2018العدد 176ملف ثقافي

عبد الرحمن عزّام .. أول أمين عام للجامعة العربية

يسمونه “جيفارا العرب”، ولم يحدد أحد من الباحثين والمتابعين لمسيرة المفكر العروبي والمناضل الإنساني عبد الرحمن عزام، أى “جيفارا” هو المقصود؟ هل هو آرنستو تشى جيفارا” المناضل الأرجنتيني والطبيب، والذى ولد عام 1928 ورحل في 9 أكتوبر عام 1967، وخاض حرب عصابات شرسة في أمريكا اللاتينية، وكان رفيق فيدل كاسترو، وبعد أن خاض معاركه الشرسة، وانتصرت الثورة في كوبا، ترك رفيقه من أجل تحرير كافة بلاد أمريكا اللاتينية، وهو كاتب ومحارب عتيد، وأحد كبار العسكريين في حرب العصابات، ورجل دولة قوى؟.

وجدير بالذكر أن عبد الرحمن عزام كان نجمه يأفل أو يختفى فى المرحلة التي ظهر فيها المناضل الأرجنتين تشى جيفارا، والأدهى من ذلك أن الوقت الذى ولد فيه جيفارا عام 1928، كان عزّام نجما عروبيا لامعا، وقويا، واسمه يجوب الآفاق، ومن العجيب أن يكون اللقب منسوبا لجيفارا الأرجنتيني، وهذه النسبة يؤكدها المفكرون اليساريون بشكل كبير، لأن هناك أوجه شبه كبيرة بين الاثنين، فكلاهما درس الطب، والتحق بالعمل الثوري مبكرا، وكل منهم اشترك في تأسيس جماعات سريّة نضالية ومناهضة للاستعمار، وكان كل منهما مثقفا موسوعيا في الأدب والشعر والتاريخ وغيره، ثمة تشابهات عديدة، ولكنها لا تؤكد تماما معضلة النسبة هذه.

ويذكر الأستاذ عصمت نصار في المقدمة التي كتبها لكتاب عبد الرحمن عزام “الرسالة الخالدة” أن اللقب لم يأت من تشى جيفارا، خاصة أن اللقب كان قديما، وقبل صعود المناضل الأرجنتيني إلى مسرح الأحداث، وذكر : “أن المفكرين المحافظين أكدوا أنه لم يكن ملحدا ولا متعاطفا مع الفكر الشيوعي، وأنه لقّب بهذا اللقب في أخريات الثلاثينيات من القرن العشرين، وكان المقصود بجيفارا الفيلسوف والمؤرخ الفرانسيسكانى الإسباني أنطونيو دى جيفارا (1480_1545) صاحب كتاب (الكتاب الذهبى للإمبراطور ماركوس أوريليوس) وذلك لأن كليهما كان صاحب رسالة تدعو إلى العدالة والسلام والحرية بين البشر واتخذ من المبادئ الأخلاقية العقدية سبيلا لإصلاح السياسة وإنقاذ الانسان من سجن الشهوات واللذائذ المادية التى تدفعه دوما إلى الصراع والإقبال على الشرور وارتكاب الآثام”.([1])

والأمر لا يبدو غريبا أن يتم تلقيب شخصية مثقفة ومجاهدة ودؤوبة ومثابرة ولها نضالات عديدة في مساحات دولية متعددة، بأناس قدّموا للإنسانية جهودا علمية وفكرية وأدبية ونضالية تظل علامات مضيئة على مدى التاريخ كله، وإن كان تشى جيفارا قدّم جهوده النضالية في أمريكا اللاتينية، وأنطونيو جيفارا الإسباني قدّم جهوده الفكرية في إسبانيا، وترامت جهود هاتين القامتين فى جميع أنحاء العالم المناضل، والتاريخ بشكل واسع، فعبد الرحمن عزّام كذلك لا تقلّ إنجازاته عن أى مناضل ومفكر عالمي، وهذا ما أهلّه ليكون أول أمين للجامعة العربية، ويكون خير ممثل لهذه المكانة الرفيعة، ويصبح واحدا من المؤثرين في الأحداث، على المستوى العربي، والمستوى العالمي بشكل واضح، ولم يكن في يوم من الأيام مستأنسا لنظام ما، وكان يجالس ويناقش القامات السياسية من الملوك والرؤساء دون أدنى تنازل عن قامته الفكرية والسياسية الرفيعة.

ويخبرنا عبد الرحمن عزام في مذكراته السريّة التي أعدها الكاتب الصحفي جميل عارف، بأنه ولد في 8 مارس 1894، حسب شهادة الميلاد، ولكنه يلفت نظرنا إلى أن المجتمع المصري لم يكن دقيقا في تسجيل المواليد ساعة وقوعها، ومن ثم فميلاده الحقيقي يسبق ذلك التاريخ، ومن المدهش أن يكون التاريخ الذى يسجله أرشيف الأهرام هو 1893، أى قبل التاريخ المدون في الأوراق الرسمية بشهور، وليس بأسابيع، وعلى أية حال فالفارق ليس كبيرا، ولكننا ندرك أن الفترة التي ولد فيها، وهى نهايات القرن التاسع عشر، في قرية تدعى “الشوبك” بمديرية الجيزة_ قبل أن تكون محافظة_، وتلقى تعليمه في مدارس الحكومة المصرية، ويكتب في مذكراته السريّة : “كل ما أذكره عن حياتي في تلك الأيام ، هو منظر المفتش الإنجليزي عندما كان يأتي إلى قريتنا، كنت أراه يتجول فوق حصانه بين المزارع، وعند شاطئ الترعة ، وأحيانا كنت ألمحه جالسا، وهو يشرب الشاي في دوار العمدة، وكان مشهد المفتش الإنجليزي بعجرفته يثير فى نفسى بالألم والمرارة، فقد كنت أرى فيه رغم حداثة سنّى إحدى صور الاحتلال الإنجليزي الذى كان يجثم على أنفاس بلادي”.([2])

ولم تتوقف حكاية الإنجليزي والاحتلال عند الطفل الذى راح يدرك وينتقد ويفكر في كيفية مقاومة هذا الاحتلال، الذى كان يجثم على صدر البلاد منذ عام 1882، وكانت هناك تواطؤات من ناحية الخديوي الذى لا حول له ولا قوة، والحركة الوطنية التي كانت منقسمة آنذاك، والانجليز الذى يحكمون بالحديد والنار، ويفرضون كافة شروطهم الاقتصادية والسياسية والثقافية بشكل مفرط، ويعملون على إفقار الشعب المصري بكل السبل، وتدمير أى صناعة وطنية، وتأبيد الحالة الاقتصادية فى خانة الفوائد التى تعود على بريطانيا العظمى كما هو معروف ومسجل ومدون فى كل كتب التاريخ التى رصدت كل الأحداث الكبرى التى ارتكبها الاحتلال الانجليزى، ولا مجال هنا لاستعادتها، فقد استفاض فى رصدها وتحليلها كبار الساسة والمؤرخين والاقتصاديين والعسكريين.

كان الطفل عبد الرحمن يرصد ذلك بدقة، وكان قد انتبه مبكرا لذلك الاحتلال البغيض، وكان قد تعرّف على بعض الكتابات السياسية والفكرية والتراثية، وقد أثقلت وجدانه، وهناك واقعة يرويها فى مذكراته هذه ، وهى التي شاهد فيها والده عندما كان يشاهد الانجليز يعيثون فسادا فى الشوارع، فكلما نزل إلى المدينة يراهم يتجولون بفوضى عارمة، وكان يراهم بملابسهم العسكرية فى أماكن عديدة من المدينة، رأى مرة أن أحدهم خلع حزامه وراح ينهال ضربا على مجموعة آمنة من المواطنين، دون أن يرتكبوا ذنبا ولا فعلا آثما، بل كانوا جالسين على المقهى، وعندما سأل والده ، فردّ عليه الوالد لإسكاته ، قال له بأنهم سكارى، ولكن الوالد بعدها، راح يسب ويلعن فى هؤلاء الانجليز، وكانت الواقعة التى ذهب فيها المفتش الإنجليزي ليحصل على ضرائب بولغ فى تقديرها عشرات المرات من والد عبد الرحمن، ساعتئذ، رفع الوالد الفأس فى وجه الإنجليزي مهددا إياه بإنهاء حياته، عندها تراجع الإنجليزي، وخاف من الوالد، والمدهش أنه صار صديقا له فيما بعد.

ظلّ عبد الرحمن مواظبا على دراسته حتى حصل على شهادة الثانوية_كما يذكر فى مذكراته_ عام 1912، وبعدها طلب السفر إلى انجلترا لاستكمال تعليمه، وطلب من الأهل الذهاب للدراسة فى كلية سان توماس الانجليزية، لم تكن لعبد الرحمن أى ميول طبية، وكان عمره لا يسمح بذلك، ولكنه أصرّ على السفر بالفعل، وقبل أن يسافر كانت القاهرة أو مصر كلها مرتبطة بشاب وطنى عظيم، وهو مصطفى كامل، والذى نشر قدرا كبيرا من الحماس، وأوصل القضية الوطنية إلى بلاد الغرب، وكانت عباراته الحماسية على كل لسان، وكان عبد الرحمن نفسه، يكتب عباراته وينشرها على كافة جدران المدينة، وقد خلقت هذه الحالة عند عبد الرحمن روحا مناضلة عميقة، دفعته لكى ينشئ بعضا من التنظيمات الصغيرة السرية، والتى لم ينتشر خبرها، لأنها كانت فى إطارات شبه محدودة، من هنا جاءته فكرة الذهاب إلى انجلترا لكى يستطيع إيصال القضية إلى ذوى الشأن فى انجلترا، كما نظن، وهذا ما يبدو على إصراره للسفر إلى هناك، رغم أنه لم يكن مصرّا على دراسة الطب على وجه التحديد، ويقول فى المذكرات : “..والحقيقة التى لا لا يعرفها كثيرون هى أننى لم أكن أميل إلى دراسة الطب، وقد تأكد ذلك بعد وصولى إلى لندن، والتحاقى بالكلية الانجليزية”.([3])

ويبرز هنا التباس لا أعرف مصدره، وهو أن الأستاذ وحيد الدالى، وهو الذى كتب أهم الكتب عن عبد الرحمن عزام، وهو المصدر التوثيقى الأول حول علاقة عبد الوهاب عزام بالجامعة العربية منذ نشأتها، إذ أن الأستاذ الدالى كان قد عمل مديرا لمكتب عبد الرحمن عزام طوال السبع سنوات الأولى لتأسيس الجامعة العربية، وهى  السنوات الأهم فى تاريخ الجامعة، وكذلك عمل مديرا لإدارتها السياسية ، وفى وفد الجامعة العربية إلى الأمم المتحدة، أى أنه كان قريبا من عزّام فى كل تحركاته، ويعرف عنه الكثير، فيذكر فى كتابه “أسرار الجامعة العربية  وعبد الرحمن عزام”، “..درس الطب فى القاهرة، وسافر إلى انجلترا، والتحق بجامعة لندن من عام 1911 حتى 1913”.([4])

وسوف نجد مثل هذه الملابسات كثيرا فى مسيرة عبد الرحمن عزام، وهذا يعود إلى أن هناك رواة عديدين، وكل راو له قصة وغرض معين، ليس بالضرورى أن يكون الغرض سيئا، ولكن من أجل إيضاح ما، فيجتهد الراوى أو المؤرخ فى استنباط معلومة ما، وتكون هذه المعلومة مناقضة لمعلومة أخرى لراو آخر، وكذلك لأن أحداث مسيرة عبد الرحمن السياسية والفكرية مزدحمة، فلابد أن تقع هذه الملابسات، مثلما لاحظنا على عدم الاتفاق على نسبته إلى أى جيفارا من الاثنين المذكورين سلفا، وعلى أية حال، فعبد الرحمن سافر إلى انجلترا ليدرس الطب، وكما هو مؤكد أنه لم يستكمل دراسته، بل سارع في الانخراط في النضال ضد الاستعمار، وعمل على إثارة القضية المصرية هناك، وتم دعوة الزعيم محمد فريد _زميل ورفيق الزعيم مصطفى كامل_، زعيم الحزب الوطنى فى مصر، وهذا هو الحزب الذى تأثر عزّام بأفكاره ودعوته، وهو يسرد سلسلة وقائع تكاد تكون غير معلومة، منها، عندما زارهم محمد فريد في انجلترا، وكان الطلّاب المصريون متحمسين للقضية الوطنية المصرية، وكانوا يعرفون أن محمد فريد يمرّ بضائقات مالية متكررة، حيث أنه كان ينفق كل الأموال التي تأتيه من مصر، والأموال التي كان يملكها، على القضية الوطنية، لذلك شارك هؤلاء الطلّاب في جمع بعض المال، ودفع عبد الرحمن كل ما معه دون أي تردد، وهو لا يحكى هذه القصة لكى يتباهى بها، ولكنه كان يسردها لكى يضعنا فيما كان يمرّ به من حماس وفداء، ليس من أجل محمد فريد الشخص، ولكن من أجل محمد فريد الوطن والقضية والعزّة والكرامة.

وقبل أن تشب نيران الحرب العالمية الأولى، ذهب عزّام لكى يقاتل في حرب البلقان، دون أن يستكمل دراسة الطب، وذلك لمناصرة الشعب التركي كما روى في مذكراته الآنفة الذكر، وسافر إلى هناك دون أن يكون معه هويته، ولم يكن يحمل سوى هوية صحفية هزيلة من جريدة انجليزية متواضعة، وهى جريدة “الديلى ستيزن”، كانت الجريدة غير معروفة على مستوى انجلترا، فما بالك عندما يبرز تلك الهوية فى بلاد أخرى، وهذا الأمر إن كان يدلّ على شئ ، فهو يدلّ على روح المغامرة المفرطة عند عزام، وعندما وصل إلى مدينة تدعى “شقودرا”، أثار انتباهه مناظر الدمار الذى حل بالمدينة أثناء المعارك، وكان هزيل الجسد، ولكنه كان مثيرا للريبة، وهناك تم اقتياده إلى الحاكم الإنجليزي، وكان الحاكم صارما، وعندما سأله : ما الذى أتى بك إلى هنا، رد عزام: إنه جاء في مهام صحفية، وبالطبع لم يقتنع الحاكم بالجريدة التي ذكرها عزام، ودار حوار بين الحاكم وعزام حول خصوصية المهمة التي أتى من أجلها، وكيف أن جريدة فقيرة مثل هذه ترسلك لتغطية أحداث كبرى من هذا النوع، وبعد حوار طويل وافق الحاكم الإنجليزي بمساعدة عزام في مهمته المزعومة، ولكن بشرط أن يكتب إقرارا كتابيا بخط يده يشير فيه إلى أنه _أي الحاكم_ نصحه بالعدول عن المهمة، ولكنه لم ينتصح _كما كتب عزام في مذكراته، وبعد مجموعة مغامرات عاد عزّام فى أوائل عام 1913 إلى انجلترا، واتخذ قرارا حاسما، وهو أن يتعلم بالنهار، زيمارس السياسة ليلا، وكان عائدا مفعما بكراهية الاستعمار وأي احتلال لأى بلد آخر، وانحصر تفكيره فى تحقيق هدفين، الأول ينحصر في نشر تفاصيل الفظائع التي ارتكبها البلغار ضد الألبانيين المسلمين، والثاني هو تحقيق رغبة الوطنيين الألبانيين فى أن تكون لهم دولة مستقلة يحكمها أمير مسلم[5].

واللافت للنظر هنا أن عبد الرحمن عزام كانت له نظرية المناضل العالمي، وهو الذى جعل المتابعين والباحثين يطلقون عليه “جيفارا العرب”، خاصة بعد أن ارتبطت حياته بالنضال الكوني، وذهب إلى الأراضي الليبية للنضال المسلح ضد الاحتلال الإيطالي مع شيخ المجاهدين عمر المختار، وكانت نظرته حينئذ ارتبطت بالعالم الإسلامي الواسع، ذلك العالم الذى اتخذ طريقا عروبيا قويما، ولذا ارتبطت حركته الفكرية والعملية والسياسية بوضع أسس لبناء عالم عربي إسلامي متكامل، واتضح هذا بقوة في كتابه “الرسالة الخالدة”، التي أنشأها عام 1946 بعد توليه منصب الأمين العام الأول للجامعة العربية، ليكتب على سبيل المثال : “..فالنظم الإسلامية فريدة ومتميزة بشمولها وبأصولها  المتكاملة، ولذا فهي لا يمكن أن تدخل في مساومات وتنازلات ، بل تقف ثابتة تطالب بتقوى الانسان وحريته وكرامته ، وبقيام الأسرة المتكافلة فيما بينها المسئولة عن كل فرد فيها، وقيام المجتمع المتضامن الذى يسوده الإيثار والإخاء والمساواة والعدل والرحمة والانسانية، والعمل الصالح والخير المشترك، المجتمع اللاطبقى .. مجتمع الشركاء المتساوين الذى يقوم على فلسفة سليمة شاملة كاملة”.([6])

ولم يكن هذا الكتاب الكاشف بوضوح عن مضمون رسالة عبد الرحمن عزام، مخططا له، وجاء وليد المصادفة، ولذلك لم يكن مقصودا تأليفه، وكانت الظروف والملابسات الشاذة والاضطراب التي سادت العالم أثناء الحرب العالمية الثانية، هي التي دفعت عبد الرحمن عزام لكشف أسباب هذا الاضطراب العالمي، ومحاولة إيجاد علاج له ، بعد أن تبين أن هذا العلاج غير ميسور في الدعاوى والمبادئ السارية في هذا القرن، والتي أوحت بها المدنية الحديثة.

وهذا النزوع الذى سلكه عزام فى كتابه المهم، والمؤشر الرئيسى على نظريته فى محاولة تقديم علاج عربى إسلامى لمشاكل المتفاقمة، كان نزوعا عالميا انسانيا، ولم تكن نظرته محدودة بالبقعة العربية التى يعيش عليها العرب والمسلمون، فكانت آفاقه الفكرية والسياسية تتجاوز المكان العربى والإسلامى، والزمان الذى كتب فيه هذا الكتاب، والذى كان بعد الحرب العالمية الثانية (1939_1945)، والذى يتصفح فقط عناوين الكتاب وموضوعاته، والأفكار التحليلية التى كان يجوب فيها عزام، سوف يدرك على الفور، النظرة التى تتجاوز الآفاق المحلية والزمانية التى انطلق فيها الكتاب.

وجدير بالذكر أن نظرة عزام العربية الإسلامية، ليست نظرة عنصرية تنحو نحو تعريب العالم، ولا نظرة إسلامية متطرفة، ترغب فى أسلمة الحضارة، ولكنه طوال الرسالة يؤكد على أن الثقافة والحضارة العربية والإسلامية، قادرة على تقديم حلول لكى تنقذ العالم من الخراب، كان يقاتل من أجل أن يكون العرب والمسلمون موجودين فى الحل السلامى لمشاكل العالم، والاضطراب الكونى، وكان يدعو إلى السلام دون حرب ودون صراعات تفنى الشعوب دون أى مردود، ولم يكن عزام يقدم حلولا مفاجئة، ولكنه كان يجرى تمهيدات تاريخية وفكرية وسياسية مقنعة، كأى مفكر حقيقى، ثم بعد تلك التمهيدات، يقدم مقترحاته وحلوله، والتى كان يرى أنها علاجات لاضطرابات العالم أو الكون، وهذه العقلية المنظمة اتضحت أيما وضوح فى هذا الكتاب.

ولم يأت كتاب “الرسالة الخالدة” من فراغ، ولكن عبد الرحمن عزّام كان قد مارس أفكاره، وأطلقها منذ زمن بعيد، وجدير بالذكر أنه عمل صحافيا ورئيسا لتحرير جريدة الكشّاف عام 1937 لفترة ما، وكان رجلا الأعمال أحمد عبود هو الممول لهذه الجريدة، وعدا هذه الجريدة كتب عزام أبحاثا ومقالات عديدة، وهى التي كانت تنزع إلى البعد العربي والوحدة العربية، ومن بين ما كتب، له بحث مبكر جدا، كتبه في مجلة “الهلال” فبراير 1934، وكان عنوانه لافتا “الامبراطورية العربية، وهل آن لها أن تتحقق؟”، واستهل عزام بحثه قائلا: “قد تكون الدعوة إلى تأسيس امبراطورية عربية حلما من الأحلام، ولكن كم من المشروعات الكبرى والحقائق العظمى كانت قبل وجودها حلما فى رؤوس المفكرين، وخيالا في أذهانهم، ثم ما لبثت أن صحت الأحلام، وتحقق الخيال، وإذا كل شيء قد أصبح حقيقة ملموسة وأمرا واقعا، والامبراطورية وجدت أكثر من مرة في الأحقاب الماضية فى عهد الأمويين والعباسيين وغيرهم، فليس بعيدا أن تعود هذه الامبراطورية إلى ما كانت عليه أو إلى أحسن مما كانت عليه، وليس بعيدا أن تكون اليوم حلما، ثم تصبح غدا حقيقة واقعة”.([7])

ولا يطرح عزّام تلك العناوين وفقط، ولكن كان لديه نظرة واسعة وعميقة، واسعة لأنها تشمل قراءة التاريخ السابق بدقة، واستخلاص الأفكار الأساسية التي تؤكد ما يصبو إليه، وعميقة لأنه يقدر من خلال ذلك الطرح التاريخى أن يدرك بحدس فريد الضرورة الحتمية التى يذهب إليها تاريخ العرب، وبالتالى كان يبنى حلمه وأمله ونظريته على إدراك واسع وعميق وشامل لتاريخ العرب، ولديه قدرة على استنباط ما خفى على آخرين من الباحثين، فهو كان يفكّر على طريقة القادة، وليس على طريقة الباحثين، ولذلك كان هو المرشح الأقوى لكى يكون الأمين الأول للجامعة العربية.

ولم يكن عبد الرحمن عزام يتعامل مع الملوك والرؤساء بأي نوع من التخاذل أو التنازل، ولكنه كما يقول كل من عاصروه، أنه كان شخصية فريدة ووقورة وحافظة لكل أشكال البروتوكول، وكان يعتبر أن تقديره لذاته، ما هو إلا جزء من تقديره للمنصب الرفيع الذى شغله للمرة الأولى عام 1945، ويكتب مدير مكتبه :”بنى عبد الرحمن عزام علاقاته مع الملوك والرؤساء والشخصيات الهامة فى العالم العربى وفى أنحاء العالم على الثقة والاحترام المتبادل والصدق والصراحة والإخلاص، وكانت له قدرة كبيرة وشخصية تفرض احترامها ووقارها على أى شخص يتعامل معه ، سواء كان ملكا أو رئيسا، فكانت بساطته وتواضعه وصدقه تجعله موضع ثقة وتقدير من يتعاملون معه”.([8])

وفى هذا السياق يسرد وحيد الدالى سلسلة من القصص والحكايات لعبد الرحمن عزام مع الملوك والرؤساء العرب الذين تعامل معهم على مدى شغله لمنصبه الرفيع، ولفتت نظرى قصته مع نورى السعيد، والذى كانت علاقته بعزام سابقة لقيام الجامعة العربية، عندما كان عزام  وزيرا مفوضا فى العراق عام 1936، ونشأت علاقات وطيدة بين عزام وكبار الشخصيات العراقية، وفى مقدمتهم نورى السعيد، وفى هذا السياق كان عزام يبحث عن مكان يليق بالمفوضية المصرية فى بغداد، وعرض العراقيون على عزام بضعة أماكن، وكان من بينها منزل نورى السعيد الذى كان مغضوبا عليه من السلطات العراقية آنذاك، ولكن الصداقة التى كانت بين عزام والسعيد، جعلت عزام ينتقى منزل السعيد كنوع من الدعم له، وكمساعدة غير مباشرة له، تقوم بها الحكومة المصرية.

وتمر الأيام _كما يكتب الدالى_ والعلاقات بين الرجلين على أحسن ماتكون ، حتى تكونت الجامعة العربية عام 1945، وتم ترشيح عزام لمنصب الأمين العام، ولكن نورى السعيد يرشح السيد موسى العلىّ، ولكن يستقر الرأى على عبد الرحمن عزام، لما يتمتع به من مهارات وتاريخ وكاريزما لقيادة هذا المنصب، وأرادت الدول العربية تكريم عزام بشكل لم يسبق من قبل فى المعاهدات الدولية، فأفردت له ملحقا خاصا بالميثاق ينص على تعيين عبد الرحمن عزام (بالإسم) أمينا عاما للجلمعة العربية، وهنا كان لا بد أن يخترع نورى السعيد خلافات لتعويق مهمة عزام، وأراد السعيد أن يفرض رأيه بطرق متعددة، فعبد الرحمن عزام يريد أن تكون الجامعة العربية منظمة عربية خالصة تعمل للعرب جميعا ووفقا لمصالحهم، وإذا تعارضت مصالحهم مع المصالح الاستعمارية البريطانية التى كانت تسيطر على العالم العربى فى معظم أجزائه، فإنه يجب أن تتحول الجامعة العربية إلى أداة ثورية لتحقيق استقلال البلاد العربية وحريتها.([9])

وللأسف كان نورى السعيد يريد شيئا آخر، كما تقول كافة الأدبيات التى كتبت عنه، فكان يريد مسايرة الانجليز، واتباع أساليب المهادنة معهم مهما كانت النتائج، وكان السعيد يعمل بالفعل من أجل سيطرة حكام العراق من الهاشميين على العالم العربى، وذلك لتنفيذ المشروعات التى تدعم أحكام سيطرة بريطانياعلى المنطقة كمشروع ىللهلال الخصيب.

وكان عزّام مدركا بثقافته ووعيه وخبرته هذه النوايا، فكان حريصا جدا على استبعاد الجامعة العربية عن أى مؤامرات تضعها فى تلك المآزق الدولية المعروفة، وكانت قيادة عزام للجامعة لافتة للنظر، جعلت العالم كله يحترم هذه المنظمة الوليدة، ولكن السعيد لم يهدأ له بال، فظلّ يدس لعزام كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، للدرجة التى جنّد أحد الكتاب الصحفيين الكبار لمهاجمة عزام والجامعة العربية فى معظم خطواتها، وكان يرسل شيكا لهذا الصحفى كلما كتب موضوعا يهاجم فيه الجامعة العربية، حتى كشفه وحيد الدالى كما سرد حكايته فى كتابه، ولكنه لم يذكر اسم ذلك الصحفى، والذى كتب اعتذارا مطولا فيما بعد، ونشره فى الجريدة ذاتها التى كان ينشر فيها مقالاته التي كان يهاجم فيها الجامعة وأمينها العام، وكان عنوان المقال “أعتذر .. ثم أعتذر”.([10])

وهذا الصدام الذى وقع بين عزّام ونورى السعيد يشير إلى أكثر من معنى، الأول: وهو إدارة عبد الرحمن عزام الذكية والحازمة  للمواقف الحرجة، والتى لا يفرّط فيها عن أى من قناعاته الصارمة، تجاه كل مايراه منحرفا أو فاسدا، حتى لو تعلق الأمر بصداقة قديمة، يحاول الآخر أن يبتزه بسببها.

أما المعنى الآخر، يتعلق بالإشاعة التى كانت تقول بأن الجامعة العربية كانت مطلبا بريطانيا، وعبد الرحمن عزام كان اختيار المملكة المتحدة، وهذا ماتنفيه كل مواقف ونضالات وكتابات عبد الرحمن عزام، وجاء هذا الموقف المبكر جدا، لكى يضع الأمور فى نصابها، فلا الجامعة العربية نشأت وفقا لأغراض استعمارية، ولا عبد الرحمن عزام كان رجل الانجليز بأى شكل من الأشكال، رغم أنه أقام طويلا فى بلادهم.

وفى هذا الصدد نقرأ للدكتور محمد عمارة فى مرحلته الليبرالية يقول فى كتابه (العرب يستيقظون) فيقول: “إن قيام الجامعة العربية، لم يكن وليد رغبة انجليزية، ولا نتيجة لتصريح بريطانى أصدره وزير الخارجية الانجليزى فى يوم من الأيام فى أثناء الحرب العالمية الثانية، وإن يكن قد حدث بالفعل، حدثت الرغبة ، وقبل التصريح”.([11])

ويسرد الدكتور عمارة فى كتابه السالف الذكر، وينفى أن تكون النتيجة التى ظهرت على الأرض وهى “الجامعة العربية”، كانت نهاية لمطالب ومقدمات انجليزية، ويصف هؤلاء الذين يقولون ذلك بالسطحية الشديدة، حيث أن رغبة القادة العرب فى كيان عربى شامل، كانت قائمة وفاعلة وعلى وشك أنها تتحقق فى أوقات سابقة، ولكن أشكال التشتت العربى والعالمى والحروب كانت تعمل كمعوق رئيسى لقيام هذا الكيان، وراح د عمارة يعدّد المواقف والنداءات التى صدرت من مصر وفى المغرب العربى، والتى كانت تنادى بهذا الكيان العربى الموحد.

وبعيدا عن كتابة د عمارة، كانت كتابات كثيرة تؤكد هذا النزوع الاستقلالى فى تأسيس المنظمة العربية السياسية، والتى نشأت قوية، وذلك بفضل أمينها الأول عبد الرحمن عزام، والذى كانت شخصيته وتاريخه وثقافته وعروبيته عناصر أساسية فى تأهيله للمرحلة التأسيسية، وجدير بالذكر أن عبد الرحمن عزام خاض معارك فكرية من أجل تأسيس نظرية عربية مستقلة، وقد أجرت مجلة الهلال عام 1931مايشبه الاستفتاء حول تحول النخبة العربية المثقفة ذات التوجه القومى الوطنى، وإلى التركيز على التضامن العام بين الدول العربية”، وبرزت فى هذا الاستفتاء دعاوى قوية وعديدة لمبدأ التضامن بين الدول العربية، وهذه كانت دعوة مبكرة جدا، وكانت رابطة العروبة فى مصر، والتى كان يقودها أحمد زكى باشا، والملقب بشيخ العروبة، هو الذى يقودها، وكانت كتابات عبد الرحمن عزام خير مرجع وسند لتلك الرابطة، وكان معه محمد على علوبة وصالح حرب وغيرهم.

وكان لعبد الرحمن عزام بعض أفكار تثير الجدل، وهذا ما أثاره المفكر العروبى ساطع الحصرى، فعندما عقدت مجلة المصور القاهرية ندوة عام 1953، وتحدث فيها عبد الرحمن عزام، وذكر “أن مصر تستطيع أن تدّعى أن لها قرابة بكل الناس، وأن الله وضعها فى وسط الدنيا لتستطيع أن تمد يدها للناس جميعا، وأن مصر مركز إشعاع عالمى مستمر، فنحن هنا فى القاهرة إذا غضبنا غضب الناس لنا، وإذا رضينا رضى الناس من جميع الألوان والأفكار، وهنا تساءل المفكر ساطع الحصرى، : لا أدرى كيف يكون لمصر قرابة بكل الناس ، وما معنى وسط العالم؟،([12])

وكانت الخلافات تدور بين عبد الرحمن عزّام وأقرانه من العروبيين، ولكننى لا أستطيع أن أتدخل فى حوار بين مفكرين عروبيين كبيرين، ولكننى أستطيع بيسر وسهولة أن أنفى الزعم بأن عبد الرحمن عزّام كان يجنّد الفكرة العربية لصالح مصر، ولم يكن عنصريا فى أى مرحلة من مراحل تاريخه، فى ظل انتشار الأفكار التى كانت تنادى بالفرعونية أو البحر متوسطية، أو حتى البعد الإسلامى المستقل عن العروبة، عبد الرحمن عزّام مفكر وقائد عربى مسلم من طراز فريد لم يتكرر، وليس معنى هذا استحالة تكرار هذا النموذج فى قامته، ولكن عبد الرحمن عزّام أبدعته وأنتجته ظروف تاريخية وفكرية وسياسية طبيعية، ورشّحته ليكون الأمين الأول للجامعة العربية بامتياز.


([1])عبد الرحمن عزام، الرسالة الخالدة، تقديم عصمت نصّار، دار الكتاب المصرى، مكتبة الأسكندرية، 2014 ص 29و30

([2])جميل عارف، صفحات من المذكرات السرية لأول أمين عام للجامعة العربية عبد الرحمن عزام، المكتب المصرى الحديث، دون تاريخ، ص 39

([3])المصدر السابق ص 43

([4])وحيد الدالى، أسرار الجامعة العربية وعبد الرحمن عزام، مؤسسة روز اليوسف، يناير 1982، ص 17

([5])جميل عارف، مصدر سابق،ص8

([6])عبد الرحمن عزام، الرسالة الخالدة، مصدر سابق، ص8

([7])عبد الرحمن عزام، مجلة الهلال، فبراير 1934، ص 385

([8])وحيد الدالى، مصدر سابق ، ص 57

([9])المصدر السابق ص 91

([10])المصدر السابق ص93

([11])د محمد عمارة، العرب يستيقظون، الأمة العربية وقضية الوحدة, دار الوحدة، بيروت، 1984، ص 13

([12])ساطع الحصرى، ثلاثون عاما على الرحيل، مركز دراسات الوحدة العربية، نوفمبر 1999، ص 161

اظهر المزيد

شعبان يوسف

كــاتب وبــاحث مصــري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى