يُشكَّل الشاعر صلاح عبد الصبور، كأحد أبرز الشعراء المجددين في القصيدة العربية، والذي يُعتبر أحد أبرز الشعراء في جيل الستينات بمصر.
ولد صلاح عبد الصبور في عام 1931 وتوفى في مطلع العِقد الخمسيني عام 1981، وعندما نتطلع إلى إبداعه بعد أكثر من أربعة عقود من رحيله، نجد أن قامته الشعرية لا تزال عالية وتملأ الفضاء الأدبي في مصر. ( ).
فصلاح عبد الصبور لايزال أكبر شاعر مصري بعد أحمد شوقي، خصوصًا في القصيدة الحديثة، يقول عنه الوزير والناقد الكبير الدكتور جابر عصفور ” لقد جاء صلاح عبد الصبور إلى القاهرة من مدينته الزقازيق محافظة الشرقية، بعد أن أنهى دراسته الثانوية، وواجه الحياة الثقافية بالقاهرة شابًا يافعًا في السادسة عشر من عمره قاصدًا دراسة الأدب العربي في القسم الذي كنت أدرس فيه والذي كان من أعلامه( طه حسين، ومحمد كامل حسين، وشوقي ضيف، وسهير القلماوي…) وفي الكلية التي شهدت الأصداء الإبداعية لأمثال “لويس عوض” الذي أصدر ديوانه “العلامة”، والكلام هنا للدكتور جابر عصفور في كتاب ” بلوتو لاند” في السنة نفسها التي التحق بها الفتى صلاح عبد الصبور بقسم طه حسين، وكان من الطبيعي أن يختار الفتى” صلاح” قسم اللغة العربية فقد كتب الشعر منذ أن وعى كلمة ثقافة. ( )
وقد حمل معه فكرة النزوح نحو بناء قصيدة عربية يتفجر منها عبق الصورة الشعرية المتجددة في حركة التجديد، التي أتَّقدت وتوهجت في مرحلة الستينات من القرن الماضي، وهو مؤسس الجمعية الأدبية المصرية التي أنشأها منذ عام 1962، وغنى له العديد من المطربين والمنشدين المصرين والعرب، والكثير من الابتهالات والقصائد الدينية.
لقد عمل صلاح عبد الصبور ضربًا، جعل القصيدة الحديثة أن تطرق أبواب مميزة لها في سبيل النهوض والتوكيد من حداثتها، وجعلها قصيدة ذات أبعاد حسية، وقد كانت الفنون المجاورة خير وسيلة لطرق أبوابها، مثل القصة القصيرة وما فيها من تقنيات القص والسرد والحكاية والحوار والاستغراق في تصوير الجزئيات، وقد كانت الحكاية والسرد والحواريات من أكثر التقنيات حضورًا في القصيدة المعاصرة، وحتى هناك من سمَّى قصيدته بالقصيدة السردية، وليس جديدًا الدخول إلى الأساليب القصصية والتعامل معها في فن النظم، ولو رجعنا بالذاكرة قليلًا لقرأنا أشعاره ومسرحياته حيث يعتمد الحكاية والقصة في قصائده التي اعتمدها بالسبعينات من القرن الماضي. ( )
إن صلاح عبد الصبور يمتلك من الصورة الحسية أساسها الخيال الأدبي وحركة ضمن مخيلة شعرية تحمل الهمّ الإنساني والنزوع نحو الثورة والتجديد، وقد أشار الفيلسوف الألماني “فردريك هيجل” بأن الفن والجمال للحضارة الإغريقية هو الأكثر عمقًا في الحياة إن كان شعرًا أو مسرحًا، وأن العصور القادمة ستؤول إلى نهاية مؤسفة، وهو يعني هنا أن التجديد سيواكب الحداثة بفلسفة مغايرة لفلسفته، إما ستحمل عمقًا دلاليًّا يختلف كل الاختلاف عن عصره وما سبقه، أو ستغرق في الضبابية والعتمة بحكم التطور في البنية الحياتية الجديدة أو الانقلاب على الواقع الاجتماعي أو نشوب الحروب أو التفكك الأسري أو زيادة الأمراض النفسية…إلخ.
لذا فإن البعد الزماني في شعرية صلاح عبد الصبور_ هي رد فعل وبنفس الوقت محاكاة لمرحلة الستينات من القرن الماضي، لما آلت إليه التطورات الحياتية، خصوصًا انعكاسات نهاية الحرب العالمية الثانية التي أحدثت ما أحدثت من انقلاب في تطور القصيدة العربية الحديثة أو ما تسمى بقصيدة التفعيلة، وكان من روادها في العراق (بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي…) وآخرين. ( ) .
ورغم التطور الذي صاحب قصيدة صلاح عبد الصبور الذي بدأها في التأثر بالقصيدة الرومانسية من أمثال “بودلير” والشعراء( علي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، وابراهيم ناجي)، تلك الأصوات التي تعتبر موازية للأصوات المهجرية، أمثال (جبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة، وإيليا أبو ماضي …)، فضلًا عن شعراء مدرسة أبوللو: أبو القاسم الشابي (1909- 1934)، وأحمد زكي أبو شادي ( 1892- 1955) ، إلا أنه استطاع أن يُحمِّل قصيدته لونًا مستقلًا بذاتها، وخطابًا جماليًّا ودلاليًّا أكثر اتساعًا رغم كل تأثره بالشعراء السابقين.
لقد امتلك صلاح عبد الصبور امتداد الجمالية في الجملة الشعرية لتشمل المضمون والتعبير التي تغطيها بقوة، والعنصر الجمالي من العناصر المهمة وتواجده في الجملة الشعرية، ولا نستطيع أن نحكم على القصيدة إذا كانت خالية من الجمالية ،( ) فالامتداد هو تكملة المعايير التي تدور في الذات الشاعرة لدى الشاعر، وتمتد إلى ما هو حسي بدون انقطاع مما تعطي التفرد الحسي الملموس للصورة الشعرية، وهنا نلاحظ تلاؤم التعبيرية بالحسية الخارجية الفردية خارج الجماعة باعتبار القصيدة الحديثة قصيدة ذاتية بدرجات قصوى من التأليف والغوص بين بنية اللغة، والتي تشغل الذات الجمالية المتراكمة نتيجة الفعل والفاعل، مما لا نتجنب الأفعال المتراكمة الممتدة نحو التعبيرية والتي تشغل مساحة لا بأس بها في القصيدة الحديثة، فالاشتغالات نحو الامتداد الجمالي اشتغالات داخلية نحو الخارج، فالشاعر لا يتكئ على ما هو خارج الذهنية بقدر ما يتكئ على ما هو داخل الذهنية، وهنا يتطلب السعي والخبرة من خلال تجربة عميقة تخص الشعرية والانتماء إليه.( ).
إن العقلية الشعرية تختلف كل الاختلاف عن العقلية العادية أو الفكرية -إن صح التعبير- فالشاعر متى احتوى هذه العقلية سيكون مسلكه الوحيد كيفما عبر أو كتب، وحتى إذا كتب القصة أو رواية ستنتمي إلى لغة شعرية خالصة؛ لأن عقليته أصبحت شعرية وليس من السهولة الخلاص منها، فالمسلك الشعري ينضح من خلال تعدد التجارب الكتابية ونجاحها، وبما أن تاج القصيدة عنوانها ورأسها الهرمي الأول، فهذا التاج يحتاج إلى جسد.
فالقصيدة الحديثة لا تفصل جسد القصيدة إطلاقًا، وإنما تبقى الديمومة من أول كلمة يرسمها الشاعر إلى آخر نقطة يضعها. إن المطَّلِع على إبداعات الشاعر صلاح عبد الصبور يجدها تحوي كل العصور من حيث الثبات على المبدأ وأسبقية الموروث الواضح والشفاف مما تجلى من كم الثقافة الإنسانية والوجدانية خاصة بقلبه وروحه وخطه.( )
فقد تميز الشاعر بالنظرة الثاقبة للحياة الكونية في سمو الروح البشرية، وأعني بذلك غنى شاعرنا الثقافي، وبثقة يعترف بموجبات الآلام بكل أنواعها كوحدة ملازمة لوجود الشاعر في كيان البشرية، وعليه فإنه يُصنِّف من يشعر ويكتب ما يعتريه من ألم_ بأنه اكتمال لوجوده كما فعل في عدة مقطوعات أثبتت لنا أحقية قرار الوجدان والحكم بتفصيل مسند في قصيدته.
فصلاح عبد الصبور عندما كتب مسرحيته “مأساة الحلاج” متأثرًا بقصة الحلاج الصوفي وتفاصيلها المعروفة للكثير من القراء، كان قد أبدع بقصائده ومسرحيته هذه، فحاول تجاوز المألوف من صوفية العقلانية إلى استحصال المعرفية المجسدة بالانقطاع دون الناس والتبتل حتى يصله الأمر المراد، لقد أراد أن يقول لنا أن العالم المادي قد يتناقض معنا وقد لا يتناقض لدى البعض، وإن تجلى الإنسان مع ذاته والسمو الروحي ربما لا يتقبله الكثير أو لا يجده الآخرون -إن صح التعبير_ وسيلة للفهم والغوص في عمق الشخصية البشرية( ).
فصلاح عبد الصبور لا ينقل الفكرة الصوفية عند الحلاج بطابعها كما يراها الحلاج نفسه، إنما يُؤقلم الحياة المادية المعاصرة التي يعيشها عبد الصبور في عالمنا الحديث والمعاصر ليعطيها بعدًا دراماتيكيًا عالي الدقة والرؤية وبنفَس شاعري وحسي ووجداني يطفح إنسانيًّا؛ ليعالج به وجع الإنسان المعاصر وصراعه المادي المعذب بالحياة. ( ).
وهنا يقودنا مرة أخرى إلى ما أثاره الفيلسوف الألماني “هيجل” حول القيمة الجمالية التي يثيرها الشاعر في نصوصه الشعرية، فالشاعر دومًا يسعى إلى أن يصل إلى ذروة قمة الهرم حتى يكتشف أعمق نقطة للإثارة في الصورة الشعرية لنصه، مجسدًا ما تلوج به قريحته وعذاباته الصوفية تارة، أو المادية تارة أخرى، وهذه الأخيرة نجدها لدى البعض من الشعراء، فالحياة أكثر تعقيدًا وفلسفةً وجدلًا مما نتصور، ولكي يرتقي الشاعر سلمه نحو تحقيق الغاية المرجوَّة بنصه الشعري، إذن لابد أن يعي الذات الإنسانية التي هو يشكل الجزء الأكبر منها والحامل همها الإنساني.( )
وبذلك فإن صلاح عبد الصبور يشكل انعطافة مهمة في محتوى النص البنائي للقصيدة العربية الحديثة، وهو يحاول جاهدا السعي نحو التجديد بما يواكب حركة الشعر الحديث الذي صاحابها منذ الخمسينات من القرن الماضي؛ ليشكل انتماءً مع جيله من الرواد في العراق أمثال( نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، …) وغيرهم من واكب المسيرة الجديدة في القصيدة الحديثة خلال تلك المرحلة. ( )
تقنية الفلاش باك في قصيدة صلاح عبد الصبور
عادةً الفلاش باك عرَّفوه بأنه “استرجاع أدبي لأحداث مضت وبقيت معلقة بالذاكرة، تسترجعها المخيلة في حالة التذكر والتفكير رجوعًا، وهي حالة تخص المرجعية الأدبية عامةً، والشعرية خاصةً، حيث يقف الشاعر من خلال التخيل والرجوع إلى الماضي عادة بنقل الأحداث الشعرية، ويلازم التخيل الخيال الذي عادة يكمن خارج الظاهرية، فالمسكوت عنه وكذلك المحفوظ بالذاكرة لسنين عديدة وما تعلق بها، كلها تعني إلينا الفلاش باك والعودة إلى تلك النوايا الشعرية الماضية، ولسبب ما قد تكون من الأسباب التي لم يدونها الشاعر في سجلاته وقصائده عمومًا. ( ).
إن تصادم الأفكار التي تعد أحد أبنية القصيدة الحديثة يحيل على الفكرة الأقوى أن تحل محل الفكرة الضعيفة، وبالأخير تكون هي التي قد غطت الحدث الشعري، وتجاوزت الفكرة الضعيفة التي تبقى معلقة بالذاكرة وقابلة إلى التطور والرجوع إليها، وكذلك الحال تصادم الصور الشعرية المحمولة على لغة استثنائية، فلا يمكن للذاكرة أن تتخلى عنها حتى بعد مرور عشرات السنين، وتصاب اللوحة الشعرية عادة بالتعتيق في الذاكرة، مما يزداد توازنها وحضورها التعبيري عند الظهور.
ولا غريب في الأمر أن الحركة الموسيقية في نصوص صلاح عبد الصبور وكذلك لا نستبعد أيضًا مسرحياته فإنها هي الأخرى مكتنزة في صوره الشعرية وتعبر عن ذاتها طافحةً بالترنيمات، وكأنها تفاعلات كيميائية تشع من بين جمله، فالعلاقة بين الشعر والموسيقى علاقة أزلية، لا انفصام بينهما، وهما كأنهما ابن وأم، فكل منهما ابن وأم للآخر في نفس الوقت. ( )
فالشعر روح الموسيقى، والموسيقى روح الشعر، خصوصًا إذا تجرد كل منهما من الحدث، ورجع إلى أصله.
الموسيقى بطبيعة الحال أصوات مجردة، أما الشعر فقد يتلبس الواقع، ويعبر عن أحداث ووقائع، فإذا ما تجرد من الأحداث والوقائع فإنه يعود إلى مجال الأصوات التي تصبح هي والموسيقى شيئًا واحدًا. ( )
الفلاش باك وحركة الخيال عند صلاح عبد الصبور
إن قوة التخيل تجعل الذاكرة تعطي ما رسمته بأعوام مضت، و هذه القوة هي الفيصل بين شاعر وآخر في عملية الإبداع الشعري، وبما أن المخيلة قد مرت بمراحل عديدة، فإخراج ما رسمته وطبعته في غرفتها ليس بالأمر الهين، وخصوصًا إذا نحي الشاعر بأساليب جديدة وتقنيات لها رصانتها في عملية فن النظم، ولكن من رصانة خياله ومدى حِراكه ما بين المراحل_ ينعكس علينا ما طبعته الذاكرة من خلال مرجعيته الحديثة، أي الفلاش باك.( )
هنا استطاع صلاح عبد الصبور أن يعطي لنا الدلالات الحسية القادمة من عمق المخيلة والمنعكسة في وجدانه عبر تصورات لواقع هو جراء تراكم معرفي ووعي، يُضاف له جمال الصورة الشعرية ومن تجاربه الشعرية، فالشعر هو الجمال الذي يوقف القبح، ويقلل الخسائر ويعيد التوازن للذات، وأفضل طريقة لإرساء بناءات افتراضية أو عوالم جمالية للتعويض عن تلك المفقودات من الذات، هو الاعتكاف على المشروع الشعري والإخلاص له، وعدم التطلع للتعويض ، أي كأنه اعتكافًا له وإخلاصًا لمشروعه الشعري الذي بدأه منذ الوهلة الأولى من حياته الأدبية، وذلك بتراكم حركة الفلاش باك للذاكرة الشعرية في حياته، فهو يسعى ليعيد التوازن لجميع الخسارات والتضحيات أمام الشعر؛ لأن الشعر بحد ذاته هو الوطن وهو العالم النقي تمامًا، الذي يراه أو الذي يسعى إليه صلاح عبد الصبور.
التقنية الجديدة في وحدة القصيدة عند صلاح عبد الصبور
يعيد الشاعر صلاح عبد الصبور ضمن محسوساته الداخلية تقنية جديدة للقصيدة الشعرية بعد تطورات مضت عليه، وهو ينافس ذاته ما بين القديم والحديث، فالشاعر عندما كان يكتب قبل وفاته بأكثر من عشرين عامًا ليس نفسه الذي يكتب في أواخر أيامه، فيعيد ضمن الذهنية عملية الفلاش باك، ويحاول أن يعيد مجد الذاكرة من جديد. إن الإحداثيات “الطوبلوجية” لعنصر ثقافي ما -السياق التأريخي الذي أُنتج فيه هذا العنصر، الزمن الاجتماعي والثقافي، والسياق الذاتي والسياق الاجتماعي- تفرض مكونات تقاطع مع منظومة الكتلة لحظة إنتاج وصياغة هذا العنصر. ( ). فالنظرة الأولى نحو المفردة الشعرية الجديدة، هي نظرة خلق من جديد، وقد أكد الشاعر أدونيس حول ذلك عندما أخذ يبلور مفهومًا حول لغة الشعر، يمكن عدُّه مفهومًا عامًا لكل من يدخل فن النظم، وذلك في مقالته محاولة في تعريف الشعر الحديث؛ ليؤكد هذه الحقيقة، فالشعر يتجرد هنا تمامًا من الأفعال والهيئات الزائفة، ويعود إلى عش الموسيقى المجرد؛ ليصبح أصواتًا وأنغامًا سحرية تعيش في عالم مثالي منفصل عن العلاقات اليومية التي تدور بين البشر، متعاليًا عليها ليعبر عن العلاقات الطبيعية الأزلية التي تصنع بكارة الحياة، سواءً بين البشر أو بين كائنات الطبيعة الحرة الطليقة من كل قيد لتعزف سمفونية البكارة، وألحان البهاء السحرية ، كما لاحظ ذلك “أبو نصر الفارابي” في كتابه( الموسيقي الكبير) حينما قال:” الصناعة الشعرية هي أصل الهيئة الموسيقية، وهي التي تدفع إلى التأمل، وهذا التأمل هو الذي يستطيع أن يفك شفرة القول الشعري ويحل ألغاز التكثيف وثراء المتخيل، وطرق التركيب اللغوي، وكثافة الرموز، كل ذلك حتى يستطيع أن يرى العلامة الفارقة للنص الشعري، مثلما تكون الموسيقى موشحة له”.( ) وفي مرحلة ما من مراحل تطور الحياة البشرية ، كان الشعر والموسيقى شيئًا واحدًا ، وكان هذا الشيء الواحد هو الذي يعبر عن علاقة الإنسان بالكون، أو إحساسه به ، أو استشعاره الموسيقى له . إن هذا الشعر يعيد الموسيقى لتأتلف مع الكلمات لترجع إلى بدء نشأتها الأولى، فهذه الهمهمات التي كان ينطق بها الإنسان البدائي هي أصل الشعر وأصل الموسيقى معًا، ونحن نستعمل اللغة في التفكير حتى وإنْ لم نتلفظ بها، وإنما هي تجري في عقولنا كما تجري الموسيقى في مشاعرنا، والمشكلة التي نواجهها في الاتصال السحري مع الشعر ، هي انفصال الموسيقى عن المضمون ، وارتدادها إلى عنصرها الذاتي مما أفقد الشعر والموسيقى السحر الكامن في اتحادهما. ( ) ويأتي صلاح عبد الصبور ليعيد هذا التلاحم ، حيث يعيد سحر التلقي الحر للقارئ الواعي في قصيدته أو نصه المجدد، ونحن نجد أن التأليف الموسيقي في كل عصوره ذهب إلى محاكاة موسيقى الطبيعة ، فحينما كتب “بتهوفن” سمفونيته السادسة الريفية ، فإنما كان يعبر عن تجاربه مع الطبيعة ، أما “شتراوس” فقد كان يعبر عن روح الحياة الريفية أيضًا حينما كتب “دون كيخوت” وفي” سوناته” فصل الربيع نجد الأنغام التي تدل على السرور والبهجة ، فالطيور تغرد مع نسمات الربيع العذبة ، وسنابل القمح الشامخة تتمايل وسط مروج الخضر ، والرعاة يرقصون مع حوريات الربيع الحِسان. ( ). وهنا يتطلب حالة التجديد من خلال دخول الشاعر بتقنية مستحدثة ونموه الثقافي المتتالي، إذ تلعب الزمكانية الدور الخلاق في عملية الخلق والإبداع، ولها الدور الأمثل في تكتل الذاكرة والعودة بها من جديد. فالمتابع لقصائد صلاح عبد الصبور وحتى مسرحياته التي تناول فيها البعد الإنساني والأيديولوجي خصوصًا الفكر اليساري، تجده يوظف الموروث القديم مع الحداثي، فيتفاعل عنده نتاج النص الشعري والمسرحي بإرهاصات معذبة للوجود الإنساني والبحث عن الخلاص، وكلنا يدرك أن ما عاشه من فترات انتقالية توزعت بين أجيال: -جيل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية التي ألهبت الشباب في تلك المرحلة بالأفكار اليسارية والتحررية والتقدمية، والنزوع نحو التخلص من الاستعمار وقيام الثورات على الأنظمة الملكية،-وجيل مرحلة أخرى سجلت بعدًا آخر في الزمكانية التي عاشها صلاح عبد الصبور منذ ثورة 1952 وتغيير الحكم من الملكية إلى الجمهورية، مع الحروب الإقليمية بدءًا من حرب السويس 1956، وحرب 1967، وحرب 1973 ، وبذلك ظلت الذاكرة الحية تحمل حركة الديمومة وهي تخالط وتعجن روحه الشاعرية عند صلاح عبد الصبور. ( )
إذن الفلاش باك جزء من عنصر الخيال لدى الشاعر عندما يدخل دائرة التفكير المعمق، وهذا الجزء له أهميته في بلورة الحدث فيما مضى مع رؤى الذاكرة ومخزونها الدائم.
فالصور عالقة ما بين البصيرة والذاكرة، وهي المشهد المتنامي لها، فالذاكرة هي المستعمرة الوحيدة للصورة المسجونة في قفصها المعتق على مرور سنوات طويلة، والخيال هو الحالة القصوى الذي يتسلح به الشاعر لفك أسر الصورة وإطلاق سراحها من الذهنية إلى الورقة.
وكما أن القصيدة بالنسبة للشاعر تمثل الرقصة الخيالية لديه، فإن الخيال هو الفضاء الوحيد الذي أمامه، يدخله من بوابات عديدة، ومنها بوابة الفلاش باك بواسطة التفكير والانتماء إلى الذاكرة في لحظتها المتحركة. ( ).
فالكل ينتمي إلى الصورة في الذهنية: (الصورة كشعرية، الصورة كلوحة تشكيلية، الصورة كصوت، الصورة الحية الانطباعية، الصورة المنقولة، الصورة البصرية).
هذه الأنواع من الصور تخزن في الذهنية في الذاكرة الدائمة، ومنها يدخل الشاعر ليوظفها على شكل صور شعرية من خلال استذكاراته، وعليه فالصورة الشعرية تتخطى الحدود التاريخية والجغرافية والثقافية، وقد أحدث الشعار الذي رفعه الفيلسوف “أوجست ولهلم شليجل” (الشعر تفكير بالصور/ الصورة الشعرية) ضجة كبرى في الساحة النقدية الأدبية، فجاءت آراء كل من الناقد الروسي” بلينسكفي” أصداءً لهذا الشعار_ مغايرة له.( )
إن من أساسيات الكتابة( السير الذاتية العامة، وأدب المذكرات)، خاصةً أن الشاعر يستطيع أن يحيك سجادته الشعرية في منطقة الفلاش باك لينزل بقصيدة لها رؤاها برؤيته النافذة نحو الحدث والمخزون – ربما لسنوات مضت – وأن تغدو الذات – ليست من يفعل الفعل أو يقع عليه الفعل فحسب – بل هي أيضًا من ينقله آخرًا بصيغته الابداعية، أي يعرف كيف يوظف السيرة الذاتية من الذاكرة الشعرية.
وبهذا المعنى، ينتقل البحث في هذا المجال المخصوص من علاقة النص بالذات الكاتبة، إلى علاقته بالمعطيات الخارجية المسرودة في تفاعلها مع رؤية الشاعر الفلسفية( ).
إذا كانت محسوسات الشاعر ما بين القلق القصائدي وسعة ذهنيته في توظيف الحدث _ففي حسية الشاعر صلاح عبد الصبور قد بدل نمو القلق بالأريحية التقاربية مما جعل من المفردات الفلاشية ذات صلة ذهنية متفجرة، من مخيلة حُبلى بالوقائع والأحداث، فقد أضاف أحداث عبر شاعريته المنقاة من قصائده التي رسمها في الدوواين الكاملة.
الشاعر منتبه جدًا من خلال قصائده التي كتبها، فهو ينتمي إلى المفردة الذكية ما بين المعانات الوجودية والمعانات (الفكرية- الفلسفية) في تسخير الحدث المخزون بالذاكرة، فالأحداث من الأمواج التي تطفو على سطح الذاكرة بشكلٍ دائم. ( )
لذلك نلحظ بأن الذات تعاني بحثًا مريرًا لإخراج الفكرة على مجالات الحياة كافة، فهي عارية في المخيلة، والشاعر يلبسها الملابس الزاهية كي تخرج بأحسن مما تكون، فنراها راغبة في التجسد (الوصل) وفي انتشارها بين المفردات الشعرية، وسرعان ما تكون المركز الأول في القصيدة- عند خروج الشاعر من منطقة الفلاش باك.
حركة الإدراك في إطار التأثير بجسد النص
القوة الشعرية لا تكمن في المفردات الخطابية ، وإنما تكمن في الأثر الفعال التي تتركه تلك المفردات في قصيدة ، ولم نستطع أن نقول مفردة شعرية إذا لم يتم توظيفها بشكلها التناسبي وخصوصًا في القصيدة الحديثة ، وهنا توقفتني مصادر الدهشة الحسية وقوتها ، والتي لا تُرسم إلا من خلال قوة مدركة للشاعر ، والشاعر صلاح عبد الصبور نموذجًا.( )
وعندما نتحدث عن الإدراك الحسي وتأثيره في الشعرية، هذا يعني أن هناك إدراكًا بصريًا ودلالات لأشكال بصرية، والقصيدة التي اعتمدها صلاح عبد الصبور تحتمل الكثير من فروع الجمالية ومؤسساتها المطروحة ، وكذلك دور الصورة الشعرية والصورة الحسية ضمن الإدراك الحسي في القصيدة الحديثة وقوة المعاني واللغة التي اعتمدها الشاعر صلاح عبد الصبور من خلال مراوغته لهذه اللغة، والتي هي عموده الفقري في الإنتاج الشعري وكيفية التلاعب بالمفردات ضمن حسية ذاتية لها دورها بإظهار المعاني وحضور المتلقي من أبعد الزوايا .( ).
فالزمنية التي طرحها الشاعر زمنية بصرية في ديوانه الأول “الناس في بلادي” وقتل العديد من الناس في داخله ، وكان هناك العديد من شهود عيان على أحداث الواقع الذي عاصروه، وتأثيراته التي أنتجت قصيدة خاصة بتلك الأحداث المنقولة إلينا من خلال قصائده في ديوانه الأول ، وقد قدم برهانه من خلال التوازن المتكافئ للصور الشعرية المستمرة والتي شكلت جسدًا وجوديًا في المعاني المنقولة ، وعندما نقول جسدًا وجوديًا ، هذا يعني نقل خارطة الأشياء إلى ذهنية جاهزة أن تستقبل تلك الخارطة الحياتية، بل لها تجربة حياتية تنتقل إلى المتلقي؛ لتفصح عن مكنوناته وتجاربه وتاريخه وهو تاريخ ذات الشاعر.
وعندما نلتقى بالزمن سنلتقي بالذات الشاعرة -الذات التي تقودنا إلى ترجمة تلك الخارطة المنقولة من خلال البصرية الزمنية-. ( )
البعد السردي في نص صلاح عبد الصبور
ضمن الأبعاد التعبيرية في الشعرية البعد السردي المفتوح بوصفه مظهرًا تعبيريًا ، والذي يعني لنا الكثير من خلال انفتاح النص على صوره الشعرية وامتدادها وتعديها إلى صور شعرية أخرى تكون داعمة لهذا البعد الذي ينتاب الشاعر في لحظاته الشعرية، وهو ينتقل من حالة إلى أخرى ضمن التعبير الحسي والتعبير السردي ، في حالة تجنيس النص ضمن البُنى السردية المنقولة من القص إلى الشعرية .( )
فالأنواع الشعرية في وقتنا الراهن هي متابعة التطورات والأشكال التي طرأت على القصيدة الحديثة ، وهذا لا يعني بأن البعد السردي غير متواجد في القصيدة القديمة ( وإنما تواجد في قصيدة النثر فقط )، فقد كتب الكثير من الشعراء بالبعد التعبيري السردي ، ولكن لم تجرأ الدراسات وتجنيس تلك النصوص كما هو عليه الآن ، وإنما كانت السردية مختصة بالجنس القصصي، وإلى الآن فالسردية تجانس الجنس القصصي وكذلك تجانس الشكل التعبيري للشعرية، وهناك أمثلة عديدة على ذلك، وتطور هذا الجنس ضمن الشعرية، إلا أن صلاح عبد الصبور استطاع أن يوظف السردية الشعرية بطريقته المجددة عن الآخرين.( )
لا تبتعد السردية عن الإيحاءات الرمزية والتي يعتمدها الشاعر في نقله للحدث السردي ، وليس من شروط الشعر السردي أن يتبنى الأسلوب الحكائي وتطريزه في الشعرية، فالمفردات الحكائية التي ينقلها الشاعر هي في الحقيقة ليست مفردات تحمل معنى من الحكاية، وإنما هي مفردات تقترب بشكل لافت من الرموز الشعرية ، فتأخذ هذه الرموز موقفًا ذاتيًا ، أي تشتغل الذات الشعرية وتحمل الأسلوبية السردية، أو موقفًا قيميًا موضوعيًا تتخفى هذه الرموز المباشرة بأحضان السردية .( )
وقد استند السرد على حالة الاستقراء الفني تارة وعلى حالة الاستنطاق ، وحالة الوصف الحكائي تارة أخرى، معتمدًا على لغة تحمل شعريتها في توظيف تلك المهام التي تنتهي في رؤية الشاعر وإبحاره في الرؤى الشعرية الخارجية، وتكون العناصر البنائية قد استجابت وتفاعلت لتشكل نصًا يعتمد على أكثر من أسلوب لتناسب تسلسل الأحداث وفق التسلسل الزمني الصاعد أو تسلسل الأحداث في القصيدة الشعرية الحديثة، وهذا ما نجده في ديوانه الأخير “أقول لكم”، الذي أختلف النقاد فيه وأحدث سجالًا عند صدوره…( ).
إن إضافات الشاعر التي يعتمدها في القصيدة الواحدة لتقوية البناء الفني تشكل لديه التأزم الدرامي، وذلك لكي يبتعد عن التفاصيل التقريرية والجزئية والتي تقود القصيدة إلى رداءة النص الشعري وبنية ركاكته.
إن الشاعر صلاح عبد الصبور يعي جيدًا وما نقله من محسوسات خارج الذهنية وقد اعتمدت الذاكرة في استيطان القصيدة ، وقد اعتمدت القصيدة على الضغط السردي مما جعل الحوار ذاتيًّا يحمل معه تفجير العلاقة بين( الأنا وأنت ) وخصوصًا أن الشاعر يبحث عن مصيره أمام العالم؛ ليبحث عن الموت راسمًا قبل مفردة الموت فاصلًا ، كي لا يجهل المتلقي دلالة الفاصل بين الموت ودلالة القطعة الشعرية المنقولة من ذهنية مفكرة.
965 13 دقائق