2023العدد 195ملف دولى

قضايا حقوق الإنسان والمنافسة الأمريكية-الصينية… أولوية القيم أم المصالح ؟

كانت تصريحات الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” تُظهر تأييدًا للسياسات الصينية، حيث وصف الرئيس الصيني “شي جين بينج” بأنه “رجل رائع” في عام ٢٠١٧، بعد وقت قصير من وفاة الناشط الصيني في مجال حقوق الإنسان، والحائز على جائزة نوبل للسلام “ليو شياوبو”. وفي لقاء خاص مع شي على هامش اجتماع مجموعة العشرين لعام ٢٠١٩، أظهر ترامب تعاطفه مع قرار الحكومة الصينية بالانخراط في الاعتقال الجماعي للأويجور في شينجيانج، واصفًا ذلك بأنه “الشيء الصحيح الذي يجب القيام به بالضبط”. وردًا على التطورات في هونج كونج، أخبر ترامب شي في يونيو ٢٠١٩، أنه لن يدين حملة القمع الصينية على الاضطرابات، ولكن تصريحات عديد من مسؤولي إدارته ركزت على تصوير بكين على أنها تهديد وجودي وأيديولوجي للولايات المتحدة، فقد أشار وزير الخارجية الأمريكي السابق “مايك بومبيو” إلى الحكومة الصينية بـ”الاستبدادية” تحت قيادة الحزب الشيوعي، ولفت الانتباه إلى انتهاكاتها واسعة النطاق لحقوق الإنسان، واستخدامها لتقنيات المراقبة للسيطرة على سكانها. وقد أقر الكونجرس تشريعًا يجيز فرض عقوبات على المسؤولين الصينيين ردًا على السجون الجماعية في شينجيانج، وألغى الوضع التجاري الخاص لهونج كونج بعد أن أقرَّت بكين قانون الأمن القومي([1]). ورغم تلك التصريحات لم تكن قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في الصين محورا رئيسًا في السياسة الخارجية للإدارة الجمهورية السابقة تجاه الصين، في ظل تركيزها على الحرب التجارية ضد بكين.

وفي المقابل، جعل الرئيس جو بايدن قضية حقوق الإنسان والديمقراطية أولوية أولى لإدارته منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض، وتعهد بإعادة الدعم الأمريكي للمقاربات، والمؤسسات الدولية متعددة الأطراف المنوط بها الدفاع عنها، ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان دوليًّا، والعمل على إصلاح أوجه القصور التي اعترت الديمقراطية الأمريكية خلال الإدارة الجمهورية السابقة. وتنفيذًا لأحد وعوده بعقد قمة تجمع “دول العالم الحُرّ”؛ لتعزيز الديمقراطية على مستوى العالم، عقد القمة الأولى للديمقراطية يومي ٩ و١٠ ديسمبر ٢٠٢١، والثانية يومي ٢٩ و٣٠ مارس ٢٠٢٣.

ومع اشتداد المنافسة الإستراتيجية بين (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين)، وهيمنة سياسات القوى العظمى على مقاربة الإدارة الأمريكية تجاه بكين، باعتبار التحدي الإستراتيجي الأول لواشنطن خلال العقد القادم الذي وصفته وثيقة الأمن القومي التي صدرت في ١٢ أكتوبر ٢٠٢٢، بـ”العقد الحاسم”، تحولت قضيتا (الديمقراطية، وحقوق الإنسان) في الصين من موقع ثانوي في العلاقة الأمريكية – الصينية إلى الإطار الحاكم لمظاهر المنافسة بين البلدين.

ودائمًا ما تُعقد قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية من العلاقات بين (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين) منذ تطبيعهما العلاقات في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وتتزايد درجة التعقيد راهنةً لثلاثة أسباب رئيسة: يمثل أولها في بروز الصين كمنافس إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، ولديه من القدرات (العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية) التي تمكنه من منافسة الولايات المتحدة على القيادة الدولية، وفي فترات لاحقة مع تزايدها من تهديد مكانة واشنطن وقيادتها للنظام الدولي، الذي هيمنت عليه منفردة لعقدين بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي مع بداية تسعينيات القرن المنصرم. وينصرف ثانيها إلى تزايد الممارسات الأمريكية غير الليبرالية خلال الإدارات الأمريكية الديمقراطية والجمهورية المتعاقبة، وتراجع مصداقية الولايات المتحدة كمدافع عن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارج، ولا سيما بعد أحداث ٦ يناير ٢٠٢١، واقتحام أنصار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” مبني الكونجرس لوقف تصديقه على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠، والتي فاز بها المرشح الديمقراطي جو بايدن. بينما يتعلق ثالثها بانخراط واشنطن وبكين في صراع حول عالمية قيمها.

تنافس على عالمية القيم:

رغم غياب التنافس الأيديولوجي بين (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين)، حيث لا تسعى الأخيرة لنشر منظومة قيمها، ونموذجها للحكم والتنمية في الخارج، ولكن لإضفاء الشرعية عليه([2])، فإن هناك صراعًا قيميًّا بين الدولتين حول فكرة عالمية القيم؛ حيث ترفض الصين ومعها روسيا عالمية القيم الغربية المتعلقة بحقوق الإنسان، والتي تسعى الولايات المتحدة إلى نشرها عالميًّا، حيث ترى بكين أن لها حضارتها التي انبثقت عنها مجموعة من القيم التي قد تختلف في مضمونها وأولوياتها عن القيم الغربية، ولذلك فإنها ترفض أن تكون الأخيرة ذات طابع عالمي يجب أن تتبناها جميع دول العالم. وترى الصين في الوثيقة رقم (٩) التي أصدرها الحزب الشيوعي الصيني في عام ٢٠١٣، أن نشر القيم العالمية هو محاولة لإضعاف الأسس النظرية لقيادة الحزب الشيوعي الصيني.

وتطرح القيادة الصينية مفهومًا للديمقراطية يختلف عن المفهوم الليبرالي الأمريكي، يقوم على أن الديمقراطية وسيلة لمشاركة المواطنين في حكومة بلادهم بهدف تحسين رفاهية السكان، وضمان حقوق الشعب والوفاء باحتياجاته وحماية مصالحه، وتؤكد على أنه لا يوجد نموذج سياسي واحد يناسب جميع الدول، وترى أن مساعي الولايات المتحدة لفرض معاييرها الديمقراطية على الدول الأخرى، واحتكار الحق في تقييم مستوى امتثال الدول للمعايير الديمقراطية يُعد انتهاكًا للديمقراطية، ويتعارض مع روحها وقيمها الحقيقية([3]).

وقد سعت الصين لنشر رؤيتها للديمقراطية وحقوق الإنسان من خلال إنشاء هيئات إضافية لحقوق الإنسان غير مرتبطة بالأمم المتحدة، مثل: منتدى حقوق الإنسان الجنوب – الجنوب “South- South Forum on Human Rights”، الذي اجتمع في بكين في عام (٢٠١٧، ٢٠١٩، ٢٠٢١)؛ للتأكيد على الدعم الذي يتلقاه من بعض الحكومات الأخرى وإلى منحها فرص إضافية لتوضيح وجهات نظرها. وبموازاة ذلك، سعت الصين بقيادة الرئيس “شي جين بينج” بقوة إلى الحد من الانتقادات الموجهة للبلاد في منتديات حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وقد سعت إلى تحييد قدرة مؤسسات المنظمة الأممية المعنية بحقوق الإنسان على محاسبة أي حكومة على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان([4])، وكذلك نشر نموذجه السياسي من خلال قيام الحزب الشيوعي الصيني بتدريب المسؤولين في دول حليفة لبكين مثل: (إثيوبيا، والسودان)، على سبيل المثال، على كيفية إدارة الرأي العام ووسائل الإعلام، ويقدم المشورة بشأن التشريعات التي يجب تمريرها، وتقنيات الرصد والمراقبة التي يجب استخدامها. فضلًا عن ذلك، فإن الصين تقود حملة لتعزيز رؤيتها للإنترنت المغلق([5])، وقدمت نموذجها السياسي غير الليبرالي القائم على التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي تحت إشراف مؤسسات الدولة القوية، كأفضل وسيلة لحماية حقوق الأفراد.

وفي المقابل، تؤطر الولايات المتحدة رهانًا للتنافس مع الصين على أنه منافسة بين أنظمتهما السياسية. فمن ناحية، تقدم الأولى نفسها على أنها تشن معركة من أجل الديمقراطية وضد “الاستبداد”، ومن ناحية أخرى، تروج الثانية لنفسها كمدافع عن النظام الذي يقوده الحزب الشيوعي الصيني، والذي تقول إنه يمثل شكلًا مختلفًا عن الديمقراطية، والذي حقق فوائد هائلة للشعب الصيني، وقد اشتد هذا التنافس بعد الحرب الروسية-الأوكرانية؛ حيث عززت الصين من دعمها لحليفتها موسكو، بينما تقدم الولايات المتحدة كافة أنواع الدعم لأوكرانيا، حيث تصور الصراع الروسي-الأوكراني على أنه صراع بين (الديمقراطية، والاستبداد، والسلطوية)([6]).

تسييس قضايا حقوق الإنسان

مع اشتداد المنافسة الإستراتيجية بين (الولايات المتحدة الأمريكية، والصين)، سعت كل منهما إلى تسييس قضايا حقوق الإنسان كأحد أدوات الضغط والتأثير على الأخرى. فنتيجة لأوضاع حقوق الإنسان المتردية في أقاليم الصين المتعددة مثل: (شينجيانج، والتبت)، أعلن بايدن مقاطعة الوفود الأمريكية الرسمية دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية لعام ٢٠٢٢ في بكين، فضلًا عن فرض عقوبات على مجموعة أخرى من الشركات الصينية، ومسؤولين صينيين على خلفية “انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان” في التبت، بينها مزاعم عن عمليات تعذيب وإعدام سجناء وتعقيم قسري.

وهناك اتجاه في الكتابات الأمريكية يري أن تبني إدارة بايدن سياسة صارمة بشأن انتهاكات الصين لحقوق الإنسان من أفضل الطرق لتعزيز المصالح الأمريكية مع بكين، ووضع العلاقة بين (الولايات المتحدة، والصين) على أساس أكثر توازنًا وثباتًا. فمن خلال جعل حقوق الإنسان أولوية مركزية، فإن الإدارة الأمريكية والكونجرس لن تعزز المصالح الأمريكية مع بكين فحسب، بل سيضعان نموذجًا للتعامل مع الدول الأخرى أيضًا. وأن من شأن الصين الأكثر حرية وانفتاحًا أن تخدم المصالح الأمنية والاقتصادية للولايات المتحدة من خلال جعل بكين عضوًا أكثر استقرارًا وشفافيةً دوليًّا،  كما أنها ستنتج شريكًا تجاريًّا أكثر موثوقية، وتخفيف بعض المشكلات الناجمة حاليًّا عن رقابة الحزب الشيوعي الصيني الصارمة على المعلومات؛ حيث إن القصور المتعمد من جانب الصين عن إعلان إنفاقها الدفاعي يؤدي إلى مزيد من عدم اليقين بشأن وضع القوات الأمريكية في آسيا، مما قد يضر بمصالح الولايات المتحدة ويترك حلفاءها ضعفاء. وفي المجال الاقتصادي، وَفقًا لبعض التقديرات، فقدت شركات التكنولوجيا والإعلام الأمريكية مليارات الدولارات من الإيرادات وآلاف الوظائف نتيجة لتدابير الرقابة الصينية التي تستهدف المواقع الإلكترونية الأمريكية، والطريقة التي تعامل بها القيادة الصينية شعبها يعد مؤشرًا على كيفية تصرفها تجاه جيرانها وتشكيل سياستها الخارجية. وبالتالي، فإن الحكومة الصينية المعادية لحقوق الإنسان في الداخل قد تظهر القليل من الاحترام للمعايير الدولية الأخرى أو لسيادة البلدان المجاورة وسلامة أراضيها([7]).

وفي المقابل، سعت الصين إلى تسليط الضوء على التناقضات الأمريكية في مجال حقوق الإنسان، والتشكيك في عالمية نظام حقوق الإنسان، ولكشف تسييسه. وقد منحت سياسات إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، التي قوضت بشكل كبير من صورة الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية وحامية للحقوق، فرصًا لبكين لتعزيز رؤيتها لقضايا حقوق الإنسان، والتركيز على انتقادات السياسة الأمريكية في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان، ودعم الحجج التي استخدمتها لشرح القيود المفروضة على ما وصفته بالإرهابيين والمتطرفين الدينيين داخل الصين. وقد بدأت في تقليد التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول ممارسات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، وأصدرت تقريرها الخاص بانتهاكات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، والذي يسلط الضوء على السياسات العنصرية وانتهاكات السلاح في المجتمع الأمريكي.

وقد ربطت الصين خلال العقود الماضية بين احتياجاتها الاقتصادية ومشاركتها الدولية المعززة في مجال حقوق الإنسان؛ سعيًا للحصول على وضع الدولة الأوْلى بالرعاية، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وقدمت تنازلات إستراتيجية في شكل المشاركة في حوارات حقوق الإنسان، والإفراج عن السجناء السياسيين، واستقبال وفود حقوق الإنسان الأجنبية، والتوقيع على المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، ولكن مع بروز قوتها الاقتصادية تغير سلوك بكين مرة أخرى، وتبني سياسات خارجية أكثر حزمًا ضد المناهضين لانتهاكاتها لقضايا حقوق الإنسان في الأقاليم الصينية المختلفة.

ومع بروز الصين كثاني أكبر اقتصاد في العالم في عام ٢٠١٠، والدولة التجارية الرائدة في عام ٢٠١٣، والوجهة الرائدة للاستثمار الأجنبي المباشر في عام ٢٠١٢، وثاني أكبر مصدر للاستثمار الأجنبي المباشر في الخارج، وهي الآن أكبر شريك تجاري لنحو ثلثي اقتصادات العالم، وتمثل نحو ١٩٪ من الناتج العالمي، نمت ثقتها في تعزيز نموذجها السياسي والاقتصادي، وامتدت هذه الثقة إلى دبلوماسيتها في مجال حقوق الإنسان، وقد حث الرئيس شي الدبلوماسيين الصينيين على قيادة إصلاح المؤسسات الدولية لحقوق الإنسان([8]). واستفاد الحزب الشيوعي الصيني من دوره المهيمن في الاقتصاد العالمي لإجبار الشركات، والحكومات في جميع أنحاء العالم لتتماشى مع تفضيلاته السياسية. ومارست بكين ضغوطًا على الدول لوقف دعم قرارات حقوق الإنسان بشأن الصين في الأمم المتحدة.

تحالفات متنافسة:

كان هناك افتراض لدي النخبة الأمريكية خلال العقود الماضية أن النظام الدولي القائم على تقليص الحواجز الدولية من شأنه أن يسهل انتشار الحركات والقيم الليبرالية، ورغم نجاحه لبعض الوقت فقد تصاعد تيار أمريكي يرى أن النظام الدولي بات يُحابي الآن عددًا من القوى الدولية غير الليبرالية، بما في ذلك “الدول الاستبدادية” كالصين، التي ترفض الديمقراطية الليبرالية، وأن تلك القوى “الاستبدادية” و”الديمقراطيات غير الليبرالية”، تسعى إلى تقويض الجوانب الرئيسة في النظام الدولي الليبرالي.

وفي إطار دفاع الولايات المتحدة خلال إدارة الرئيس “جو بايدن” عن النظام الدولي الليبرالي، فإنها شرعت في بناء تحالف من الديمقراطيات، التي تتفق مع قيمها ومبادئها وسياساتها المنتقدة لانتهاكات الصين في ملفي (الديمقراطية، وحقوق والإنسان)، والذي انعكس على تبني بكين سياسة خارجية حازمة عالميًّا وفي محيطها الآسيوي، بداية من تقوية التحالف الرباعي “الكواد”، الذي يضم (الولايات المتحدة، والهند، واليابان، وأستراليا)، واتفاقية أوكوس بين (الولايات المتحدة، وأستراليا، وبريطانيا)، وأخيرًا التحالف الثلاثي بين (الولايات المتحدة، وكوريا الجنوبية، واليابان)؛ لدعم الرؤية الأمريكية لنظام دولي ليبرالي في مقابل تحالف الدول السلطوية بقيادة الصين، ولمواجهة النفوذ الصيني على الساحة الدولية، ولا سيما في منطقة الإندو-باسيفيك، التي أضحت ذي أولوية إستراتيجية للولايات المتحدة لمواجهة الصعود والنفوذ الصيني عالميًّا وآسيويًّا.

وفي المقابل، استغلت الصين رفض الدول لانتقاد الولايات المتحدة ملفها لحقوق الإنسان والديمقراطية، لتشكيل تحالفًا من الدول التي تصفها الولايات المتحدة بالاستبدادية والديكتاتورية، ولا سيما (روسيا، وكوريا الشمالية، وإيران، وكوبا)، والتي تتفق مع بكين في تحدي الولايات المتحدة كقوة عالمية، والديمقراطية الليبرالية كنموذج عالمي يجب أن تتبعه كافة دول العالم. وهو ما يزيد من الصعوبات التي تواجهها إدارة بايدن في محاولتها استعادة مكانة الولايات المتحدة في الدفاع عن قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية في الخارج، ومعالجة التداعيات الأوسع التي تشكلها الدول “الاستبدادية”، وكذلك العمل مع الصين بشأن القضايا المشتركة؛ ولذلك، فإن جهود إدارة بايدن لتنشيط النظام الدولي لحقوق الإنسان، وتعظيم الدور الأمريكي في الدفاع عنه معرض للخطر، ويواجه مفهومها لعالمية حقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة تحديًا كبيرًا([9]).

ويشكل تحالف الصين مع الدول أمريكا اللاتينية التي تشهد علاقاتها مع الولايات المتحدة توترات متزايدة بسبب انتقادات واشنطن لانتهاكاتها لحقوق الإنسان، والتي تتشابه مع الصين في نموذجها السياسي، وهو الأمر الذي من شأنه تهديد الأمن القومي الأمريكي، حيث تعمل الصين بجانب تعزيز العلاقات الاقتصادية معها إلى تقوية وجودها العسكري والاستخباراتي في الفناء الخلفي للولايات المتحدة في رد على التواجد العسكري الأمريكي المكثف في منطقة الإندو-باسيفيك.

ومؤخرًا كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال”([10]) عن توصل الصين إلى صفقة مع كوبا لإنشاء قاعدة تجسس سرية على بعد حوالي ١٠٠ ميل من ولاية فلوريدا، بما يمكن بكين من تعزيز قدراتها العسكرية والاستخباراتية بالقرب من أكبر خصومها الإستراتيجيين. وبحسب مسؤولين في الاستخبارات الأمريكية، فإن بكين منذ عام ٢٠١٩، أنشأت بالاتفاق مع هافانا عدة مراكز عسكرية واستخباراتية، الأمر الذي يزيد من التوتر بين الولايات المتحدة والصين.

وسيسمح موقع القاعدة الصينية المزمع تأسيسها في كوبا لأجهزة الاستخبارات الصينية بالاطلاع على الاتصالات الإلكترونية في جميع أنحاء جنوب شرقي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث توجد عدة قواعد عسكرية أمريكية، إضافة إلى مراقبة حركة السفن الأمريكية. وتعتقد الوكالات الاستخبارية والأمنية الأمريكية أن القاعدة الصينية ذات قدرات عسكرية واستخباراتية متقدمة ما يشكل وجودها في الفناء الخلفي للولايات المتحدة تهديدًا جيوسياسيًّا جديدًا غير مسبوق، وإن كان عدد من مسؤولي الإدارة الأمريكية، كمنسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي “جون كوبي” يقلل من أهمية تلك التقارير.

الموازنة بين القيم والمصالح :

رغم وضع الإدارات الديمقراطية المتعاقبة قضايا حقوق الإنسان كأولوية لها، وليس كمصلحة ثانوية، والوعود بترجمة تعهداتها إلى إجراءات ملموسة، ودعمها بجميع الأدوات (الدبلوماسية، والاقتصادية، والإستراتيجية) المتاحة للحكومة الأمريكية، فإن حاجة الولايات المتحدة للتعاون مع الصين في قضايا حل النزاعات الدولية، ومكافحة الإرهاب، وتغير المناخ، ومنع انتشار الأسلحة النووية دفع الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى تنحية قضية حقوق الإنسان والديمقراطية في الصين جانبًا من أجل تعزيز التعاون المشترك، في ظل قناعة أمريكية بعدم إمكانية قوة عظمى، حتى لو كانت الولايات المتحدة، بمفردها مواجهة التحديدات الدولية راهنًا، وكذلك تحقيق المصالح الأمريكية، ودفع الصين لأن تكون قوة دولية مسؤولة في النظام الدولي القائم. وقد سبق أن ألمحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون” إلى أن الترابط والنفوذ الاقتصاديين سيؤديا إلى تضحية واشنطن بالاهتمام بحقوق الإنسان في الصين في مقابل تحقيق المصالح المشتركة.

ولذلك، فإن إدارة الرئيس جو بايدن رغم تصدر قضية حقوق الإنسان والديمقراطية أجندتها، لن تسمح بأن تؤثر سياساتها للدفاع عنهما على إمكانية تحقيق المصالح والأمن القومي الأمريكي؛ ففي حالة وجود تعارض بين القيم والمصالح الأمريكية فإن الأولوية ستكون للأخيرة؛ ولهذا فإن الإدارة الأمريكية لن تجعل القضيتين تؤثران على طبيعة العلاقات الأمريكية-الصينية، حيث لن تتخذ موقفًا تصعيديًّا أو مواجهة شاملة مع بكين بشأن سياساتها بشأن حقوق الإنسان في الأقاليم الصينية، في وقت يصعب فيه فصل الاقتصادين (الأمريكي، والصيني) المتشابكين. وكثيرًا ما يؤكد المسؤولون الأمريكيون أن الخلافات الأمريكية-الصينية حول قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان لا تعني بالضرورة وقف التعاون المشترك والمتشابك مع بكين.


([1]) Rosemary Foot, “Positioning Human Rights in China- U.S. Relations,” in Reclaiming Human Rights in a Changing World Order, ed. Christopher Sabatini (Washington D.C: Brookings Institution Press, 2023), 38-39.

([2])Paul Heer, Understanding U.S.-China Strategic Competition, National Interest, October 20, 2020, https://nationalinterest.org/feature/understanding-us-china-strategic-competition-171014

([3]) محمد كمال، الصين ومآلات النظام الدولي، السياسية الدولية، المجلد ٥٨، العدد ٢٣٣، يوليو ٢٠٢٣، ص ص ١٤٥-١٤٦.

([4]) Alexander Cooley and Daniel H. Nexon, “The Real Crisis of Global Order Illiberalism on the Rise,” Foreign Affairs 101, no.1(January/February 2022), 104, 108.

([5]) Elizabeth C. Economy, “China’s New Revolution the Reign of Xi Jinping,”, Foreign Affairs 97, no,3 (May/June 2018): 66.

([6])Risky Competition: Strengthening U.S.-China Crisis Management, International Crisis Group, May 20, 2022, https://shorturl.at/hzTUY

([7])Reinvigorating U.S. Efforts to Promote Human Rights in China, McCain Institute, March 11, 2021, https://www.mccaininstitute.org/resources/reports/reinvigorating-u-s-efforts-to-promote-human-rights-in-china/

([8]) – Rosemary Foot, “Positioning Human Rights in China- U.S. Relations,” Op. Cit, 37.

([9]) – Ibid., 32.

([10])Warren P. Strobel and Gordon Lubold, Cuba to Host Secret Chinese Spy Base Focusing on U.S., Wall Street Journal, June 8, 2023, https://www.wsj.com/articles/cuba-to-host-secret-chinese-spy-base-focusing-on-u-s-b2fed0e0

اظهر المزيد

عمرو عبدالعاطي

باحث متخصص في الشئون الأمريكية-موسسة الأهرام-القاه...

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى