2021العدد 188ملف ثقافي

الأدب والأيديولوجيا .. مواجهة لا مسايرة

ليس هناك اتفاق على معنى واضح للأيديولوجيا، بل إن بعض تعريفاتها تتناقض مع البعض الآخر، وكما يقول ماكس سكيدمور فإن “الأيديولوجيا مسؤولة عن الجريمة الاجتماعية بقدر مسؤوليتها عن الإبداع الثقافي الرفيع، وهي التي أدت لظهور الدولة القومية، وفي الوقت نفسه، هي التي أطاحت بنظم سياسية عديدة، وهي التي تقف وراء السجون والتعذيب، وعلى العكس، فهي المرتبطة بالسعي الدؤوب لحماية حقوق الإنسان”([1]) ولذا فمن الصعب معرفة كم مرة تم فيها  استخدام الأيديولوجيا بمعانٍ مختلفة في سياقات عديدة،([2]) أو نسيان “الجدل المكروه”([3]) الذي يدور حولها، هنا وهناك.([4])

  وبصفةٍ عامة، فإن الأيديولوجيا هي نسق فكري متكامل يمثل دليلًا للعمل السياسي، ويطرح رؤية للتاريخ، ويعطي الحياة معنى وهدفًا، ويبرر الممارسات الاجتماعية والاقتصادية، ويخلع الشرعية على النظام السياسي، وقد يكون هدفها تغيير الوضع القائم، أو الحفاظ عليه، والأيديولوجيا إن تشابهت مع العلم في كونها نظامًا لتفسير السلوك الاجتماعي، وفي احتوائها على الملاحظة والتحقق، فإنها تستند في جزءٍ كبيرٍ منها إلى الانطباعات الذاتية.([5]) وهي مع ذلك تحدد الخطوط العريضة للأفعال الجماعية .([6])  وتساعد الفرد على تحديد موقعه داخل الإطار الاجتماعي/ السياسي.([7]) وقد تباينت استعمالات الأيديولوجيا من زمن إلى زمن، ومن فكر إلى آخر، فكانت في القرن الثامن عشر تعني الأفكار الموروثة عن عصور الجهل والاستبداد، ونظر إليها هيجل على أنها “منظومة فكرية تعبر عن الروح التي تدفع حقبة تاريخية معينة إلى هدف مرسوم في خطة التاريخ العام”. وربطها ماركس “بالبنية التحتية للمجتمع المتعلقة بوسائل الإنتاج”. وتعامل معها نيتشه على أنها “مجموعة من الأوهام والحيل، والتعليلات التي يشاكس بها الإنسان قانون الحياة”. واستعملها فرويد باعتبارها “أفكارًا تقاوم قانون اللذة”. لكن المثقفين درجوا على استعمالها بمعناها الواسع دون التقيد بفرضيات نظرية معينة.([8]) وعلى النقيض تحدث بعضهم عن موت الأيديولوجيا، وبؤس الأيديولوجيا.([9])

  والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: ما هي الوشائج التي تربط الأيديولوجيا بالأدب نظريا؟

بداية يجب التأكيد على أن علاقة الأيديولوجيا بالأدب أقل مباشرة من علاقة الأنساق الدينية والاجتماعية به، كما أنه ليست كل أيديولوجيا تعمل أو يمكن أن تعمل كأدب أو فن.([10]) لكن هناك ما يُسمى “التلبس الأيديولوجي”([11]) أي ارتشاح الأيديولوجيا على الحقول المعرفية الأخرى من منطلق أنها “تحلق فوق العلوم كافة”.([12]) فالأدب والأيديولوجيا يلبس بعضهما ثوب الآخر -أحيانًا- من منطلق اشتراكهما في عدة سمات، فالأيديولوجيا عرض ذهني يستجيب لمطلب عاطفي، وهي عند البعض المعادل الوظيفي أو السياسي للأسطورة، وحظها من الأساطير مثل حظ الشعر منها([13]). وتسعى الأيديولوجيا أحيانًا لتكون دعاية، ومثلها أحيانًا يسعى الأدب الذي يسمى الأدب الدعائي، وكما هو الحال بالنسبة للأيديولوجيا، فالكتابة “فعل منحاز وإن كانت تقدم نفسها على أنها فعل صارم بعيد عن الأهواء والنزعات”([14]).

   وإجمالًا، فإن العلاقة بين الأيديولوجيا والأدب تأخذ أربعة مسارات، الأول: يرتبط بمضمون النص الأدبي، والثاني: يتعلق بشكل العمل الأدبي ونوعه، والثالث: يدور حول المدخل المنهاجي لدراسة الأدب، والرابع: يمس النظرية الأدبية ذاتها.

  وقد تجلت العلاقة بين مضمون النص الأدبي والأيديولوجيا في مذهب “الالتزام”، الذي يقوم على افتراضين أساسيين، الأول: هو أن اهتمام الأديب بمشكلات عصره هو مصدر كبير لإلهامه، والثاني: ينظر إلى حرية الكاتب على أنها لا تنفصل عن إحساسه بالمسؤولية الاجتماعية. وقد تراوح تفسير ماهية الأدب الملتزم بين النظرة الضيقة التي تنفي عن الأدب أي قيمة حقيقية، إلا إذا انطوى على أفكار ذات توجه سياسي معين، والرؤية الواسعة التي ترى أن الأدب بطبعه له تأثير إيجابي حين يقودنا إلى التفكير في الواقع من زاوية أكثر عمقـًا. ([15])

  ويضع “الأدب الملتزم” السياسة في موضع الصدارة، حتى أصبح البعض يدرجونه في باب الكتابة السياسية، وفي أحسن الأحوال في الكتابات الإبداعية ذات الأهداف السياسية.([16]) لكن هناك من يرى أن الالتزام بوصفه ترجمة لهموم الجماهير وانحيازًا لقضاياها، لا يجب أن يهبط بالأدب إلى هُوَّة التبسيط الفجِّ ويجعله مجرد خادم للسياسة. ([17]) وفي عالمنا العربي، وتحديدًا في مطلع الخمسينيات، تم طرح قضية الالتزام بشدة على الساحة الأدبية، ولاقت حماسًا من قبل الأدباء، ([18]) الذين تعاملوا مع الأدب على أنه أداة مهمة لتغيير الواقع الاجتماعي، ونشر القيم السياسية المرتبطة بالاشتراكية.

  أما عن الشكل فإنه أيضًا يمثل وعاءً للأيديولوجيا، “فالزخم الجمالي والموسيقي واللغوي الكامن في النص الأدبي، هو نفسه أيديولوجيا”. ([19]) إذ أن الجانب الجمالي في النهاية هو تعبير عن موقف فكري معين، كما أن التصورات الأيديولوجية موجودة في مجال التعبير اللغوي ومحكومة بمنطقه.([20]) فاللغة “أداة للتحكم بقدر ما هي أداة للإبلاغ، وعليه فإن الصيغ اللغوية تسمح بنقل المعنى، وفي الوقت ذاته، تسمح بتشويهه وبهذه الطريقة يمكن التأثير السيء في المستمعين وإعلامهم بالشيء ونقيضه، على السواء، أو لنقل، إنه يمكن تضليلهم، في الوقت الذي يعتقدون فيه أنهم يتلقون المعلومات الصائبة، ومن هنا تعد اللغة ذات طبيعة أيديولوجية”.([21])

  كما أن النوع الأدبي نفسه يحدد مساحة العلاقة بين الأدب والأيديولوجيا، فسارتر مثلًا يرى أن “النثر هو ميدان المعاني، وأن الشعر لا يقبل الالتزام، ولذا فإن الرواية هي أكثر الأنواع الأدبية حملًا للأيديولوجيا، فالمتكلم في الرواية هو دائمًا وبدرجات مختلفة منتج للأيديولوجيا.([22]) والخطاب الروائي هو أيديولوجي بالضرورة، إنما بشكل باطني محايد نابع من بنيته الداخلية من ناحية، ومن تأثير السياق الاجتماعي الخارجي من ناحية أخرى، لكنه لا يكون بالضرورة انعكاسًا لأيديولوجية الأديب نفسه، حيث يمكنه أن يصنع أيديولوجية لأبطاله تتناقض مع موقفه الاجتماعي أو الطبقي.([23]) فالأيديولوجيا يمكن أن تكون سابقة على النص، بمعنى أن الأديب يحاول أن يترجم ما يعتقده عبر النصوص التي ينتجها، وهنا نكون أمام نص أدبي يشرح نصًا أيديولوجيًا”.([24])

  ومن زاوية العلاقة بالأيديولوجيا هناك نوعان من الرواية، الأولى: رواية تُكتب ضمن مجالين أيديولوجيين، هما الأيديولوجية السائدة في المجتمع، وأيديولوجية الكاتب نفسه حين تتناقض مع ما هو سائد، والثانية: رواية تُكتب ضمن مجال أيديولوجي واحد، وهو المجال السائد حين تتوافق أيديولوجية الكاتب مع الأفكار السائدة مع الأخذ في الاعتبار أنه لا توجد أيديولوجية نقية سوى في المفهوم النظري، أما في الواقع فهناك عدة أيديولوجيات.

  وفي الحالتين فإن ما هو سائد يظهر بوعي أو دون وعي في النص الروائي، إذ أن الرواية لا تستطيع أن تبتعد عن عادات الناس وعلاقتهم بالسلطة بمختلف أشكالها.([25]) وليس هناك فنان لم تظهر في أعماله ملامح الأيديولوجيا.([26]) فالفنان لديه إحساس بالإشكاليات الأيديولوجية حتى وهي في طور التكوين، أو في لحظة الولادة.([27])

  لكن هذا لا يعني أن الأدب والأيديولوجيا شيآن متطابقان (نظريًا وعمليًا). فالأيديولوجيا تكون أحيانًا نظامًا للأفكار المرتبطة بالتصور أكثر من ارتباطها بالواقع.

 أما الأدب فيكون- حتى في أشد حالاته تجريدًا- غير مُثبَت الصلة بالتجربة الواقعية، كما أن الأيديولوجيا تبدو عملية فكرية محملة بوعي زائف، بينما يسعى الأدب إلى تفسير العالم المحيط بنا من خلال الوصف، وهو إن كان حين يلبس ثوب الرومانسية يحاول تجميل الواقع، فإن هذا لا يتم بقصد التزييف، وإنما من أجل رسم حالة مثالية يجب التطلع إليها، و”سلطة الأيديولوجيا تقبل الثبات والقولبة، بل تقبل الجمود أحيانًا، لكن سلطة الأدب ترفض القولبة، وتأبى الجمود، وإذا ما أرادت أن تتقولب أو تتجمد، تكون قد حكمت على نفسها بالاغتراب والموت”.([28])

كما أن “الفن الأصيل يتجاوز دائمًا الحدود الأيديولوجية لعصره، ليرينا جوانب الواقع، التي تخفيها الأيديولوجيا، فرؤية الفن أبعد مما تصل إليه الأيديولوجيا، وما يبشر به الفن أقرب إلى المستقبل مما تعد به الأيديولوجيا، أو حتى ما يتنبأ به العلم، إذ أن الفنان قادر بملكاته الفنية على النبوءة؛ لأنه يمتلك ذاتًا حساسة، وشفافية عالية، وقدرة على الأمل، ونظرة حالمة للمستقبل”.([29])

  وعلاوة على وجود الأيديولوجيا في مضمون وشكل العمل الأدبي، فإنها تمثل مدخلًا منهاجيًا لتحليل النص الأدبي يطلق عليه البعض “المنهج الأيديولوجي”. ([30]) وينطلق هذا المنهج من أن الأدب ليس تسلية أو هروبًا من مشكلات الحياة، وأن الأديب ليس شخصًا سلبيًا، أو متطفلًا على المجتمع، وإنما هو عنصر فعال فيه، وفي ضوء ذلك تتحدد ثلاثة أهداف لهذا المدخل، أولها: تفسير الأعمال الأدبية بما يساعد على فهمها، وإدراك مراميها القريبة والبعيدة، وثانيها: تقويم العمل الأدبي في مختلف مستوياته، سواء الفنية أم الشكلية، وثالثها: توجيه الأدباء؛ لتقييم العصر الذي يعيشونه، وإظهار احتياجات البشر ومطالبهم.

  وأخيرًا فإن الأيديولوجيا تعد مفهومًا محوريًا في النظرية الأدبية ذاتها، ([31]) وهي تتعرض لكافة المسائل المعقدة المتصلة بتاريخ الأدب، وبالإنتاج الأدبي المعاصر على حد سواء، فنظرية الأدب الحديثة جزء من التاريخ السياسي والأيديولوجي، إذ أنها مرتبطة بشكل قوي بالمعتقدات السياسية، والقيم الاجتماعية.

  وعلى مستوى الواقع، فإن الأيديولوجيا الشيوعية مثلًا، قد تركت أثرًا سلبيًا بالغًا في الأدب، الذي تم إنتاجه عقب الثورة البلشفية، التي قامت عام 1917، ففي عام 1928 قررت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الروسي أن يكون الأدب خادمًا لمصالح الحزب، وأرسلت الكتاب؛ لزيارة مواقع التشييد والبناء كي يكتبوا روايات تمجد العمل والعمال. ووصل الأمر إلى ذروته عام 1934،حين تبنَّى الحزب رسميًّا مذهب “الواقعية الاشتراكية”، واعتبر لينين أن الأدب يجب أن يكون ترسًا في آلة الاشتراكية، وأن حياد الأدباء شيء مستحيل، وفي خطابه أمام اجتماع لزعماء الحزب الشيوعي مع الأدباء والفنانين في الثامن من مارس عام 1963، اعتبر خروشوف أن “قوة الأدب والفن السوفيتي تكمن فيما ينطوي عليه من ذوق فني، وأيديولوجية عالية”.([32])

وتعامل خروشوف مع كل إبداع أدبي مخالف للنظام الشيوعي على أنه نوع من خيانة الوطن، حيث قال: “إن مجلات ودور نشر غرقت في حكايات عن حياة الناس في المنفى والسجون والمعسكرات، وأنا أكرر أن هذه فكرة بالغة الخطورة تصعب معالجتها، فكلما قل إحساس الإنسان بالمسؤولية عن حاضر ومستقبل بلادنا وحزبنا ينتج موادًا مثيرة ولاذعة، ستكون مثل الجيف التي تجذب الذباب الضخم، وتزحف عليها جميع ضروب الحثالة البرجوازية من الخارج”.([33])

  وقد أثرت هذه الرؤية على كثير من النقاد الروس، فانحرف بليخانوف بنظرية الأدب إلى درجة أنه كاد أن يجعل من الأدب منشورًا سياسيًا، قائلًا:” بأن قيمة المضمون تتقدم على قيمة الشكل”. وكان هذا القول هو بداية التعسف مع الأدب في المرحلة الستالينية، التي تم فيها تقسيم الأدباء إلى معسكرين، الأول مع الثورة ومصالح العمال، أما الثاني فضدها.

 واضطر الشكلانيون الروس إلى التطرق للجوانب الاجتماعية للنصوص الأدبية، أمام الضغط الذي مارسه الشيوعيون عليهم -خاصةً بعد الانتقادات التي وجهها إليهم تروتسكي في كتابه “الأدب والثورة” الذي رأى النور عام 1924.

وتحايل مكسيم جوركي على الوضع القائم، فحاول أن يوفق بين ما تتطلبه الشيوعية، وما يقتضيه الفن، فحافظ على الاستقلال النسبي للعمل الفني، ونادى من خلاله في الوقت ذاته بضرورة أن يتبنى النص الأدبي قيمًا سياسية إيجابية من المنظور الإشتراكي،([34]) مستفيدًا بذلك من المرونة التي أبداها ماركس وانجلز في التعامل مع الأدب؛ فماركس اعتبر الأدب غاية وليس وسيلة، واهتم بالقيمة الفنية له جنبًا إلى جنب مع التزام الكاتب، وانجلز لم يرض بأن تتدخل العناصر غير الفنية في النص الأدبي وتحوله إلى مجرد مقالة سياسية.

 أما ماو تسي تونج فقد ربط بين الأدب والطبقة الاجتماعية مؤكدًا أن كل الآداب والفنون تتبع طبقة معينة أو خطًّا سياسيًّا محددًا، وأنه ليس هناك ما يُسمى بالفن من أجل الفن، أو أدب وفن فوق الفوارق الطبقية أو المصالح الحزبية، وليس هناك ذلك الأدب أو الفن الذي يجري موازيًا للسياسة أو مستقلًا عنها، إنما هو يمتزج بالسياسة حين ينحاز إلى مصالح طبقة أو حزب بعينه، أو يبشر بقدوم ثورة اجتماعية.([35]) 

  وكما وظفت كل من الماركسية والماوية الأدب في خدمة أهدافها، فإن الصهيونية سارت على الدرب نفسه، واستعملت الأدب أداة لخدمة أيديولوجية الدولة، “فالأدب الصهيوني الذي تم إنتاجه في فلسطين المحتلة كان يخدم أهداف إسرائيل”. ولذا فإن أي دراسة موضوعية ودقيقة لجزء كبير من هذا الأدب يجب أن تربطه بالتوجهات السياسية الإسرائيلية، لكن ظهر بعض الأدباء في الفترة الأخيرة ممن شعروا بإفلاس الصهاينة، فاهتموا بالجوانب الاجتماعية والفنية للأدب على حساب الأيديولوجية الصهيونية. ([36]) وحدث الشيء نفسه في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث ساهمت “البيروسترويكا” في تغيير الظروف المحيطة بالأدب، بدءًا من عملية النشر، وحتى مضمون النصوص،([37]) فظهر أدب مختلف -إلى حدٍ كبيرٍ- عما كان عليه الحال في السابق.

  وفي العالم العربي، توزعت الروايات على الأيديولوجيات المختلفة، التي تعايشت أو تلاحقت على مدار العقود الماضية، فمنذ الستينيات وحتى الوقت الراهن مرت التيارات الفكرية العربية بمراحل قلق وبحث عن نقاط ارتكاز سببتها جملة من العوامل الموضوعية والذاتية، فالتطور التاريخي للواقع العربي أثبت فشل محاولات القوى القومية المسيطرة في جعل مشروعها المستقبلي ملائمًا لمقتضيات التنمية الحقيقية المدرجة على جدول أعمال تاريخ هذه البلدان، وفي المقابل لم تقدم التيارات اليسارية الراديكالية مشروعًا متميزًا قابلًا للتحقق في ظل العواصف السياسية والاجتماعية التي ضربت المنطقة.

  كما أن التيار الليبرالي لم يتمكن من تبرير وجوده واقعيًّا -جرَّاء الاختلاف التاريخي والثقافي بين العرب وأوروبا.([38]) ولم تستطع حركة الإحياء الإسلامي أن تقدم – حتى الآن- حلولًا ناجعة للمعضلات العصرية المطروحة على الساحة، وتوزعت في جزء منها بين التطرف والسلفية، في حين تواجه الفئة “المستنيرة” منها صعوبات جمة في إقناع الفئات “الإسلامية” الأخرى بالسلامة النسبية لرؤيتها، وبعد عقود من صراع هذه الأيديولوجيات، أفرز حاصل ضرب جزء منها أفكارًا توفيقية في نظر البعض، تلفيقية في نظر آخرين، بحيث تستمر رحلة البحث عن إطار فكري متماسك لمشروع النهضة في العالم العربي.

  وقد عبر البعض عن هذا الخلاف والاختلاف بقولهم: “إن مشكلتنا الأساسية في الوطن العربي، هي مشكلة أيديولوجية بشكل خاص، وكل إشكالاتنا إنما تتفرع منها في المقام الأول؛ فإشكالية (الأصالة والمعاصرة، العروبة والإسلام، التراث والثورة، الاستقلال والتبعية، الدين والدنيا، أو الدين والدولة… إلى غير ذلك من إشكالات) ما هي إلا انعكاس وتجسيد للفراغ، أو الضياع الأيديولوجي، أو الثقافي، الذي نجد أنفسنا فيه كأمة يفترض فيها وحدة الوعي، كتعبير عن وحدتها ذاتها”.([39])

  وإلى جانب رصدها للهموم الذاتية (الفئوية والطبقية) قدمت الرواية العربية (الرومانسية والواقعية) على حد سواء- صورًا عن الخلافات الأيديولوجية في العالم العربي (إسلامية – ليبرالية – اشتراكية) ([40])، ولعبت دورًا مهمًّا في بث الشعور القومي. وقد حدا هذا الوضع بالبعض إلى القول: “الأدب هو أفضل وسيلة للتعبير عن الشعور القومي، والعلم هو أفضل وسيلة لشرح هذا الشعور”([41])

  وبدوره أثر الاتجاه القومي العربي في مضمون الرواية، فراحت تعكس أطروحاته المتمثلة في البحث عن الهوية، ومواجهة الغرب الاستعماري، والإيمان بالاشتراكية والوحدة، ومواجهة المشروع الصهيوني، كما أثر في شكلها الفني، من حيث الرؤية السردية، وموقف البطل الروائي، واستلهام النص الأدبي للتراث، وإسقاطه على الواقع المعاصر … إلخ.([42]) ويسعى التيار الإسلامي لإبداع الأدب الخاص به، تحت مسمى “الأدب الإسلامي”([43])، أو “الواقعية الإسلامية”، مستلهما نمط “القصة القرآنية” ومركزًا على الالتزام بالقيم التي يدعو إليها الدين الحنيف ومبكرًا ظهر الاتجاه الليبرالي في الأدب في أعمال الرعيل الأول، خاصة عند (توفيق الحكيم، وسلامة موسى، وفرح أنطون، …وغيرهم).


(*) روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي – مصر

([1])  Max J. Skidmore, Ideologies: Politics In Action, Harcourt – Brace & Company, 2nd Edition, 1993, p:1. 

([2])  Paul Schumaker, Dwight C. Kiel & Thomas W. Heilke, Ideological Voices: An Anthology in Modern Political Ideas, The Mc _ Graw, Hill Co. 1997, p: 5.

([3])  Ian Adams, Political  Ideology Today, Manchester  university press, 1993, p: 2.

([4])  For more information about Ideology, see: Leon P. Baradat, Political Ideologies: Their Origins and Impact, New Jersy, Prentice- hall inc. 6th  edition, 1997.

([5])  موريس دوفرجيه، “علم اجتماع السياسة”، ترجمة: د. سليم حداد، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، 1991، ص:17.

([6])  رشيد شقير، “اجتماعيات الأدلوجات السياسية”، (بيروت: مؤسسة الرؤى للطباعة والنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، 1996، ص: 11.

([7])  د. كمال المنوفي، “نظريات النظم السياسية”، (الكويت: وكالة المطبوعات) الطبعة الأولى، 1985، ص: 167/ 168.

([8])  د. عبد الله العروي، “مفهوم الأيديولوجيا”، ( بيروت ـ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي)، الطبعة الخامسة، 1993، ص: 103/ 106.

([9])  كارل بوبر، “بؤس الأيديولوجيا: نقد مبدأ الأنماط في التطور التاريخي”، ترجمة: عبد الحميد صبره، (بيروت: دار الساقي)، سلسلة (الفكر الغربي الحديث)، الطبعة الأولى، 1992.

([10]) زاهدة الغويش، “الأيديولوجيا: إشكالية العصر المعرفية”، دراسات عربية، العدد 10 ـ 12، أغسطس ـ أكتوبر، 1993، ص: 25.

([11]) د. محمد أحمد الزعبي، “التغير الاجتماعي: بين علم الاجتماع البرجوازي وعلم الاجتماع الاشتراكي”، (بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، 1991، ص: 14.

([12]) ميشيل فاديه، “الأيديولوجية: وثائق من الأصول الفلسفية”، ترجمة: د. أمينة رشيد، ود. سيد البحراوي، (بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر)، الطبعة العربية الأولى، 1982، ص: 19.

([13])  Kenneth Burke, On Symbols and Society, Chicago, Chicago press, 1989, p: 303.

([14])  أنظر: عبد الإله بلقزيز، “الكتابة الملتزمة والوعي التاريخي”، دراسات عربية، العدد 10 _ 12، أغسطس ـ أكتوبر، 1993.

([15])  ماكس إديريث، “أدب الالتزام”،ترجمة: د. عبد الحميد إبراهيم شيحة، أدب ونقد، العدد السادس، 1984، ص: 117و 123.

([16])  المرجع السابق، ص: 111/ 129.

([17])  خالد محي الدين البرادعي، “علاقة المبدع بالجماهير” المجلة العربية للثقافة، مارس 1990، ص: 132/ 133.

([18])  د. على أومليل، “السلطة الثقافية والسلطة السياسية”، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الأولى، 1996، ص: 247.

([19])  حلمي سالم، “الشعر والأيديولوجيا: خواطر في فكر الشكل”، أدب ونقد، العدد (87)، نوفمبر 1992، ص: 48/ 49.

([20])  ناصيف نصار، “الأيديولوجية على المحك: فصول جديدة في تحليل الأيديولوجيا ونقدها”، (بيروت: دار الطليعة)، الطبعة الأولى، 1994، ص: 12.

([21])  يوسف الطعاني، “اللغة كأيديولوجيا”، الفكر العربي المعاصر، العددان (84 و85)، يناير ـ فبراير 1991، ص: 77.

([22])  ميخائيل باختين، “الخطاب الروائي”، ترجمة: د. محمد برادة، (القاهرة: دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع)، الطبعة الأولى، 1987، ص: 102.

([23])  محمود أمين العالم، “ملاحظات نظرية حول الخطاب الروائي: الواقع والأيديولوجيا”، في، مجموعة من الكتاب”الرواية العربية بين الواقع والأيديولوجيا”، (اللاذقية: دار الحوار)، الطبعة الأولى، 1986، ص: 16/17.

([24])  سعيد بنكراد، “النص السردي: نحو سيمائيات للأيديولوجيا”، (الرباط: دار الأمان)، الطبعة الأولى، 1996، ص:9.

([25]) محمد كامل الخطيب، “الرواية والواقع”، (بيروت: دار الحداثة)، سلسلة (النقد الأدبي)، الطبعة الأولى، 1981، 105/116.

([26]) د. عز الدين إسماعيل، “الشعر في إطار العصر الثوري”، (بيروت: دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع)، 1985، ص:18.

([27])  M. Bakhtin, The Formal Method in Literary Scholarship: A Critical Introduction To Sociological Poetics, Translated by, Albert J. Wehrl, Baltimore, Johns Hopkins university press, 1978, p: 17.

([28]) فرحان صالح، “الأدب والمجتمع: مقابلة مع د. عبد العزيز المقالح”، المستقبل العربي، العدد (48)، فبراير 1983، ص: 126.

([29]) أنور حامد، “المجتمع بين ذاتية الأديب وذاتية القارئ: محاولة لتشريح العلاقة بين النوايا والنتائج”، الفكر الديمقراطي، العدد (7)، صيف 1989، ص: 136/ 137.

([30]) د. محمد مندور، “النقد والنقاد المعاصرون”، (القاهرة: مكتبة نهضة مصر) الطبعة الأولى، ص: 228/ 238.

([31])Roger Weber, Studying Literary Theory: An Introduction, London, Routledge & Hall INC.,  1ST Edition, p: 58.

([32]) خطاب لنيكيتا خروشوف، حول الأدب والفن، (القاهرة: مكتب وكالة أنباء نوفستي السوفيتية).

([33])  المرجع السابق.

([34])  د. غالي شكري، “الماركسية والأدب”، (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، الطبعة الأولى، 1979، ص: 44/45.

([35])  ماو تسي تونج، “مشاكل الأدب والفن” ترجمة: كمال عبد الحليم، (القاهرة: دار الفكر)، 1956، ص: 41.

([36])  أحمد حماد، “التوظيف السياسي للأدب: نموذج من الشعر العبري المعاصر”، إبداع، يناير 1995، ص: 42.

([37])  إليزابيث ريتش، “البيروسترويكا والأدب والسوفيتي”، أدب ونقد، العدد (64)، ديسمبر 1990، ص: 15/22.

([38]) فهمية شرف الدين، “الثقافة والأيديولوجيا في العالم العربي: 1960/1990″، (بيروت: دار الآداب)، الطبعة الأولى، 1993، ص: 193.

([39]) د. تركي الحمد، “الوطن العربي: البحث عن إيديولوجيا”، المستقبل العربي، العدد (110)، إبريل، 1988، ص:5.

([40]) أنظر: أحمد اليابوري، الرواية العربية والوعي القومي”، ورقة عمل مقدمة إلى الملتقى العربي الأول للإبداع الأدبي والفني، الذي جرت أعماله في الفترة ما بين 21 ـ 25 أكتوبر 1988، بمدينة أغادير المغربية، تحت عنوان: “قضايا الإبداع والهوية القومية”.

([41]) د. سعدون حمادي، “الأدب والوعي القومي: أراء فيما يجب أن يكون”، في، مجموعة باحثين، “دور الأدب في الوعي القومي العربي”، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي أعدها ونظمها، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)، الطبعة الثانية، 1982، ص: 32.

([42]) أنظر بالتفصيل في هذا الصدد:  د. عز الدين إسماعيل (محررا)، “الهوية القومية في الأدب العربي المعاصر)، مرجع سابق. وانظر كذلك: د. مصطفى عبد الغني، “الاتجاه القومي في الرواية”، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، سلسلة (عالم المعرفة)، العدد رقم (188)، أغسطس 1994.

([43]) تشكلت رابطة الأدب الإسلامي العالمية، ولها مقار في دول عربية كثيرة، وتصدر دورية تسمى “الأدب الإسلامي”، في حين كانت مجلة “الأمة” القطرية التي توقفت عن الصدور عام 1986، تتبنى هذا الاتجاه، ولعل الأديب المصري الراحل د. نجيب الكيلاني، هو أشهر الروائيين في هذا المضمار. وظهرت سلسلة من الكتب النقدية في هذا الصدد تحت عنوان: “دراسات في الأدب الإسلامي ونقده”.

اظهر المزيد

د. عمار على حسن

روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي - القاهرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى