تنتمي تركيا وإيران إلى مجموعة الدول والقوى ذات التأثير الإقليمي وهو ما يمكّن من إدراجها ضمن الدول المتوسطة القوة، قبالة الدول الكبرى التي تمارس تأثيرًا يتجاوز محيطها الإقليمي إلى مناطق مختلفة من العالم، ومن هذه الدول يمكن أن نعدَّ (الولايات المتحدة، والاتحاد الروسي، وفرنسا، وبريطانيا، والصين، والهند).
تختلط في معايير القوة والتأثير عوامل متعددة: اقتصادية، وعسكرية، وقدرات بشرية، إضافة إلى عامل الموقع الجغرافي – السياسي الحيوي، والمشكلات المحيطة، والتموضع من الاصطفافات الإقليمية والدولية، كما العقيدة الفكرية والسياسية والأمنية- التي قد تحملها السلطات الحاكمة في أي بلد. ووفقًا لهذه التصنيفات تسقط مثلًا العديد من الدول التي لها باعٌ وتقدمٌ كبير في مجالات الاقتصاد، والتي يظن أنها من الدول الإقليمية أو الكبرى المؤثرة.
ويمكن لدولة ما أن تمتلك مواصفات الدولة الإقليمية أو الكبرى المؤثرة ولكنها لا توظف مواصفاتها من أجل ممارسة أدوار مؤثرة في فترة معينة، ولكنها يمكن أن تتحول في مرحلة أخرى إلى دولة مؤثرة في حال انتقلت بمواصفاتها إلى هذا التوظيف.
تركيا: دور “متربّص”.
تنتمي تركيا إلى تلك الدول ذات التأثير الإقليمي الذي تتيحه لها كل المواصفات التي ذكرناها أعلاه.
فهي تمتلك قدرات اقتصادية قد تعلو أو تتراجع لكنها واحدة من القوى الاقتصادية العشرين الأولى في العالم، وهي لم تكن كذلك قبل عشرين عامًا مثلًا، وهي تمتلك قدرات بشرية مقبولة في حدها الأدنى، كما تمتلك قدرات عسكرية متعاظمة وصولًا إلى تنامي صادراتها العسكرية ولا سيما في مجال الطائرات الحربية المسيرة، وأما موقعها الجيوستراتيجي فتركيا تقع في فضاء متحرك بكثرة أزماته واتصاله بقضايا في غاية الحيوية بالنسبة للأمن العالمي وليس فقط الإقليمي مثل: القضية القبرصية، والوضع في شرق المتوسط، واتفاقية مونترو، والوضع في القوقاز، والمشكلات الأمنية مع سوريا والعراق بسبب حزب العمال الكردستاني. كما إن تركيا عضو مهم وحيوي في منظمة عالمية مثل: حلف شمال الأطلسي، منذ مطلع الخمسينيات، وتتأثر باتجاهات الصراعات على مستوى العالم والأقاليم، التي يعتبر الحلف نفسه معنيًا بها، ولكن ما يضفي أهمية على تركيا كقوة إقليمية وربما أبعد من الإقليمية هو العقيدة الجديدة أو المتجددة التي اعتنقتها مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، ولم تكن تحملها الحكومات السابقة في تركيا، ونقصد هنا النزعة العثمانية التي أخذت سلطة حزب العدالة والتنمية على عاتقها السير بها بما يفضي إلى إعادة النفوذ والتأثير التركي على كل المناطق التي كانت سابقًا تتبع للدولة العثمانية التي سقطت عام 1918. وتتخطى هذه النزعة في خطورتها مسرح السياسات الإقليمية لتطال مسرح القضايا والمشكلات الدولية، وهو ما يجعل مرحلة العدالة والتنمية تختلف كليةً عن مرحلة ما قبلها على صعيد السياسات الخارجية فضلًا عن الداخلية.
عرفت سياسات تركيا- ما بعد إعلان الجمهورية عام 1923 ونهاية الحرب العالمية الثانية- حيادًا ملحوظًا فرضته ضرورات ترتيب البيت الداخلي. ومع بدء حِقبة الحرب الباردة، كانت تركيا تنحاز علنًا إلى جانب المعسكر الغربي ومنظمته العسكرية حلف شمال الأطلسي لدرء الأخطار التي كانت تعتقد أنها تتعرض لها من الاتحاد السوفيتي والشيوعية، فانخرطت بسياسات الأطلسي والغرب والتزمت بها، وربما لم تحاول تركيا أن تتعارض في سياساتها الخارجية مع حلف شمال الأطلسي والغرب إلا في القضية القبرصية فيما كان الصراع مع اليونان مضبوطًا تحت سقف التهدئة. أما العلاقات مع إسرائيل التي بدأت منذ العام 1949 فلم تعرف توترات جدية بل بالعكس كانت “مستدامة” في إطار المراوحة بين الحدين (الأدنى، والأقصى).
بالإيجاز يمكن القول إن تركيا كانت تيمم وجهها خلال مرحلة الحرب الباردة شطر الغرب ولم تكن حساباتها الإقليمية والعالمية معقدة أو تحتاج إلى مجهودات استثنائية، الحليف واضح كما العدو.
مع حزب العدالة والتنمية تغير الوضع إلى حد كبير، دخلت سياسة “صفر مشكلات” على الخط وبدلًا من السياسات الغربية – الأطلسية شبه المطلقة كانت تركيا تظهر انفتاحًا على كل الدول وهذا ما فعلته في السنوات الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية، وكان بطل هذه السياسة الثلاثي “أحمد داود أوغلو” وهو مهندسها، “ورجب طيب أردوغان” وكان متبنيًا لها، و”عبدالله غول”، وكان راعيها، لكن سياسة صفر مشكلات لم تكن كما يقال “لوجه الله”؛ ذلك وأنها كانت تخفي العامل المستجد في تحديد سياسات تركيا الخارجية وهو العامل الإيديولوجي في عنوانه البارز “العثمانية الجديدة” الذي بدأ يؤثر في رسم السياسات الجديدة.
وأخطر ما كان في هذه السياسة اعتمادها على ركائز معينة دون غيرها من أجل تغيير خريطة المنطقة ومحاولة وضع يد تركيا على السلطة في عدد كبير من دول المنطقة، وإذ كانت المجموعات ذات الأصول التركية إحدى هذه الركائز سواء في (سوريا، والعراق، أو ليبيا)، وعملت عليها تركيا طويلًا، فإن جماعات الإخوان المسلمين المنتشرة في معظم الدول العربية بقيت الركيزة الأساسية في سياسات التوسع التركي في المنطقة العربية.
وقد أدت هذه التحولات في سياسات تركيا إلى هز التحالفات لاحقًا مع دول حلف شمال الأطلسي وإسرائيل، وفي الوقت نفسه إلى كسر العلاقات بين تركيا والدول التي كانت استهدفتها بسياسة صفر مشكلات، فكان أن “خرجت تركيا من المولد بلا حمص” كما يقول المثل ولم يتبقَّ لها من حليف سوى قطر وأذربيجان.
ولا شك أن تركيا بهذه الخسائر الخارجية، عملت على مواجهتها من خلال التوجه إلى دول المعسكر الشرقي مثل: (روسيا خصوصًا، وإيران)، فكان التعويض في تدخلات عسكرية في سوريا بدءًا من 2016، وفي دعم أذربيجان لإلحاق هزيمتين تاريخيتين بأرمينيا في العام 2020، ومن ثم في بداية خريف 2023، واعتبرتهما تركيا نصرًا لها أيضًا.
لكن تركيا تعرضت لضغوطات على اقتصادها أنذرت بإمكانية الإطاحة حتى بسلطة الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”؛ فالرأي العام التركي بدأ يتأثر بتردي الوضع الاقتصادي، وبالتالي تراجع تأييده لأردوغان فكانت خسارة حزب العدالة والتنمية الأبرز في رئاسة بلديتي (إسطنبول، وأنقرة) عام 2019.
كانت هذه الخسارة إنذارًا لأردوغان للبحث عن سياسات خارجية جديدة تعيد تقويم الوضع الاقتصادي والثقة فيه من جديد؛ فالانتصارات الخارجية العسكرية كان يمكن أن تساهم في تعزيز حظوظ أردوغان في انتخابات الرئاسة عام 2023، لكن العامل الحاسم كان الوضع الاقتصادي الذي يؤثر مباشرة على وضع الناخب وخياراته الانتخابية.
لذلك كانت استدارة أردوغان الجديدة في التقدم لمصالحات “مالية” مع (إسرائيل، والسعودية، والإمارات)، والتي لعبت دورًا مهمًّا في تعويم الليرة التركية وفي فوز أردوغان في الرئاسة.
وفي الواقع، إن تركيا في كل سياساتها السابقة كانت تحاول ترجمة شعاراتها العثمانية على أرض الواقع، ولكن في ظل الانكسارات التي واجهتها هذه السياسة كانت الأولوية بالنسبة لأردوغان هي أولًا حماية بقائه في السلطة مهما كلف ذلك من “استدارات” وتراجعات وتنازلات، وفي الوقت نفسه “اغتنام الفرص” للتغلغل بين النقاط في هذه القضية أو تلك.
ولقد حاول أردوغان أن يتحرر من “الولاء المالي” للخارج (الخليجي، والإسرائيلي) بتغيير الطاقم الاقتصادي الذي يدير الاقتصاد، بتعين حاكمة جديدة للبنك المركزي “حفيظة غاية إركان” ووزير جديد للمالية “محمد شيمشيك”، كانت له إنجازاته في مراحل سابقة من حكم حزب العدالة والتنمية.
غير أن المؤشرات الاقتصادية التركية لم تتغير، واستمر التضخم في الارتفاع، واستمر تدهور سعر صرف الليرة وتآكل القيمة الشرائية للرواتب؛ لذلك كانت “البراغماتية” المتصلة بالبقاء في السلطة -ولا سيما أن الانتخابات البلدية على الأبواب في 31 آذار/مارس 2024، تمثل دورًا حاسمًا في تحديد طبيعة الدور الذي لعبته تركيا في الموقف من عملية “طوفان الأقصى”، وما تلاه من مجازر إسرائيلية وصلت إلى درجة الإبادة بحق الشعب الفلسطيني هناك وصولًا إلى إقالة حاكمة البنك المركزي وتعيين آخر بدلًا منها في مطلع شباط/ فبراير 2024.
وقف أردوغان على “الحياد” بين إسرائيل وحركة “حماس”، على الرغم من أنه يعتبر حركة حماس أحد أقرب تنظيمات الإخوان المسلمين إليه، وعندما بدأ يتعرض لضغوط الشارع التركي على موقفه السلبي من القضية الفلسطينية، “استدار” أردوغان نظريًّا وبدأ ينتقد رئيس وزراء إسرائيل “بنيامين نتنياهو”، ويصفه بهتلر الجديد و”جزار غزة”، ووصف إسرائيل بأنها “مجرمة حرب”، لكن دون اتخاذ أي تدبير عملي ضد إسرائيل لا سياسيًّا ولا ديبلوماسيًّا ولا اقتصاديًّا؛ بحيث كانت تصل يوميًّا إلى موانئ إسرائيل ،منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، ما معدله ثماني سفن محملة بالحديد والفولاذ وشتى منتجات المواد الغذائية والنفط.
والسبب الرئيس في وقوف أردوغان في البداية على الحياد، ومن ثم الانتقاد لكن دون اتخاذ تدابير عملية، هو الحفاظ على العلاقات الجديدة التي استأنفها مع إسرائيل وعدم تخريب العلاقات من جديد مع الولايات المتحدة، وكل ذلك من أجل عدم تعريض الاقتصاد التركي مجددًا للضغوط، بل وافق البرلمان التركي في 23 كانون الثاني / يناير 2024، على انضمام السويد لحلف شمال الأطلسي رغم اتهام أنقرة لواشنطن بأنها تدعم حزب العمال الكردستاني في هجماته على القوات والقواعد التركية في سوريا والعراق.
بين أولوية البقاء في السلطة و”اغتنام الفرص” تواصل تركيا في ظل رئاسة رجب طيب أردوغان سياسة اللعب على التناقضات، بحيث لا يؤثر ذلك على بقائه في السلطة وبما يضمن استمرار بقاء النزعة العثمانية على قيد الحياة. ومن الأمثلة الواضحة على سياسة “اغتنام الفرصة” ما أورده وزير الدفاع التركي “ياشار غولرفي” في كانون الأول/ ديسمبر2023، من أن تركيا ستقوم “بما يتوجب” عليها في سوريا لكن بعد إجراء انتخابات نيابية وتشكيل حكومة وطنية ووضع دستور جديد. وبطبيعة الحال تعتبر هذه الشروط تعجيزية وهي تدخل في شؤون سوريا ونموذج على سياسة اغتنام الفرص لإبقاء النزعة العثمانية حية على الأقل في سوريا وشمال العراق فضلًا عن ليبيا، وهي سياسات أبعد من أن تكون مجرد “تربص” وتتصل بمحددات وأولويات ومصالح تأخذ في الاعتبار الديناميات الداخلية ومساراتها كما المعادلات الدولية والإقليمية.
إيران: دور “متورط”.
كانت إيران، إضافة إلى إسرائيل وتركيا، بعد الحرب العالمية الثانية ركيزة أساسية للقوى الغربية في المنطقة، ومع أنها لم تكن تنتمي إلى حلف شمال الأطلسي فقد اشتهر عنها لقبها بأنها “شُرطي الخليج” في مواجهة الحركة التحررية العربية بزعامة الرئيس المصري “جمال عبد الناصر”، وقد تحركت إيران في المنطقة العربية حيث لا يمكن لإسرائيل أن تمارس ضغوطًا مباشرة، واستمر الوضع على هذا النحو إلى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وهذه كانت نقطة التحول الأساسية في المشروع الإيراني على الصعيد الخارجي.
رفعت إيران بعد انتصار الثورة شعار تصدير الثورة، وكان ذلك إشارة أولى إلى ما يمكن أن تشكله من خطر على المشاريع الغربية – الإسرائيلية في المنطقة، فهذا الشعار تزامن مع تغيير جذري وإستراتيجي في توجهات إيران الخارجية وأهمها معاداة إسرائيل وسياسات الغرب في المنطقة، ووُصفت أمريكا في الأدبيات الإيرانية بأنها “الشيطان الأكبر”.
افتقدت إيران في خططها لتصدير الثورة إلى ركائز عرقية في المنطقة العربية على غرار جانب من الركائز التركية؛ فلم يكن، في المنطقة العربية على الأقل، ولا في تركيا، أي مجموعات عرقية من أصول فارسية.
لذلك كانت طهران ترى في الجماعات المذهبية الشيعية الركيزة الأهم في مسألة توفير مساحات للنفوذ في المنطقة العربية، وهذه الجماعات توجد في كل من (العراق، ولبنان، واليمن، والبحرين، والسعودية).
ولقد واجه العراق التطلعات الإيرانية بشنّ حرب استباقية على إيران استمرت ثماني سنوات، حظيت بدعم غربي كامل لتطويق محاولات إيران التمدد في المنطقة وتهديد المصالح الغربية.
لكن طهران كانت- خلاف تركيا- تتجنب التدخل العسكري المباشر في أراضي الدول المجاورة أو البعيدة؛ لذا لجأت إلى نسج علاقات مع الدول والقوى التي يمكن أن تتعامل معها، وفي رأسها (سوريا) في ظل حكم الرئيس الراحل “حافظ الأسد” ومن ثم ابنه “بشار الأسد”.
وكما لا يمكن اعتبار تركيا “متربصة”، كذلك لا يمكن النظر إلى إيران على أنها تتبع سياسات “تورط”؛ فإيران تسعى إلى تعزيز نفوذها كقوة إقليمية كبيرة تتصل بقضايا ذات امتدادات دولية، وفي رأس هذه القضايا (القضية الفلسطينية)، وقد فعلت إيران كل ما يمكن فعله على صعيد عدم الاعتراف بوجود الكيان الإسرائيلي، فقطعت كل العلاقات معه -من أي نوع كانت- وأعلنت دعمها المتعدد لحركات المقاومة الفلسطينية من حركة فتح في عهد ياسر عرفات إلى حركة حماس في الوقت الحالي، وساعدها في ذلك انكفاء معظم الدول العربية عن دعم الفلسطينيين لأسباب مختلفة تبدأ من الضغوط الغربية ولا تنتهي عند التباين الفكري بين حماس(كونها تنظيمًا تابعًا للإخوان المسلمين) والعديد من الأنظمة العربية.
وما قد يغيب عن قراءة المحللين وصانعي القرار أن العداء الإيراني لإسرائيل يتصل بالعقيدة الشيعية نفسها، وهو ما يضفي على الاعتراض الإيراني وسعيها لإزالة إسرائيل أمرًا جديًّا على حيثيات القضية الفلسطينية.
وما يمكن قوله عن تركيا ينسحب أيضًا على إيران في “اغتنام الفرص”، وهذا ينطبق على كل ساحات التوتر التي تلعب فيها إيران، يمكن استثناء العراق من هذا التعميم؛ فهو ساحة “طبيعية” للحراك الإيراني؛ حيث توجد أولًا جماعات شيعية تشكل أكثر من ستين بالمئة من عدد السكان تشكل قاعدة خصبة للتأثير الإيراني، لكن- أيضًا- توجد خلافات مذهبية مع المكوّن السني، كما إن العامل الكردي ومن ثم انفصال كردستان عن مركزية الدولة واعتماد الفيدرالية يضفي ضعفًا على الواقع الداخلي في العراق ويخلق أرضًا مواتية للتدخل الإيراني كما التركي كما العربي.
شكَّل لبنان العامل الأكثر تبريرًا للتدخل الإيراني من خلال دعم المقاومة في لبنان المتمثلة بحزب الله، فالجنوب اللبناني كان محتلًا من قبل إسرائيل منذ العام 1978، ولعب الدعم الإيراني دورًا مهمًّا في تحرير لبنان في العام 2000، ولولا التعنت الإسرائيلي وعدم احترام الحدود الدولية مع لبنان وعدم الانسحاب من الأراضي اللبنانية التي بقيت تحت الاحتلال في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، والانتهاكات الإسرائيلية اليومية للقرار 1701 (عام 2006)، لما كان هناك مبرر لاستمرار مقاومة حزب الله في لبنان، وبالتالي استمرار النفوذ الإيراني عبر حزب الله.
إن عدم احترام إسرائيل للقرارات الدولية لا ينبع فقط من الأطماع الصهيونية في فلسطين، بل أيضًا في رغبة الغرب إبقاء الكِيان الإسرائيلي في حالة صراع وتوتر مع الدول المجاورة والبعيدة ليبرر استخدام قوة الكيان في تهديد القوى المعادية للمصالح الغربية.
من ذلك على سبيل المثل، عدم تنفيذ إسرائيل للقرارات الدولية بشأن انسحاب إسرائيل من أراضي العام 1967 المحتلة وإعطاء الفلسطينيين دولتهم في الضفة الغربية وقطاع غزة على الأقل، كما أن إسرائيل رفضت “المبادرة العربية للسلام”، التي أقرتها القمة العربية في بيروت عام 2002، والتي تعرض على إسرائيل السلام والأمن، واعتراف كل العرب بها مقابل حل الدولتين وجعل القدس(الشرقية) عاصمة للدولة الفلسطينية.
كانت إسرائيل ولا تزال ترفض حل الدولتين؛ لأنها تريد كل فلسطين أرضًا لدولة اليهود الموعودة، حتى لا نذهب أبعد إلى شعار “من النيل إلى الفرات حدودك يا إسرائيل”.
في هذه الظروف، كان من الطبيعي أن تنشأ حركات مقاومة في فلسطين، الواحدة أكثر شكيمة من سابقتها. وفي هذه الظروف، جاءت عملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر2023، والتي شكلت علامة فارقة وتاريخية في الصراع مع إسرائيل، نتيجة لما سبق وليس غير ذلك. وقد عكست ردة الفعل الإسرائيلية البربرية غير المسبوقة على قطاع غزة حقيقة الموقف الإسرائيلي في أنه يعارض قيام دولة فلسطينية بل يعارض حتى مجرد وجود الشعب الفلسطيني في أرضه والعمل على تهجير سكان القطاع إلى مصر.
في ظل هذا السلوك لإسرائيل وللدول الغربية وغير الغربية المعادية للشعب الفلسطيني لا يمكن لإيران إلا أن تكون من المستفيدين مما يجري والتأكيد على دعم حركات المقاومة ضد إسرائيل.
واستفادت إيران أيضًا من الصراعات الداخلية والعربية في اليمن وعليها، ونجحت في تغيير الموازين في الداخل اليمني لصالح جماعة “أنصار الله” المعروفة باسم “الحوثيين”، ليس هذا فحسب بل شكلت اليمن منطلقًا لتأثير إيراني بالغ في المحيط الإقليمي لليمن وفي الشرق الأوسط، عندما دخل للمرة الأولى بلد عربي “بعيد” طرفًا في الصراع ضد إسرائيل، وأطلق صواريخ مباشرة عليها، كما تدخل الحوثيون لتعطيل الملاحة الدولية في البحر الأحمر؛ لتكون اليمن أحد أهم أدوات التأثير الإيراني في الصراعات الإقليمية والدولية.
يمكن النظر إلى الدور التركي على أنه “تربصي”، والإيراني على أنه “تورطي”، لكن هذا لا يلغي أنهما في الأساس يعملان على تطبيق أجندات يمكن أن تضعها نصب أعينها أي دولة إقليمية كبيرة، منها (تركيا، وإيران)، تتطلع لتكون مؤثرة في مسارات الأحداث الإقليمية والدولية، خصوصًا إذا كانت تملك مشروعًا إيديولوجيًّا يحفزها وقدرات مختلفة لترجمة ذلك على أرض الوقائع.
وما كان لكل ذلك أن يحصل لولا عاملان: الأطماع الاستعمارية لإسرائيل والغرب في المنطقة وإصرارها على منع إحقاق الحق والعدالة، وغياب المشروع العربي الجامع بركيزته الأساسية: القضية الفلسطينية.