدول غير الغربية والمزيد من تقويض النظام الدولي المتعدد الأطراف، الذي لم يعد يتواءم مع التغيرات الجديدة في البيئة الدولية، وذلك بفعل تداعيات الحرب ذاتها وسلوك الغرب ارتباطًا بها وتنافس القوى العظمى.

اظهر المزيد

د.عزت سعد

سفير مصر السابق في موسكو ومدير المجلس المصري للشئون الخارجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى