2020العدد 184ملف ثقافي

نازك الملائكة.. الريادة والتجديد في الشعر العربي الحديث

تشغل” نازك الملائكة “مركزًا مرموقًا في تاريخ الأدب العربي الحديث، لا لكونها مبدعة ومجددة فحسب، فقد تميزت بجهودها المتواصلة منذ صدور ديوانها الأول (عاشقة الليل) 1947 م، أو لأنها أسهمت إسهامًا إيجابيًا في تطوير القصيدة العربية في موضوعها وبنائها، سواء كان ذلك في محاولاتها الشعرية أم في تنظيرها لما شاع باسم (الشعر الحر).. بل ؛ لأنها عرفت بمجهودها النقدي المنظم، ومواقفها من بعض القضايا الفنية واللغوية والفكرية في أدبنا الحديث. )[1](

وليس من الغريب أن يكون لأعمالها وآرائها صدى يتجاوز حدود الوطن العربي، وأن يعني بها كتاب في عدد من اللغات العربية -لا سيما الإنكليزية- بالرغم من أنّ الغرب لم يولوا الأدب العربي الحديث اهتماما ملحوظًا إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية.

وإذا استعرضنا مما كتب عن” نازك الملائكة” منذ عام 1950 م حتى أوائل الثمانينات، فأننا نلاحظ أنّ الإشارات الأولى إليها كانت ذات طابع عام تهدف إلى بيان مكانتها في الشعر العربي الحديث.

ولعل أول إشارة للتعريف بها وردت عام 1950 م، في مقالتين نشرهما الدكتور”صفاء خلوصي” في المجلة الإسلامية ومجلة الجمعية الآسيوية الملكية، وضم مقاله الأول – كما يدل عليه عنوانه : ( شاعرات العراق المعاصرات) تعريفًا موجزًا بالشاعرة (رباب الكاظمي، وأم نزار الملائكة، ونازك الملائكة، وفطينة النائب، ولميعة عباس عمارة)، وكان لشاعرتنا شطر وافر منه تطرق فيه المؤلف إلى أثر الأدب المهجري وأثر الشاعر “كيتس”، والشاعر” د. ه. لورنس”، والشاعر” محمود حسن اسماعيل”، من غير أن يدعم رأيه بأدلة، وألمح إلى استعمالها بعض الرموز أو الأعلام اليونانية في شعرها، ذاكرًا بينها “هياواثا” وهو بطل أسطورة من أساطير الهنود الحمر ( وقد نصّت الشاعرة على استعمالها في ديوان شظايا ورماد، وترجم لها مقتطفات من بعض قصائدها في (عاشقة الليل). )[2](

وكان الدكتور” صفاء خلوصي” أول من أشار في الغرب إلى خروج الشاعرة على نظام الشطرين، واعتمادها التفعيلة أساسًا، وإلى إسهامها المبكر في وضع الأسس النظرية للشعر الحر، مؤيدًا ما ذهبت إليه الشاعرة في مقدمة ديوانها (شظايا ورماد) ، غير أنّ محاولته هذه -على ما لها من قيمة تاريخية- لم ينوه بها حتى في البحوث الأكاديمية التي ظهرت بعد عشرين عامًا من تاريخ صدور مقالته.)[3](

أمّا مقاله الثاني عن الشاعرة “عاتكة الخزرجي”: فقد أشار إليها بمقاله، أنها تفوق غيرها من الشاعرات مكانة، وإضفائه عليها لقب (ملكة الشعر الحديث غير المتوجة) ، وإن كان قد اعترف في موضع آخر أنها في شعرها أقل من نازك الملائكة خيالًا وأصالة وموسيقى.

وتبعت هذه المحاولة مقالتان للكاتب السوداني ووزير خارجية السودان “جمال أحمد نوه” أشار في إحداهما بـ “نازك الملائكة ” كإحدى الشاعرات البارزات، وخص في الأخرى قصيدتها (الأرض المحجبة) وهي من ديوانها الثالث (قرارة الموجة) بملاحظة ثناء وإعجاب، وترجم بضعة أبيات منها، مشيرًا إلى أنّها تتميز بمتانة التعبير فضلًا عن كونها من خيرة القصائد العربية الحديثة. )[4](

وظهرت في عام  1959 م مقالة للكاتب الأسباني ” مايكل خوزيه” بعنوان (انطباعات عن الشعر العراقي: (الجواهري، حسين مردان، نازك الملائكة، عبد الوهاب البياتي) ، وفيها نجد ترجمة لقصيدتها (غسلًا للعار) بينما ترجم من قصائد الشعراء الأربعة المذكورين، بعضًا من نصوصهم.

وشهد عام 1961 م عدة محاولات للتعريف بها: كمحاولة الكاتب ” فجنست مونتي” في كتابه الثنائي (اللغة عن الأدب العربي المعاصر) حيث نجد قصيدتها ( خمس أغاني للألم) في نصها العربي، كما نشرته مجلة الآداب اللبنانية عام 1957 م، وترجمتها الفرنسية، وإشارة أستاذها الكاتب والمترجم الإنكليزي المشهور” ديزموند ستيوارت” في مقاله ( اتصالات مع أدباء عرب) ، وقد ذكر فيه بضعة أبيات من قصيدة (خرافات) ، كما ترجمتها الشاعرة نفسها مع بعض التعديل على حد تعبير المؤلف، ومحاولة “جورج صفير”  في الملحق الأدبي الأسبوعي لجريدة “نيويورك تايمز” في عام 1966 م ، حيث يقول عن “نازك الملائكة” إنّها تعبر في أنماط رمزية ونغم حزين عن المشاعر الخفية في المرأة المتيقظة، وكذلك محاضرة “صالح جواد الطعمة” التي ألقيت في النادي النسائي لرابطة القلم العربي، وألمح إلى ما يشوب شعرها من تمرد وحيرة وكآبة، كما ترجم بضعة أبيات من قصيدتها (جامعة الظلال).)[5])

إن هذه المحاولات وأمثالها مما ظهر حتى أواسط الستينات ظلت مقتصرة على الطابع التعريفي العام، ونماذج شعرية محدودة، مع بيان مفصل لدورها في تطوير القصيدة العربية في سياق التجارب التي سبقتها أو عاصرتها، والتطرق إلى آرائها ومواقفها النقدية.

غير أنّ هذه الجوانب بدأت تلقى اهتمامًا كبيرًا منذ عام 1965 م- لاسيما في البحوث الأكاديمية أو الرسائل الجامعية التي تناولت الاتجاهات الحديثة في الشعر العربي.

ومما هو جدير ذكره أنّ معظم المعنيين بهذه الجوانب من كتاب الوطن العربي، حكمت ظروفهم أن يواصلوا بحوثهم في الغرب، أي أنّ الحضور العربي يعد عاملًا أساسيًا مسؤولًا عن ظاهرة انتشار الأدب العربي الحديث في الغرب، وإبراز الشعر منه على وجه الخصوص. )[6](

ولعل الباحث والأديب “سامي موريه” -وهو عراقي الأصل- كان أكثر المعنيين تتبعًا لهذه المسألة من الوجهة التاريخية، فقد أشار في دراساته العديدة إلى محاولات (أبي شادي) في التعريف بالشعر الحر، ودعوته إليه واستعماله له منذ أواخر العشرينات، كما نوه بتجربة “خليل شيبوب ” في قصيدته (الشراع) (نشرت عام 1932 م) وإن ذكر أخوه “صديق شيبوب” أن تاريخ نظمها يعود إلى عام 1921 م، وبتجارب ” لنقولا فياض” وفي طليعتها (وصال الخيال) التي نشرت في مجلة (الحرية) العراقية عام 1924 م. )[7](

وقد خلص من دراسته لهذه التجارب وأمثالها إلى أنّ” نقولا فياض” كان من قال وكتب الشعر الحر عام 1924 م، ورأى أن يخصص للشعر الحر وخصائصه فصلًا يتناول مرحلته الأولى (ما قبل1947 م) ، وآخر لما أسماه بالمدرسة العراقية حيث ألم بأهم آراء “نازك الملائكة ” ومفهومها واستعمالها للشعر الحر إلمامًا شاملًا معتمدًا على كتابتها النقدية -لا سيما ما ورد منها في مقدمتها لديوان (شظايا ورماد) وكتابها (قضايا الشعر المعاصر). ([8])

وقد ميز بين قصائدها التي تتبع نظام الشعر المقطعي” Monostrophc ” ، والشعر الحر الذي لا يخضع لنمط ثابت من التفعيلات والقافية، مبينًا أنّ ديوانها (شظايا ورماد) و (قرارة الموجة) يحتويان على (25) قصيدة ذات نظام مقطعي موحد. )[9])

 وكانت الشاعرة نفسها قد أشارت من قبل إلى أنها استعملت نظام المقطوعة “Stanza” ، وأنّها أخضعت القافية أحيانًا لأكثر مما يفعل سواها، كما في (قصيدة الكوليرا) التي جرت على النسق التالي في جميع مقاطعها.

وبين الأديب -العراقي الأصل- ” سامي موريه ” أنّ تجربة الشاعر “بدر شاكر السياب” في قصيدة (هل كان حبًا؟) تختلف عن قصيدة (الكوليرا) بكونها غير خاضعة لنظام مطرد في الشعر الحر، وأنّ الشاعر” السياب” كان على حق حين أعتبر محاولته أقرب إلى الشعر الحر بهذا المفهوم من قصيدة (الكوليرا).

ويفهم من هذا التمييز بين (النظام المقطعي الموحد) و) الشعر الحر) – وقد دعا إليه كذلك الناقد الكبير الدكتور “علي جواد الطاهر” في مقال عن (قصيدة الكوليرا): ” ليست شعرًا حرًا إلاّ القصائد غير الخاضعة لنسق أو نظام موحد”، ولا شك في أنّ مفهوم ” نازك الملائكة ” للشعر الحر أوسع من ذلك إذ أنّها تريد به ما يخرج عن نظام الشطرين ويتخذ التفعيلة أساسًا له سواء التزم أم لم يلتزم بنسق موحد كما بينت في مقدمتها لديوانها ( شظايا و رماد) حين أشارت إلى نوعين من قصائدها الملتزمة وغير الملتزمة بنسق موحد، من التفعيلات أو القافية، لـ (قصيدة الكوليرا) و(قصيدة الغرباء) من النوع الأول و (مر القطار) و (نهاية السلم) من نوع الشعر الحر. )[10](

ولكن مع ذلك اعتبر أنّ” نازك الملائكة ” أول من وضع الأسس النظرية لتطوير هذا الشكل الجديد في مقدمتها لديوانها (شظايا ورماد) وكتابها (قضايا الشعر المعاصر) .

إنّ هذا الجدل الأكاديمي حول من كان أول شاعر استعمل الشعر الحر أو دعا إليه له مبرراته، بالنظر إلى أنّ الأدب العربي الحديث قد شهد منذ أواسط القرن التاسع عشر دعوات تجديدية كثيرة نتيجة للتفاعل مع الآداب الغربية، وما نتج عنه أو رافقه من حركة ترجمة أدبية واسعة، ومحاولات للأخذ ببعض الأنواع والأشكال أو الأساليب الغربية ، ومنها ( تجارب الشعر المرسل، والشعر المنثور، والشعر الحر)، وأغلب الظن أننا قد نكتشف أسماء أو أعمالًا أخرى تتصل بالدعوة إلى التجديد إن قمنا بمسح شامل لما نشر في الصحف والمجلات العربية من شعر ونقد منذ أواسط القرن التاسع عشر، غير أنّ ذلك كله لا يغير من تاريخ انتشار الشعر الحر كحركة بدأت في العراق، ولا ينال من دور” نازك الملائكة ” الريادي في تطوره ، بفضل منزلتها كشاعرة استوعبت التراث الشعري العربي ومارست أشكاله الموروثة ، وجددت وظلت تواصل التجديد في هيكل القصيدة العربية حتى وفاتها، وثانيًا كمنظرة ذات رؤية أصيلة وثقافة وتجربة ساعدتها على وضع الأسس النظرية الأولى للشعر الحر، وتتبع تطوره بتفصيل لم يشهده الأدب العربي الحديث من قبل. )[11](

يكاد الكتاب الذين درسوا ” نازك الملائكة “، يجمعون على أهمية دورها ناقدة لها مواقفها وآرائها في مجالات عديدة، وقد ترجم لها بعض النصوص النقدية إلى عدد من اللغات الغربية كمقالة (الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر) ، وقد ترجمها “عبد الملك نوري” إلى الفرنسية ملخصة. )[12](

 كما ترجمها إلى الأسبانية ” مارتينث مونتابث “. )[13]( ومقال (بداية الشعر الحر) وقد ترجمتها إلى الإنكليزية” إليزابيث فيرنيا ” و” باسمة البزركان “. )[14](

وكذلك بحثها (الأدب والغزو الفكري) ، وقد لخصه وترجم بعض فقراته ” نسيم رجوان” تحت عنوان (رفض تأثير أوربا الثقافي/ احتجاج شاعرة عراقية). )[15](

وفي مقدمة الموضوعات التي تناولها النقاد مفهوم ” نازك الملائكة ” إلى الوزن في (الشعر الحر) وإصرارها على الالتزام بوحدة التفعيلة، بدون الخروج على القواعد العروضية ، كما يتجلى ذلك في بحثها عن تفعيلات الشعر الحر.

فرأي المستشرق الفرنسي ” جاك بيرك ” أنّ مفهومًا كهذا يمثل تقييدًا للثورة التي اتسم بها (الشعر الحر)، وأنّ كتابها (قضايا الشعر المعاصر) كان متشددًا إزاء كل مرة يخرج على الضوابط التي اقترحتها. )[16](

وأشار” عبد الرحمن بدوي” كذلك إلى النزعة المحافظة في كتابها المذكور( إشارة عابرة )، وأغلب الظن أنّه كان يريد بها موقفها من الشعراء الذين يخالفونها في تجاربهم الشعرية. )[17](

وتطرقت الشاعرة الناقدة “سلمى الجيوسي ” إلى الموضوع ذاته بثبات الضرب، كما خالفتها في موقفها من قصيدة النثر واعتبارها الوزن وحده معيارًا للتمييز بين الشعر والنثر، كما يفهم من قول” نازك الملائكة ” : (إنّ القصيدة إمّا أن تكون قصيدة وهي  آنذاك موزونة وليست نثرًا وإمّا أن تكون نثرًا فهي ليست قصيدة). ([18])

وأشادت ” الجيوسي ” بحرص ” الملائكة ” على سلامة اللغة مؤكدة أنّها قدمت خدمة عظيمة إلى الشعر العربي الحديث، وإلى الحركة الأدبية وتطورها في الشعر، كما نوهت بمعالجاتها الجانب اللغوي في فصلين من كتابها عن أساليب التكرار في الشعر ومسؤولية الشاعر اللغوية. ([19])

ومن أعمالها النقدية التي كانت موضع بحث أو ثناء كتابها عن شعر ” علي محمود طه” ، فقد لخص ” عبدالرحمن بدوي” بعض آرائها حول ظاهرة الشهرة العريضة التي تمتع بها” علي محمود طه ” وما نال من حظوة لدى جمهور قرائه على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم ، وأشار إلى تحليلها المتمكن النفاذ لموسيقية شعر” طه ” في مواضع عدة من كتابها ، حيث تناولت العوامل التي أسهمت في خلق ظاهرة الموسيقى في شعره ، كالأساليب اللفظية والتناغم الصوتي، غير أنّه عندما تعرض إلى مسألة الجانب الحسي في شعر ” طه” أعطى ” الملائكة ” على ما أسماه بالبعد البلاغي بمثل قولها : ” نعتقد أنّ الحسية وطلب اللذة عارضان في حياة “علي محمود طه”؛ لأن أصل نفسيته روحاني” ، وقولها: ” إنّ أعنف قصائد الشاعر الحسية لا تكاد تخلو من خلفية روحية وفكرية” ، وأحال القارئ على عدد من القصائد مثل (حانة الشعراء) (وحديث قبلة) و (خمرة الشعراء) من ديوان (زهر وخمر) وقصيدة (سؤال وجواب) و (جزيرة العشاق) و (لغرام الذبيح) من(المعشوق العائد) و (فلسفة وخيال ) و (أندلسية) من (شرق وغرب)؛ ليؤكد بذلك كله النزعة الحسية السائدة في شعر “علي محمود طه” قائلًا : ” ليس هناك من شك في أنّ وجهة نظر” طه ” الرئيسية بدءًا من ديوانه الثاني حتى ديوانه الأخير ظلت بأطراد تقريبًا حسية).([20])

ومن الجدير بالذكر أنّ ” الملائكة ” نفسها نصت على ذلك في كتابها حين قالت: ” إن المنهج العلمي في الدراسة يقتضي أن نقرر أنّ دواوين” علي محمود طه ” لها مسحة حسية ظاهرة خلا منها الديوان الأول (الملاح التائه) فلقد زخر هذا الديوان باللفتات الروحية، والمثل العليا.. الجمال المجرد وطهارة الحس والنفس، بينما أقبل الشاعر في دواوينه التالية إقبالًا ملحوظًا على وصف المشاهد الحسية وابتعد إلى درجة معينة – عن عوامله الأفلاطونية الجمالية الأولى”. ([21])

واستشهد ببعض القصائد التي أشار إليها” بدوي “، وغيرها -لا سيما في الباب السادس في كتابها قضايا الشعر المعاصر، حيث تتبعت هبوطه (من مرتبة العاشق الأصيل إلى مرتبة المتفرج اللاهي الذي يبحث عن التسلية العبرة ومتعة النظر والنشوة الحسية). وانتقاله من صومعة المثل العليا إلى الشرفة الحمراء، أو من الدين إلى الوثنية.

ولكنها- بالرغم من ذلك- لم تشأ أن تجاري من ينفي شعر” طه ” روحانيته نفيًا تامًا كما فعل ” محمد مندور”، وأرادت أن تجد تعليلًا يبرر الشذوذ الظاهر للقصائد الحسية المنزعة، وإن كانت لم تفصح بوضوح عن ذلك بسبب الحاجة – كما تقول إلى: “معرفة التفاصيل الوافية عن حياة الشاعر ونفسيته وآرائه”.

أمّا بحثها ( الأدب والغزو الفكري) الذي ألفته في المؤتمر الخامس للأدباء العرب المنعقد في بغداد عام 1965 م- فقد كان موضع تعليق في مصدرين: ” رجوان توفيق ” و” سامي موريه ” ، بالإضافة إلى ما ورد عنه في بعض المصادر العربية ، لقد قام “رجوان ” بتلخيص البحث وترجمة فقرات منه تشمل أبرز النقاط التي أثارتها ” نازك الملائكة ” كالمقارنة بين (الغزو العسكري والغزو الفكري)، وملاحظاتها حول سلبية مواقف العرب التي تتجسد في( ترك ما هو جوهري في حضارتنا وما نتفوق به على الغرب ؛ لنأخذ مكانه بضاعة رخيصة تضر بنا، وفقدان المدلول الأخلاقي للأدب العربي وانتشار روح التشاؤم فيه وابتعاد الجيل الجديد عن القرآن الكريم وما فيه من أجواء روحية، والترجمة كوسيلة لإضعاف اللغة العربية). ([22])

وأنهى تعليقه الذي كان أقرب إلى الأسلوب الصحفي منه إلى التحليل الأكاديمي بترجمة ما قالته” نازك الملائكة ” حول لجوء بعضهم إلى مأساة فلسطين كتبرير لموقف اليأس والعدمية والإحساس بالفراغ: “إنّ المأساة التي وقعت عام 1948 م، قد ألهبت الوطن العربي كله بنار الكفاح والعروبة فقامت الثورات العظيمة في القاهرة والجزائر وبيروت وبغداد واليمن”. ([23])

ومهما تكن الأسباب التي دفعت” رجوان” إلى اختياره هذا البحث موضوعًا للتعليق ونشره في مجلة سياسية مناوئة للعرب، فإنّه أراد أن يبين جانبًا من رد الفعل العربي إزاء تسرب الغرب بطرائق حياته وأيديولوجياته على حساب تقاليد العرب الأصيلة وهويتهم الحضارية، وأن يدل على أن بين الداعين إلى مواجهة التحدي الغربي، مفكرون تأثروا بالغرب وكانوا نتاج ما أسماه ب (عصر التغريب) متخذًا من بحث ” نازك الملائكة ” نموذجًا (دعاة التصدي للغزو الفكري). ([24])

وإذا انتقلنا إلى الباحث ” سامي موريه ” فإننا نلاحظ تأكيده على الجانب الأدبي من آراء” الملائكة” ، أي تقليد العرب للآداب الغربية، وقد أشار إلى أنها رددت رأيها مرة أخرى في رسالتها إلى ” سهيل إدريس”، وقد جاء فيها مآخذ أخذتها على ( مجلة الآداب) منها أنّها “تنشر الأدب المتحلل الذي يصدر عن نظرة غير أخلاقية إلى الحياة والوجود وذلك يطعن الأمة العربية في صميم كيانها لأن الأدب المرذول يفسد الشباب البريء ويلوث روحيته ويشل عزيمته وأنّها دأبت على نشر نتاج لليافعين يغرق في تقليد الفكر الغربي المعاصر بما فيه من تشاؤم وإلحاد وتحلل وقلق …” . واستشهد ” سامي موريه ” كذلك ببعض ملاحظاتها المماثلة حول قصة ” زكريا تامر” (قرنفلة للأسفلت المتعب) وما شاع فيها من تصوير مشوه للمدينة العربية مترجمًا الفقرات التالية: ” نجد صورة المدينة العجوز المريضة في شعر بعض شبابنا وقصصهم ؛ لأن هؤلاء يستقون من آداب أوربا العجوز حيث المدن قد شاخت وأصبحت بؤرًا للجريمة والمرض والظلام والغثيان، وحيث الأدب المعاصر نفسه لا يعكس غير ذلك الجو القاتم الموبوء … نحن العرب الأغنياء بالحياة والروح والأصالة والأخلاق نترك مواهبنا … وينابيعنا ونتطلع مستجدين إلى أدباء أوربا التي تتفسخ حضارتها وتحتضر وتقترب من نهايتها المحتومة، نحن الذين تقبل الدنيا علينا اليوم وتتطلع إلينا لنعيد بناء العالم، نحن أنفسنا نزدري كنوزنا الفكرية والحضارية ونقف أذلاء على موائد الغرب المنحطة التي تشيع الجريمة والذعر واليأس والغثيان في نفوس القراء … إنّ الشباب يندفع اليوم في حرارة ونشوة؛ لينفق طاقاته الفكرية والجسمية في بناء أمة تعمل من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي”. ([25])

 إنّ ” سامي موريه ” يعالج آراء” نازك الملائكة ” هذه ؛ ليخرج بصورة عامة عن التيار القومي في الأدب العربي كما تمثله ” نازك الملائكة” و” نزار قباني”.

ليس من شك في أنّ الآداب الغربية تكون مصدرًا مهمًا من مصادر ثقافة ” نازك الملائكة” وفي أنّها قد تركت آثارها في بعض أعمالها، كما يدل على ذلك ما يرد في شعرها وكتاباتها من صور أو رموز مستعارة وإشارات إلى الشاعر الإنكليزي”  كيتس ” وغيره من شعراء الغرب، أو ما ترجمته من قصائد للشعراء” بايرون” أو” توماس” أو”بروك ” وغيرهم. غير أنّنا لا نجد بين ما نشر عنها في الغرب سوى الإشارة العابرة إلى بعض هذه الآثار كقول” سامي موريه “: ” بأنّها تأثرت بالشكل المقطعي الموحد الذي استعمله الشاعر” كيتس ” مرددًا بذلك رأيًا مماثلًا للأديب ” جبرا إبراهيم جبرا”  نشره في مجلة شعر، بما ورد في شعرها من التلميحات إلى الأساطير اليونانية أو استعمالها ( هياواثا ) من قصيدة الشاعر الأمريكي” لونكفيلو”، وقد أشار إليها من قبل ” صفاء خلوصي ” بتأثرها بالشعر الرومانسي الإنكليزي، وشعر جماعة (أبولو)، وقد خص بالذكر استعمالها لصورة ( القمرية ) على غرار ما جاء عند الشاعر” كيتس” ، أو إشارة مونتي إلى العلاقة بين ( خمس أغاني للألم ) وبعض الملامح في شعر” غبرييلا مسترال ” ( 1889 م-1957 م)، وتلميح ” خوان برنيت” إلى ذلك (سليم عطية السيد ، مصدر سابق، ص44) .

إنّ هذه الأمثلة لا تعطينا إلاّ انطباعات أولية أو جزئية عن المؤثرات الغربية في شعر “نازك الملائكة “، أي أنّنا ما نزال نفتقر إلى درس منهجي يوضح بالتفصيل وبالأدلة طبيعة هذه المؤثرات ومداها سواء كانت تتعلق باستعمالاتها اللغوية أو الصور والموضوعات أو غيرها مما يعكس شعرها وجهودها النقدية.

ومما يتصل بموضوع تأثرها بالأدب الغربي ترجمتها لبعض القصائد الغربية كقصيدة الشاعر” توماس غراي ” المنشورة في ديوانها الأول بعنوان (مرثية في مقبرة ريفية)، وقد اعتبرها” صفاء خلوصي” أنضج ترجمة من بين عشرة ترجمات (وقف عليها بالعربية) للقصيدة المذكورة، ووصفها بأنّها عمل إبداعي يعيد خلق القصيدة الأصلية في قالب عربي جديد ويضفي على الأصل طابعًا رومانسيًا باستعمال بعض الإضافات أو التعديلات التي أحدثتها شاعرتنا كصفات الحزن التي أضافتها أمثال (المحزون) و (المكدود) و (الكئيب) و (الحزينات). (إبراهيم محمد الخيال، مصدر سابق)

وذهب ” صفاء خلوصي” إلى أنّ هذه الصفات المضافة تؤدي وظيفة تأكيد الكآبة التي يحتويها النص الأصلي، ملمحًا إلى أنّ مفردات الحزن والكآبة تكون عنصرًا يتردد في معجمها أو أسلوبها الشعري في (عاشقة الليل)، وقد أحصى منها ما لا يقل عن (190) مفردة منها (20) كلمة في ترجمتها ” لمرثية غراي”. (شوقي أحمد السعدي، مصدر سابق، ص5)

وبالإضافة إلى هذه الملاحظات أشار” صفاء خلوصي” إلى خروجها التام غير المبرر -حسب رأيه- عن الأصل في بعض المواضع، ولكنه لم يتناول هذه الناحية بصورة مفصلة كما فعل “عزت خطاب” في دراسته لأوجه الشبه والاختلاف بين ترجمة ” نازك الملائكة ” والنص الأصلي. (محمد أسعد العزاوي، مصدر سابق، ص78).

ليس من اليسير حصر ما ترجم من قصائد” الملائكة ” إلى اللغات الغربية بالنظر إلى عدم توافر الأدلة الببليوغرافية الشاملة عما ترجم من الأدب العربي الحديث، وحسبي أن أذكر أنّ” ببليوغرافية أندرسون ” التي هدفت إلى الأمام بما ترجم إلى الإنكليزية من الأدب العربي حتى عام 1977 م، لم تدرج ” للملائكة ” إلاّ قصيدة واحدة (الزائر الذي لم يجيء) غير أن ما وقفت عليه من قصائدها المترجمة إلى الإنكليزية والفرنسية والأسبانية والألمانية لا يمثل إلا جزءًا محدودًا من شعرها، وفي مقدمتها القصائد التالية:

الكوليرا، نهاية السلم، الأفعوان، أنا، (ديوان شظايا ورماد)، مرثية امرأة لا قيمة لها، الزائر الذي لم يجيء، غسلًا للعار، (ديوان قرارة الموجة) خمس أغاني للألم، نحن وجميلة، ثلج ونار، (ترجمة غير كاملة ظهرت بعنوان صمتي)، تحية للجمهورية العراقية (ديوان شجرة القمر). (تحسين سعد اللامي، مصدر سابق، ص11).

وقد ترجمت بالإضافة إلى ذلك مقتطفات من بعض قصائدها مثل:

بين فكي الموت، التماثيل، سياط وأصداء، أشواق وأحزان، (ديوان عاشقة الليل) ترجمة الدكتور ” صفاء خلوصي” ، الأرض المحجبة، (ديوان قرارة الموجة) ترجمة” جمال أحمد”، قصيدة الظلال، (من ديوان شظايا ورماد) ترجمة “أحمد عيد”. (د. سهيل علي الداودي، مصدر سابق، ص21).

 إنّ القصائد والمقتطفات المذكورة تعكس على الأغلب سمات الحزن والحيرة في شعرها، ولا تمثل قصائدها السياسية المتفائلة الطابع، أو شعرها الصوفي النزعة- لاسيما ما ورد منها في مجموعتيها الأخيرتين (للصلاة والثورة) (ويغير ألوانه البحر).

ولهذا ليس من الغريب أن تتكرر الإشارات إلى شعرها المغرق في الذاتية والحزن والرومانسية أن وردت هنا وهناك تلميحات إلى قصائدها الوطنية، أو ما جاء في مقال جواد الطعمة من تنويه بالنغمة المتفائلة وروح التحدي في قصائدها السياسية كما تعكس مجموعتها( للصلاة والثورة). (د. عبد العزيز وصفي الهيتي، مصدر سابق، ص45)

إنّ هذا العرض السريع لما لقيته ” نازك الملائكة ” من اهتمام في الأوساط الأدبية العربية والعالمية، إنّما يعزز دورها الريادي في تأريخ الأدب العربي بشكلٍ عام، والشعر العربي بشكلٍ خاص.

فقد أعطت من خلال ابتكارها لقصيدة التفعيلة، وتعدد العروض الشعرية، وتنوع اللحن الموسيقي والإيقاعي في داخل جسد القصيدة العربية، كذلك انتقالها الفني والعلمي المتوازن من القصيدة الكلاسيكية إلى تجديدها بقصيدة التفعيلة، أكد دورها الفاعل في إحياء الثقافة العربية والأدب العربي، من خلال العديد من الدراسات التي سعت جاهدة ً في تقديم الكثير من البحوث، حول أهمية الرؤيا والتجديد في الفكر العربي، وتنشيط الثقافة العربية، والسعي على دراسة التراث العربي، دراسة يستنبط منها الكم الهائل من الأفكار، ونحو عالم يواكب التجدد والحضارة المعاصرة دون الابتعاد عن جوهر التراث العربي، وبالتفاعل مع التراث الإنساني بنفس الوقت .


(*) مدير إدارة بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية

([1])  شوقي علي إبراهيم، مجلة زهرة الأدب، العدد 202، يوليو 2002، ص22.

([2])  تحسين سعد اللامي، الأدب بين الحاضر والمستقبل، مجلة الشباب والمستقبل، العدد (251)، 2011.

([3])  شوقي أحمد السعدي، ماذا ما بعد الحداثة؟، ط1، دار الحصري للنشر والتوزيع، بغداد، 2001.

([4])  إبراهيم حكمت الكركوكلي، ملامح من الشعر العراقي، ط1، مكتبة الهلال، بغداد.

([5])  محمد أسعد العزاوي، رؤيا في الأدب بعد القرن العشرين، ط1، شركة الوراقين العرب للطباعة والنشر والتوزيع، بغداد.

([6]) وليد خليل محمد، (الحداثة والصورة الشعرية) للشاعر/ خالد علي مصطفى، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية التربية، جامعة بغداد،  1985 م.

([7])  توفيق علي الربيعي، الحروب الأدبية، ط1، دار النجمة الذهبية، بغداد، 2000 م.

([8])  جعفر علي المسعودي، نحو فلسفة ما بعد الحداثة، ط1، بغداد، مطبعة المعري، 2003 م.

([9])  د. سهيل علي الداودي، ملامح من القصيدة العربية، ط1، دار الصفوة للطباعة والنشر، بغداد، 1999 م.

([10])  محمد عطا الله إبراهيم، الفن البنائي في تطور القصيدة العربية، أطروحة دكتوراه، غير منشورة، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2006 م.

([11])  د. عبد العزيز وصفي الهيتي، العرب ما بعد الحداثة، ط1، مكتبة المتنبي للطباعة والنشر، بغداد،  1981 م.

([12]) د. حسنين عباس مراد، سيكولوجيا الفن والأدب، ط1، مكتبة الرواد للنشر والتوزيع، بيروت، 1996 م.

([13])  إبراهيم محمد الخيال، الأدب والمجتمع والقانون، ط2، مطبعة العالم العربي، بيروت، 2005 م.

([14])  سعدي طعمة الأسدي، القصيدة العربية وآفاقها، ط1، دار الفرات للطباعة والنشر، بغداد، 2011 م.

([15])  سالم الحلو، الأدب العربي القديم، مؤسسة عشتار للنشر والتوزيع، بغداد، 2001 م.

([16])  سعاد محمد إبراهيم الجندي، البلاغة في الشعر الأندلسي، دار القلم العربي، بيروت، 2010 م.

([17])  أحمد وفيق أحمد، نحو رؤية جديدة، مكتبة العرب، بغداد، 2010 م.

([18])  سيف علي المزاني، رسالة ماجستير، غير منشورة، الأسلوبية في شعر أبي العلاء المعري، كلية التربية. بغداد. 1999 م.

([19])  النقد والنظرية النقدية، جيرمي هوثرون، ترجمة /عبد الرحمن محمد رضا، مراجعة

د. عناد غزوان، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 1990 م.

([20])  عواد إبراهيم عواد الدايني، الصورة السردية في شعر محمد الماغوط، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة بغداد، 2017 م.

([21]) نادية إبراهيم علي، اللغة الصوفية في شعر العصر العباسي الأول، رسالة ماجستير، كلية التربية، 2004 م، بغداد.

([22])  د. علي جاسم المطيري، الصورة البلاغية في شعر بدر شاكر السياب، كلية الآداب، جامعة الكويت، 1985م.

([23])  صفوت محمد صفوت، البناء الحكائي في قصيدة النثر، الدار العربية الحديثة، عمان، 2017 م.

([24])  طارق إبراهيم الأهواني، النقد العربي إلى أين؟ دار الحضارة، القاهرة ،2006 م.

([25])  سليم عطية السيد، صورة الناقد العربي والغربي، دراسة مقارنة، مكتبة العربي، عمان، 2013 م.

اظهر المزيد

د. عصام البرام

وزير مفوض- الامانة العامة لجامعة الدول العربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى