مقدمة :
يعتبر رياض السنباطي أحد أهم الأعمدة التي قامت عليها الحضارة الموسيقية العربية في القرن العشرين ومن أهم الشخصيات الموسيقية في تاريخ الموسيقي والحضارة العربيتين قاطبة. وقد لحن هذا العملاق أكثر من ألف لحنٍ وأغنيةٍ منها ثلاثٍ وتسعين أغنيةً لصوت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وقد يدهش البعض من هذه النسبة، فاسم رياض السنباطي مرتبط في الوجدان العربي من المحيط للخليج بصوت أم كلثوم حتى أنهما لا يُذكرا إلاَّ معًا. ومع ذلك فللتاريخ قولٌ آخرٌ حاسمٌ، فإذا استثنينا الأغنيات الثلاث والتسعين التي غنتها أم كلثوم فقد وزع لثلاثٍ وثلاثين مطربة وثلاثةِ عشر مطربًا، ومن هذا العنوان الضخم العام (رياض السنباطي غير الكلثومي) أبدأ برياض السنباطي …السنباطي.
أغنيات غناها بصوته :
غنَّى رياض السنباطي عشرين أغنية بمصاحبة الفرقة الموسيقية وثلاث عشرة أغنية بمصاحبة عوده، وأبدأ الكلام برأي مهم لـ(محمد عبدالوهاب) عن صوت رياض السنباطي: “لو لم يغنّ السنباطي غير قصيدة أشواق لحقَّ له أن يُعدُّ مطربًا كبيرًا”. لكن السنباطي لا يستحق هذا الرأي على قصيدته أشواق فقط بل على كل ما غنيّ إن كان بمصاحبة الأوركسترا أو على عوده المنفرد، وتنقسم أغاني السنباطي بصوته إلى ثلاث مجموعاتٍ كبيرةٍ:( مجموعة الأغنيات الرومانسية ومجموعة الأغنيات الصوفية وأغاني فيلمه الوحيد).
أغانيه الرومانسية
ومن أعظم هذه الأغاني أذكر قصيدة (فجر) ــ نظم (أحمد فتحي) المذهلة والمتشبعة بالرومانسية الغنائية الرائعة والتي لا تقل هي و(أشواق) ــ نظم(مصطفي عبدالرحمن) عن قصيدة (كليوباترا) لـ(محمد عبدالوهاب)، بل تقف إلى جانبها في تاريخ الموسيقى العربية بكل جدارة. تعتبر قصيدة (فجر) ذروة من ذُرى القصائد العربية الرومانسية بجو ألحانها الحالم، وبالإلهام اللَّحني السامي والثري وبصوت المطرب الدافئ الرائع في تصوير هذا الجو الرومانسي الخلاب ــ خاصةً في نهاية القصيدة التصويرية الرائعة: (يا نديمي لاحت الشمس) التي تأتي على إيقاع هادئ ولحن من أروع ما يمكن سماعه وكأنَّ هذه الجملة جاءت تعلن نهاية هذه الخلوة الرائعة بين الحبيبين، ومن القصائد الرومانسية الرائعة أيضًا أذكر من (سحر عينيك الأمان) ــ نظم (فاروق جويدة) التي غنتها أيضًا المطربة الكبيرة (نجاح سلام) ، وتمتاز هذه الأغنية بقفلتها الثلاثية المتداخلة على نفس علامة ارتكاز المقام وهو هنا الحجاز وذلك عند نهاية المطلع وتتكرر هذه القفلة الرائعة والنادرة في الموسيقى العربية في نهاية كل مقطع، وقد أبدع فيها الشاعر (فاروق جويدة)، ونصل إلى أشواق هذه التحفة الفنية الرومانسية الرائعة شعرًا ولحنًا وغناءً. هنا لا نستطع أن نُحدد الذروة العظمى الموسيقية في هذه القصيدة أو أجمل قسم فيها، ولكن وبالرغم من ذلك يبرز وبشكلٍ رائع ٍمقطع ( آه لو تسمعني أشكو يا حبيبي ) بروعتهِ اللَّحنية ومقدمته الرائعة وبصوته الأكثر من رائع وقفلتها المذهلة. وإذا ذكرنا هذه الأغنيات الثلاث فقط فهذا لا يعني أنَّها الوحيدة الرومانسية التي غنَّاها هذا العملاق بل أنَّها تبرز بين عشراتٍ غيرها أن كلها رائعة وعميقة الرومانسية، كلها اختفت من الأثير العربي؛ بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تحولت من الأصوات العظيمة والألحان العظيمة إلى غيرها مما لا قيمة فنية وتاريخية لها، وما لنا إلاّ أن نسمع أيَّة إذاعة عربية لنعرفها. وليس (السنباطي) الملحن صاحب الصوت الرائع الوحيد الذى ظُلِم كمطرب في القرن العشرين، بل يجب أن أذكرــ طالما نحن في صدد ذكر سلبيات وسائل الإعلام العربيةــ ملحنًا لبنانيًّا(فلسطيني المولد) عظيمًا كان في نفس الوقت مطربًا وصاحب أجمل صوت في لبنان قبل ظهور نجم الأسطورة (وديع الصافي) إنَّه: (حليم الرومي) صاحب الألحان الرائعة والقصائد الكبيرة العصماء، التي غناها بصوته الرائع هذه الأغاني التي كانت مسيطرة على الساحة الغنائية في المشرق العربي في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات (ومضة على ضفاف النيل ــ إذا الشعب يومًا أراد الحياة ) التي غنتها أيضًا(سعاد محمد) قصيدة عطر ذروته الرومانسية، وأغنياته الخفيفة الرائعة( اسمع قلبي – هنا اتقابلنا سوا – يا مساء الورد على عيونك …. وغيرها ) وتجدر الإشارة هنا إلى المسابقة التلحينية التي أُقيمت في تونس في السبعينات من القرن الماضي؛ لتلحين وصلة من الموشحات بشروط موسيقية مسبقة وصارمة وشبة تعجيزية وحصل فيها (حليم الرومي) على الجائزة الأولى.
أغانيه الصوفية:
تمتاز أغنيات السنباطي وصوته بميزتين كبيرتين تتقاسمان هذه الأغاني: الميزة الصوفية التي كان رائدها في الموسيقى العربية، ومن مجموعة أغانية الصوفية غنى بصوته اثنتين: (إله الكون ،وربي سبحانك دومًا) من نظم (السيدة) ، أمَّا باقي أغنياته الصوفية وكانت من نصيب (نجاة الصغيرة): (إلهي ما أعظمك) و(سعاد محمد) : (يا القدس(محمود حسن إسماعيل) – يارب يا رسول الله وهما من نظم ( حسين السيد) وتمتاز من هذه الأغنيات الأربع أغنية نجاة وأغنية يا قدس التي لحَّنها بعد سقوط القدس تحت الاحتلال الصهيوني سنة 1967 م وقصيدة القدس تمتاز بمرارة هائلة إلى جانب الجو الصوفي السامي ــ خاصةً في عبارة قومي إلى الصلاة وتُذَكّر بآذان الشيخ (محمد رفعت) النادر الوجود على مقام الهزام الإنفعالي، فالأول: نَرجع إلى صوفيات السنباطي بصوته تمتاز الأغنيات بالهدوء الإنفعالي فالأول: (ربي سبحانك دومًا) من مقام (البياتي) مع تعريجة المقام (الهزام) راجع الأرواح فهو إذًا استنكار ولكن على مقام (البياتي) و(ليس الصبا ، إله الكون) جاءت على مقام (الهزام) الإنفعالي وفى كلتي الأغنيتين يستعمل الملحن الكورال للتذكير بالأناشيد الصوفية وليس هذا فقط ما يُذَكّر بهذا الجو، بل اختيار المقام لهاتين الأغنيتين (البياتي والهزام) وهما المقامات الأساسية الأول: (البياتي) في تلاوة القرآن الكريم والثاني: هو المقام الأساسي في التوشيحات الصوفية الدينية(الهزام).
أغاني فيلمه الوحيد:
لم يبخل (رياض السنباطي) بألحانه الرائعة في فيلمه الوحيد الذي ظهر فيه مع (هدى سلطان)، ولم يبخل بمجموعة من أجمل أغانيه التي غنَّاها منفردًا أو بالاشتراك مع هدى سلطان) أو لها منفردة وكلها من نظم (حسين السيد) فقد غنى لوحده إحدى أجمل أغنياته على الإطلاق وهي (على عودي) وأنا أعتبرها قصيدة بالرغم من أن كلماتها بالزجل المصري لكن عمق التفكير الموسيقي في هذه الأغنية مع روعة ألحانها ترفعها برأيي إلى مصاف القصائد الكبيرة.
الأغنية الثانية: (فاضل يومين) وهي أغنية خفيفة جميلة الألحان ومتنوعة المقاطع، وعلى ندرة الديالوج في الموسيقى والغناء العربيين يُتحفنا السنباطي في هذا الفيلم بثلاثة ديالوجات. وهذا العدد لم تعرفه الأفلام الغنائية العربية وكلها من نظم (حسين السيد) بالتدريج كما وردت في الفيلم بشكلٍ منطقيّ سنتكلم عنه:
الأول:(عندي سؤال) يعرض خلوة عاشقين لا يقلقهما شيء، فالألحان تأتي هادئة دون أيّ توتر إنفعالي، بل بكل صفاءٍ وشفافيةٍ وهدوء نفسي.
الديالوج الثاني: (إشمعنى يا ناس) يبدأ القلق يدخل إلى الديالوج خاصةً في جملة (وليه الأمل الحلو يكون)، لكن مقطع هدي سلطان يبقى مرحًا شفَّافًا، وذلك لأنَّها في طريقها إلى الزواج من صديق بطل الفيلم .
أمَّا ثالث هذه الديالوجات فاسمه يدل عليه وعلى صفته الدرامية: (بتبكي ليه يا نغم) وهو مليئ بالدراما الداكنة اللَّون، فالمطرب الممثل (الملحن) يعرض مأساته في لحن هذا الديالوج.
أهم ألحانه للمطربات :
وأبدأ بالمنافِسة لـ (أم كلثوم ) حتى الآن وهي (أسمهان العظيمة)، فبالرغم من أنَّ (أسمهان) مثلت قبل أم كلثوم بحوالي ثلاثين عامًا (سنة 1944 م)، وبالرغم من أنَّها لم تغنِ إلاَّ حوالي ثلاثين أغنيةً فقط ظلَّت أثناء حياة أم كلثوم وبعد مماتها وحتى الآن المنافِسة الوحيدة لها والسبب في ذلك إلى جانب عبقرية صوتها أنَّه إذا كانت أم كلثوم تنتمي إلى القرن التاسع عشر الغنائية فإنَّ (أسمهان) كانت تمثل المدرسة الغنائية الحديثة التي ابتدعها (محمد عبدالوهاب) في التلحين وفي الغناء وكانت زعيمة الغناء الحديث عند المطربات، لحَّن السنباطي لـ(أسمهان) أغنيتين كلتيهما في فيلمهما الأخير (غرام وإنتقام) : (أيها النائم ونشيد الأسرة العلوية) الاثنتان من نظم (أحمد رامي).
قصيدة (أيها النائم) الرائعة تعتبر من أهم ما لحَّن رياض السّنباطي؛ وذلك لندرة وسمو العمق الفكري والدرامي فيها وعدم تكراره في أغنية أخرى من ألحانه ، إنَّه العمق المأسوي الدرامي الرثائي في شكل الأغنية ومضمونهاــ هذه الصفات المجتمعة التي لم نصادفها إلاّ في قصيدة(أيها الراقدون) لـ (محمد عبدالوهاب) والأغنيات ترقي إلى مستوى الشكل الأوركسترالي الغنائي الأوروبي المعروف بالـ (ريكويييم “Requiem ) أي صلاة الموتى أو القداس الجنائزي في الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية. من ناحية الشكل فالأغنية كلها أتت مرسلة أي دون استعمال أيّة آلة إيقاع جاءت على طريقة التجويد القرآني أي أنَّها تعتبر شكليًّا عودة إلى قصيدة الشيخ (سلامة حجازي ) توفي عام 1917 م رائد القصيدة المبنية كليًّا على التجويد، لكن هذه العودة ليست شكلية إطلاقًا بل أنَّها تخدم بشكلٍ مذهلٍ مضمون الأغنية تصف الحالة النفسية المدمرة لبطلة الفيلم بعد مقتل حبيبها فيصور غياب الإيقاع شللها النفسي وذهولها الإنساني وصدمتها العاطفية الصاعقة فجاء التعبير مذهلًا ومقنعًا إلى أقصى حد.
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية حزينة مأسوية درامية رائعة، الجملة الأولى: تبدأ من الدرجة الأولى من المقام (النهاوند) الدرامي بطبيعته وتعود إليها بسرعة، وتُعاد الجملة مرة أخري، وتحمل هذه الجملة في طيَّاتها كل عناصر المأساة الدرامية الرثائية في الأغنية إذن هي العنوان الموسيقي المختصر للأغنية. ويعيد الملحن هذه الجملة بطريقة التتالي Sequence صعودًا على الدرجة الخامسة من المقام، وهذه الطريقة تضمن الوحدة الفنية اللَّحنية المبنية على المادة الموسيقية نفسها وتحريكها على السلم الموسيقي. بعد ذلك تأتي جملة تسليم الغناء في منتهى العمق الإنساني والوجداني والمأسوي؛ لتبدأ (أسمهان) الأغنية بصوتها العبقري: (أيها النائم عن ليلي سلامًا) بعد اللازمة التي تلي بداية الغناء تأتي جملة (لم يكد ومضُ المُنى)؛ لتؤكد أنَّ غياب الإيقاع مقصود تمامًا وأنَّ الملحن واعٍ لما يفعل: فالجملة تأتي على إيقاع داخلي للَّحن نفسه المستمد من إيقاع الكلام يسهل معه استعمال إيقاع الوحدة الكبيرة (إيقاع القصائد الكلاسيكية قبل 1935 م) على أيّة آلة إيقاع، لكن اللَّحن يأتي هنا على إيقاعِه الداخلي فقط وهذا يدل على تفكير موسيقي عالٍ جدًا، وقصد واضح في عدم استعماله آلة إيقاع. بعد هذه الجملة الغنائية تأتي لازمة موسيقية في منتهى العمق الدرامي والإنساني، والعبقرية اللَّحنية مذكرة بأحلى ألحان (شوبرت) الملحن الرومانسي الكلاسيكي الأوروبي العبقري، تليها جملة (أمل في مهجتي) بعدها يحدث أول تغيير مقامي بعد السيطرة التامة بمقام (النهاوند الدرامي) فعند جملة” وحبيت راح عني ظله” يأتي فجأه مقام( البياتي) بشكل تصادم مقامي دون تهيئة وذلك لتصوير الحالة النفسية المضطربة للبطلة ويستمر هذا المقام عند جملة ( يا نداما الروح) وكما ظهر (البياتي) فجأة يختفي فجأة وراء (النهاوند) عند جملة (كنت لا أقتات إلاَّ حبه)، هنا يأتي مقام (الراست) متهاديًا على آلة الناي كـالمركب المتهادي على صفحة النيل الذي يظهر في الفيلم عند عزف هذه الجملة (وادفنوه بين أضلاعي) وعند جملة (وانصحوه بدموعي) للمرة الثانية يعود مقام (النهاوند) بكل أبعاده الدرامية والمأسوية والحزينة القائمة؛ لتؤدي (أسمهان) نهاية هذه التحفة الموسيقية بشكلٍ عبقريّ ــ خاصةً عند جملة (الذي أضحى حطامًا) التي يختم بها السنباطي هذا اللَّحن الفريد، وكأنَّها ترثي نفسها وهي عالمة أنَّ نهايتها قريبة.
نشيد الأسرة العلوية من أندر الأناشيد الرومانسية في الموسيقى العربية، وتَظهر فيه (أسمهان) في الفيلم ملفوفة بالعلم المصري، لكن هذا النشيد اقْتُطِع للأسف من كل نسخ الفيلم بعد ثورة 1952 م ، ولم يبقَ سوى على إسطوانة. لقد إستعمل السنباطي فيه توزيع الأناشيد المعتمدة على الآت النحاس والكورال فجاء تحفة فنية ترفعه إلى مصاف أهم الأناشيد العربية.
ننتقل إلى (سعاد محمد) التي حظيت بـ(19) أغنية من ألحان العملاق وأهم هذه الأغاني: (أنا وحدي) لـ(أحمد رامي)، (فتح الهوى) شباك لـ (مأمون الشناوي)، (هاتوا الورق والقلم) وهي كلها من فيلم (أنا وحدي)، (القدس) لــ(محمود حسن إسماعيل)، (يا مجاهد في سبيل الله ) لـ(بيرم التونسي) ، ويبرز من هذه الأغنيات قصيدة (أنا وحدي ) الصارمة الدرامية العظيمة وهي من نظم (أحمد رامي) والأغنية العظيمة (يا مجاهد في سبيل الله) لــ (بيرم التونسي) غنَّتها في فيلم (فتاة من فلسطين) بعد نكبة 1948 م ،ولحن هذه الأغنية شديد الانفعالية والقوة التأثيرية والتحريضية العالية في المذهب
يا مجاهد في سبيل الله ده اليوم اللي بتتمناه
أو في المقاطع المتشابهة اللَّحن وقد غنَّت (سعاد) هذه الأغنية بانفعالية عالية جدًا واضح فيها تأثرها الشديد بهذا الحدث الجلل الذي أصاب العرب لكن ذُروة ألحان (السنباطي) لـ(سعاد محمد) كان أغنية وطنية أخرى وبنفس موضوع السابقة : يا قدس لحَّنها وغنتها بعد النكسة الثانية 1967 م من نظم العظيم (محمود حسن إسماعيل) (وعادت طيور المساء، يا قدس ياحبيبة السماء، قومي إلى الصلاة) تحفة فنية صوفية قومية وطنية تحريضية مليئة بالخشوع من مقام (الهزام) أقوى مقام صوفي في الإنشاد الديني.
وغنَّت(شادية) من ألحان (رياض السنباطي) أغنيتين لوحدها وهي: (تلات شهور ويومين اثنين) من مقام (النهاوند) لـ (حسين السيد) ،و(أحب الوشوشة) المليئة بخفة الدَّم والدّقة وشاركت (عبدالحليم حافظ) بغناء لحن (السنباطي) العظيم (لحن الوفاء) في فيلم يحمل نفس الاسم 1955 م. أحد أجمل الديالوجات في تاريخ الغناء العربي نظم (حسين السيد) إنَّها إحدى أغنيات (السنباطي) غير الكلثومية العظيمة حيث ينطلق من قمته الكلثومية فتظهر كل عناصر شخصيته الفنية خارج هذا الإطار: التفكير الموسيقي التأملي العميق والرُّومانسي المحلَّق ،الجمل اللَّحنية العصرية ،انتماؤه الكلي لمدرسة القرن العشرين المجددة البناء ،الموسيقى الشامخة (صفحة نجدها في كل أعماله) وفهمه العميق للفارق الكبير بين الأصوات النسائية والرجالية ، وذلك نجده بالاختلاف الكبير بين الجمل التي تغنيها (شادية) المليئة بخفة الدَّم ورشاقة اللَّحن وأنوثته ورصانة الجمل وطابعها الهادئ الرَّصين والرّجولي ،وما يغنيه (عبدالحليم حافظ)، وأخيرًا مقدرته الكبرى على استعمال وتحريك الكورال في اللُّعبة الدرامية خاصةً في نهاية الأغنية ، وأعطى للفنانة (شهر زاد) أحلى أغانيها (يا ناسيني)، وحَظِيَت (صباح) بثلاثِ أغنياتٍ في فيلم (اللَّيل لنا) نالت شعبية كبيرة في وقتها وهي (يمينك لف) لـ(بيرم التونسي)، (اللَّيل لنا) و(يا هوايا) لـ(عبدالعزيز سلام). أمَّا (عصمت عبدالعليم) فغنَّت له أغنيتين إحداهما غنتها (أسمهان) وهي (الدنيا في إيدي والكل عبيدي) نظم (د.سعيد عبده) والأغنية الرائعة (شفت حبيبي) نظم (عبدالباسط عبدالرحمن) والتي أعاد غناءها وأعادها إلى الحياة الموسيقية الجميلة المطرب الكبير (محمدعبدالمطلب). وغنَّت له (فايدة كامل) الأغنية الوطنية (راية العرب) لـ(محمود حسن إسماعيل) ، وغنَّت له (فايزة أحمد) أربع أغنياتٍ لم تشتهر، ولحَّن لـ (فيروز) أربع أغنياتٍ لم تغنّها حتى الآن ويبدو أنَّها لن تغنيها (أمشي إليك) لـ (جوزيف حرب)، (آه لو تدري) لـ (عبدالوهاب محمد)، (بيني وبينك) لـ (جوزيف حرب)، (أصابعي منك في أطرافها قبل) لـ (جوزيف حرب) وقد مرَّت نوتة الأغنيتين الأخيرتين بين يديه عندما عهد إلى إعادة كتابتها بعد اختصار مقاطع منها، وكانت النوتة بخط الفنان (ميشيل المصري) الرائع أمَّا(ليلى مراد) فقد غنَّت له (16) أغنية أكثرها شهرةً (إحنا الاثنين) لـ (حسين السيد) من فيلم “ليلى بنت الفقراء” ومن نفس الفيلم غنَّت اللّي في قلبوا(حسين السيد) ليلة جميلة (مأمون الشناوي) أمَّا الأغنيات الأخرى التي اشتهرت فأذكر منها الحبيب (أحمد رامي) حجبت نورك -مين يشتري الورد مني (بيرم التونسي) – يارب تم الهنا (حسين السيد) وهي من فيلم ليلى(غادة الكاميليا). ومن أهم هذه الأغنيات بل من أهم ما غنَّت (ليلى مراد) أغنية الحبيب (أحمد رامي)، ويستعمل فيها السنباطي طريقة الفكر الجدلي في التلحين(جمع المتناقضات في تكوين العمل الفني) جو اللحن المأسوي الدرامي القائم على إيقاع التانجو الحالم ، فالأغنية تغنيها البطلة بعد طردها لحبيبها بعد اتفاقها مع أبيه على ذلك فتعود مستسلمة لحياتها السابقة الصاخبة فيصور اللَّحن الدرامي المأسوي القاتم ـــ استسلامها لقدرها المحتوم ولمرضها القاتل ـــ ،ويصور إيقاع التانجو جو السهرة التي تجري فيها أحداث الأغنية.
ومن أغاني السنباطي لـ (ليلى مراد) أغنيته الرائعة “يا حبيب الروح” التي ما زالت تقدم على مسارح الموسيقى العربية حتى الآن، ومن نفس فيلم (الحبيب) فيلم ليلى (غادة الكاميليا) يتحفنا السنباطي بأغنية (مين بيشترى الورد مني) التي تنضح بالنضارة والتفاؤل والإشراق والتي لم تفقد شيئًا من جمالها ونضارتها حتي يومنا هذا.( ميادة الحناوي) غنَّت أغنيتن (ساعة زمن) أعادت غناء (أشواق) وبالطبع لم تصل إلى مستوى السنباطي في فهم أعماق اللحن ولا عجب في ذلك فهو خالق اللحن.
وقد حَظِيَت المطربة (نازك) بقصيدة رائعة من السنباطي من نظم (عبدالله الفيصل ) وهي (ليته يعرف الملل)، لكنَّها لم تشتهر كثيرًا ــ على أثير الإذاعات العربية للأسف.
أمَّا (نجاح سلام) وكان من حظّها ثلاث أغنياتٍ رائعة: (عايز جواباتك) المطربة ونشيد (أنا النيل مقبرة للغزاة) الرائع (نظم محمود حسن إسماعيل) الذي لحن في سنة 1956 م أثناء العدوان الثلاثي على مصر والذي ما زال يحتفظ بكل قوته ووجوده على الساحة الغنائية وهو من أقوى أناشيد تلك المرحلة. الأغنية الثالثة هي( من سحر عينيك الأمان) الساحرة التي سجَّلها ملحنها على عوده، وكان من نصيب(نجاة الصغيرة) عشر أغنياتٍ برزت منها ثلاث: يا سلام عليك (عبدالمنعم السباعي)، والرائعة “أنا أملك” (حسين السيد) المليئة بالطرب والرومانسية الحالمة. أمَّا الثالثة فهي الصوفية الرائعة “إلهي ما أعظمك “(حسين السيد) .
نصل إلى إحدى الأصوات النسائية (نورالهدى) التي غنَّت سبع أغنياتٍ من ألحان (السنباطي)، انتشرت جماهيريًّا منها اثنتان: (يا أوتوموبيل) لــ (بيرم التونسي) (وياريت كل الناس فرحانه) التي تفيض بالسعادة والإشراق والتفاؤل. أمَّا (يا أوتوموبيل) فإلى جانب التفاؤل فإنَّها مليئة بالجمل اللَّحنية الجميلة التي أدَّتها (نورالهدى) بكل براعة وفهم لطابع اللحن، ونعود إلى (هدى سلطان) وفيلمها مع السنباطي (حبيب قلبي) التي غنَّت فيه إلى جانب الديالوجات الثلاثة مع الملحن أغنيتين كان لهما نصيبًا كبيرًا من الانتشار الجماهيري: (ورد وياسمين) لـ (حسين السيد) و(قتلوني يابويا) لـ(حسين السيد). ومن بين خمس أغنياتٍ غنَّتها له (ورده) تبرز بل تشمخ من بينها (لعبة الأيام) لـ (على مهدي) التي مازالت تحتفظ بنضارتها ومكانتها على مسارح فرق الغناء العربية، هذه الأغنية المغلفة بالطرب والحزن الشفاف والهادئ التي تبدأ بمقدمة من أجمل مقدمات(رياض السنباطي) وتمتاز بأنَّها مرسلة وتمهد لجو هادئ بواسطة صولو الناي الذي يختمها.
هنا نصل إلى المطربين الذين غنُّوا ألحان (رياض السنباطي) من تسع أغانٍ غنَّاها (أحمد عبدالقادر) حَظِيَت أغنية (أمتى نعود لك يا نبي) أو (عودة الحجاج) بقدرٍ كبيرٍ من الشهرة والاستمرارية لسبب موضوعها الديني الذي يتكرر سنويًا فهي أغنية موسم حتى جاءت أغنيات جديدة أخذت مكانها في ذاكرة ووجدان المستمع العربي، ومن ثمانِ أغنياتٍ لـ(صالح عبدالحي) بقيت على قيد الحياة في الوجدان وحتى الآن تحفة السنباطي وبيرم التونسي (ليه يا بنفسج ) أغنية (على بلد المحبوب) لها قصة غريبة.حيث لم يعجب لحنها في البداية (أم كلثوم) فغناها (عبده السروجي) في فيلم (وداد) سنة 1935 م ،لكن قَدَر الأغنية تغير عندما أعادت (أم كلثوم) غنائها فأصبحت لا تُسمع إلاَّ بصوتها. نصل إلى (عبدالحليم حافظ) بل نعود إليه بعد أن قدمنا أغنيته مع شادية (لحن الوفاء) فـ(السنباطي) لحّن له لحنًا ثانيًا رائعًا وهو (فاتوني التقي وعدي) في فيلم (ليالي الحب)1955 م ، ونسمع في هذه الأغنية كلمة عالية النبرة للسنباطي غير الكلثومي: فأسلوب الأغنية عصري ، يتماشى مع عصرية الأغنيات الأخرى في الفيلم بل وتسبقها في سياقها الجديد فتأتي الأغنية لوحة رومانسية تأملية وصفية جميلة يتعايش فيها الحزن(المقطع الأول والنهاية) مع التفاؤل والإشراق الواضحين (أنا وأنت وأنا … وأنا نجم ظهر على ضي القمر) بتصادم مقامي رومانسي واضح المعالم، وهذه الأغنية مع لحن الوفاء هما اللَّحنان الوحيدان اللذان غنَّاهما (عبدالحليم حافظ) من ألحان رياض السنباطي، وأخيرًا نصل إلى (عبدالغني السيد) الذي غنى (18) أغنية لـ (رياض السنباطي) برز منها وبشكلٍ واضحٍ ولامع جدًا ( شفت الأمل والهنا، بوليرو العيون، قولي لي إيه غير حالك، يا آسرة قلبي يا ملاكي ) ــ وخصوصًا رائعته لا دمعي كفى وطفى النار).
كلمة أخيرة عن هذا العملاق الذي لحَّن لشخصياتٍ مختلفة وكأنَّه عدة ملحنين وليس ملحنًا واحدًا وذلك حسب الصوت الذي يلحن له وعودة لذكر وسائل الإعلام العربية المسموعة والمرئية التي اختفت منها شبه نهائيًا الأصوات والألحان العظيمة؛ لتحل محلها الأصوات والألحان التي نسمعها صباحًا ومساءً وكأنَّ تُراثنا غير موجود، مثل الذي يذهب إلي الصحراء للبحث عن نقطة ماء يشربها بينما يعوم في بحر من المياه العذبة، ونأمل أن يأتي يوم قريب تنتهي فيه هذه المأساة الحضارية الانتحارية الفظيعة.