2024العدد 197ملف ثقافي

حواريات محمد عبد الوهاب الغنائية (الجزء الثاني)

: دويتات هذه السنة وردت في فيلم (ممنوع الحب)، أول عرض 1/2/1942- سينما رويال، وشاركته فيه المطربة الكبيرة “اعتدال جورج عبد المسيح” المعروفة فنيًّا باسم/ رجاء عبده، الحوارية المركزية في الفيلم هي (يا للي فت المال والجاه).

حوارية (يا للي فت المال والجاه) تبدأ بغناء البطلة في انتظار حبيبها في جو مليء بالهدوء النفسي والسعادة، بعد مقدمة موسيقية على مقام البياتي وفي نفس الجو الهادئ، ويستمر هذا الجو لغاية وصول البطل: فكرية! فين أنتِ تعالي! مع إشراك الفرقة الموسيقية بالحوار الدرامي بلوازم قصيرة تعكس وتوضح الحوار الدائر. “أنا أهوه يا روح قلبي يا غالي” تقولها البطلة على نفس المقام (بياتي)، وفي نفس الجو الهادئ المسيطر من البداية ينتقل المقام إلى النهاوند مع غناء البطل: “روحي وحياتي ونور عيني”، وفي نهايته تدخل لازمة أوركسترالية من ثلاثة حروف فيها بعض القلق وتساؤل تعرف سببه من سؤال البطلة: “قول لي بقى اتأخرت ليه”، ويأتي رد البطل، وفيه كثير من التساؤل والدهشة “أبدًا يا روحي ما فيش تأخير!”، ونسمع لهجة التساؤل في عبارة “ما فيش تأخير”. ترد عليه البطلة بإصرار واضح في عبارة: “لا قول لي” تأتي على نفس الحرف الموسيقي مكررًا ثلاث مرات وكأنها تضرب الطاولة بسبابتها وهي تنطقها، ويأتي رد البطل: “بس أقولك إيه؟ دقيقة واحدة دي تبقى كثير؟” إلى جانب الدهشة والتساؤل نسمع نبرة الاستغراب والاحتجاج واضحة في لحن هذه الجملة.

كل هذه التفاصيل الواضحة جدًا في اللحن ومعالجته باللوازم الموسيقية القصيرة الدرامية تجعل من هذا المشهد الصغير بؤرة درامية صغيرة مُركزة ورائعة، وتنتهي الأغنية بتانجو على مقام العجم “كل السعادة والنعيم”، الذي ينتهي بأداء البطلين معًا بغناء هارموني بسيط من لحنين مختلفين في جملة النهاية، التي تأتي على لحن رائع يدخلنا في جو من التفاؤل العالي والسعادة الغامرة، وكأننا نسمع نشيد لتمجيد السعادة الإنسانية.

ينتهي هذا الفيلم بديالوج (آن الأوان) وهو ديالوج عادي المستوى الموسيقي يبرز منه نهايته التي ترد على عبارة ” أوعى تقول ممنوع الحب”، يبدأها المطرب ثم تشاركه فيها المطربة، ويسبق هذه النهاية السعيدة حوارات بين البطلين، ابتداءً من مقام البياتي ثم الانتقال إلى مقام العجم ليصل إلى النهاية التي ذكرنا.

1944: وردت حواريات هذه السنة في فيلم (رصاصة في القلب)، أول عرض 17/3 أو 24/3/1944 – سينما ستوديو مصر، الذي شاركت بطولته الممثلة المصرية اليهودية “راقية إبراهيم” (اسمها الأصلي راشيل إبراهيم)، ويقال أنها بعد مغادرتها مصر نهائيًّا بعد تأسيس إسرائيل سنة 1948، سلّمت صديقتها العالمة المصرية الكبيرة “سميرة موسى” في أوروبا للموساد الإسرائيلي، الذي قتلها وبدا الموضوع وكأنه حادثة سيارة.

لحَّن محمد عبد الوهاب المقاطع الغنائية التي شاركت فيها الممثلة بطريقة أقرب إلى الغناء الإلقائي (Recitativo)، بعيدًا كل البعد عن التقنيات الغنائية الصعبة؛ كون البطلة ممثلة وليست مطربة محترفة.

الحواريتان الواردتان في الفيلم: (حكيم عيون)، و(حقولك إيه عن أحوالي)، وهما من نظم حسين السيد، مرتبطتان ببعض بخط درامي يربطهما بالخط الدرامي العام للفيلم: ففي الأغنية الأولى نرى المطرب هو البادئ بالتقرب من البطلة (جاهلًا أنها خطيبة صديقه)، بينما ينقلب الدور في الأغنية الثانية (حقولك إيه عن أحوالي) بعد توالي الأحداث الدرامية للفيلم، فتكون البطلة هي البادئة بالتقرب من البطل، وهذا طبعًا يقلب المسار الدرامي في الأغنيتين مئةً وثمانين درجةً كما سنرى.

حوارية حكيم عيون: المشهد يدور في عيادة صديق البطل، وهو طبيب الأسنان سامي (سراج منير)، ويبدأ المشهد حين تصرخ البطلة من الألم في أسنانها، ومع سرعة الحوار في هذا المشهد على خلفية عزف الأوركسترا لمقدمة الأغنية، نعرف أنه ليس طبيب أسنان، وبعد سؤالها “أومال حكيم إيه؟” يبدأ الغناء بعد ورود كل الحوار غير الملحن -كما ذكرنا- على خلفية لازمة موسيقية أوركسترالية من مقام النهاوند جميلة وهادئة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أجزاء مهمة في هاتين الحواريتين تأتي بشكل التكلم على خلفية لوازم موسيقية؛ وذلك رغبة من الملحن تقريب المشهد الدرامي أكثر للمستمع؛ كي يتقبل المطربة البعيدة عن إمكانيات الغناء الكبير، وهذا يعكس مقدرة الملحن على استغلال واستعمال أي صوت في لعبته التلحينية، ولنذكر دور عباس فارس الكبير في المسمع الأوبرالي (قيس وليلي).

نعود إلى بداية دخول غناء البطل بعد تساؤل البطلة “أمال حكيم ايه؟” إلى جملة “حكيم عيون أفهم بالعين”، ويأتي اللحن بالقفز على أبعاد موسيقية على السلم الموسيقي، تؤلف توافق هاروموني عمودي يستعمل هنا الملحن مكوناته حرفًا حرفًا، وهذه الطريقة لم تكن واردة قبل سيد درويش – مبتدِع هذه الطريقة في الموسيقى العربية- ولنذكر أغنية (علشان ما نعلا ونعلا). وتأتي العبارة الثانية الموسيقى العربية “وأفهم كمان برموش العين” بطريقة التتالي أي بإعادة الجملة الأولى على درجة مختلفة عن درجة بداية الجملة الأولى، ويستمر اللحن لغاية ” قاسيت كثير منهم وقريت كثير عنهم”، تأتي هاتان العبارتان على إيقاع الزرافات 16/10، وهو نفس إيقاع الموشحات الكبير سماعيٍّ ثقيل 8/10 او4/10، ولكنه أسرع، ويستمر الحوار غير الملحن؛ حيث نرى التطور الدرامي في الموقف بوضوح يرد في اللوازم الموسيقية، خلفية هذه الحوارات غير الملحنة. في جملة “طيب إقرالي اللي في قلبي” يظهر ضعف صوت الممثلة الواضح في الغناء وعدم ركوزه وهوائيته، ويستمر الحوار لغاية بداية صد البطلة للبطل: شيء ما يهمكشي على خلفية اللوازم الموسيقية التي تحمل خط التطور الدرامي في السياق الموسيقي، ويستمر إصرار البطل في محاولته لاستمالة البطلة: ” فيه يا ترى شخص يهمك” بجملة رائعة على مقام النهاوند والدرامية لغاية السؤال المباشر: ” والشخص ده شايفاه دلوقت قدامك” بطريقة الأداء الإلقائي، كل هذا على خلفيته المصاحبة الأوركسترالية الدرامية (ولن أقول اللوازم)، التي تواكب وتوضح التطور الدرامي الوارد في الحوار، ويأتي الرد الحاسم (الإلقائي) “بالطبع لأ”، ونسمع جمله أوركسترالية – فيها الكثير من الدراما الأوبرالي المصورة للأحاسيس البشرية العميقة، في تصوير الصدمة التي تلقاها البطل.

في آخر الحوار وبمصاحبة درامية عميقة للأوركسترا يعترف البطل بهزيمته في اختراق قلبها بمونولوج رائع

دلوقت بس صدقتك

**

خدعوني قلبي وعينيا

واللي انكتب جوا في قلبك

   

**
*
أتاريه لغيري مش ليا

بعد هذا المونولوج الدرامي العميق نسمع جملة أوركسترالية، وردت سابقًا، تنهي هذا الحوار.

حوارية: “حقولك أيه عن أحوالي”، تعكس عبقرية محمد عبد الوهاب في الفهم العميق لطبيعة المقامات وقدرته الكبيرة على تغيير طبيعتها الأصلية وجعلها تصور أحاسيس إنسانية غير موجودة فيها أساسًا.

هذه الحوارية تبدأ على مقام العجم، والمعبر بطبيعته الأساسية عن السعادة والفرح، كما رأينا في نهاية حوارية (ياللي فت المال والجاه)، يأتي هنا مشبع بالإحساس بالألم الشفاف والحزن الرقيق، حاملًا الجو العام الحزين المسيطر على طابع الحوارية من بدايتها. فعلى بداية موسيقية تعزفها الأوركسترا تبدأ البطلة طالبة من البطل” كلمني عن نفسك، عن أحوالك”، وعلى نفس مقام العجم المشبع هنا بالحزن الشفاف والألم الرقيق يبدأ المطرب “حقولك إيه عن أحوالي” بجملة موسيقية مليئة بومضات أوركسترالية درامية سريعة، يلي ذلك جملة أوركسترالية موقعة وعلى نفس المقام تأتي على حوار إلقائي Recitativo قصير بين البطلين: ” وإزاي تعيش بالشكل ده؟ – ما أقدرش أعيش إلا كده!”، وتحاول البطلة إخراجه من هذا المزاج الرمادي القاتم: “فاكر لما شفنا بعض لأول مرة؟” بلحن تساؤلي تصاعدي على السلم الموسيقي، ويأتي الرد على حرف موسيقي واحد وبشكل مقتضب ” أيوه فاكر”، ليتبع ذلك جملة لحنية سريعة جدًا على الأوركسترا تقتحم السلم الموسيقي كاملًا من قراره إلى جوابه، وتعكس بشكل واضح جدًا استدراك البطل وندمه على ما قاله “لأ مش فاكر شيء بالمرة!” يقولها البطل بأداء إلقائي سريع، وخالٍ من أي لحن.

ونعود إلى الجو الحزين ودخول مقام النهاوند الحزين بطبيعته مع جملة إلقائية للبطلة “كان حلم جميل” على خلفية أوركسترالية بلحن حزين وقاتم، ویرد البطل “وآديني لسه عايش فيه”، وتجيب البطلة “كان حلم جميل” بنفس الأداء الإلقائي في أول مرة على نفس الخلفية الأوركسترالية.

ويتابع البطل “نسيته وأنت كمان انسيه”، وتدخل البطلة بجملة جميلة على إيقاع التانجو “انساه لوحدك”، هنا يحدث الانقلاب الدرامي الذي ذكرته في بداية تقديمي لهذين الديالوجين، وأقصد عكس الأدوار بين البطلين ففي الديالوج الأول (حكيم عيون) البطل هو الذي يأخذ المبادرة للتقرب للبطلة، بينما نرى في(حقولك إيه) البطلة هي التي تأخذ هذه المبادرة، وهذا ما يعكس الخط الدرامي ويقرب الأغنيتين دراميًّا إلى أقصى حد (الجدلية الفكرية باستعمال التناقضات الدرامية في بناء وحدة العمل)، مقارنة بسيطة تكشف لنا مدى التقارب بين العملين:

 في حكيم عيون، هي: طيب إقرالي اللي في قلبي واحكيلي عليه.

هو: اللي مكتوب فيه بيخوف ما أقدرش أحكيه.

هو: والشخص ده موجود هنا.

هي: ممم.

هو: والشخص ده شيفاه دلوقتي قدامك.

هي: بالطبع لأ.

في حقولك إيه، هي: تقدر تقرالي اللي في قلبي وتقولي عليه.

هو: مكتوب فيه واحد بيحبك وأنت بتحبيه.

هو: والشخص ده موجود هنا.

هو: بالطبع لأ.

هي: أنت كداب دايمًا تنرفزني كده.

ولابد هنا من ذكر أن عبارتي “تقدر تقرالي”، و”اللي مكتوب فيه بيخوف” من الديالوج الأول، وعبارتي “تقدر تقرالي”، و”مكتوب فيه واحد بيحبك” من الديالوج الثاني، تأتي على نفس الجملة اللحنية إمعانًا في تقريب الخطين الدراميين بواسطة الجدلية الفكرية. وبعد إلقاء “قلبك محتار بين صاحبك وخطيبته”، تبدأ مرحلة درامية حزينة قاتمة كلها على الخلفية الموسيقية الأوركسترالية التي تأتي مع إلقاء البطل المونولج الطويل: (أنا أشكرك)، وتركز هذه الخلفية الأوركسترالية فيها كل الموقف الدرامي التراجيدي على خلفية أداء المطرب، الذي يستذكر بعض المواقف التي حصلت بينهما بعرض هذه المواقف بأداء إلقائي درامي، ثم يختم البطل العمل بمونولوج حزين جدًا على مقام النوا أثر “ولقيتني عايش” مع دخول الإيقاع الهادئ البطيء، ثم تأتي جملة “ضحيت بغرامي” بطريقة درامية مسرحية لتنتهي الأغنية بعبارة “واللي ما سهرش ولا تألم”، جملة مليئة بدراما وعمق إنساني نادرين في الموسيقى العربية -خصوصًا عند كلمة “إنسان” يلي ذلك جملة أوركسترالية حزينة بطيئة موقعة تصوّر إبعاد البطل بخطوات حزينة ثقيلة.

1946: نصل الآن إلى آخر فيلم شارك فيه محمد عبد الوهاب تمثيل وغناء وهو (لست ملاكًا)، أول عرض 28/10/1946، الذي شاركته البطولة فيه المطربة اللبنانية الكبيرة نور الهدي “ألكسندرا بدران”، ويرد في هذا الفيلم أربع ثنائيات، الأولى: غناها البطل مع المطربة أحلام وهو الاستعراض الرائع (القمح الليلة)، وهو لا يحتوي على محاورة بل تبدأه المطربة أحلام بغناء المطلع وأول مقطع ويتبعها المطرب بغناء المقطع الثاني. تبدأ الأغنية باستعراض مدهش للإيقاع مع كمية كبيرة من مختلف آلات الإيقاع العربية تقوم بدور تأثيري إنفعالي كبير على المستمع، ويستعمل هنا الملحن ولأول مرة آلة البيكولو (الفلوت الصغير) الأوركسترالية السمفونية لعزف لحن المقدمة على خلفية الإيقاع المهيب وهو مستوحى من باليه كسارة البندق لتشايكوفسكي(الرقصة الصينية)، كما يستعمل في اللازمة الداخلية بين المطلع والمقطع ولأول مرة في الغناء العربي الكورال النسائي لحنًا هارمونيًّا مختلفًا مصاحبًا للحن الأساسي الذي يغنيه الكورال الرجالي، والأغنية مليئة من أول ضربة إيقاع لآخرها بجو مليء بالتفاؤل والبهجة والإشراق والسعادة وهي بطابعها هذا من أندر الأغنيات العربية.

 في نفس الفيلم ومع البطلة نسمع (وبنفس طريقة تقسيم الأدوار الغنائية) الأغنية الرائعة (شبكوني ونسيوني قوام)، حيث تبدأ المطربة بغناء المذهب بعد – مقدمة تمهد المقام النهاوند، ثم يغني المطرب المقاطع كلها.

الحوارية الوحيدة التي تحمل خطًا دراميًّا داخليًّا هي حوارية (اضحكي وغني)؛ حيث يأتي البطل ليقول للبطلة الضريرة التي تحبه بأن “اضحكي وغني وافرحي معايا” قبل إلقاء القنبلة بأنه يحب (يسرية).

يبدأ الحوار بمقدمة من مقام النهاوند فيها الكثير من خبرة الملحن الكبيرة في صياغة الموسيقي الدرامية، ويدخل مقام العجم بسلاسة بسيطة ومحيرة عند “أخبار جميلة حقولها لك”، وذلك لتقوية الصدمة الدرامية المقبلة، ويستمر العجم مع رد البطلة “لأ قول لي أنت وحياة عينيك” بجملة جميلة فيها تطوير داخلي من أجمل ما يمكن سماعه، يتبعها حوار قصير على مقام الحجاز الشجي تسبقه لازمة من نفس المقام، ويتطور الحوار “طب قوللي على سر هواك”، ويرد البطل “اخترت القلب”، ويقترب الانفجار “وحياتي قول مين هي”، ويرد بالقنبلة ” يسرية”، عائدًا إلى البداية “اضحكي وغني”، وهنا يحصل التصادم الدرامي المقامي الذي ينقلنا من الجو السعيد المتفائل إلى حالة البطلة المصدومة، فجأة يدخل مقام البياتي الحزين المليء بالشجن؛ ليصور هذه المأساة الصادمة ويذكرنا بشدة بنفس الصدمة الدرامية في آخر المونولوج – القصة “ساكن قصادي” (محمد عبدالوهاب – حسين السيد – نجاة الصغيرة)، حين تفاجأ الراوية بفرح حبيبها اللي (ساكن قصادها وتحبه)، في جملة “ناس في طريق النور”، ويحصل التصادم المقامي الكبير لتصوير الحالة النفسية للبطلة بدخول مقام البياتي “وأنا في طريق مهجور” محدِثًا زلزالًا انفعاليًّا عند المستمع وكأنه يستمع لمقام البياتي لأول مرة مع أنه من أكثر المقامات العربية شيوعًا في التلحين. بداية استعمال هذا الصدام الدرامي – المقامي نجده في الحوارية التي نحن بصددها، حيث نستمع إلى مقام البياتي الذي ينقلنا بطريقة مفاجئة تصادمية إلى جو حزين قاتم ” أضحك لمين وأغني لمين وأفرح لمين وأنا قلبي حزين”، ويتخلل هذا المقطع البياتي غناء مرسل على مقام الحجاز الشجي يتبعه ” حغني لمين وأفرح لمين وأنا قلبي حزين”، لتنتهي الأغنية بلازمة أوركسترالية من نفس مقام البياتي، ينتهي الفيلم بعد أن تصفى الأجواء بين البطلين بحوارية (كنت فين تايه وغايب) على مقام الهزام المؤثر، وهي حوارية قصيرة (دقيقة ونصف دقيقة فقط)، لكنها مليئة بعاطفة سامية تعكس حالة الحب والسعادة بين الحبيبين.

1949: نصل الآن إلى آخر فيلم ظهر فيه محمد عبد الوهاب في سلسلة أفلامه التي أنتجها (غزل البنات)، أول عرض 22/9/1949- سينما ستوديو مصر، حيث لحن كل أغاني هذا الفيلم، الذي يعتبر من دون أية منافسة أو شك أهم فيلم غنائي عربي، وغنى فيه رائعته “عاشق الروح”، ومن بين ما لحن في هذا الفيلم، حوارية (عيني بترف) أداء ليلى مراد مع عبقري التمثيل “نجيب الريحاني”، إلى جانب (عيني بترف) يشارك نجيب الريحاني في أغنية (أبجد هوز)، حيث يغني جملة “آه لو أبوكي حضر ويانا” بطريقة الإلقاء المسرحي ؛ لسبب غلاظة صوته ، على خلفية الأوركسترا التي تعزف نفس الجملة التي تغنيها ليلى مراد في “خلينا في الحاضر وخياله”، ولا ينضبط صوت الريحاني باللحن إلا عند جملة “وبدل المهية راح آخذ صرمن” مع أنه في بعض الأحيان يلمح بصوته قدر استطاعته إلى اللحن التي تعزفه الخلفية الموسيقية.

(عيني بترف)، قد لا نكون مبالغين لو قلنا أن “هذه الأغنية هي أقوى الأغنيات العربية من حيث العمق في استعمال التفكير الجدلي (Dialectic)، في ربط التناقضات الدرامية في صياغة الوحدة الفنية في العمل الواحد”.

العنصران الجدليان المتضاربان والمتناقضان والمتصارعان في البنية الدرامية للأغنية هما:

  1. العنصر المتوتر، الذي يصوّر نفسية الأستاذ حمام، المسحوق اجتماعيًّا، الذي يقوم بخطف ابنة الباشا في منتصف الليل (لاحظوا تاريخ الحدث 1948) ظانًا أنها تحبه.
  2. العنصر الخالي من أي توتر المليء بالسعادة والانطلاق، الذي يصور نفسية ابنة الباشا، التي تستخدم الأستاذ حمام وسيلة الوصول إلى حبيبها أنور (محمود المليجي).

كيف يستعمل محمد عبد الوهاب هذين العنصرين الدراميين المتناقضة في بناء وحدة العمل الفني في نسيج موسيقي درامي موحد؟ تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية مليئة بالتوتر، وترد هذه المقدمة على مقام اللامي وهو بطبيعته مقام غير مستقر قلق لسبب درجة ركوزه التي هي الدرجة الثانية من مقام النهاوند القلقة المعلقة، إذن لا وجود لدرجة ارتكاز مريحة من الأساس، ويكون بذلك الخط المتوتر هو المسيطر في البداية. ويبدأ الغناء على هذا العنصر المتوتر “عيني بترف، وراسي بتلف، وعقلي فاضل له دقيقة ويخف” ويقطع هذه الجمل الثلاث المتقاربة إلى أقصى حد في اللحن لازمة موسيقية في منتهى القصر تحمل ستة عناصر درامية واضحة جدًا تزيد من التوتر العام للحن:

  1. عنصر اللحن: مكون من حرف موسيقي واحد.
  2. عنصر طول اللحن: نقرة واحدة على مجموعة الكمنجات (نقرة واحدة لتزيد من قصره وتوتره).
  3. عنصر المقام: مقام اللامي المتوتر غير المستقر والقلق لغياب درجة ركوز مستقرة.
  4. عنصر الموقع من المقام: الدرجة الأولى من مقام اللامي القلقة غير المستقرة والمعلقة
  5. عنصر الموقع على السلم الموسيقي: أعلى من العزف في مصاحبة الغناء بسلمين كاملين (16 درجة لفوق) لزيادة الخضة الانفعالية والتوتر.
  6. عنصر الإيقاع: ترحيل وقع الإيقاع إلى الأمام (سانكوب Syncope) على حساب النبرة الإيقاعية القوية المستقرة وتقوية الضعيفة غير المستقرة، كل هذه العناصر ترفع جرعة التوتر إلى درجة عالية جدًا.

ثم تأتي جملة ليلى مراد على نفس اللحن الأول ونسمع النقرة (اللازمة) مرة واحدة والباقي من دونها، فيخفف الملحن بذلك عنصر التوتر الذي بدأ به جملة الأستاذ حمام (وكأنه خرج منه)، والمتمثل بنسبته الكبرى بالحرف الموسيقي الواحد ذي العناصر الست المذكورة والذي يتردد ثلاث مرات.

” تسمحيلي كلمة واحدة … قول يا نور العين”.

تأتي هاتان الجملتان مقطعة الأوصال بواسطة لوازم موسيقية من حرف ثم حرفين فقط بطريقة النقر على الوتر وبتأخير النبر الإيقاعي القوي وإبراز النبر الضعيف على حساب القوي (سانكوب -Syncope)، تتبعها جملة “نفسي أعرف.. بدي أعرف.. إحنا رايحين فين؟”

نبرة تساؤل واضحة ولكن خفيفة التوتر تمهيدًا لجملة ليلى مراد الخالية نهائيًّا منه “رايحين على البلد التي تجمع شمل العشاق”، جملة لحنية في منتهى السعادة خالية نهائيًّا من أي توتر وإن كانت على نفس مقام النهاوند (وحدة العناصر الفنية)، التي وردت عليه آخر جملة غناها حمام، وذلك لكون خط (حمام) المتوتر ما زال مسيطرًا. وتأتي اللازمة بعد جملة ليلى مراد هي نفسها الواردة في المقدمة الأولى لوصف توتر حمام، لكنها تأتي على مقام النهاوند ومستقرة على درجة ركوزه، ولنقارن بين اللازمين، الأولى: تأتي واقفة متوترة، والثانية: تأتي نائمة مرتاحة على درجة ركوز المقام، منزوعة التوتر هذا ما نعنيه بالجدلية الفكرية في جمع التناقضات في بناء وحدة العمل الواحد باستعمال نفس المادة الموسيقية- الفكر الجدلي (Dialectic) في معالجة المادة اللحنية الواحدة.

ويتطور اللحن “والله أنا حاسس … إيه؟ لأ ما فيش”، مع عناصر التوتر المتمثلة في الجمل الثلاثة (السنكوبات) Syncopes.

“حاسس بأيه قول ما تخبيش؟” اختفاء التوتر للتهيئة لزحف خط ليلى مراد، مع نبرة تساؤل واضحة. هنا يبدأ هذا الخط بالتوغل في البناء الداخلي للحن؛ فبعد عبارة (حمام) “مصيبة ما كانتش على بالي” المتوترة، و “يا لطيف يا لطيف” الناعمة لليلى مراد نسمع لازمة أوركسترالية لحنها يأتي في المنطقة المشتركة بين النهاوند الدرامي والعجم الفرح في خلفية “حمام أنا عايزة.. عايزة حاجة”. هنا وانطلاقًا من هذه اللازمة المشتركة بين المقامين يبدأ الخط الثاني المنزوع في التوغل في البناء اللحني لغاية ما يسيطر عليه بدخول غناء ليلى مراد على مقام العجم (عايزه أرقص.. عايزة أغني) بلحن في منتهى السعادة والتفاؤل والفرح والإشراق والانطلاق لغاية ما يصل الخط الثاني المنزوع التوتر إلى ذروته في “علشانك أنت أنكوي بالنار، ولقح جتتي”، حيث نسمع اللحن وكأنه فقد السيطرة على نفسه مع الأستاذ حمام الذي يتخلى نهائيًّا عن وقاره وحذره وخوفه وقلقه، في لحن فيه نسبة عالية ومركزة من الغرائبية اللحنية وغير واضح المقام. إن هذه الأغنية مع قصرها 2:50 دقيقة تعتبر تحفة نادرة في الفكر الجدلي الموسيقي في تاريخ الموسيقى العربية قاطبة.

آخر ما نقدمه في هذا المبحث هو حوارية (هن هن ولا أنت داري) وردت في فيلم (بلد المحبوب)، أول عرض 29/1/1951 – سينما أوبرا، وشارك في تمثيله وغنائه (سعد عبد الوهاب، وسعاد مكاوي، وإسماعيل ياسين).

الأغنية – الحوارية، جاءت على نص هزلي كوميدي من تأليف أبو السعود الإبياري المشهور بهذا الأسلوب الكوميدي في الكتابة الشعرية وهو المؤلف لكثير من مونولوجات إسماعيل ياسين (وغيره) الكوميدية الانتقادية، وهذه الأغنية مثال فريد في تلحين النص الكوميدي في الموسيقى العربية والتعامل الدرامي معه.

ثلاث محطات واضحة الحدود والمعالم في هذه الأغنية:

المحطة الأولى: استعمال لحن مطلع أغنية محمد عبد الوهاب “إنت إنت ولا انتش داري” 1948 – حسين السيد.

المحطة الثانية: المقاطع التي تأتي على لحن حالم رومانسي بالرغم من النص الكوميدي.

المحطة الثالثة: مقطع إسماعيل ياسين الذي سنتكلم عنه في حينه لاحقًا.

ورد النص الكامل لهذه الأغنية – الحوارية في (موسوعة الأغنيات في السينما المصرية) للمؤرخ السينمائي الكبير الأستاذ “محمود قاسم”، لكن تسجيل الأغنية المتوفر لدي، والذي حصلت عليه من أربعة مصادر مختلفة وهي: الشبكة الدولية (Internet)، والإذاعة المصرية، ومكتبة المؤرخ الموسيقي اللبناني د. فكتور سحاب، ومكتبتي الخاصة، أقول إن تسجيل هذه الأغنية مبتور المقدمة الموسيقية والمطلع والمقطع الأول. هذه التسجيلات الأربع الناقصة البداية تبدأ بلازمة حالمة رومانسية على مقام النهاوند للمقطع الذي تغنيه المطربة الكبيرة سعاد مكاوي “ليه تسيب خضرة وحلاوتها”، وهو من جملتين موسيقيتين جميلتين. إن هذا المقطع بإيقاعات لحنه وإيقاعات كلماته نجده مطابقًا بشكل حرفي للمقطع الأول غير الموجود في التسجيل، والمفروض أن يتقاسمه في الغناء (سعد عبد الوهاب، وإسماعيل ياسين) بناءً على النص، كالمقطع الأخير بعد المذهب المأخوذ بالكامل من أغنية (إنت إنت). وبهذا يتضح لنا بواسطة المنطق في التحليل الموسيقي، ومقارنة الإيقاعات الداخلية للكلمات واللحن والاستنتاج أن لحن المقطع الأول المقتطع من التسجيل هو نفس لحن المقطع الثاني الذي تغنيه سعاد مكاوي، والذي ينتهي أيضًا بمطلع أغنية (إنت إنت).

نأتي هنا إلى المحطة الثالثة في الأغنية الحوارية: مقطع إسماعيل ياسين بطابعه المفاجئ، البعيد كل البعد عن الطابع الرومانسي، الحالم الذي ورد في مقطع المطربة. اللحن يرد على مقام العجم، إيقاعه متوثب، وفيه الكثير من طابع الشعوذة والغرائبية في اللحن:

طرحة أم الخير ومباركة
            
**فين نروح جنب الشميزته([1])

 
اللي فوق جته ألا فرانكة
                 
**عايزة تاكل منها حتة

 

ويقوي طابع الشعوذة والغرائبية هذا الظهور المفاجئ لإيقاع الزارع في الجملة التالية على نغمة النوا أثر:

آه يا مشيتها – آه يا ضحكتها – آه یا بصتها – کلها طبنجات

ماما وأبوكي – اللي جابوكي – يوم ما ولدوكي رضعوكي شربات

ويلي ذلك جملة “إنت إنت” على كلمات “ما انشبكت في خمسة الجاري هن هن ولا انتش داري” يليها لازمة النهاوند الحالمة التي استمعنا إليها في بداية المقطع الأول ثم المقطع الثاني لسعاد مكاوي مع سعد عبد الوهاب وإسماعيل ياسين. المقطع يبدأ بوصف “بق” إسماعيل ياسين على لحن حالم رومانسي:

يا أختي على شلاضيم شلاضيمه
  
**اللي يتفصلوا كام دستة

بقك احترت في تصميمه

**بق ده أو صندوق بستة

ويأتي اللحن الحالم الرومانسي الجاد لهذا المقطع مع كلماته الكوميدية الكاريكاتورية ليولد حالة فريدة من الكوميديا الموسيقية نتيجة التضارب (Contrast) التصادمي بين الكلام الهزلي واللحن الجاد الرومانسي، وهذا النوع من التأليف لا نجده إلا عند عباقرة الملحنين الكلاسيكيين الأوروبيين في القرن العشرين -خاصة عند الروسي “شوستاكوفيتش” (1906-1975)، ما يعكس ثقافة الملحن الموسيقية الواسعة جدًا، واستيعابه للموسيقى الكلاسيكية الغربية.

 ينتهي المقطع بدخول (سعد عبد الوهاب، إسماعيل ياسين) في حوار قصير ينتهي بإعادة لحن (إنت إنت): آه يا ناري يا كثر مراري

                     هن هن ولا انتش داري

وتنتهي هذه الأغنية الغريبة باللازمة الحالمة التي تمهد للمقطع الأول والثاني للمطربة.

الخاتمة:

وبعد، فهذه مسيرة تلحين الحواريات عند محمد عبد الوهاب التي يمكن اختصارها في ثماني نقاط تاريخية، تشمل أعمال كل من تصدى لهذا النوع من التلحين في تاريخ مسيرة الموسيقى العربية الحديثة.

  1. النقطة الأولى: ذروة التلحين الدرامي والعمق الإنساني، والغناء السامي الدرامي الأوبرالي، كما في مسمع (قيس وليلى)، مع أسمهان وعباس فارس مع ذروة الغناء الدرامي التعبيري.
  2. النقطة الثانية: استخدام وتسخير التفكير الفلسفي الجدلي (Dialectic) في صهر التناقضات الدرامية في داخل بوتقة ووحدة عناصر العمل الفني المتناقضة والمتنافرة والمتصارعة، كما في (عيني بترف)، ليلى مراد ونجيب الريحاني في فيلم (غزل البنات)، وغيرها كما ورد في المبحث.
  3. النقطة الثالثة: استحداث الغناء الإلقائي التعبيري عندما يشارك في العمل الغنائي ممثلون وليس مغنون، كما حدث مع عباس فارس في (قيس وليلي) ومع نجيب الريحاني (عيني بترف، وأبجد هوز) وراقية إبراهيم في فيلم (رصاصة في القلب).
  4. النقطة الرابعة: دمج التلحين الجاد الذي يصل إلى التلحين الرومانسي مع كلمات كوميدية صارخة وذلك بطريقة التصادم (Contrast) بين عناصر العمل الواحد وإبعاد التقارب المنطقي المفروض بينهما، وإظهار الطابع الكاريكاتوري الواضح في الكلمات التي تصل إلى حدود إثارة الضحك عند المستمع، كما في “هن هن” (سعد عبد الوهاب، سعاد مكاوي، إسماعيل ياسين).
  5. النقطة الخامسة: ثراء المادة اللحنية بشكل ملحوظ جدًا، والذي لا يخضع لأي تحليل ونقد، بل هو نتيجة الموهبة العبقرية الكبيرة والمدهشة والتي لا يصلح معها سوى ألحان في منتهى الجمال والإبهار، وموهبة تلحين محيرة وعملاقة.
  6. النقطة السادسة: استفادة الملحن الكبرى من إنجازات سيد درويش في تطوير اللحن العربي وتحويله من مجرد ارتجالات غنائية، كما كانت سابقًا، قبله إلى نتاج للتفكير الموسيقي لا ارتجالات حنجرية مهما كانت عظمتها، هذه الارتجالات التي كانت أساس التلحين لغاية سيد درويش.
  7. النقطة السابعة: الدور الكبير الذي تلعبه الأوركسترا (بعد تحويلها من تخت مصاحب للغناء)، والمقاطع الأوركسترالية (ولا أقول اللوازم الموسيقية) بين الجمل المغناه، مقاطع أوركسترالية أصبحت هنا جزءًا مهمًّا من الخط الدرامي يربط أجزاء العمل الدرامي ببعضها ويجعل الموسيقى جزءًا لا يتجزأ من الخط الدرامي للعمل الدرامي ككل.
  8. النقطة الثامنة: أصبحت أفلام محمد عبد الوهاب الاستمرار السينمائي لمسرح سيد درويش الغنائي، بعد أن وضع في أغاني هذه الأفلام كل منجزات سيد درويش التي استوعبها وشربها من استفادته الهائلة من سماعه للموسيقى الكلاسيكية الغربية الغنائية الأوبرالية والأوركسترالية في دار الأوبرا المصرية، هذه الإنجازات الهائلة التي شربها محمد عبد الوهاب واستوعبها بدوره من سيد درويش، وبالذات باستعمال (التعبير والصراع) الدراميين في تكوين العمل الموسيقي. 

([1]) شيميزته: نوع من القمصان وتأتي الكلمة من الفرنسية (Chemisette) أي قميص رجالي خفيف، ذو أكمام قصيرة.

اظهر المزيد

سليم سحاب

قائد اوركسترا وناقد وباحث ومؤرخ موسيقي - لبنان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى