مدخل عام:
بعد عودتي من دراستي الموسيقية المطولة في الاتحاد السوفيتي السابق، والتي امتدت من سبتمبر/ أيلول 1965 إلى ديسمبر/كانون أول 1977، بدأت حياتي العملية في لبنان بتعليم الموسيقى، إلى جانب استمراري في الكتابة الموسيقية في الصحف والمجلات الثقافية اللبنانية، الكتابة التي بدأتها من سنة 1970 وحتى الآن.
ومع استمراري بالكتابة المكثفة بدأت مرحلة مهمة في حياتي، وهي التفكير في كيفية استعمال العلم الذي حصلت عليه، في خدمة وتطوير الموسيقى العربية، فبدأتُ بجمع المراجع الموسيقية القليلة النادرة التي كنت أجدها في المكتبات المهتمة بالكتب القديمة، وبعد اطلاعي على المراجع لفت نظري اختلاف وجهات النظر عند المنظرين الموسيقيين العرب في جمع المقامات العربية وتسميتها وتصنيفها، من هنا جاءتني فكرة التركيز على هذا الموضوع لغاية ما توصلت إلى وضع نظرية جديدة في تصنيف المقامات العربية وتوحيد أسمائها حسب المقام نفسه، وقد قدمت هذه النظرية في أحد مؤتمرات علماء الموسيقى الذي دُعيت إليه في مدينة طشقند ، وقد وضع المؤتمر هذه الدراسة / النظرية باسمي في أدبيات المؤتمر باعتبارها نظرية موسيقية جديدة، وقد توصلت إلى هذه النظرية بعد دراسة- مقارنة طويلة بين المقام الأساسي في الموسيقى الغربية وأصله إغريقي، وهو مقام الماجور Major( ويقابله مقام العجم العربي)، وبين مقام الراست العربي. وأقول عن المقام الماجور” الأساسي” لسبب نظري يكمن في تكوين المقام نفسه : فهو يتألف من قسمين يملكان نفس التكوين النغمي في المسافات النغمية التي تفصل درجاتها الأربعة. وقد قسم الفيلسوف والعالم الإغريقي الكبير “فيثاغورس” المقام الإغريقي هذا إلى قسمين سمَّى كلا منهما “تتراكورد”، وهو واضع هذه النظرية الموسيقية التي أخذها الغرب لاحقًا، تتراكورد: تترا= أربعة ، كورد أو خورد=حبل أوصوت، فكل قسم من قسمي المقام يتألف من أربع درجات يربطها توازن نغمي (سيمترية) يكمن في نفس الأبعاد النغمية بين درجاتها وبالمقارنة العلمية الدقيقة وجدت أن مقام الراست العربي مطابق تمامًا لمقام الماجور الغربي، أو كما سمَّاه فيثاغورس: الدورياني( Dorien) من ناحية التوازن النغمي مع اختلاف نغمة الراست عن العجم، ووصلتُ من باب المقارنة أن المقامات العربية المعروفة مشتقة من مقام الراست بنفس طريقة اشتقاق المقامات اليونانية من المقام الأساسي الماجور أو الدورياني الإغريقي. بذلك استطعت جمع أهم المقامات العربية المبعثرة والمتعددة الأسماء للمقام الواحد في ثلاث مجموعات، وعلى رأس كل مجموعة مقامها الأساسي: المجموعة الأولى، مجموعة الراست المحتوي على أرباع الصوت على الدرجة الثالثة والسابعة، ويأتي من هذا المقام كل المقامات المحتوية بين درجاتها على نفس أرباع الصوت الموجودة في مقام الراست. المجموعة الثانية: مجموعة النهاوند -المينور (Minor). والمجموعة الثالثة: مجموعة العجم ماجور (Major) أو الدورياني الإغريقي. وهكذا سهلتُ حفظ أسماء المقامات التي تصل إلى خمسة وعشرين مقامًا، وحصرتُها في ثلاثة أسماء فقط، المقام الأساسي لكل مجموعة، أما باقي المقامات فتأتي بالاستنتاج والاشتقاق.
بعد هذه المقدمة النظرية الجافة، تأتي المهمة أن أنتقل إلى موضوع هذا المبحث وهو كما يدل عنوانه، دور نغمة الحجاز في تكوين أهم المقامات العربية.
- مقام النهاوند:
ككل المقامات يتألف من جنسين: الجنس الأول، الذي يبدأ دائمًا من قرار المقام أي من درجته الأولى وهو جنس النهاوند، والثاني: الذي يبدأ عادة على الدرجة الخامسة لغاية الأولى المكررة(الجواب) وهو جنس الحجاز، وهذا المقام درامي بامتياز ويملك قوة تأثيرية انفعالية كبيرة على المستمع سواء في نسخته العربية أو الغربية. ولنا مثال كبير من موسيقى القرن التاسع عشر من هذا المقام : كادني الهوى، الدور الخالد الذي لحنه محمد عثمان (1855-1900)، والذي لم يفقد نضارة جماله اللحني وقوته التأثيرية الانفعالية الدرامية، والذي استمعنا إليه بالتوزيع الرائع للفنان الكبير “عبدالحليم نويرة”، بالرغم من مرور أكثر من قرن وربع على تلحينه، ويسيطر مقام النهاوند على هذا الدور بشكل شبه كامل لولا ورود مقام الراست في مقطع (للحسن ده بالطبع أميل).
ولم يهمل الشيخ سيد درويش زعيم المجددين (1892-1923) هذا المقام، وإن لم يستعمله كثيرًا، تاركًا إيَّاه للمواقف الدرامية في رواياته؛ وذلك لاهتمامه بالمقامات الجديدة غير المستعملة آنذاك، والتي كان يسمع بعضها من موسيقيين أجانب، فأدخلها سيد درويش إلى الموسيقى العربية من بابها العريض، نعود إلى نهاوند سيد درويش، ومن أهم أعماله الدرامية على مقام النهاوند النشيد -المارش العظيم، وأبو الأناشيد القومية العربية: “الجيش رجع من الحرب بالنصر المبين” من رواية شهر زاد (العرض الأول 30/6/1921 – المقطم)، والنشيد مليء بالقوة الدرامية الكبيرة خاصة في الأقسام التي يغنيها الكورال في بدايته ونهايته، ونرى بقوة تأثير هذا النشيد على جيل الأناشيد القومية التي ظهرت بعد وفاة الملحن 1923، خاصة في حِقبة ثورة يوليو 1952؛ تعبيرًا عن الأحداث الدراماتيكية العظيمة التي تلاحقت في تلك الحقبة، وأول من تأثر بسيد درويش وبفكره الموسيقي الثوري الجديد ومقاماته الجديدة والمتجددة كان محمد عبدالوهاب، فنرى بوضوح تام مقام النهاوند في مطلع أغنيته الشهيرة المعروفة (يا وردة الحب الصافي) حيث يأتي النهاوَند في العبارة الأولى ثم تأتي الجملة الثانية “تسلم أيدين اللي سقاكي” عارضة المقام بجنسيه (النهاوند، والحجاز) صعودًا. ويظهر هذا المقام المركب (من النهاوند، والحجاز) وبشكل أوضح في تقسيم الجنسين في أغنيته الرائعة الكبيرة “عاشق الروح” (1948- فيلم غزل البنات) في المقدمة المهيبة التي تعرفها آلات النفخ النحاسية (الترومبيت، والكورنو)، وتُعاد على مجموعة آلات النقر الوترية (الماندولين، والبلالايكا)، وتعاد مرة ثالثة بصوت محمد عبدالوهاب. ونرى هذا المقام في أغنية بليغ حمدي الرائعة “كل شيء راح وانقضى” من فيلم (الشموع السوداء) لنجاة الصغيرة، حيث يظهر جنس الحجاز على جملة “عمري ما حبيت ولا تمنيت”، ثم ينحسر اللحن لينتهي على مقام النهاوند عند “غيرك أنت يا حبيبي”.
ويرد تركيب ودمج جنسي النهاوند والحجاز بعظمة وفخامة واضحتين في ديالوج لحن الوفاء لرياض السنباطي(عبدالحليم حافظ وشادية -فيلم لحن الوفاء –1955) ويرد هذا التركيب في ختام هذا اللحن الكبير على كلمات “غنِّ لي واشجيني وإملالي واسقيني” تبدأ من النهاوند وتستمر في تصاعدها لتدخل جنس الحجاز بقوة درامية رائعة قبل دخول الكورال النهائي الذي هو إعادة لمطلع الأغنية، مع النهاية الكبيرة والعملاقة للمغنيّين والكورال والأوركسترا.
- مقام الراست:
نتكلم هنا عنه بالرغم من عدم احتوائه على جنس الحجاز لسبب نظري؛ فالراست هو المقام الرئيس في الموسيقى العربية، وذلك للتوازن النغمي (سمترية) بين جنسيه الأول والثاني، وكلاهما على مقام الراست، وهذا يعني أن الفواصل النغمية بين الدرجات هي ذاتها بين جنسي الراست اللذين يؤلفان المقام، وهذا ما يصنع التوازن النغمي (السمترية) بين قسميه (الأول، والثاني)، وكما رأينا كيفية اشتقاق المقامات الإغريقية من المقام الأساسي الدورياني Dorien (من الدرجة الثانية لجوابها مقام – ومن الثالثة لجوابها مقام وإلى آخره)، مع اختلاف التسلسل النغمي بين درجات كل مقام، نرى نفس الشيء حرفيًّا في الموسيقى العربية وبالذات في مقامها الأساسي الراست.
- السوزناك :
أهم اشتقاق من مقام الراست وهو ككل المقامات يتألف من جنسين: الأول راست (كما في مقام الراست)، لكن الاختلاف الذي يجعل له شخصيته الموسيقية النغمية المميزة يأتي من الجنس الثاني الأعلى وهو جنس الحجاز- موضوع بحثنا- ومن أشهر الأغنيات الملحَّنة على هذا المقام مونولوج حلم (زكريا أحمد، بيرم التونسي، أم كلثوم 1946) فاللازمة الموسيقية -المقدمة- تبدأ من مقام الحجاز الجزء الأعلى من المقام وتنتهي نزولًا على السلم الموسيقي مرورًا بمقام الراست لتصل إلى درجة المقام الأولى أي نقطة ارتكازه، المقام لا يظهر جليًّا في المقدمة فقط بل يتكرر في المطلع الغنائي “حبيب قلبي وافاني في معاده”، والذي يستقر على مقام الراست. ويستعمل فريد الأطرش هذا المقام في أغنيته “خدي قلبي”، التي يأتي مطلعها على مقام الراست ويبدأ الحجاز يظهر في بداية عبارة “وتقاسي عذابي في حبي”، وتنتهي على جنس الحجاز(القسم الأعلى من السوزناك)، ثم ينكفئ اللحن إلى مقام الراست وتكتمل بذلك صورة مقام السوزناك بقسميه (الراست، والحجاز). وأغنية بليغ حمدي لأم كلثوم (مأمون الشناوى-1964) “كل ليلة وكل يوم”، وتظهر سيطرة مقام الراست على المطلع الغنائي لغاية ” سهرت السهر في عينيا” لندخل مع هذه العبارة إلى نغمة الحجاز عند “صحيت المواجع فيَّا”. إذن نغمة الحجاز هنا ترد للتلوين المقامي داخل مقام الراست باستعمال المساحة المشتركة بين المقامين.
- البياتي الشوري:
ومن رحم مقام السوزناك وبطريقة الاشتقاق من درجته الثانية إلى جوابها يتكون مقام البياتي الشوري، وهذا المقام موجود بشكلٍ طبيعي في صلب مقام السوزناك دون تغيير أية درجة مجرد أن ننطلق من درجة السوزناك الثانية (ري) إلى جوابها معتبرين إياها الدرجة الأولى للمقام الجديد. وأول من استعمل مقام الشوري في الموسيقى العربية التي وصلت لنا من بدايات القرن العشرين كان الشيخ المؤسس “سيد درويش”، وذلك في أحد أهم أدواره “ضيعت مستقبل حياتي”، ويظهر لون الحجاز من أول كلمة ويستمر اللحن في التحرك على سلم المقام لغاية ما يصل إلى آخر المطلع ويستقر على جنس البياتي. ومن القفلات الجميلة في هذا المقام التي وردت في أغنية العملاق “رياض السنباطي” لأم كلثوم قفلة مطلع أغنية هجرتك (1959-احمد رامي)، وذلك عند عبارة “بفكر فيك وأنا ناسي” حيث نسمع نغمة الحجاز (الجنس الأعلى للبياتي الشوري) بشكل مفاجئ بعد ذروة “لقيت روحي بعز جفاك” لينتهي المطلع الغنائي على جنس البياتي عند “وأنا ناسي”. ومن أجمل وأرق الأغنيات على هذا المقام أغنية فريد الأطرش لوردة “روحي وروحك حبايب”، حيث تظهر نغمة الحجاز بكل تجليها وبشكل مقتضب، لكنه كافٍ ليعطي المستمع وبسرعة كل أبعاد التكوين النغمي لهذا المقام الجميل.
- الهُزام:
ويُعتبر الأخ الشرعي التوأم لمقام البياتي الشوري، فهو جاره على السلم الموسيقي لمقام السوزناك، ويأتي كاملًا من الدرجة الثالثة (مي السيكا) لجوابها، لذلك تظهر نغمة الحجاز ابتداءً من درجته الثالثة (صول) كما في السوزناك وكما في الشوري، وهذا المقام من أكثر المقامات العربية تأثيرًا انفعاليًّا وعاطفيًّا وروحيًّا، لذلك نراه المقام المسيطر في التوشيحات الدينية. ولابد هنا من التذكير بالأذانات الفريدة المذهلة للشيخ “محمد رفعت”، التي تعتبر الوحيدة من هذا المقام لسبب وجيه وواضح ومنطقي وهو أن كل من يحاول أن يؤذن على هذا المقام يجد نفسه واقعًا في شَرك تقليد الشيخ محمد رفعت؛ ولسبب قوته التأثيرية الانفعالية الروحانية العالية، فكان من الطبيعي أن يستعمله رياض السنباطي، هذا الصوفي الروحاني، في أغانيه الصوفية كما في أغنية أم كلثوم “يا صحبة الراح” (رابعة العدوية -طاهر أبوفاشا -1955)، ولم يرد هذا المقام عنده لأول مرة في هذه الأغنية بل سبقها في أعمال أخرى من أعظم أعمال هذا الفنان العملاق. ونذكر هنا، بل لابد أن نذكر قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي (سلوا كؤوس الطلا- 1946)، الغارقة في الصوفية ابتداءً من لحن المقدمة على الآلة الصوفية بامتياز( الناي)، حيث يبدأ اللحن من نغمة الحجاز(الجزء الأعلى من الهزام) بجملة تقترب من التعبد، وكأنها موشح ديني؛ لعمقها الإنساني وقوتها التأثيرية الانفعالية، ومقام الهزام مسيطر على هذه الأغنية، ابتداء من مقدمتها ومطلعها الغنائي وفي جزئها الأول والأخير “وعادها الشوق للأحباب” حيث يبقى الهزام مسيطرًا إلى آخر كلمة في الأغنية وضمن هذا المقام المؤثر لابد من ذكر الكثير من الأغنيات من “يا عشاق النبي” لسيد درويش، وهي أول أغنية وصلت لنا من هذا المقام بدءًا. ولابد من العودة إلى السنباطي بتحفتيه “سهران لوحدي” الرثائية( أحمد رامي – أم كلثوم -1950) وقصيدته الشامخة “نهج البردة” (أحمد شوقي -1946) بصوت أم كلثوم، ولابد من ذكر موالين شاميين: الأول، بصوت الخالدة أسمهان “يا ديرتي” من فيلم (غرام وانتقام -1944)، والثاني: بصوت ملحن الموالين فريد الأطرش موال “أكل البلح حلو” بيرم التونسي، وأغنيته الجميلة “يا ملكة القلب في أيدك”، وأغنيته الرائعة لأسمهان “أهوى” (غرام وانتقام-1944). وفي النهاية لابد من ذكر مقطع “نحن شعب عربي” على مقام الهزام من ملحمة محمد عبدالوهاب “دعاء الشرق” (محمود حسن إسماعيل -1954)، ففي هذا المقطع “نحن شعب عربي” ترد عبارة “أذن الفجر على أيامنا” لنفاجأ بأنها على نغمة الحجاز كاملة ويعيدها عدة مرات وكأنه يلفت الانتباه إليها؛ فمقام الحجاز هو أهم مقام للأذان مع مقام الراست.
- شوق أفزا:
وكما أن إدخال نغمة الحجاز على الراست قد أسفر عن ظهور مقامات (السوزناك، والبياتي الشوري، والهزام)، فإن مقام شوق أفزا قد ظهر باستبدال الجنس الثاني لمقام العجم(جنس العجم) بجنس الحجاز فنحصل بذلك على مقام جديد اسمه في النظريات الموسيقية العربية (شوق أفزا)، بينما يُسمى في النظريات الغربية بالماجور الهارموني Harmonic Major. وأول من استعمل هذا المقام في التلحين العربي كان المؤسس “سيد درويش”، وذلك في الأغنية التي اُعتبرت أول مونولوج في تاريخ الموسيقى العربية وقد ورد في رواية (راحت عليك -1920) “والله تستاهل يا قلبي”، ويظهر هذا المقام الجديد، أول ما يظهر بعد سيد درويش في أغنية “يا للي نويت تشغلني” لمحمد عبدالوهاب (حسين السيد -ممنوع الحب -1942) ولا تبدأ نغمة الحجاز تظهر إلا بعد نهاية المطلع على مقام العجم المستوحى من لحن أوبرالي شهير للإيطالي “فيردي”. فبعد هذا المطلع وعلى كلمات “أغير عليك” نبدأ بالاحساس بتغير طعم نغمة العجم، ويظهر المقام الجديد شوق أفزا بكل تجليه ووضوحه النغمي عند كلمات “اللي تشوفه عيني لازم تشوفه عينيك”، حيث تسيطر نغمة الحجاز على مسار اللحن. ومن أجمل استعمالات هذا المقام نراه ونسمعه في لحن فريد الأطرش لأسمهان “نويت أدراي آلامي” عند جملة “يفيد بأية النوى”، حيث تظهر نغمة الحجاز واضحة المعالم، ونسمع هذه النغمة الجديدة بطعم آخر في قفلة مطلع أغنية رياض السنباطي لأم كلثوم “لسه فاكر” (عبدالفتاح مصطفى – 1960).
- الزنجران:
يأتي هذا المقام النادر الاستعمال في التلحين العربي بتبديل موضع جنسي مقام شوق أفزا فيصبح جنس العجم(الأول) ثانيًا وجنس الحجاز (الثاني) أولًا، والمثال الأسطع والألمع الذي جاء على هذا المقام أغنية الشيخ زكريا أحمد “يا حلاوة الدنيا يا حلاوة”، التي وردت في رواية (يوم القيامة – 1940)، وقد عرفنا هذه الأغنية بصوتين كبيرين: الأول، صوت مطربة القطرين “فتحية أحمد”، والصوت الثاني المطربة اللبنانية الكبيرة “زكية حمدان”. وقد بدأ بالتلحين على هذا المقام الفريد الطعم المؤسس سيد درويش في دور”في شرع مين”.
- حجاز كار:
هذا المقام بكل بساطة هو عبارة عن جنسي حجاز يأتي الواحد تلو الآخر، والأمثلة ستوضح الصورة على أكمل وجه، قصيدة محمد عبدالوهاب الرائعة (الصبا والجمال) يرد فيها مقطع رائع على هذا المقام “ما تغني الهزار”، حيث تأتي الجملة الغنائية الأولى على جنس الحجاز الأعلى وبتدرج اللحن ليصل إلى نهايته عند”في أذنيك” على جنس الحجاز الأول. مثال آخر صارخ في وضوحه قصيدة رامي ولحن السنباطي لأم كلثوم “أصون كرامتي” (فيلم فاطمة -1948)، فالمطلع الرائع الذي يشكل العنوان الموسيقي لكل القصيدة، بل هو اختصارها الموسيقي، يبدأ على الحجاز الأعلى الثاني عند “أصون كرامتي” ثم ينحسر وينتهي بالقفلة على الحجاز الأول عند ” فوق قلبي”.
مثال آخر مبهر رائع وفي منتهى الجمال من قصيدة السنباطي الرائعة (أشواق) بصوته التاريخي مقطع “آه لوتسمعني” تأتي جملته الأولى على الحجاز الأعلى ويفاجئنا الملحن المؤدي بالقفلة وتأتي من دون تحضير وكأنه يقفز إليها بصوته على نغمة الحجاز الأولى من المقام ” لو تسمعني”. وطالما نحن في صدد تذكر الألحان الرائعة على هذا المقام فلا بد من مقطع ” هل تذكرين بشط النيل مجلسنا” من قصيدة محمد عبدالوهاب الرومانسية الرائعة (همسة حائرة – عزيز أباظة 1946)، وبدايته الساحرة على الحجاز الأعلى والقفلة الرومانسية المدهشة الرائعة عند “وتستثير شجون النهر نجوانا” على الحجاز الأول. أخيرًا لابد من العودة للمؤسس سيد درويش وأغانيه الرائعة من هذا المقام الشجي، طقطوقة “يا ناس أنا مت في حبي”، حيث تأتي خاتمة المطلع والكوبليهات على جنس الحجاز الثاني في الأعلى بعكس السائد آنذاك، وكما تدعو تقاليد التلحين. ومن أهم ألحان سيد درويش على هذا المقام دوره الخالد “أنا عشقت” حيث يجد الملحن المؤدي مطلع الدور المؤلف من ثلاث كلمات فقط “آه أنا عشقت” يبذرها على كل درجات المقام من الجواب إلى القرار، وكأنه يعطينا العنوان الموسيقي للعمل.
- الحجاز:
هذا المقام ينفرد بين أقرانه التي تحتوي على نغمة الحجاز في جنسها الأول. وهذا التفرد يأتي على الجنس الثاني الأعلى الذي لا ينحصر في الحجاز بنغمة واحدة بل يملك نغمتين( الراست، والنهاوند) مع القفلة الضرورية على نغمة الحجاز (الجنس الأول ، الأوطأ) وهذا ما يسمح للملحن بالتنويع وبإثراء جملته الموسيقية التي تأتي قبل القفلة الضرورية على جنس الحجاز والأمثلة ستوضح الصورة، وأبدأُ بالمؤسس سيد درويش: أغنية الشيالين “شد الحزام على وسطك” ، أغنية “كيكي يا كيكي كيكو” التي استمعنا إليها في فيلم (أميرة حبي أنا) بصوت السندريلا سعاد حسني، ولابد من ذكر أغنيته “الحلوة دي”، التي حملت صوت فيروز التاريخي إلى جميع الآذان العربية شرقًا وغربًا. كل هذه الأغنيات من مقام الحجاز الذي يتألف نصفه أوجنسه الأعلى من نغمة النهاوند، ومن أغنيات فريد الأطرش من نفس هذه الفئة أذكر “ما انحرمش العمر منك”، و”مش كفاية يا حبيبي”، و”عينيا مهما قالوا عنك”، ومن أكثر الأمثلة انتشارًا أغنية فريد الأطرش التي غنتها العظيمة سعاد محمد “بقى عايز تنساني”، حيث تأتي قفلة المطلع والمقاطع على كلمات “أنا مش حرجعلك تاني” على مقام الراست ثم ينكفئ اللحن (على نفس الكلمات) مرورًا بالنهاوند لينتهي بقفلة الحجاز. وبالرغم من وجود إمكانية استعمال مقام الراست في الجزء الأعلى من المقام إلا إن الممارسة التلحينية عبر السنين أثبتت أن النغمة الأساسية في القسم الأعلى من المقام هي النهاوند ويأتي الراست للتلوين المقامي، ونجد ذلك أخيرًا في أغنية بليغ حمدي لعفاف راضي “قضينا الليالي”، حيث يأتي المطلع كاملًا على الحجاز بينما ترد المقاطع كاملة على مقام النهاوند.
- نوا أثر :
من أجمل المقامات العربية وهو عبارة عن جنس أول اسمه نوا أثر وهو جنس النهاوند مع رفع درجته الرابعة نصف صوت وسوف تتضح الصورة بعيدًا عن النظريات الجافة في الأمثلة التي سنقدمها ، جنس هذا المقام الأعلى هو جنس الحجاز، ونبدأ الأمثلة بالمؤسس سيد درويش الذي كان أول من لحن على هذا المقام بعد أن سمعه من موسيقي أرميني، فلحن عليه دوره الشهير “عواطفك دي أشهر من نار”، كان محمد عبدالوهاب أول من اشتغل هذا المقام الجديد الذي نسمعه في أغنيته الشهيرة “سهرت منه الليالي” (حسين أحمد شوقي -1935 -فيلم دموع الحب)، وذلك عند كلمات “قلب بغير غرام من الروح خالي”، وهي قفلة المطلع والمقاطع . استعمل محمد عبدالوهاب هذا المقام أيضًا في أغنيته “على بالي” في موال (وبات سهران وأشواقي تغنيلك)، حيث يرد النوا أثر بشكل واضح جدًا بجزأيه الحجاز (فوق) والنو أثر (تحت)، ويستعمله محمد الموجي بعمق درامي مبهر في القصيدة المونولوج (قارئة الفنجان)، وذلك في الجملة الرائعة “مقدورك أن تمضي أبدًا” ونسمعه في مطلع أغنية فريد الأطرش “جميل جمال” من فيلم (لحن الخلود)، ونجد هذا المقام أيضًا بشكل مسرحي صرف في نهاية مونولوج حلم( بيرم التونسي-زكريا أحمد) في ختمته الرائعة ” وحلم وطار مع الأحلام ياريتو دام ودام نومي”، لغاية نهاية الأغنية مع تصعيد مبهر من خلال جنس الحجاز لنصل إلى الختمة المسرحية المبهرة على مقام النو أثر عند كلمات ولو في منام.
- النكريز:
هو أخ مقام النوا أثر فكلاهما يحتويان على نغمة النوا أثر في الجنس الأول (الأوطأ)، الاختلاف يأتي من الجنس الأعلى من الدرجة الخامسة (صول) إلى جواب الأولى (دو)، حيث نسمع في النكريز نغمة النهاوند، النوا أثر: جنس أول نوا أثر /جنس ثاني حجاز النكريز: جنس أول نوا أثر /جنس ثاني نهاوند، ننتقل إلى الأمثلة هربًا من النظريات ونبدأ بالمؤسس سيد درويش، كالعادة كان أول من لحن على هذا المقام وأدخله إلى الموسيقى العربية وذلك في دوره الشهير” ياللي قوامك يعجبني”، وقد اُستعمل هذا المقام كثيرًا في التلحين العربي لكني أُدرج هنا مثالين صارخين معروفين : “مونولوج الليل يطول علي” لمحمد عبدالوهاب، والمثال الثاني من لحنه لوردة (في يوم وليلة) – مقطع “يا للي كان طيفك على بالي”.
- الصبا
وهو من أكثر المقامات شيوعًا في التلحين العربي لما يحتويه من عمق إنساني وحزن دفين وشجن، حتى أن الشيخ زكريا أحمد عندما لحن لأم كلثوم لحنه الأخير”الهوى غلاب” قبل وفاته التي أحس بدنوها اختار مقام الصبا الحزين للحن الوداع، ومقام الصبا يعتبر أخ مقام البياتي بالرغم من الفارق الكبير بالطابع بين المقامين . فكما رأينا أن الفرق الوحيد بين النهاوند والنوا أثر هو درجة النهاوند الرابعة المرفوعة نصف صوت، نجد أن الفارق الوحيد بين الصبا والبياتي هي درجة الصبا البياتي الرابعة عند خفضها نصف صوت، وبذلك تظهر نغمة الحجاز من درجة الثالثة (فا) لغاية الدرجة السادسة. ويظهر هذا بشكل ساطع في مذهب “هو صحيح الهوي غلاب”، حيث تبدأ الأغنية على نغمة الصبا دون لمس نغمة الحجاز، نبدأ نشعر بزحف نغمة الحجاز من عند كلمات “ما أحسبش يوم” لغاية “حيخدني بعيد”، حيث ينطلق النهاوند “يمنِّي قلبي بالأفراح”، مثال آخر أقدمه ولأول مرة نسمع هذا المقام يعبر بشكل كلاسيكي مسرحي عن العمق الدرامي الإنساني بمنتهى الوضوح، وذلك في قصيدة محمد عبدالوهاب ونظم كامل الشناوي (لست قلبي) في مقطع “قدر أحمق الخطى” حيث يرد هذا المقام (الصبا) في مشهد من أندر المشاهد الدرامية في تاريخ الموسيقى العربية. فمن خلال (التوزيع الأوركسترالي، وصولو الناي، وردود الأوركسترا) يصور الملحن بمنتهى العبقرية لطمة القدر (بواسطة الأوركسترا) ثم صدمة المتلقي (صولو الناي ) ثم ذهوله بعد الصدمة(لازمة الوتريات بعد صولو الناي) كل هذا على مقام الصبا.
- أثر كورد:
من أندر المقامات استعمالًا؛ لعمقه الدرامي والإنساني وغموضه اللحني وهو لا يُستعمل إلا في تصوير المناطق الدرامية الداكنة في القصائد، فهو يتألف من نغمة الكرد في جنسه الأول(الأوطأ)، والحجاز في جزئه الأعلى . وقد أبدع محمد الموجي بشكل استثنائي في استعماله بشكل في غاية الإبهار، وبرأيي أن هذا المثال الذي سأقدمه يعتبر أعظم وأجمل وأدق مرة استُعمل فيها هذا المقام، ذلك في قصيدة (حبيبها) كامل الشناوي، مقطع “وسرت وحدي شريدًا”، فبعد عزف الوتريات، الموقع الذي يصف خطوات تائهة، يظهر المقام على آلة استُعملت لأول مرة، وهي أن يعتمد طريقة الهاوايين للعزف على الجيتار بزحلقة ظهر معلقة على الأوتار؛ لتُعطي الإحساس بالتوهان ثم يدخل الغناء على هذا المقام مكونًا مع لحنه الفريد ومقامه النادر جوًا دراميًّا داكن اللون أعتبره من أعظم المشاهد الموسيقية الدرامية في الموسيقى العربية لما فيه من تصوير حقيقي صادق ومعبر إلى أقصى حد عن معاني القصيدة بعمق انفعالي درامي إنساني مبهر ونادر لا نجده في أغنية أخرى.
خاتمة :
هذه هي نغمة الحجاز القاسم المشترك لأهم المقامات العربية كما رأينا . أما الأمثلة التي أوردتها في هذا المبحث فلا تمثل إلا القليل، القليل الذي تذكرته أو الموجود في بعض المراجع النادرة التي أملكها، وهذا ما يصعِّب علينا مهمتنا، نحن المؤرخين والباحثين والمنظرين الموسيقيين، في البحث وجمع وتصنيف أعمال عباقرة الموسيقى العربية لحفظها من الضياع وإنقاذها من مصير الضياع الذي لاقاه الكثير من النتاج الموسيقي في القرن التاسع عشر وما قبله؛ وليكون بين أيدي أبنائنا المهتمين بالموضوع المراجع الضرورية التي تساعدهم في مهمتهم الصعبة في الحفاظ على تراثنا الحضاري الموسيقي.