2023العدد 195ملف دولى

الحرب الباردة .. إطلالة على بعض الثوابت والمستجدات

للأزمات الكبرى العابرة للحدود- التي تشكل الحروب بعض تجلياتها الصارخة- قدرة لا تُبارى في تكوين الرؤى والقواعد والنظريات التي يطرحها فقه العلاقات الدولية، وهي تمثل أيضًا مختبرات تطبيقية واقعية لسبر أغوار المقاربات و المداخلات والخطابات الإنشائية، التي تعرضها القوى والكيانات المنغمسة في المعترك الدولي، أو تزعم الاستئناس بها في أوقات السلم والاستقرار.

مؤدَّى ذلك،  أن الحروب- التي استقر أهل الذكر على أنها وسيلة الكي الأخيرة  لمعالجة بعض الأزمات  الدولية- تترك آثارًا  نظرية وعملية متفاوتة الدلالة  والسطوع ، وغالبًا ما تتجاوز هذه الآثار مواضع القتال وأطرافه المباشرين إلى ممارسة أدوار وأفاعيل ترقى أحيانًا  إلى إحداث تغييرات إقليمية أو حتى عالمية على صعيد  البُنى الثقافية، وموازين القوى العسكرية والاقتصادية، و أحجام النفوذ والسطوة،  وأنماط التحالفات والتكتلات الأيديولوجية والسياسية. و لايعز في إطار هذا الفهم العثور على نماذج لحروب أفضت إلى تحولات فارقة-جزئيًّا أو كليًّا- في الحدود الجغرافية ونظم الحكم والإدارة لبعض الدول والأقاليم، فضلًا عن إحداث تغييرات جوهرية في  النصوص والقوانين والشرائع المنظمة للتعاملات الدولية، والهياكل والأُطر التنظيمية الساهرة عليها. ولعل أكثر النماذج والخبرات إلحاحًا على خواطر الراغبين في تحري صدقية هذه المقولات، النتائج التي تمخضت عن الحربين العالميتين وتوابعهما في القرن الماضي.

على أن انعكاسات الأزمات والحروب ومواريثها لاتتبلور أوتتجلى في الزمان والمكان  بالوتيرة والحجم ذاتيهما، بمعنى أنها تفتقد للمعايير القياسية  الموحدة؛ إذ لا يعدم التاريخان (القريب، والبعيد) اشتعالَ أزمات أو حتى حروب طاحنة، كانت شديدة التأثير والانعكاسات  في مواضع بعينها وعلى أطراف بعينهم، بدون أن تستشعر مواضع أخرى أو يلمس أطرافٌ آخرون شيئًا من هذه التأثيرات بالقدر ذاته. ولمن أراد مثلًا دالًا على هذا التصور، أن  يستذكر ما أفضت إليه الحرب العالمية الأولى من تحولات جذرية في البنى السياسية وغير السياسية للمنطقة العربية وجِوارها الإقليمي الشرق الأوسطي ، بينما ظلت أحوال مناطق أخرى كـ(أمريكا الجنوبية) أقرب إلى السكون والاستمرارية !. وربما كان  التأمل مليًا في  أبعاد هذه الحرب  من منظور دولي شامل لجهات أطرافها وأسبابها ومجرياتها ووقائعها الفعلية ونتائجها، موجِبًا للتحفظ  على  فكرة عالميتها أو إسباغ مفهوم ” العالمية ” عليها من الأصل .   

عطفًا على هذه التعميمات، لنا أن نلحظ  السرعة القياسية التي تجلت بها وانتشرت  في الآفاق الدولية توابع أزمة تفشي وباء كورونا من ناحية، ثم الحرب الأوكرانية  بحيثيات أشد وأقوى من ناحية أخرى، وذلك مقارنة بالوتائر المختلفة  التي صاحبت أو ترتبت على أزمات وحروب شهيرة أخرى.

العبرة بهذا الخصوص، أن معظم كيانات عالمنا الراهن تعاطت في خطاباتها وتعاملاتها وسياساتها الداخلية والخارجية ، بشكلٍ أو آخر، مع هذه الآثار؛ ولأن الوباء، مثلًا، استدعى في عاميه الأولين  تكميم أنوف كل سكان الكوكب تقريبًا، فقد امتطت كثيرٌ من النظم  والأُطر والمؤسسات  ذات الصلة  ظهر الأزمة وتذرعت بها؛ لتبرير إجراءات وسلوكيات ومواقف متأصلة في سياساتها أو ترغب في تمريرها، رغم أنها لاتمت للوباء بصلةٍ عضويةٍ ملموسة، بل وقد ندعي بأن الوباء كان عند كيانات بعينها أزمة  كاشفة للعيوب  والنواقص بأكثر مما كان مسببًا لها. لكن الأكثر لفتًا للانتباه، كيف جرى التوسل بالحرب الأوكرانية، بعد مرور بضعة أسابيع فقط على اندلاعها، بحيث قيل على نطاق واسع إنها ألقت  ظلالًا كئيبة على مصير الأمن والسلم العالميين، و إن هذه الظلال قد اُستطردت عاجلًا إلى جوانب ومجالات غير عسكرية الطابع كـإمدادات الغذاء والطاقة، وسلاسل التجارة، وعوالم المال والأعمال والاستثمار في طول العالم وعرضه، لدرجة غشيان بيوت وموائد وجيوب أناس لايعلم بعضهم أين تقع أوكرانيا؟  

إن سرعة وكثرة تداول الحديث عن الإشعاعات الجبارة واسعة النطاق  لمايدور في الميدان الأوكراني، بعثت التساؤل عما إذا كان عالمنا  بصدد  حرب باردة ثانية  تنطوي على  قضايا وإشكاليات وتفاعلات  سياسية وغير سياسية، مختلفة نسبيًّا لما عهدناه في حقبة الحرب الباردة الأولى، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس  لنحو نصف قرن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.

في زمن الحرب الباردة الأولى، التي يمكن وصفها جدلًا بالتقليدية، وبمداخلات قوية متعددة العناوين من لدن المعسكرين (الرأسمالي، والاشتراكي) _انقسمت الدولة الألمانية  لزهاء أربعين عامًا ثم عادت إلى التوحد، واستغرقت حروب كوريا ولاوس وكمبوديا وفيتنام في جنوب شرق آسيا أكثر من عشرين عامًا، وعرف العالم غزو أفغانستان- مرة من القطب السوفيتي زهاءَ عشرةِ أعوامٍ وأخرى من القطب الغربي لفترة أطول، وحوصرت كوبا غربيًّا -أمريكيًّا بالذات- ومازالت محاصرة جزئيًّا لأكثر من ستين عامًا، وشهد الصراع الصهيوني العربي في  “الشرق الأوسط ” أكثر من جولة قتالية ضارية، وهو ماحدث أيضًا بين الهند وباكستان، ومر سباق التسلح بأطوار أدت إلى كسر ظهر المعسكر الاشتراكي برمته. ولم يسلم إقليم في عالمنا من عواقب  محاولات التغلغل في أحشائه و حرَّف بوصلته لصالح هذا القطب أو ذاك، ومع ما فرضته هذه الأزمات والحروب ونحوها، مما يعز حصره في هذا المقام، من  خسائر وتكاليف في الأنفس والثمرات ، ومع ما أفرزته  من  نتائج وتبعات  بشكل مباشر وغير مباشر، فإن معظم سكان كوكبنا لم يجمعوا في أوقاتها على الشكوى من تضرر أحوالهم أو التخوف على مصالح تمس صميم حيواتهم  في الحال والاستقبال، مثلما حدث خلال فترة وجيزة على خلفية المثل الأوكراني .

ما نجادل به هنا، أن  الإجماع العالمي أو الإنساني إن أراد البعض،  على استشعار مرارة  الحرب الأوكرانية وما أشاعته من مخاوف وأراجيف_ يجسد ظاهرة أو حالة لم تعرف مرحلة الحرب الباردة الأولى مثيلًا لها، وعلى سبيل المبالغة  والاستطراد المفيد، ندفع بأن إجماعًا كهذا لم يحدث سوى في مواجهة وباء كورونا، الذي شاءت تصاريف القدر أن يتزامن بدوره مع هذه الحرب المنكودة. و من الأسئلة التي تراودنا بهذا الخصوص، ونحسب أنه ينبغي لها أن تراود فقه العلاقات الدولية: لماذا نشأ هذا الإجماع؟ ما الذي عجَّل بإضفاء نكهة  “العالمية” على المثل الأوكراني، وفرض على الخلق أجمعين في مشارق الأرض ومغاربها الانشغال بسيرورته ومصيره، خلافًا لنماذج أزمات  فترة الحرب الباردة الأولى؟.

تُرى هل تكمن الإجابة في التطور المذهل لوسائط التواصل بكافة أنماطها، التي سمحت بتعميم متابعة أدق تفاصيل هذه الحرب  في التوِّ واللحظة ؟  أم تكمن في أبعاد وتداعيات عولمة كل شيء على ظهر كوكبنا، التي فرضت  نوعًا من الاستطراق على كل حدث، بحيث يتحتم التداعي له والتأثر به، ولو بنسب ومعدلات متباينة، في نطاقات عالمية وشبه عالمية؟ أم تكمن في موضع الحرب وموقعها في قلب الرحاب الأوروبية، بما  يعرف عنها وتنطوي عليه من سوابق تاريخية، وفي القلب منها قوة احتمال اصطباغ حروبها بالطابع العالمي؟.

هذه النقطة الأخيرة الموصولة بموقع الحرب وموضعها والقضايا الموصولة بها، وما يدور في إطارها من تفصيلات تستحق عناية خاصة؛ ففي ضوئها ندرك كيف كانت حروب الأوروبيين قابلة للانتشار من داخل قارتهم إلى مساحات متفاوتة في العوالم الأبعد؟ وكيف أن كوكبنا لم يعرف مفهوم الحروب العالمية إلا بناءً على هذه الحقيقة؟

نود القول بأنه  تراكمت وتلاقت  لدى القارة العجوز كل المعطيات اللازمة لتحوُّل الحروب البينية إلى مجالات وبيئات  خارجية، لم يكن لمعظمها ناقة فيها ولاجمل. وحدث أن تأثرت بهذا التحول ومخرجاته السلبية أمم وشعوب لم يكن لدى بعضها علم بمن يقاتل من ولماذا ؟.

بصيغة أخرى، سبق للعالم بأسره أن اكتوى بتبعات تمدد حروب الأوروبيين، أو قوى الشمال المتقدم بعامة في جهات الدنيا الأربعة، ولا مبالغة في الاعتقاد بأن عالمنا برمته مازال يعاني، بشكل أو آخر، من جرائر هذه الحقيقة . من شأن استحضار هذا الدرس اليوم،  إثارة الشكوك وبث المخاوف إزاء  احتمال تكراريته والانتكاس إليه، فرب قائلٍ، ولديه كل الحق، بأن أقوياء ” الحضارة  الغربية “، أقحموا خلقًا كثيرين في حروبهم، حتى صارت عالمية، حين كانت مظاهر العولمة والتشابك أدنى منزلة وأقل  تفشيًّا وبروزًا، فكيف يكون الحال في الوقت الذي تعولم فيه تقريبًا  كل شيء على ظهر الأرض ؟!.

موقع الحرب الأوكرانية على خطوط التماس بين المعسكرين  القديمين (الاشتراكي البائد، والرأسمالي الذي مازال حيًّا يرزق)، ومكانة وإمكانات القوى المنغمسة فيها بالأصالة والوكالة، ونوعية الاصطفافات والتحالفات القائمة في زمنها، وما يمكن أن يستحدث على ضفافها داخل أوروبا وخارجها، واستسهال بعض أطرافها للحديث عن عدم استبعاد استخدام أسلحة الدمار الشامل، إذا ماتعرضت مصالحهم الوجودية للخطر، وتوقع استطالة أمدها واستدراج أطراف أخرى إلى معمعتها، وتداول أفكار سوداوية على خلفيتها من قبيل إمكانية انحرافها- ولو عن  خطأ في الحسابات- وتحولها إلى حرب عالمية  ساخنة ثالثة قد تستخدم فيها الأسلحة النووية وتؤدي إلى نهاية العالم .. تقديرنا أن هذه المفردات ونحوها، التي تحمل نذر الشؤم للخلق أجمعين، تقع في صلب التعليلات المفترضة لسرعة تفشي الاهتمام العالمي الاستثنائي بالنموذج الأوكراني الراهن.

ويندرج ضمن مؤشرات استثنائية  أصداءُ المثل الأوكراني واختلاف قوة ومساحة  إشعاعه، ووقوعه في حضرة حرب باردة ثانية قد تكون أكثر ضراوة من الأولى، إن مجرد تلويح  القوى العظمى باحتمال استخدام أسلحة الدمار الشامل في سياقات الأزمات والحروب السابقة، كان متغيرًا نادرَ الحدوث، بقدر ماكان داعيًا لوقوف الدنيا بأسرها على أطراف الأصابع. ومن المعلوم أن مايُعرف بأزمتي  حصار برلين (يونية 1948 – مايو 1949)، والصواريخ السوفيتية في كوبا ( أكتوبر 1962)، كانتا الحدثين الأكثر شهرة و الأشد وطأة في ذلك السياق المقبض، جرى هذا خلال نصف قرن  بكامله من المناوشات والمشاكسات والاصطكاكات متعددة المظاهر بين معسكري  الحرب الباردة الأولى.  أين ذلك الاهتمام والتحفز من ردود الأفعال التي راحت تتعاطى مع هذا الاحتمال غداة الحرب الأوكرانية، بشيء  من الاعتيادية و الفتور، وذلك على الرغم من  تكرارية تداوله بتعبيرات  ومداخلات صريحة لاتقبل تأويلين في الأخبار الجارية ؟!. وبهذا الصدد، أحصت صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية 24/ 2/2023، عشرين مستجدًا مهمًّا، برزوا في حمأة العام الأول للحرب الأوكرانية، ووضعت في طليعتها ما أسمته “عودة هواجس الحرب النووية ” .    

علاوة على التكرارية المملة لحديث الردع النووي، أظهرت الحرب الأوكرانية  أن 40%  من سكان العالم برمته يتغذون على أقماح يستوردونها من الدولتين المتحاربتين فقط، ومع افتراض أن حقيقة  كهذه  كانت معلومة من قبل، فإن السؤال هنا هو كيف عجزت بقية دول العالم- التي تناهز المئتين- عن الاحتياط لطارئ انقطاع هذه الواردات؟  لايصح إلقاء عيبًا كهذا على عوامل الطبيعة والمناخ، والقول الساذج بأنها منحت ميزة إنتاج الأقماح لروسيا وأوكرانيا أكثر من غيرهما. الأقرب للمنطق أننا إزاء عوارٍ في التخطيط الاقتصادي الإستراتيجي لم ينجُ منه إلا النزر اليسير من الدول، لكن الأهم في سياق هذه الجزئية هو دلالتها على  تجديد ثقة القوى الكبرى في موضوع توظيف الأدوات  الاقتصادية في حمأة  التنافس على تحقيق الاستقطابات اللازمة؛ لتعزيز مواقعها في الحرب الباردة الثانية العتيدة.

وبين يدي التوظيف (القديم ، الجديد) لهذه الأدوات، يطل بقوة  الطرف الصيني، الذي توحي مؤشرات كثيرة على  أنه بات معنيًّا بتوكيد حضوره في مشهد هذه الحرب، إلى درجة أن القطب الأمريكي أصبح  يتربص به ويحاذر منه ويضعه على رأس قائمة منافسيه  الخطيرين الأقوياء، بالنظر إلى  استحواذه على شريحة  واسعة ونصيب كبير من أبعاد القوة الاقتصادية والتقنية، ونحوها من موجبات القوة، في هذا المشهد. وبيان ذلك  وصلته بالحرب الأوكرانية باقتضاب، أن الصين حققت طفرات اقتصادية صاعدة  بثبات ملحوظ، ولاسيما في هذه الأبعاد، على مدار العقود الأربع الأخيرة. ومما يثير الخيال حيال هذه التجربة التنموية المتفردة، أن الفترة بين عامي (1999 و2019) شهدت انخفاض نسبة الصينيين الذين يعيشون على أقل من دولار وواحد وتسعين سنتًا في اليوم من 67% إلى أقل من 1% ، فضلًا عن تضاعف الحجم الكلي لاقتصاد الصين إحدى عشرة مرة، وارتفعت قيمة تجارتها مع الولايات المتحدة من نحو مئة مليار دولار إلى 858 مليارًا؛ لتصبح في العام 2009 أكبر مُصدِّري السلع في العالم، وكان من حصيلة هذا الجهد والتطور الصاعد،غير المسبوق، إفلات الصين أو نجاتها إلى حد فارق من التداعيات  الاقتصادية لهذه الحرب، وذلك في الوقت الذي عانت فيه معظم دول العالم، وبشهادة بيانات صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات ذات الصلة، من هذه التداعيات.

ولأن المكانة السياسية والنفوذ  والكلمة المسموعة دوليًّا تقع  في معظم الأحايين والمراحل ضمن أهم تجليات أو مخرجات الإنجازات الاقتصادية والعلمية التقنية والتنظيمية الإدارية المتقدمة، فإن الاعتقاد المتنامي بأحقية الصين في منافسة أو مزاحمة المتربعين على قمة النظام الدولي، يقوم على أسس من الصدقية. ولا يلغو البعض أو يتزيدون في القول، حين يعبرون عن قناعتهم بأن هذه الدولة، التي أضافت -بعزيمة لا تلين-  متغيرات الاكتفاء الاقتصادي والتمويلي،  والتفوق  والانتشار التجاري، والنبوغ التقني  والإداري إلى عناصر قوتها الثابتة، جغرافيًّا، وسكانيًّا، وثقافيًّا …_ تبدو مرشحةً  تلقائيًّا لهذه المنافسة، وربما وقفت قريبًا، إن لم تكن واقفة الآن بالفعل، رأسًا لرأس مع الولايات المتحدة؛ لتشاركها وصف أبرز أقطاب الحرب الباردة الثانية.

تعني هذه الوضعية بين ماتعني، خروج الصين من حوزة الدول التي طال إدراجها في عهد الحرب الباردة الأولى تحت عناوين الدول النامية. وفي مقابل من يعتقدون بأن هذه النقلة تمثل حالة إعجازية، هناك من يوقن بأنه لامعجزة ولاغرابة في هذا الأمر؛ لأن التميز الصيني حقيقة موضوعية واجبة الحدوث تاريخيًّا، وإن تأخر وقوعها والاعتراف بها بعض الوقت . يجادل بذلك مثلًا ” كيشور محبوباتي” مؤسس وعميد كلية السياسات في سنغافورة، التي اعتبرته دورية “فورين أفيرز” في العام 2011 ضمن أهم مئة مفكر عالمي، ومن أقواله  ” إن عودة آسيا عمومًا والصين بخاصة إلى صدارة النظام الدولي، هو إصلاح لشذوذ تاريخي طال أمده، فحصة الصين والهند  في الاقتصاد العالمي قبل قرنين، لم تكن تقل عن النصف “!. وبعد أن يعرض هذا الرجل، ومريدوه في الفضاءين الآسيويين (الأكاديمي، والسياسي) وثائق ومؤشرات صحة هذا التقدير، ينصح “الأصدقاءَ الأوروبيين والأمريكيين بإعداد أنفسهم لعالم تساوي فيه كفة آسيا، والصين في طليعتها، كفة الغرب إن لم تغلبها وتعلوها “.

والحق أن  عواصم الغرب لم تتأخر كثيرًا عن التعامل الجدِّي مع هذا  الطرح، حتى أن الأدبيات الموصولة بالتوقعات المستقبلية -الأمريكية منها بخاصة- أضحت موشاة بأفكار توحي بالقناعة بأن الصين هي الطرف المنافس العتيد في النسخة الثانية من الحرب الباردة، ويشارك في تغذية هذه الأفكار نظريًّا من ناحية والتحرك وَفقًا لها عمليًّا  من ناحية ثانية، فريق من كبار المسؤولين وصناع القرار في هذه العواصم، لكن ظاهر الحال وباطنه  يؤكدان أننا إزاء  تعامل غربي، أساسه التوجس والريبة والصدود بأكثر بكثير مما يقوم على  الترحيب والقبول، ومما يساعد على هذا الحذر والتربص- وقد نقول الرفض- أن بكين لم تتأخر بدورها عن تقديم نفسها وعرض ملكاتها، عبر تحركات دبلوماسية وغير دبلوماسية، ذات أصداء إقليمية ودولية قوية لاتتوافق إلى حد كبير مع الأهواء الغربية ..  كعدم الإدانة الصريحة لسياسة روسيا تجاه أوكرانيا، والتواصل الودي مع موسكو، والنجاح في إبرام اتفاق من شأنه طي القطيعة الممتدة بين (العربية السعودية، وإيران)، ومبادرة النقاط الاثنتي عشر لتسوية الأزمة الأوكرانية..

يقيننا أن الصينيين قادمون، وأنهم يتجهون بالقول والفعل إلى مغادرة قمقمهم القديم، وشغل مقعد مؤثر على  طاولات كبار أقطاب المشهد الدولي، ولعله من الحكمة بمكان أن يتساوق المعنيون  مع هذا المستجد؛ لأن كيانًا يمتلك ما للصين من عناصر القوة الشاملة، يحق له بالانتخاب الطبيعي والمشاركة وتبوُّؤ مقعد كهذا. غَير حدود تقبلِ الآخرين، في عالم الغرب  بالذات، المتمترس  بثبات لافت خلف معتقداته وتوجهاته، لهذه المكانة والتعاطي معها بشيء من الأريحية والمرونة، مسألة فيها نظر ولعلها غير واردة في الأجل المنظور.

اظهر المزيد

د. محمد خالد الأزعر

كـاتب وأكــاديمي فلسطيني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى